logo
#

أحدث الأخبار مع #إبراهيمفرغلي

الكاتب إبراهيم فرغلي لـ"النهار": الرواية عمل مهيب وما زلت أعيد اكتشاف نجيب محفوظ
الكاتب إبراهيم فرغلي لـ"النهار": الرواية عمل مهيب وما زلت أعيد اكتشاف نجيب محفوظ

النهار

time٠٨-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • النهار

الكاتب إبراهيم فرغلي لـ"النهار": الرواية عمل مهيب وما زلت أعيد اكتشاف نجيب محفوظ

أصدر الكاتب والروائي إبراهيم فرغلي أخيراً مجموعته القصصية "حارسة الحكايات" (دار الشروق) في مئة وأربع وأربعين صفحة، من القطع المتوسط. هو الذي قدّم من قبل أكثر من خمسة عشر عملاً سردياً، ما بين الرواية والقصة وكتابة الفتيان والأطفال، والتي أظهرت تأثرات جمة بالأديب الراحل نجيب محفوظ، بحثاً عن جدوى الحياة والموت والكتابة والمنتظر منها، ليحصل قبل عامين على "جائزة نجيب محفوظ" عن روايته "قارئة القطار". "النهار" التقت فرغلي، الذي تحدّث عن علاقته بسرديّاته الملغّزة، للفتيان والأطفال والناشئة، إلى جانب ترحالاته الرجراجة ما بين الرواية والقصة، وكذلك النقد الثقافي والأدبي. هنا نص الحوار: • ما أسباب العودة إلى القصة القصيرة بعد توقف طويل لمصلحة الرواية؟ - دخلت عالم الكتابة من خلال القصة، وكتبت قصصاً عديدة في فترة الإعداد والتجريب قبل أن أنشر أيّ قصة. والحقيقة أنني بعد اختياري النصوص العشرة، التي نشرتها في كتابي الأول "باتجاه المآقي"، عام 1997، مزّقت 40 قصة أخرى رأيت أنها لا تمثل طموحي. وظللت مخلصاً للقصة لأنني أصدرت مجموعتي الثانية "أشباح الحواس"، عام 2001، وكنت أحاول أن أرسّخ أسلوباً أدبياً مختلفاً للقصص، فيه نوع من المزج بين الغرائبي والواقعي، واستدعاء لمسات من الغرابة. ولكن تيمة الاغتراب استمرّت كمشترك مضمونيّ مع نصوص الكتاب الأول، ثم انتقلت إلى الرواية، وكانت بالنسبة إليّ عملاً مهيباً تردّدت في الاقتراب منه مطولاً. وبعد نشر أولى رواياتي رأيت أن أرسّخ قدمي في الكتابة الروائية فتوالت الروايات: "كهف الفراشات"، "ابتسامات القديسين"، "جنية في قارورة"، إلى آخر الأعمال. وكنت بين فينة وأخرى أسأل نفسي، هل فقدت حساسية كتابة القصة؟ لأنني على قناعة بأن كتابة القصة موهبة تحتاج حساسية خاصة ومختلفة. وربما كانت مجموعتي الثالثة "شامات الحسن" 2012 إجابة عن السؤال. ولأن السؤال عن القصة لا يختفي فعادة ما أكتب بين فترة وأخرى نصاً قد أنشره أو لا أنشره. وبسبب تجارب عدة من هذا النوع وجدت أن لديّ نصوصاً يصلح البناء عليها فجاءت هذه المجموعة الجديدة. • أغلب القصص تدور في أجواء فيها شيء من الغرابة، وفيها أيضا محاولة لمزج الذاتي بآفاق عوالم كونية، كما في بعض القصص لعب على موضوع العودة إلى الماضي أو الاغتراب في قصص أخرى. هل توافق؟ - اللمسة التي تجمع بين الواقعي والخيالي هي السمة التي حاولت ترسيخها في قصصي الأولى، واللعب عليها لتأصيل أسلوب أدبي يخصني في الرواية أيضاً. وفي هذه المجموعة حاولت تجريب الأمر في تناول مختلف، أولاً من خلال اكتشاف قدرتي على نسج قصص طويلة نسبياً عن أغلب قصصي السابقة، وأن تكون الحركة فيها بإيقاع بطيء نسبياً؛ فالحركة فيها ذهنية أكثر. كذلك المكان محدود نسبياً، وهذا يتناسب مع حالة استدعاء الماضي لدى أغلب أبطال القصص أو رواتها في حارسة الحكايات. استدعاء الماضي لمواجهته كما في "أشباح المغارة"، و"مقابر الذاكرة"، أو "الهروب من الماضي" كما في "امرأة من أقصى المدينة" و"سينمافيليا"، أو استدعاء الماضي بسبب وجود لمسة نبوية فيه كما في "كضربتين في معركة مثلاً". وبسبب فكرة استدعاء الماضي كانت فكرة الاغتراب ماثلة أيضاً، لأن الاغتراب ليس المقصود به الاغتراب المكاني فقط، بل الاغتراب الوجودي أساساً أو أيضاً، واغتراب الفرد عن حاضره بسبب تعلّقه بالماضي أو لعدم قدرته على التكيّف مع الواقع بشكل ما. • هل في هذه القصص مساحة ذاتية تخصّك شخصياً أو استلهام للذات في بعض القصص؟ - فن القصة الحديث ارتبط كثيراً في زمن الفردية بنوع من التماهي ما بين الكاتب والراوي، وهو انعكاس لطغيان سؤال الفردية على الفرد الحديث، وشيوع فنّ السرد القصصيّ كمختبر لأسئلة عصرية عن أسباب شعور الفرد المعاصر بالاغتراب حتى في بيئته وثقافته التي ينتمي إليها، في مقابل القيم الجماهيرية التي سادت زمنَ ما قبل الحداثة. وربما تكون القصة أحياناً مختبراً ملائماً لسؤال الذات، خصوصاً إذا كانت بين الأسئلة التي تطرحها القصص فكرة مراجعة الذات، وهي الفضيلة الغائبة في ثقافتنا العربية. بعض القصص أفادت من تجارب ذاتية وشخصية، ولكن أغلبها مختلقة بالكامل من الخيال. لكن القصص، التي أفادت من تجارب ذاتية، جسّدت أيضاً تجارب لاختبار كتابة القصة الذاتية بنفس روائي بعض الشيء، وليس بالنفس المختزل المكثف كما شاع أو كما فعلت شخصياً في تجاربي القصصية الأولى. وهذا ما قد يفسر طول القصص الثماني في مجموعة "حارسة الحكايات". • بعض الأماكن موصوفة جيداً مثل باريس في قصة "سينمافيليا"، لكن في ما عدا ذلك الوصف لا يخدم المكان، فلماذا كانت مدينة باريس الوحيدة الموصوفة بهذه الدقة؟ - طبعاً، في نص يجمع بين الخيال والواقع يأخذ المكان بطبيعة الحال منحى مماثلاً. مكان ملتبس بعض الشيء. ثمة قطار مهجور في أرض مهجورة في قصة مثل "كضربتين في معركة" -على سبيل المثال- كأنها محاولة اختلاق مسرح لأحداث دموية تمثل مركز القصة، وثمة مقبرة في قرية قريبة من بلدة صغيرة في "مقابر الذاكرة"، وهي تشبه مناطق المقابر في ربوع مصر تقريباً. كذلك يمكن استشفاف عالم القاهرة في "الأسود الجميل"، والصين في "امرأة من أقصى المدينة". ويمكن لمن يدقق أيضاً أن يرى طابعاً لإسبانيا الأندلسية في "حارسة الحكايات"، لكنني أعتقد أن المكان لم يكن مركز الأحداث في تلك القصص، بل السؤال عن مدى اختلاط الحقيقة بالوهم؛ عن أوهام البعض عن الواقع بسبب التعصب لأفكار لا علاقة لها بالواقع. كذلك الماضي مقابل الحاضر، وبالتالي كان السؤال الوجودي أهم من المكان. لكن في "سينمافيليا" كان المكان موضعاً للهرب من مكان آخر، أو امتداداً لرحلة اغتراب، فأحببت التأكيد على تفاصيل المكان الجديد، وأثر هذه التفاصيل في مشاعر المهاجر أو المنتقل من مكان إلى مكان، الذي قد يجد أن الأماكن تبدو حزينة وشاحبة كأنها انعكاس لدواخله لا يراها إلا بعينيه الهاربتين من مكان آخر وذكرى أخرى يبدو المكان الجديد عصياً على محوها. يرى باريس مدينة حزينة ومثيرة للبكاء. هو انعكاس لمشاعره التي يسقطها على المدينة. • على خلاف جيلك تبدو متأثراً بنجيب محفوظ، كتبت عنه كثيراً واستلهمته في رواية أبناء الجبلاوي. كيف ترى أثر محفوظ على مشروعك الأدبي؟ - بالإضافة إلى ما ذكرت، ففي تقديم كتاب "شامات الحسن" كتبت حلماً رأيته بالفعل. كان محفوظ بطل تلك الرؤيا وظهر في الحلم أيضاً الصديق محمد بدوي، صدرت به تلك المجموعة. والحقيقة أن أثر محفوظ في وعيي عميق كقارئ وكإنسان أولاً. أفدت من تجربته الأدبية في أن الكتابة عمل دؤوب مع الموهبة، وأنها مشروع حياة، وأن مشروع الكاتب يقتضي منه تأمل العالم كله بنزاهة المتخلص من الإيديولوجيا حتى يتمكن من التعبير عن كل نماذج البشر في مسالكهم المتناقضة والمتباينة، وهذا أيضا ألهمني عدم التحزب أو أفادني في استيعاب معنى الاستقلال وعدم الانتماء إلى أي شلة أو كيان أياً كان لأنه شرط من شروط الكاتب النزيه. وشخصياً قرأت محفوظ مبكراً وجيداً مقارنة بجيلي الذي كان أغليهر يردد مقولات ساخرة أو يرى فيه كلاسيكياً عفى عليه الزمن. بالنسبة إلي، ما زلت أعيد اكتشافه. وأرى أن نصاً كلاسيكياً مثل الثلاثية وحدها شهد تجريباً لم يعرفه أعتى المجربين: فثمة سرد بضمير الغائب، ثم توقف لدخول ضمير المتكلم، ثم توقف أو تداع لضمير المخاطب للآخر، ثم ضمير المتكلم مع الذات، أي المونولوج الداخلي. ثمة وصف لمشهد من الخارج (الراوي العليم) ودخول لتيار الوعي في الوقت نفسه في بعض مشاهد ياسين عبد الجواد مع أبيه. وهذه الانتقالات تتم برشاقة آسرة. وستجد تطويراً وتجريباً في كل عمل. فليس هناك، على سبيل المثال، أبدع من خيالات وتداعيات أنيس زكي في "ثرثرة فوق النيل"، فهي مشاهد واقعية سحرية قبل أن يعرفها العالم، من دون مبالغة. ولكني لم أتأمل الأسلوب إلا بعد أن استغرقتني الموضوعات التي أثارتها النصوص والأسئلة عن الله والأديان والخلود وتجار الدين والثورة والطبقات الاجتماعية وسلطة الأب ووضع المرأة المصرية والغبن والقدر. أسئلة حارة ومؤرقة لا يمكن أن ينجو قارئها من تداعياتها مطولاً. بالمناسبة كانت أولى تجاربي الأدبية على الإطلاق محاولة بدائية لتقليد نجيب محفوظ، لكن أهميتها أنها نبهتني مبكراً إلى أن الكاتب يجب أن يتخلص من آثار أي صوت آخر ويخلق صوته الخاص. • وهل تأثرت بأسئلته الوجودية مثلاً أو غيرها في نصوصك بشكل عام؟ - طبعاً، في "أبناء الجبلاوي" واضح جداً تأثري بأسئلته عن سلطة الأب، بمدلولاتها المختلفة، وقد اخترت عدداً من شخصيات رواياته لكي تعود وتستكمل أسئلتها مع نصي أنا. خصوصاً أحمد عبد الجواد وكمال عبد الجواد، وعاشور الناجي، والجبلاوي من "أولاد حارتنا"، وأيضاً من "قلب الليل" وغيرها. وهذا بالتأكيد اثر واضح لنجيب محفوظ أدبياً على نصوصي. مع التأكيد أنني كتبت نصاً ما بعد حداثياً، تأكيداً لفكرته هو عن ضرورة تطور النص مع تاريخ السرد، وهو كان يتجاوز نفسه مع كل نص جديد لغوياً وأسلوبياً. لكن ربما هناك أثر لأسئلة عن معنى الوجود والحياة والموت في أعمالي كلها، لكني قد أطوعها في أسئلة تخصني شخصياً مثل فكرة الخوف من ضياع الهوية أو التراث الإنساني. كما في "أبناء الجبلاوي" و"معبد أنامل الحرير" و"قارئة القطار" على سبيل المثال. لكن هذه قضايا لا تنفصل عن الأسئلة الوجودية الكبيرة بطبيعة الحال. • لديك تجارب في الكتابة للناشئة والأطفال. ما مدى تأثيرها على كتابتك الروائية والعكس؟ وما رأيك في أسباب قلة اهتمام الجمهور بكتب الأطفال في مصر؟ - تجارب الكتابة للناشئة مهمة بالنسبة إلي وممتعة، لأن فرصتي لإطلاق الخيال فيها كبيرة، من جهة ولأنها مغامرة صعبة لأنها تحتاج أساليب وتقنيات وقدرة على مخاطبة جيل آخر في زمن مختلف. وأعتقد أن الكتابة للأطفال والناشئة عموماً مسألة مهمة بل وخطيرة وضرورية. لكنها ليست مدعومة كما ينبغي. ثمة استخفاف بمن يكتبون للأطفال في الثقافة العامة وأيضاً لا نمتلك التراكم الذي يخرجنا من ذهنية الكتابة التقليدية الكلاسيكية للأطفال إلى آفاق أكثر خيالاً وابتكاراً. ومع ذلك فهناك تجارب كثيرة، ومتعددة الأساليب الآن ناجحة ومبتكرة حقيقة على مستوى الكتابة والرسوم لكتاب من مصر والعالم العربي ومن أجيال جديدة. لكنه مجال يحتاج لدعم هائل في الإنتاج والتسويق والتوزيع في مكتبات المدارس والتنسيق مع المناهج المدرسية وأنشطة الطفل وغيرها. • أنت تعيش في الكويت منذ فترة طويلة، هل يؤثر ذلك على الكتابة أو مضمون الكتابة بشكل ما؟ - صحيح، لكن المكان في تقديري لا يؤثر على طبيعة الاهتمام بالقضايا التي تشغلني. فحياتي لو كانت في مصر أو لندن أو غيرهما كانت ستمتثل لأسئلتي حول قضايا المجتمع المصري التي تشغلني بشكل كبير. طبعاً لدي خبرة طويلة في مراقبة المجتمع الكويتي وقد تظهر في تجارب أدبية لاحقاً، لكن لا تزال هناك أسئلة ضاغطة تخص المجتمع المصري بسبب التغيرات الهائلة التي مررنا بها خلال العقدين الأخيرين. لكن وجودي في الكويت، من جهة أخرى، يمنحني فرصة التعرف إلى تجارب أدبية مهمة في الكويت، والتفاعل مع تلك التجارب بناء على فهمي ومعايشتي للتجارب التي يتم التعبير عنها أدبياً في المجتمع الكويتي، والتعرف إلى أسماء مجيدة ومختلفة، وكذلك في المنطقة العربية سواء في لبنان أم في سوريا أم في عمان والسعودية وغيرها من التجارب العربية التي تشهد نضوجاً لافتاً وتنوعاً في التناول والمضامين.

"بيتٌ من زخرف": حين تنتصر الرواية للعقل
"بيتٌ من زخرف": حين تنتصر الرواية للعقل

النهار

time٠٦-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • النهار

"بيتٌ من زخرف": حين تنتصر الرواية للعقل

بقدر ما يثير العمل الأدبي من الأسئلة، ويستبطن في طياته أسلوباً وبناءً ومعاني معضلات انشغلت بها نصوص سابقة، وتمّعنت وتمثّلتها محورَ بحثٍ، ومضمارَ تصوير، ومجلى صياغة، إلا واعتبره الدارسون مسهماً في تاريخ الأدب والجنسِ الذي يُكتب فيه، بناءً على أن الأدبَ يتوارث بعضَه بشجرة أنساب، وتراكمٍ متواشج، معنيٌّ بهموم إنسانيةٍ ممتدةٍ في جميع العصور. كلُّ رواية ناضجة تصدُر في زمننا تُرى مكتملةَ الخصائص ومكتنزةً بهموم عصرها مشمولةً بهذا التقييم إلا تحمل تراثاً بدأته الحكاية والأسطورة والملحمة، وتسلّم إرثَه السردُ الفنيُّ الحديث، ثم مضى يتعدد ويتلون في آداب أمم مختلفة متخذًا عديد نماذجَ ورؤىً وأخيلةٍ وأساليبَ بتعدّد الحضارات، والثقافات، والأوضاع الاجتماعية، وخيالات الشعوب، وصراعاتها ومطامحها. رواية "بيت من زخرف - عشيقة ابن رشد" للروائي المصري إبراهيم فرغلي (دار الشروق، القاهرة، 2024) تنتمي إلى هذه العائلة السردية العريقة والكبرى التي تعتمد الإرث تاريخاً مركّباً عماداً، والقضايا الإنسانية موضوعاً، وتقصِّي أسئلة الوجود في معترك الصراع بين الخير والشر، الحق والباطل، والمحافظة والتجديد بلغة اليوم، أي حين تُبنى الرواية على محور القيم والمُثل. على هذا الأساس نشأت، وحول ثنائيات الصراع تبلورت تيماتُها، وتضاربت رؤاها وتحاورت خطاباتها بين جبْرية الشرائع وسطوة المذاهب وقوة المصالح وحُرقة الرغبة؛ باختصار بين قُطبَي الموضوع والذات، والقطبُ بدوره مركّب يوجد في جدل مع غيره، وهذا أساسٌ ثانٍ ضروريٌّ بدونه لا تُبنى رواية أو تأتي نثراً محكيّاً ساذجاً عدِمَ توترَه الدراميَّ الحاسم. اختار إبراهيم فرغلي مسبقاً موقعَه وموقفَه بإعلان جهير في "نص العتبة": العنوان الفرعي يحمل جزء منه اسم (ابن رشد)؛ والثاني في الإهداء: ( إلى نصر حامد أبو نصر). نقرأهما فيوجهاننا إلى الطريق الذي سيسلكه السرد، الفكرة التي تستنير بها الرواية، وإلى أي طرف ستنحاز، يمكن بدون تردد تسميتهما ووصفهما بمذهب (الانتصار للعقل) اختيار قِيَمي وأخلاقي إيتيكي. ابن رشد الفقيه الفيلسوف الأندلسي (1126 - 1198) فقيه قرطبة ومراكش في القرن الثاني عشر الميلادي، المشهور بأساس ترجماته للفكر اليوناني كانت يقيناً جسر نقل الفلسفة اليونانية إلى الغرب وتغذيته بالعقل؛ وتعرّض لمحن شديدة في حياته وأحرقت كتبه لمناصرته العقل ضد النقل. كذلك نصر حامد أبو زيد (1943ـ2010) الأستاذ في الجامعة المصرية الذي اتُّهم بالرِّدّة وتعرض للتكفير بسبب أبحاثة، وحُكم عليه بتطليق زوجته، ونفى نفسَه إلى الخارج. رواية 'بيت من زخرف' لإبراهيم فرغلي. على هذا الهدْي تنبني شخصيةُ الرواية التي ستقود القسمَ السرديَّ منها، لتتكفل شخصياتٌ أخرى فتروي القسم التاريخيّ الباني لشخص ابن رشد واصفةً محنته والحاملةَ لخطابه وفكرِه العقلاني. سنحاول إجمال القصة (428 صفحة) لفائدة القارئ من ناحية خطّها الخبري الحكائي، يتضمن حبكتها (عنصر التشويق فيها) وكيف يلتقي القسمان فنّاً وفكراً لبناء نص سردي يضعه كاتبه بقصد ووضوح في إطار وبصيغة ما يصطلح عليه بـ"رواية الأطروحة Roman à thèse". سعد الدين، مصري الجنسية، طالبٌ سابقٌ في موسكو، لظروف عائلية وخاصة ينتقل إلى إسبانيا حيث يكمل دراسته يتعلم الإسبانية ويتخصص في الفلسفة الإسلامية وينال الدكتوراه ويصبح أستاذاً في جامعة مدريد. يزور قرطبة أستاذاً فيلتقي فيها بطالبة تنجذب إليه (ماريا إيلينا)، وتدريجيّاً تُوقعُه في شباك خطة هي مادة القصة الرواية التي نقرأ. تطلب منه أن ينبش قبر صديقة لها ماتت (مانويلا) وتركت معها وصيةَ أوراق لتنشرها بعد وفاتها، لكنها نسيت ورمتها مع باقة ورد في القبر. يستجيب الأستاذ أخيراً بشرط أن يتولّى كتابة الكتاب الذي طلبته، يضمّنه أوراقها التي أرادت نشرها. وهذا ما سيحدث وفيه تفاصيل ومنعرجات ومفاجآت. قبل التعرف عليها ينتقل الكاتب إلى القسم الثاني من الرواية عنوانه (أفيرويس) ،الإسم العجمي لابن رشد. هنا ستتولى عديدُ شخصيات السردَ للمرحلة الأخيرة من حياة الفقيه قاضي إشبيلية وذلك انتهاءً من نقل رفاته من مدفنه الأول بمراكش حيث عاش في كنف السلطان الموحدي يعقوب المنصور الذي عاقبه ثم قرّبه. بنوع من تقنية الاسترجاع (فلاش باك) يرسم السُّرَّادُ وهم أبناؤه وتلامذته وواحدةٌ بالذات ستتعلق به في الفترة المتأخرة من حياته بين إشبيلية وبلدة أخرى نفاه إليها المنصور. في هذا القسم يُسلّط الضوءُ على الآراء والاجتهادات الفقهية لابن رشد كما أفتى بها وأملاها ونسخ الورّاقون كتبه. مناطُها تحكيمُ العقل في الشؤون الدنيوية وإعمال الفكر وضرورة التأويل خلافاً لسابقيه دعاة النقل والعمل بالظاهر، ما ألّبهم عليه والسلطان الموحِّدي فطورد وأحرقت كتبه ثم يُعفى عنه ويموت غريبًا في الجزء المأسوي ترويه لبنى القرطبية. هذه الشخصية هي عروة روايتين، بالأحرى ثلاث روايات مطوية بعضها ببعض ومتواشجة في آن (enchâssement). عرفنا الأوليين: قصة سعد الدين السارد الأكبر العليم، منه إلى قصة ابن رشد، والرواية الثالثة قصة لبنى القرطبية، عشيقة ابن رشد المفترضة تخييلا طبعاً. هنا نصل إلى مركز اللعب، وهو نوعان: الأول، إلى فن الكاتب فرغلي، بما يجعل عمله روائيّاً لا التزاماً عَقْدياً، فقط. لُبنى هذه هي العشيقة بطلة القصة التي تزعم مانويلا صاحبة الأوراق المستخرجة من القبر أنها ترجمتها من أخرى كُتبت في قرن سابق عليها بالعبرية وترجمتها هي إلى الإسبانية تصل أخيراً إلى الأستاذ المصري ليترجمها إلى العربية، هي التي تحت أبصارنا نحن القراء تحكي سيرة ابن رشد وكان حافزُها أنه ممن تعرضوا للهجوم بين المسلمين والمسيحيين، ونقل تراث أرسطو إلى أوروبا بما أنجب ثورة فكرية هائلة فيها. حول هذه الشخصية ينسج الكاتب قصة أخرى ذات حبكة بوليسية، لينتهي في الأخير إلى مطابقة بطله السارد الأول الأستاذ سعد الدين بابن رشد فهو نفسه هاجر من مصر لتعرضه للاضطهاد الفكري في الجامعة، مستنسخاً فيه سيرة اضطهاد نصر حامد أبو نصر. النوع الثاني من اللعب في هذه الرواية الراجحة هو توظيف التاريخ لخدمة سرد التخييل لا كتابة رواية تاريخية، و" بيت من خزف" نموذج ناجح لهذا التحويل، ولمهارة الكتابة على الطرِّس، وأخيراً وليس آخراً، لامتلاك شجاعة كاتب عربي الانتصار للعقل والفكر الحر ضد الجمود والظلامية، فيما تسبح جلُّ الروايات العربية حاضراً في الخيبة واحتلاب الذات.

إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية
إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية

الشرق الأوسط

time١١-٠٢-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الشرق الأوسط

إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية

بعد رصيد من الأعمال الروائية، يعود الكاتب والروائي المصري إبراهيم فرغلي إلى القصة القصيرة من خلال مجموعته «حارسة الحكايات» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة... وكان فرغلي قد أصدر العديد من الروايات ومنها «بيت من زخرف: عشيقة ابن رشد» و«أبناء الجبلاوي» و«معبد أنامل الحرير» اللتان حصلتا على جائزة ساويرس الثقافية في مصر، كما حصلت روايته «قارئة القطار» على جائزة «نجيب محفوظ» عام 2022، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية. هنا حوار معه حول مجموعته الجديدة ومبررات عودته للقصة القصيرة: ■ تعود إلى القصة القصيرة من خلال «حارسة الحكايات»، بعد مسيرة روائية حافلة، هل تعدها استراحة محارب؟ - خلال كتابة آخر رواية لي «بيت من زخرف» كان ينتابني إحساس أن طموحي في هذه الرواية كبير لدرجة أنني كنت كثيراً ما أشعر بأنني ربما لن أستطيع استكمالها كما أطمح، خاصة مع التحديات التي فرضتها على نفسي فيها بألا تتحول إلى عمل يتناول التاريخ بشكل تقليدي. كانت تتطلب مني الكثير من البحث والتمكن من التقنيات ومستويات اللغة التي كنت مُصراً على أن تعبر عن كل زمن على حدة، وعندما انتهيت منها شعرت بأنني استكملت ما كنت أريده وأنني ربما لن أستطيع أن أكتب شيئاً جديداً، وهذا الشك ربما دفعني لأن أبحث عن نص يُحررني من إرهاق الرواية، فوجدتني أميل تجاه القصة القصيرة التي كتبتها في أوقات متباينة لكنها تتماهى في إطار يجمع بين ثنائية الحلم والواقع، كنت مُصراً أن تكون حالتها متكاملة. ■ من اللافت أن قصص المجموعة متأثرة بالفن السينمائي الذي يبدو حاضراً في مشاهدها... - هذا صحيح، ففي المجموعة قصة بعنوان «سينمافيليا» وفيها يجد البطل في مشاهدته للأفلام دلالات وانعكاسات من نفسه، وفي تلك القصة قدر من التحية للسينما وأثرها علينا، وفي قصة أخرى كان ملهمها الأول فيلم «الأحلام» للمخرج الياباني المعروف «كيروساوا»، ورغم أنني أحب هذا الفيلم كثيراً فإنني تماهيت بمخيلتي مع مشهد فيه لجماعة خارجة من معسكر تواجه «مغارة الأشباح»، حيث يتجمد الزمن ويواجه كل منهم نفسه وأشباحه أو أطيافه، فربما شغلني هذا المشهد لأن فكرة الأطياف ومواجهتها تشغلني في الكتابة، الأطياف التي تمثل الضمائر والذوات التي يواجهها الإنسان وتحكم عليه، تشغلني تلك الحالة الباطنية ومعادلاتها الرمزية بشكل كبير. ■ تواجه القصة القصيرة خلال السنوات الأخيرة تهميشاً في مجال النشر في مقابل الرواية. كيف تنظر لتلك المسألة؟ - أنتمي لجيل كان يرى العكس تماماً، فقد بدأنا بكتابة القصة القصيرة التي كانت هي البطل، وكانت تتسع منابر النشر من المجلات والإصدارات الأدبية المميزة لنشرها، وكانت مساحة كبيرة للمنافسة والتجريب، بالتالي فأساسيات السرد كانت في أرض القصة. كتابتي للرواية كانت مغامرة تلت استيعابي لدروس كتابة القصة القصيرة، فمشروع الرواية له طموحه الخاص، لكن تظل كتابة القصة لها تحدياتها الكبيرة. ■ أعمالك يظهر بها البحث ثيمة رئيسة محركة للسرد، كما حدث في رواية «أبناء الجبلاوي» حيث الأبطال يبحثون عن كاتبهم، أو «معبد أنامل الحرير» حيث يبحث نص عن كاتبه، أو في روايتك الأخيرة «بيت من زخرف». - أعتقد أن هذا الأمر له علاقة بفهمي لفن الرواية، باعتبارها محاولة فنية لفهم النفس البشرية، وفي تقديري هي قائمة على فكرة البحث، ولذلك تستهويني الروايات التي تحمل طابع الرحلة وما يُفاجئ الأبطال على مدارها، أذكر هنا مثلاً رواية «نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم، في تلك الروايات الثلاث التي ذكرتيها في السؤال كان البحث المصحوب بالخوف من اندثار المعرفة واضحاً ومشتركاً، سواء ما يتعلق بتراث نجيب محفوظ على أنه رمز في رواية «أبناء الجبلاوي»، أو البحث عن مؤلف «مخطوط» في «معبد أنامل الحرير» وتراث ابن رشد في «بيت من زخرف». ■ تقوم بتوظيف الفانتازيا في أعمالك بشكل كبير، في «بيت من زخرف» بدت الفانتازيا أقل استخداماً، فهل فرض موضوع الرواية نفسه على فنيات الكتابة؟ - أتوقف كثيراً عند الزاوية المختلفة التي يمكن أن تنطلق منها كتابتي، وأميل بشكل كبير للمزج بين الواقعي والخيالي، ففي رواية «كهف الفراشات» اعتمدت البنية على التراوح بين الواقعي والخيالي داخل كهف غامض، بما يفتح الباب لقراءة منفتحة على العجائبية، وفي «بيت من زخرف» كانت القيود كثيرة في النص، لكن مع ذلك تسللت الفانتازيا في مشاهد متفرقة كالطيور المتخيلة المحلقة على مشهد جنازة «ابن رشد» وهو المشهد الذي حررني بشكل كبير من فكرة أنني أقدم سيرة تاريخية عن ابن رشد، وكان وسيلة فنية بالتوازي مع تتبع مسار قصة البطل المعاصر، علاوة على التوثيق التاريخي لمعارك الخليفة المنصور وتحريم الفلسفة وغيرها من الوقائع، فالفانتازيا كانت تمنح النص التوازن الفني الذي أريده، وكذلك ظهر في مشهد حلم البحث عن العين المقتلعة. ■ هل كنت تبحث عن مناطق جدلية في سيرة «ابن رشد» بخلق شخصيات متخيلة مثل شخصية «لبنى القرطبية» التي تحبه؟ - أذكر أنني كنت في حوار مع سيدة مهتمة بعلوم الفكر الإسلامي، وكان لديها شغف كبير بابن رشد، تلتها نقاشات كثيرة دفعتني لرحلة بحث طويلة حوله، فقرأت ما كتبه عنه العقاد ومحمد لطفي جمعة، اللذان كانا مستندين تقريباً لنفس المصادر التاريخية القديمة العربية، وقرأت كتاب الدكتور محمد الجابري الذي كانت مصادره أوسع وشروحه أكبر، فوجدت أن الفكرة تتطور وأنني أريد تتبع هذا المشروع، واستعنت بأعمال فرنسية مترجمة، منها كتاب للمفكر جان باتيست برونيه الذي فتح أمامي مساحات مهمة حول مسببات حركات التشدد ضد بعض المفكرين والفلاسفة العرب خلال العصور الوسطى، ولأن ابن رشد لم تُكتب سيرته لذلك قررت أن أواصل هذا المشروع البحثي وبناءه بشكل فني. قصة العشيقة «لبنى القرطبية» كانت بمثابة «سقالة» فنية لطرح سيرة حقيقية، فسواء صدقها القارئ أم لم يصدقها لن يضير سيرة ابن رشد في شيء، فهو لم ترتبط سيرته بوجود قصة حب في حياته، أما الحقيقية فهي أنه نُفي لمدة سنة ونصف، وحضور هذه المرأة هنا كان لتتبع هذا النفي، بالإضافة أيضاً إلى أنها لها حضور رمزي لخطابه المناصر للمرأة في ذلك الوقت. ■ هل لذلك استخدمت لصوت ابن رشد في الرواية ضمير الغائب؟ - بالفعل اخترت ضمير الغائب مع استثناء أجزاء تخيلت فيها طفولته، لأعطي خلفية عامة عن طبيعة المجتمع الأندلسي الذي كان يعيش فيه، ومن حسن الحظ عندما ذهبت إلى قرطبة التاريخية تخيلت الأماكن التي مشى فيها، حتى المحراب الذي كان يؤم الناس فيه لا يزال موجوداً، ورغم أن السنوات أدخلت العديد من التغييرات على المكان فإن عمارة قرطبة فاحشة الجمال، والكثير من الأماكن التي قمت بزيارتها ميدانياً رسمت معالم تخيلي للعالم الذي عاشه. نحتاج إلى جهد في قراءة الأعمال من جانب الناشرين ولجان القراءة والنقاد والقائمين على الجوائز إبراهيم فرغلي ■ ظهر في الرواية استلهام لسيرة الدكتور نصر حامد أبو زيد وكأنها في ظلال ابن رشد؟ - أنا من المؤمنين بأن العودة للتاريخ دائماً يجب أن تكون متصلة بالواقع المعاصر، وأنه يجب أن يكون لتلك العودة مبرر واضح، والدافع للعودة لابن رشد ضرورة، لأننا نحتاج لأفكاره بقوة، فأفكاره وقت الظلام الغربي استطاعت أن تنهض بالغرب من هذا الظلام وتؤسس أفكار الفلاسفة الكبار، مثل كانط وسبينوزا تحديداً، بعد أن قام بنقل الفكر اليوناني لأوروبا بالإضافة إلى الشروح التي كان يطرح بها أفكاره الخاصة التي أحياناً تكون نقداً سياسياً أو اجتماعياً. وتأكيداً على تلك الفكرة صنعت هذا الجسر بين التاريخي والمعاصر، بين مشروع ابن رشد الفقيه والفيلسوف، وبين الدكتور نصر حامد أبو زيد بمشروعه الفكري الضخم، ومع ذلك قصدت عدم الإيغال في الإشارة لنصر حامد أبو زيد بقدر ما طرحت في الرواية رمزاً لحالة نصر حامد أبو زيد من خلال شخصية بطل الرواية أستاذ الفلسفة «سعد الدين إسكندر»، كنت أرى أن المنفى جمعهما، وأن الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته كان يحمل إهانة كبيرة كالتي تعرض لها ابن رشد بصور أخرى، فهناك تقاطعات المنفى وإهانة الفكر، وغيرهما من التقاطعات التي تعاملت بها بشكل فني. ■ ما أبرز انطباعاتك عن المشهد الأدبي اليوم؟ - أعتقد أننا لدينا مشكلة في فرز الأعمال، وذلك نتيجة للحالة النقدية الضعيفة التي لا توازي تدفق الأعمال وخاصة الروائية منها، ورغم اجتهاد عدد كبير من الناشرين في اختيار عناوين جيدة فإن هناك حالة من الاستسهال والتفكير في الكتابة بمنطق جماهيري، فقد كان جيلنا يعاني من صعوبة النشر في مقابل سهولة النشر المتاحة اليوم، كما أن هناك تشوشاً يخص فهم الأدب باعتباره منتجاً سردياً وليس مجرد حكاية، فالحكاية مجرد جزء منه، لذلك أصبحنا نجد كتابات تعتمد على الحكاية دون التفات لباقي عناصر الأدب من تقنية ولغة، كما أن مشهد الجوائز صار يعتمد على ذوق لجنة معينة في لحظة معينة، ليس هناك اهتمام حقيقي من جانب اللجان لتتويج كتاب يستحق. نحتاج إلى جهد في قراءة الأعمال من جانب الناشرين ولجان القراءة والنقاد والقائمين على الجوائز.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store