
إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية
بعد رصيد من الأعمال الروائية، يعود الكاتب والروائي المصري إبراهيم فرغلي إلى القصة القصيرة من خلال مجموعته «حارسة الحكايات» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة... وكان فرغلي قد أصدر العديد من الروايات ومنها «بيت من زخرف: عشيقة ابن رشد» و«أبناء الجبلاوي» و«معبد أنامل الحرير» اللتان حصلتا على جائزة ساويرس الثقافية في مصر، كما حصلت روايته «قارئة القطار» على جائزة «نجيب محفوظ» عام 2022، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية.
هنا حوار معه حول مجموعته الجديدة ومبررات عودته للقصة القصيرة:
■ تعود إلى القصة القصيرة من خلال «حارسة الحكايات»، بعد مسيرة روائية حافلة، هل تعدها استراحة محارب؟
- خلال كتابة آخر رواية لي «بيت من زخرف» كان ينتابني إحساس أن طموحي في هذه الرواية كبير لدرجة أنني كنت كثيراً ما أشعر بأنني ربما لن أستطيع استكمالها كما أطمح، خاصة مع التحديات التي فرضتها على نفسي فيها بألا تتحول إلى عمل يتناول التاريخ بشكل تقليدي. كانت تتطلب مني الكثير من البحث والتمكن من التقنيات ومستويات اللغة التي كنت مُصراً على أن تعبر عن كل زمن على حدة، وعندما انتهيت منها شعرت بأنني استكملت ما كنت أريده وأنني ربما لن أستطيع أن أكتب شيئاً جديداً، وهذا الشك ربما دفعني لأن أبحث عن نص يُحررني من إرهاق الرواية، فوجدتني أميل تجاه القصة القصيرة التي كتبتها في أوقات متباينة لكنها تتماهى في إطار يجمع بين ثنائية الحلم والواقع، كنت مُصراً أن تكون حالتها متكاملة.
■ من اللافت أن قصص المجموعة متأثرة بالفن السينمائي الذي يبدو حاضراً في مشاهدها...
- هذا صحيح، ففي المجموعة قصة بعنوان «سينمافيليا» وفيها يجد البطل في مشاهدته للأفلام دلالات وانعكاسات من نفسه، وفي تلك القصة قدر من التحية للسينما وأثرها علينا، وفي قصة أخرى كان ملهمها الأول فيلم «الأحلام» للمخرج الياباني المعروف «كيروساوا»، ورغم أنني أحب هذا الفيلم كثيراً فإنني تماهيت بمخيلتي مع مشهد فيه لجماعة خارجة من معسكر تواجه «مغارة الأشباح»، حيث يتجمد الزمن ويواجه كل منهم نفسه وأشباحه أو أطيافه، فربما شغلني هذا المشهد لأن فكرة الأطياف ومواجهتها تشغلني في الكتابة، الأطياف التي تمثل الضمائر والذوات التي يواجهها الإنسان وتحكم عليه، تشغلني تلك الحالة الباطنية ومعادلاتها الرمزية بشكل كبير.
■ تواجه القصة القصيرة خلال السنوات الأخيرة تهميشاً في مجال النشر في مقابل الرواية. كيف تنظر لتلك المسألة؟
- أنتمي لجيل كان يرى العكس تماماً، فقد بدأنا بكتابة القصة القصيرة التي كانت هي البطل، وكانت تتسع منابر النشر من المجلات والإصدارات الأدبية المميزة لنشرها، وكانت مساحة كبيرة للمنافسة والتجريب، بالتالي فأساسيات السرد كانت في أرض القصة. كتابتي للرواية كانت مغامرة تلت استيعابي لدروس كتابة القصة القصيرة، فمشروع الرواية له طموحه الخاص، لكن تظل كتابة القصة لها تحدياتها الكبيرة.
■ أعمالك يظهر بها البحث ثيمة رئيسة محركة للسرد، كما حدث في رواية «أبناء الجبلاوي» حيث الأبطال يبحثون عن كاتبهم، أو «معبد أنامل الحرير» حيث يبحث نص عن كاتبه، أو في روايتك الأخيرة «بيت من زخرف».
- أعتقد أن هذا الأمر له علاقة بفهمي لفن الرواية، باعتبارها محاولة فنية لفهم النفس البشرية، وفي تقديري هي قائمة على فكرة البحث، ولذلك تستهويني الروايات التي تحمل طابع الرحلة وما يُفاجئ الأبطال على مدارها، أذكر هنا مثلاً رواية «نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم، في تلك الروايات الثلاث التي ذكرتيها في السؤال كان البحث المصحوب بالخوف من اندثار المعرفة واضحاً ومشتركاً، سواء ما يتعلق بتراث نجيب محفوظ على أنه رمز في رواية «أبناء الجبلاوي»، أو البحث عن مؤلف «مخطوط» في «معبد أنامل الحرير» وتراث ابن رشد في «بيت من زخرف».
■ تقوم بتوظيف الفانتازيا في أعمالك بشكل كبير، في «بيت من زخرف» بدت الفانتازيا أقل استخداماً، فهل فرض موضوع الرواية نفسه على فنيات الكتابة؟
- أتوقف كثيراً عند الزاوية المختلفة التي يمكن أن تنطلق منها كتابتي، وأميل بشكل كبير للمزج بين الواقعي والخيالي، ففي رواية «كهف الفراشات» اعتمدت البنية على التراوح بين الواقعي والخيالي داخل كهف غامض، بما يفتح الباب لقراءة منفتحة على العجائبية، وفي «بيت من زخرف» كانت القيود كثيرة في النص، لكن مع ذلك تسللت الفانتازيا في مشاهد متفرقة كالطيور المتخيلة المحلقة على مشهد جنازة «ابن رشد» وهو المشهد الذي حررني بشكل كبير من فكرة أنني أقدم سيرة تاريخية عن ابن رشد، وكان وسيلة فنية بالتوازي مع تتبع مسار قصة البطل المعاصر، علاوة على التوثيق التاريخي لمعارك الخليفة المنصور وتحريم الفلسفة وغيرها من الوقائع، فالفانتازيا كانت تمنح النص التوازن الفني الذي أريده، وكذلك ظهر في مشهد حلم البحث عن العين المقتلعة.
■ هل كنت تبحث عن مناطق جدلية في سيرة «ابن رشد» بخلق شخصيات متخيلة مثل شخصية «لبنى القرطبية» التي تحبه؟
- أذكر أنني كنت في حوار مع سيدة مهتمة بعلوم الفكر الإسلامي، وكان لديها شغف كبير بابن رشد، تلتها نقاشات كثيرة دفعتني لرحلة بحث طويلة حوله، فقرأت ما كتبه عنه العقاد ومحمد لطفي جمعة، اللذان كانا مستندين تقريباً لنفس المصادر التاريخية القديمة العربية، وقرأت كتاب الدكتور محمد الجابري الذي كانت مصادره أوسع وشروحه أكبر، فوجدت أن الفكرة تتطور وأنني أريد تتبع هذا المشروع، واستعنت بأعمال فرنسية مترجمة، منها كتاب للمفكر جان باتيست برونيه الذي فتح أمامي مساحات مهمة حول مسببات حركات التشدد ضد بعض المفكرين والفلاسفة العرب خلال العصور الوسطى، ولأن ابن رشد لم تُكتب سيرته لذلك قررت أن أواصل هذا المشروع البحثي وبناءه بشكل فني.
قصة العشيقة «لبنى القرطبية» كانت بمثابة «سقالة» فنية لطرح سيرة حقيقية، فسواء صدقها القارئ أم لم يصدقها لن يضير سيرة ابن رشد في شيء، فهو لم ترتبط سيرته بوجود قصة حب في حياته، أما الحقيقية فهي أنه نُفي لمدة سنة ونصف، وحضور هذه المرأة هنا كان لتتبع هذا النفي، بالإضافة أيضاً إلى أنها لها حضور رمزي لخطابه المناصر للمرأة في ذلك الوقت.
■ هل لذلك استخدمت لصوت ابن رشد في الرواية ضمير الغائب؟
- بالفعل اخترت ضمير الغائب مع استثناء أجزاء تخيلت فيها طفولته، لأعطي خلفية عامة عن طبيعة المجتمع الأندلسي الذي كان يعيش فيه، ومن حسن الحظ عندما ذهبت إلى قرطبة التاريخية تخيلت الأماكن التي مشى فيها، حتى المحراب الذي كان يؤم الناس فيه لا يزال موجوداً، ورغم أن السنوات أدخلت العديد من التغييرات على المكان فإن عمارة قرطبة فاحشة الجمال، والكثير من الأماكن التي قمت بزيارتها ميدانياً رسمت معالم تخيلي للعالم الذي عاشه.
نحتاج إلى جهد في قراءة الأعمال من جانب الناشرين ولجان القراءة والنقاد والقائمين على الجوائز
إبراهيم فرغلي
■ ظهر في الرواية استلهام لسيرة الدكتور نصر حامد أبو زيد وكأنها في ظلال ابن رشد؟
- أنا من المؤمنين بأن العودة للتاريخ دائماً يجب أن تكون متصلة بالواقع المعاصر، وأنه يجب أن يكون لتلك العودة مبرر واضح، والدافع للعودة لابن رشد ضرورة، لأننا نحتاج لأفكاره بقوة، فأفكاره وقت الظلام الغربي استطاعت أن تنهض بالغرب من هذا الظلام وتؤسس أفكار الفلاسفة الكبار، مثل كانط وسبينوزا تحديداً، بعد أن قام بنقل الفكر اليوناني لأوروبا بالإضافة إلى الشروح التي كان يطرح بها أفكاره الخاصة التي أحياناً تكون نقداً سياسياً أو اجتماعياً.
وتأكيداً على تلك الفكرة صنعت هذا الجسر بين التاريخي والمعاصر، بين مشروع ابن رشد الفقيه والفيلسوف، وبين الدكتور نصر حامد أبو زيد بمشروعه الفكري الضخم، ومع ذلك قصدت عدم الإيغال في الإشارة لنصر حامد أبو زيد بقدر ما طرحت في الرواية رمزاً لحالة نصر حامد أبو زيد من خلال شخصية بطل الرواية أستاذ الفلسفة «سعد الدين إسكندر»، كنت أرى أن المنفى جمعهما، وأن الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته كان يحمل إهانة كبيرة كالتي تعرض لها ابن رشد بصور أخرى، فهناك تقاطعات المنفى وإهانة الفكر، وغيرهما من التقاطعات التي تعاملت بها بشكل فني.
■ ما أبرز انطباعاتك عن المشهد الأدبي اليوم؟
- أعتقد أننا لدينا مشكلة في فرز الأعمال، وذلك نتيجة للحالة النقدية الضعيفة التي لا توازي تدفق الأعمال وخاصة الروائية منها، ورغم اجتهاد عدد كبير من الناشرين في اختيار عناوين جيدة فإن هناك حالة من الاستسهال والتفكير في الكتابة بمنطق جماهيري، فقد كان جيلنا يعاني من صعوبة النشر في مقابل سهولة النشر المتاحة اليوم، كما أن هناك تشوشاً يخص فهم الأدب باعتباره منتجاً سردياً وليس مجرد حكاية، فالحكاية مجرد جزء منه، لذلك أصبحنا نجد كتابات تعتمد على الحكاية دون التفات لباقي عناصر الأدب من تقنية ولغة، كما أن مشهد الجوائز صار يعتمد على ذوق لجنة معينة في لحظة معينة، ليس هناك اهتمام حقيقي من جانب اللجان لتتويج كتاب يستحق. نحتاج إلى جهد في قراءة الأعمال من جانب الناشرين ولجان القراءة والنقاد والقائمين على الجوائز.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
«فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية
تبدو العين الأنثوية مهيمنة في رصد التفاصيل الحياتية الصغيرة والتقاط أوجاع الروح المسكوت عنها في المجموعة القصصية «فتيات الكروشيه»، الصادرة عن دار «الشروق» للكاتبة المصرية جيلان الشمسي. تتجلى الشخصيات في هذه المجموعة باعتبارها كائنات غير تقليدية، تغوص في فكرة الفقد والبحث عن الذات ودائرية الحياة والعودة. بعضها يقف على الحافة، فيما تعود شخصيات أخرى من الموت ليجد القارئ نفسه يشاهد شخصاً يتحول إلى آخر عاش قبل مئات السنين أو آخر يلتقي بذاته في آخر الرحلة. هنا يصبح من العادي أن يرى القارئ ملكة فرنسا الشهيرة التي عاشت في القرن الثامن عشر ماري أنطوانيت تطل عليه من شرفة قصرها، أو أن يجد نفسه داخل فندق يعود بالزمن إلى الوراء أو شاهداً على «باص» يختفي في الضباب. وبينما تحاول بعض الشخصيات التآلف مع محيطها، يحاول البعض الآخر الهرب منه. تشكل المؤلفة كل قصة عبر فسيفساء من التفاصيل الصغيرة المدهشة التي تمزج الواقع بحس فانتازي في ظل حضور قوي لأجواء الوحدة والضجر ومفارقات الأقدار، على نحو تتفتح معه بداخل ذهن القارئ تساؤلات عديدة تأخذه نحو آفاق واسعة التأويل. يشار إلى أن جيلان الشمسي تخرجت في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية عام 2008، وحصلت على بكالوريوس الفلسفة من جامعة لندن عام 2016، صدر لها رواية «الطائفة» ومجموعتان قصصيتان: «يوماً ما سأكون شمساً» و«كأن تنقصه الحكاية» التي فازت بجائزة «ساويرس» الأدبية. ومن أجواء المجموعة نقرأ: «لأيام نجلس أنا وزوجي أمام الضابط في القسم مع أولياء الأمور الآخرين الذين لم يعد أولادهم، ولم يتم حتى إيجاد أي أثر للأتوبيس نفسه، ولا للسائق ولا للمشرفة المبتسمة دائماً بعينيها الواسعتين وشعرها المصبوغ. جميع الهواتف التي يملكها المدرسون وطلبة الثانوي الذين يستقلونه اختفت إشارتها فجأة، ولم يعد من المتاح الاتصال بهم. بمرور الشهور، بدأ باقي الأهالي في التوقف عن البحث والذهاب للسؤال في القسم أو المدرسة. لا أحد يواصل تلك الحركة المكوكية مثلي سوى سيدة أراها أمام القسم كل يوم، وأعرف جيداً ابنتها التي كانت تجلس دوماً في الصف الأخير. تخبرني بصوت خافت دون أي دمعة أن بعض جيرانها أخبروها أن الأتوبيس يومها دخل بالفعل شارعهم الضيق، لكنه فجأة ووسط الضباب الذي كان يملأ السماء صعد لأعلى كأنه يرتقي درجات السلم، وسرعان ما اختفى في الغيمة البيضاء. أنظر نحوها بعينين فارغتين، لم تكن تبدو كأنها تهذي أو تخبرني بشيء لا معقول. نظرات عينيها الواثقة يومها لا تفارقني. لم أذهب بعدها مجدداً للقسم».


Independent عربية
١١-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية
تتجول نورا ناجي بين مآسي بطلات روايتها "بيت الجاز" (دار الشروق - القاهرة)، لكنها لا تمنح أياً منهن صوت السرد، وإنما تمنحه لراوٍ عليم خارجي، لتحقق عبر صوته نوعاً من العدالة السردية بينهن، وتتيح في الوقت نفسه وحدة النص عبر توحيد نغمة السرد، من دون التقيد بمقتضى الحال. وإضافة إلى ما حققته ناجي عبر هذا الأسلوب من موضوعية، فإنها تحررت من ذاتية الشخوص، التي ربما قادت إلى تبرير الزلات وتجميل الخطايا. وتمكنت من توجيه إدانة أكثر شمولاً واتساعاً لمجتمع اعتاد مواراة عاره بالتكتم والصمت. ولم يتضح تقاطع الواقع والخيال عبر انطلاق السرد من حادثة حقيقية، أو عبر بروز الحقيقة كعنوان لكثير من فصول الرواية فحسب، ولكن هذا التقاطع بين الحقيقي والمتخيل، بدا على نحو أكبر مع اعتماد الكاتبة أسلوب الميتا سرد، أو الرواية داخل رواية، فكانت الكاتبة "رضوى"، واحدة من شخصيات النسيج، والمنوطة في الوقت نفسه بالكتابة ونسج الأحداث. وعبر هذه التقنية، التي تعبر عن وعي الكتابة بذاتها، كسر الجدار بين النص والقارئ، فبات مشاركاً في لعبة السرد. تناظر السقوط الرواية المصرية (دار الشروق) خالفت الكاتبة الزمن الحقيقي للحادثة، واختارت لها "يناير 2011" لتُزامن بين سقوط المولود من النافذة سقوط الشباب الثوار قتلى في الميادين، وبذا أبرزت منذ بداية رحلتها، قسوة العالم الذي يزهق الحيوات بغير اكتراث. وشرعت في سد الفجوات، واستكمال الأجزاء الغائبة من الحكاية، فالأم التي دان المجتمع فعلتها في الواقع، لم تكن في الرواية سوى ضحية أخرى، فهي طفلة صغيرة "مرمر"، لم تتجاوز الـ13 من عمرها. تعيش في بيت الجاز، بين عائلة تمثل طبقة من المهمشين، الذين يعانون الفقر في زمن لم يعد فيه "الجاز" سلعة رائجة. يعتدي العم الأعزب والعاطل عن العمل على ابنة أخيه، فتحمل "مرمر" من دون أن تعي ما حدث لها. وتلجأ العائلة التي تفشل في إجهاض الطفلة، إلى توليدها في حمام المستشفى الجامعي، ثم إلقاء المولود من النافذة. هذا السقوط لم يكن من نصيب الطفل وحده، ولم تتجرعه الأم المغتصبة وحدها، إذ تشاركته البطلتان الأخريان، وخلف كل سقوط نسجت الكاتبة أسباباً وأحداثاً، كشفت من خلالها سوءات المجتمع، وما يعتريه من قسوة، وعطب: "الكتابة أقسى من الحياة. في الحياة سيسقط الطفل من الشباك، وسيلتقطه رجل ما، وسينجو، سيجد من يرعاه. الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية. عن القسوة التي أدت إلى الفعل، عن البطن التي لفظت واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يلف العالم. الشر يخفي كل اليأس" ص 28. أبعاد سيكولوجية عمدت الكاتبة في رحلتها إلى بلوغ الطبقات الأعمق من النفس الإنسانية والغوص في متاهاتها المعتمة، المكتظة بالتوتر، والقلق، والهشاشة، والاضطراب. وجسدت رغبتها المحمومة في الخلاص، التي إما تتولد عن أزمة أو تخلقها، فكان ما شهدته "يمنى" في طفولتها من اعتداء جنسي على "مرمر"، ثم مشاهدتها للفتاة وهي تشعل النار في جسدها، سبباً في اضطراباتها النفسية والجنسية وما ألم بها من انحراف سلوكي، سيكوباتية وافتقار للأمومة والعاطفة، وكذلك الشعور العميق بالذنب، الذي دفع بها في النهاية للسقوط في براثن الخطيئة: "منذ رأت جسم زيزو فوق مرمر عبر شباك البيت وهي تشعر بشيء ما يأكلها من الداخل. شيء ملح يدفعها لفعل أمور لا تفهمها ولا تدري حتى بأنها تفعلها" ص40. أما الحقيقة التي أعلنتها أم رضوى لابنتها، بأنها طفلة متبناة، ومعاملتها كحيوان أليف، من دون صرامة تقتضيها التربية أحياناً، فخلقت لديها شعوراً بالاغتراب واللاانتماء، في حين لجأت أم يمنى للإنكار، كمحاولة للتواؤم مع انتهاك زوجها لجسدها، بالضرب، وهي مشاهد أسهمت بدورها، في زيادة الاضطراب النفسي، الذي لازم ابنتها في كل مراحل حياتها. وقد مررت الكاتبة عبر كل ما أودعته النص من ظلال نفسية، رؤية حول الأثر الخطر للطفولة، في تشكيل حياة الإنسان. نورا ناجي (صفحة الكاتبة - فيسبوك) واتساقاً مع الحضور القوي للبعد السيكولوجي داخل السرد، لجأت ناجي إلى بعض التقنيات السردية، مثل المونولوغ الداخلي، الذي ورد بضمير الخطاب "أنت"، ليعكس تشظي الشخوص، وصراعاتها الداخلية، إضافة إلى تقنيات الانزياح الزمني، إذ جمعت في أسلوب السرد بين التذكر، والتدفق الأفقي، والمفارقات الزمنية: "ستسير مرمر بين أمها وعمتها، بسرعة حتى لا يوقفهن أمين شرطة متجول ويسألهن عن سبب وجودهن في الشارع مساءً على رغم حظر التجوال. ستبتلع ريقها لتسقي السحلية داخلها، السحلية التي تقول أمها إنها طفل ينمو في بطنها، وأن الأوان قد فات لفعل أي شيء" ص44. وأسفر هذا التنوع والانزياح الزمني، عن خلخلة الزمن الخطي للسرد، وعزز حال القلق، وفقدان السيطرة التي تعيشها الشخوص. اتساقاً مع محاولتها الوصول إلى الطبقات الأعمق من النفس، وظفت الكاتبة تقنيات الوصف، لا لتصوير المكان والشخوص وحسب، وإنما لتجسيد الحالة الشعورية لبطلاتها، فنقلت حال الهزيمة والفراغ الذي خلفه مشهد احتراق "مرمر" لدى يمنى، القلق والضغط الذي تسببه الكتابة، والفقد والخواء الذي يتركه الموت عندما يأخذ الأحباء. وفضلاً عما أتاحته من سمات بصرية، عمدت لاستنفار حواس أخرى، مثل الشم، والسمع، عبر استدعاء رائحة الجاز، الروث، الهواء المترب. وكذلك أصوات الصراخ، والضجيج، والسباب. واستفادت من طاقاتها الرمزية، في تمرير دلالات تحيل إلى الطبقات الاجتماعية، التي تنتمي إليها الشخوص، ولا سيما الطبقة المهمشة. ثيمة القسوة بدت القسوة ثيمة رئيسة عبر كل القضايا، التي رصدتها الكاتبة، وكان من بينها قضايا وثيقة الصلة بالمرأة، إذ رصدت ما تتعرض له من تحرش واغتصاب، عنف، وتهميش، وقهر، واضطهاد: "على صفحات (فيسبوك) تعليقات متبوعة بوجوه صفراء تضحك حد البكاء، يسخرون فيها من امرأة فازت بجائزة لأنها لا ترتدي الحجاب، ويسبون فيها أخرى لأنها تحمل ملامح ذكورية، أو تمارس رياضة عنيفة، تعليقات تشجع شاباً قتل أخته، أو رجلاً ضرب فتاة في الشارع، أو شاباً ذبح طالبة أمام الجامعة، لأنها رفضت الارتباط به" ص 155. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) كذلك تطرقت إلى قضايا شائكة أخرى مثل الإجهاض، والأقنعة الاجتماعية الزائفة، والتفاوت الطبقي، والفقر، والأدوية المغشوشة، وحوادث الطرق، واستشراء الجريمة والفساد، وسلبية المجتمع في التعامل مع الجرائم والمجرمين، وسطحيته في التعامل مع البشر: "الناس لا يحترمون سوى الجمال ولو كان غلافاً لروح مشوهة، يحتقرون القبح ولو كان غطاء لأجمل روح في العالم" ص90. وعبر شخصية الكاتبة "رضوى"، طرحت ناجي كثيراً من قضايا الكتابة والإبداع، مثل إحباطات الكاتب، والمقارنات، والحروب المستمرة في أوساط المثقفين، والاتهامات الكاذبة، إضافة إلى الآثار الجانبية للكتابة، التي تحرم الكاتبة من أن تحب، وأن تحيا حياة عادية، في مجتمع موسوم بالذكورية المتجذرة. وإمعاناً في إبراز قسوة العالم، استدعت الكاتبة مشاهد من غزة، لأطفال ميتين، ومستشفيات محترقة، وطفلة محاصرة بين الجثث، تتوسل نجدتها، لكنها لا تحصل إلا على الموت. حاولت الكاتبة تشكيل كولاج أدبي، عبر التناص مع أعمال أدبية مهمة، مثل رواية "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو، ومع شعر محمود درويش. وبدا تضافر ما استدعته من هذه الأعمال، مع ما مررته من معارف، ولا سيما عن مرض الجذام، ومرض السكري، في إنتاج المعنى، وتكثيف الدلالة، التي دائماً ما تحيل إلى قسوة العالم ووحشيته. وعبر ما فجرته من قضايا، رصدت صوراً من التناقضات، تجمع بين الحاضر والماضي، والجمال والقبح، والرقة والقسوة، والراحة والألم، والسعادة والحزن، والخير والشر. ومررت رؤى حول مسؤولية ذلك التناقض عن تحقيق توازن الكون. كما رصدت أنماطاً من التحول، أثمرت اندثار تجارة الجاز، وتلاشي بعض الحرف والورش، وتغير سمات الشوارع والمدن، نتيجة التوسع العمراني. وإضافة إلى التحولات المادية، رصدت تحول مشاعر الشخوص، مثل تحول شعور "رضوى" من الإثارة إلى الملل، مع تكرر رحلاتها عبر القطار، وتحول "يمنى" من الشعور بالذنب إلى التصالح مع ذاتها، وكذلك تحول الأحلام، والأعمار إلى الشيخوخة، ثم إلى الزوال. التقطت الكاتبة بعض أوجه التماثل بين بطلة روايتها "مرمر"، وأبطال الأفلام، وأيضاً أبطال الواقع، مثل "بوعزيزي" مفجر الثورة التونسية، والجندي الأميركي الذي أحرق نفسه، اعتراضاً على قتل الأطفال في غزة، فجميعهم اختاروا النار وسيلة للاحتجاج، والتعبير عن الغضب. وكانت النار ذاتها ومشاهد الاحتراق، مدخلاً سلكته الكاتبة، لتمرير أسئلتها الوجودية، حول معنى الحياة، ماهية الموت، وأسئلة المصير، التي يثيرها قدر، يختار للبعض الهامش، بينما يرفل آخرون في النعيم. وقد هيمن الموت كسمة ما بعد حداثية على السرد، سواء في صورته الطبيعية أو المجازية، حاملاً رؤى فلسفية، حول هشاشة الوجود الإنساني، وحتمية الفناء، وإن لم ينفِ تعطش الإنسان للأمل، ورغبته في الاستمرار.


Independent عربية
٠٨-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
أسرار الوردة المسحورة كما تتجلى في الفن والأدب
ثمة مفارقة، قد نجدها في صفحات رواية ما، بين نشأة بطلها في بيئة وضيعة، وبين مآلات مصيره المجيد، هذا الحدث السردي يتوازى فطرياً مع زهرة اللوتس التي تنمو من قلب الوحل، وتطفو على سطح الماء في سمو وحسن، حتى اعتبارها زهرة المفارقات أيضاً. فالورود لها عالم سحري وغامض، يجعلها تتجاوز في وجودها كونها مجرد نباتات جميلة وهشة، كي تمضي نحو أفق شاسع، مرتحلة عبر التاريخ الإنساني الطويل، حاملة بين وريقاتها دلالات رمزية حول المعاني العاطفية والثقافية والفنية والسياسية أيضاً. فالوردة سواء كانت جزءاً من لوحة فنية، بيتاً شعرياً، أو هدية بسيطة، أو شعاراً في الحرب، فإنها تظل وسيلة تعبير تتجاوز الكلمات، كي تعكس مشاعر الإنسان في أكثر لحظاته عمقاً وصدقاً. زهرة مقدسة ارتبطت زهرة اللوتس بالحضارات القديمة، استخدمها الفراعنة في طقوسهم الدينية، فكانت تزين الولائم والمعابد، كما استخدمت الورود عند الإغريق والرومان كأكاليل توضع على رؤوس المنتصرين. وفي العصور الوسطى، أصبحت رمزاً دينياً وروحياً، وارتبطت بالقديسة مريم العذراء في المسيحية كما نرى في لوحات العصر القوطي، مثلاً لوحة الفنان الألماني ستيفن لوخنر "العذراء في حديقة الورد"، واتخذت بعض الدول الأوروبية الوردة شعاراً لها، كما حدث في "حرب الوردتين" بين أسرتي يورك ولانكاستر في إنجلترا عام 1455، فقد كان شعار لانكستر وردة حمراء، بينما كان شعار آل يورك وردة بيضاء. كتاب منى أبو النصر (دا رالشروق) وفي الإبداع الفني والأدبي، لعبت الورود دوراً أساسياً. ففي اللوحات الفنية، استخدمها الرسامون للتعبير عن الجمال الزائل، كما نجدها في لوحات عصر النهضة التي جسدت الوردة كرمز للترف والفناء. أما في الأدب، فقد كانت الوردة حاضرة بقوة، من قصائد الشاعر الفارسي عمر الخيام إلى أعمال شكسبير، حيث جسدت معاني الحب والشوق، لكنها في بعض الأحيان كانت رمزاً للحزن والوداع، والنقاء والانحطاط، كما في قصيدة بودلير "أزهار الشر"، فالعنوان نفسه يشي بأن الجمال قد ينبت وسط الفساد، وأن الفن يمكن أن يزدهر وسط التجربة الإنسانية الأكثر ظلاماً وقسوة. لقد رسخ مرور الزمن، واقع بقاء الورود كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، يحمل دلالات يمكن اعتبارها لغة بحد ذاتها، إذ يعبر كل لون عن معنى مختلف: الأحمر للحب والعاطفة، الأبيض للنقاء، الأصفر للصداقة والغيرة أحياناً، بينما يرمز الأسود إلى الفقدان والحداد. هذه الرمزية لم تقتصر على الاستخدام الشخصي، بل دخلت في مجالات مثل السينما والموسيقى، إذ أصبحت الورود عنصراً بصرياً قوياً يستخدم لنقل الأحاسيس والمشاهد الدرامية، يكفي أن نتأمل في عناوين الأعمال الأدبية والفنية، التي تحمل كلمة "وردة" في عنوانها، كي ندرك مدى حضور هذه الكائنات البديعة في عالمنا الواقعي والمتخيل. سحر الوردة في كتابها "الحالة السردية للوردة المسحورة"، الصادر عن دار الشروق، تقدم الكاتبة منى أبو النصر، رؤيتها الإبداعية لحضور الورد في الفن والأدب، مؤكدة أن الوردة كثيراً ما ظلت جسراً بين الطبيعة والإنسان، تحمل في بتلاتها قصصاً من الحب والجمال والتاريخ، والألم كي تذكرنا دائماً بأن الجمال الحقيقي، على رغم زواله الظاهري، يبقى خالداً بين صفحات عمل أدبي فذ، وفي لحن موسيقي، وفيلم مؤثر. يمضي هذا الكتاب عبر 14 فصلاً في رحلة استثنائية، مستندًا إلى أكثر من 100 عمل فني، ليكشف عن أثر الوردة من زاوية غير مألوفة، إذ تمتزج الفنون المتنوعة مع النصوص الأدبية والمشاهد البصرية، لتشكل نسيجاً معرفياً كاشفاً للمعاني والدلالات. تتبع الكاتبة ظهور الوردة ككائن ينبض بالحياة، يختزن أسراراً تتجاوز شكلها المرئي، كي تروي حكايتها الخاصة بلغة الصمت والعطر واللون، بوصفها كائناً سردياً يحمل في طياته فلسفات متشابكة ورؤى درامية متداخلة. كتاب الشاعر الألماني ريلكه عن الورد (أمازون) ننتقل من فصل إلى آخر في رحلة تأملية تتقاطع فيها الأسطورة مع الأدب، نجد الوردة متجذرة في الميثولوجيا اليونانية، متوهجة في قصائد محمود درويش، متشابكة مع حكايات نجيب محفوظ وماركيز، أو حاضرة في دروب محمد المنسي قنديل في "قمر على سمرقند". نلمحها أيضاً في عالم المسرح، تتمايل في باليه "جيزيل"، ثم نراها تتحول إلى رمز للدهشة في "أليس في بلاد العجائب"، وإلى زهرة نادرة في ملحمة "هوميروس"، قبل أن تتراءى لنا من بين سطور "الأمير الصغير" ككائن شديد الفرادة، يحمل أسرار الكون في بتلاته. تتبع الوردة في الأدب، يتقاطع فيه السحر والغموض، في أعمال شكسبير، تظهر الوردة كرمز للحب، وأخرى كإشارة إلى الفناء، وثالثة كدليل على الصراع بين العوالم والأقدار. لنقرأ: "لا يتوقف انشغال الفن بالأزهار كهيئة وبنية شكلية وشخصية وحسب، بل انطلق منها كفكرة فلسفية تنطوي على كل شيء في ذاتها، الدلالة واللغز، كما كان يراها أمبرتو إيكو، الذي سئل مراراً عن سبب اختياره عنوان اسم الوردة لروايته الأشهر. يقول إيكو إن هذا العنوان جاءه صدفة، وعرف الوردة بأنها إحدى الصور المترعة بدلالات كثيرة، إلا أنها قد تؤول في نهاية المطاف، إلى عدم الإحالة كليا أو تقريبياً، على أية دلالة من تلك الدلالات جميعها". في "بؤساء" فيكتور هيغو أدركت إيبونين، في لحظة حاسمة، أنها تقف على أعتاب الحياة والموت، شعرت بوهج الحب ينساب في أنفاسها الأخيرة، كأنما الأمل الذي قادها يوماً على دروب المستحيل لم يتركها إلا بعدما نثر عليها عبقه الأخير. همست باسم ماريوس، فكان ذلك الوعد الأخير الذي حملته الرياح إلى العدم، بينما بقيت الوردة شاهدة على رحلتها نحو الأبدية. لم يكن لها من الدنيا سوى ذلك الهمس، وتلك الزهرة التي سقطت. في تقلبات الحياة وبؤسها، تجلت الوردة رمزاً يعبر العصور، بين أفراح تذبل سريعاً وأحزان تورق بلا نهاية. حين حملت الطفلة "هولابا" وردة صغيرة إلى دار النساء في فيلم "أوراق متساقطة"، لم تكن مجرد زينة توضع على طاولة طعام شحيحة، بل كانت إشارة إلى لحظة نادرة من الأمل، وقطرة لون تضيء ظلمة الحياة الرمادية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وردة أخرى، متوارية في جيب رجل متعب على رصيف محطة القطار في فيلم "هوجو"، تحكي قصة انتظار بلا نهاية. هي زهرة صغيرة، لكنها تحمل بين وريقاتها ثقل الذكريات ورائحة الحنين، واللقاءات التي لن تحدث. الأنوثة والورد لقد ارتبطت الوردة دوماً بما هو أنثوي، فهي مزيج من الرقة والغموض الجارح، من الجمال الذي يأسر، والقوة المختبئة بين أشواكها. ومنذ أزمنة بعيدة، تغنى الشعراء بالورد. كتبت الشاعرة إميلي ديكنسون، المعروفة بين أصدقائها كونها بستانية أكثر مما هي شاعرة، عن شدة ولعها بالنرجس والزهور الياقوتية والروز، كما درست علم النبات في أكاديمية أمهرست، ولها قصيدة بعنوان "زهرة مايو"، وهو الشهر نفسه الذي غادرت فيه ديكنسون الحياة. أما فريدا كاهلو، فكانت تقول: "أرسم الزهور، كي لا تموت"، وذلك رداً على تساؤل مكرر حول الزهور التي تتكرر في لوحاتها، ومن المعروف أنها خلقت خيطاً مشتركاً يجمع بين النباتات والزهور والفاكهة، مما أضفى بعداً سريالياً في لوحاتها. وبين اللوحة واللحن، تنساب موسيقى باليه "جيزيل" في تعبير كلاسيكي راقص، كي يحكي قصة حب جيزيل للأمير الذي تخلى عنها من أجل أخرى، فتموت في ريعان شبابها، أما هو فيلحق بروحها المعذبة إلى قبرها، كي يضع لها زهور الزنبق. تتوقف الكاتبة أمام إبداعات عربية، قصص وروايات، تشير إلى الورد، كما قصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله: "أنا وهي وزهور العالم"، تصفها بأنها تنساب كقصيدة. هذا ينسجم أيضاً مع وصف الشاعرة فاطمة قنديل لغزل الكلمات في متن النص بأنه أقرب لنظم عقد من الفل، وعلى النقيض منها رولا بطلة رواية أمجد ناصر "هنا الوردة"، حين تقول للبطل: "شاعر ولا تفهم بالورد". دمعة أفروديت أما فلسفياً، فإن الوردة في الأسطورة اليونانية القديمة هي الدمعة الأولى التي طفرت من عين أفروديت حزناً، اختلطت بالتراب فظهرت وردة بيضاء، لذا الوردة مخلوقة من جمال صاف. وفي الصوفية ترمز الوردة إلى تقلبات الحياة نفسها، فهي تنبثق، وتزهر، ثم تذبل، في دورة لا تنتهي، كأنها تلخص قصة الإنسان بكل ما فيها من لقاءات وفراق. إنها الشاهد الصامت على مرور الزمن، على الوعود التي لم تحفظ، والأحلام التي تساقطت كالأوراق في مهب الريح. لكنها، على رغم كل شيء، تظل زهرة، تمنح العالم فتنتها، واحتمالات الحب والجمال أو الفقد الغياب. لعل ما يميز هذا الكتاب، تقديمه جرعة دسمة من عناوين الروايات والأفلام والمقطوعات الموسيقية والقصائد، عربية وغربية، تحتاج إلى توقف ومراجعة لها، بعضها معروف ومنتشر عالمياً، وجزء آخر تعيد الكاتبة اكتشافه وتقديمه للقارئ في تحليل دقيق وبارع، بغرض العثور على الصلة بين مضمون العمل الفني وعنوان الكتاب، أو كما تستدل المؤلفة بتعبير الشاعر فؤاد حداد "الفلة جنب الياسمينا"، حيث وردة تجاور أخرى، من دون أن نعرف إن كانت ستغدو عقداً أو سواراً أو بيت شعر في قصيدة.