
أسرار الوردة المسحورة كما تتجلى في الفن والأدب
ثمة مفارقة، قد نجدها في صفحات رواية ما، بين نشأة بطلها في بيئة وضيعة، وبين مآلات مصيره المجيد، هذا الحدث السردي يتوازى فطرياً مع زهرة اللوتس التي تنمو من قلب الوحل، وتطفو على سطح الماء في سمو وحسن، حتى اعتبارها زهرة المفارقات أيضاً. فالورود لها عالم سحري وغامض، يجعلها تتجاوز في وجودها كونها مجرد نباتات جميلة وهشة، كي تمضي نحو أفق شاسع، مرتحلة عبر التاريخ الإنساني الطويل، حاملة بين وريقاتها دلالات رمزية حول المعاني العاطفية والثقافية والفنية والسياسية أيضاً. فالوردة سواء كانت جزءاً من لوحة فنية، بيتاً شعرياً، أو هدية بسيطة، أو شعاراً في الحرب، فإنها تظل وسيلة تعبير تتجاوز الكلمات، كي تعكس مشاعر الإنسان في أكثر لحظاته عمقاً وصدقاً.
زهرة مقدسة
ارتبطت زهرة اللوتس بالحضارات القديمة، استخدمها الفراعنة في طقوسهم الدينية، فكانت تزين الولائم والمعابد، كما استخدمت الورود عند الإغريق والرومان كأكاليل توضع على رؤوس المنتصرين. وفي العصور الوسطى، أصبحت رمزاً دينياً وروحياً، وارتبطت بالقديسة مريم العذراء في المسيحية كما نرى في لوحات العصر القوطي، مثلاً لوحة الفنان الألماني ستيفن لوخنر "العذراء في حديقة الورد"، واتخذت بعض الدول الأوروبية الوردة شعاراً لها، كما حدث في "حرب الوردتين" بين أسرتي يورك ولانكاستر في إنجلترا عام 1455، فقد كان شعار لانكستر وردة حمراء، بينما كان شعار آل يورك وردة بيضاء.
كتاب منى أبو النصر (دا رالشروق)
وفي الإبداع الفني والأدبي، لعبت الورود دوراً أساسياً. ففي اللوحات الفنية، استخدمها الرسامون للتعبير عن الجمال الزائل، كما نجدها في لوحات عصر النهضة التي جسدت الوردة كرمز للترف والفناء. أما في الأدب، فقد كانت الوردة حاضرة بقوة، من قصائد الشاعر الفارسي عمر الخيام إلى أعمال شكسبير، حيث جسدت معاني الحب والشوق، لكنها في بعض الأحيان كانت رمزاً للحزن والوداع، والنقاء والانحطاط، كما في قصيدة بودلير "أزهار الشر"، فالعنوان نفسه يشي بأن الجمال قد ينبت وسط الفساد، وأن الفن يمكن أن يزدهر وسط التجربة الإنسانية الأكثر ظلاماً وقسوة.
لقد رسخ مرور الزمن، واقع بقاء الورود كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، يحمل دلالات يمكن اعتبارها لغة بحد ذاتها، إذ يعبر كل لون عن معنى مختلف: الأحمر للحب والعاطفة، الأبيض للنقاء، الأصفر للصداقة والغيرة أحياناً، بينما يرمز الأسود إلى الفقدان والحداد. هذه الرمزية لم تقتصر على الاستخدام الشخصي، بل دخلت في مجالات مثل السينما والموسيقى، إذ أصبحت الورود عنصراً بصرياً قوياً يستخدم لنقل الأحاسيس والمشاهد الدرامية، يكفي أن نتأمل في عناوين الأعمال الأدبية والفنية، التي تحمل كلمة "وردة" في عنوانها، كي ندرك مدى حضور هذه الكائنات البديعة في عالمنا الواقعي والمتخيل.
سحر الوردة
في كتابها "الحالة السردية للوردة المسحورة"، الصادر عن دار الشروق، تقدم الكاتبة منى أبو النصر، رؤيتها الإبداعية لحضور الورد في الفن والأدب، مؤكدة أن الوردة كثيراً ما ظلت جسراً بين الطبيعة والإنسان، تحمل في بتلاتها قصصاً من الحب والجمال والتاريخ، والألم كي تذكرنا دائماً بأن الجمال الحقيقي، على رغم زواله الظاهري، يبقى خالداً بين صفحات عمل أدبي فذ، وفي لحن موسيقي، وفيلم مؤثر.
يمضي هذا الكتاب عبر 14 فصلاً في رحلة استثنائية، مستندًا إلى أكثر من 100 عمل فني، ليكشف عن أثر الوردة من زاوية غير مألوفة، إذ تمتزج الفنون المتنوعة مع النصوص الأدبية والمشاهد البصرية، لتشكل نسيجاً معرفياً كاشفاً للمعاني والدلالات. تتبع الكاتبة ظهور الوردة ككائن ينبض بالحياة، يختزن أسراراً تتجاوز شكلها المرئي، كي تروي حكايتها الخاصة بلغة الصمت والعطر واللون، بوصفها كائناً سردياً يحمل في طياته فلسفات متشابكة ورؤى درامية متداخلة.
كتاب الشاعر الألماني ريلكه عن الورد (أمازون)
ننتقل من فصل إلى آخر في رحلة تأملية تتقاطع فيها الأسطورة مع الأدب، نجد الوردة متجذرة في الميثولوجيا اليونانية، متوهجة في قصائد محمود درويش، متشابكة مع حكايات نجيب محفوظ وماركيز، أو حاضرة في دروب محمد المنسي قنديل في "قمر على سمرقند". نلمحها أيضاً في عالم المسرح، تتمايل في باليه "جيزيل"، ثم نراها تتحول إلى رمز للدهشة في "أليس في بلاد العجائب"، وإلى زهرة نادرة في ملحمة "هوميروس"، قبل أن تتراءى لنا من بين سطور "الأمير الصغير" ككائن شديد الفرادة، يحمل أسرار الكون في بتلاته.
تتبع الوردة في الأدب، يتقاطع فيه السحر والغموض، في أعمال شكسبير، تظهر الوردة كرمز للحب، وأخرى كإشارة إلى الفناء، وثالثة كدليل على الصراع بين العوالم والأقدار. لنقرأ: "لا يتوقف انشغال الفن بالأزهار كهيئة وبنية شكلية وشخصية وحسب، بل انطلق منها كفكرة فلسفية تنطوي على كل شيء في ذاتها، الدلالة واللغز، كما كان يراها أمبرتو إيكو، الذي سئل مراراً عن سبب اختياره عنوان اسم الوردة لروايته الأشهر. يقول إيكو إن هذا العنوان جاءه صدفة، وعرف الوردة بأنها إحدى الصور المترعة بدلالات كثيرة، إلا أنها قد تؤول في نهاية المطاف، إلى عدم الإحالة كليا أو تقريبياً، على أية دلالة من تلك الدلالات جميعها".
في "بؤساء" فيكتور هيغو أدركت إيبونين، في لحظة حاسمة، أنها تقف على أعتاب الحياة والموت، شعرت بوهج الحب ينساب في أنفاسها الأخيرة، كأنما الأمل الذي قادها يوماً على دروب المستحيل لم يتركها إلا بعدما نثر عليها عبقه الأخير. همست باسم ماريوس، فكان ذلك الوعد الأخير الذي حملته الرياح إلى العدم، بينما بقيت الوردة شاهدة على رحلتها نحو الأبدية. لم يكن لها من الدنيا سوى ذلك الهمس، وتلك الزهرة التي سقطت.
في تقلبات الحياة وبؤسها، تجلت الوردة رمزاً يعبر العصور، بين أفراح تذبل سريعاً وأحزان تورق بلا نهاية. حين حملت الطفلة "هولابا" وردة صغيرة إلى دار النساء في فيلم "أوراق متساقطة"، لم تكن مجرد زينة توضع على طاولة طعام شحيحة، بل كانت إشارة إلى لحظة نادرة من الأمل، وقطرة لون تضيء ظلمة الحياة الرمادية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وردة أخرى، متوارية في جيب رجل متعب على رصيف محطة القطار في فيلم "هوجو"، تحكي قصة انتظار بلا نهاية. هي زهرة صغيرة، لكنها تحمل بين وريقاتها ثقل الذكريات ورائحة الحنين، واللقاءات التي لن تحدث.
الأنوثة والورد
لقد ارتبطت الوردة دوماً بما هو أنثوي، فهي مزيج من الرقة والغموض الجارح، من الجمال الذي يأسر، والقوة المختبئة بين أشواكها. ومنذ أزمنة بعيدة، تغنى الشعراء بالورد. كتبت الشاعرة إميلي ديكنسون، المعروفة بين أصدقائها كونها بستانية أكثر مما هي شاعرة، عن شدة ولعها بالنرجس والزهور الياقوتية والروز، كما درست علم النبات في أكاديمية أمهرست، ولها قصيدة بعنوان "زهرة مايو"، وهو الشهر نفسه الذي غادرت فيه ديكنسون الحياة. أما فريدا كاهلو، فكانت تقول: "أرسم الزهور، كي لا تموت"، وذلك رداً على تساؤل مكرر حول الزهور التي تتكرر في لوحاتها، ومن المعروف أنها خلقت خيطاً مشتركاً يجمع بين النباتات والزهور والفاكهة، مما أضفى بعداً سريالياً في لوحاتها. وبين اللوحة واللحن، تنساب موسيقى باليه "جيزيل" في تعبير كلاسيكي راقص، كي يحكي قصة حب جيزيل للأمير الذي تخلى عنها من أجل أخرى، فتموت في ريعان شبابها، أما هو فيلحق بروحها المعذبة إلى قبرها، كي يضع لها زهور الزنبق.
تتوقف الكاتبة أمام إبداعات عربية، قصص وروايات، تشير إلى الورد، كما قصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله: "أنا وهي وزهور العالم"، تصفها بأنها تنساب كقصيدة. هذا ينسجم أيضاً مع وصف الشاعرة فاطمة قنديل لغزل الكلمات في متن النص بأنه أقرب لنظم عقد من الفل، وعلى النقيض منها رولا بطلة رواية أمجد ناصر "هنا الوردة"، حين تقول للبطل: "شاعر ولا تفهم بالورد".
دمعة أفروديت
أما فلسفياً، فإن الوردة في الأسطورة اليونانية القديمة هي الدمعة الأولى التي طفرت من عين أفروديت حزناً، اختلطت بالتراب فظهرت وردة بيضاء، لذا الوردة مخلوقة من جمال صاف. وفي الصوفية ترمز الوردة إلى تقلبات الحياة نفسها، فهي تنبثق، وتزهر، ثم تذبل، في دورة لا تنتهي، كأنها تلخص قصة الإنسان بكل ما فيها من لقاءات وفراق. إنها الشاهد الصامت على مرور الزمن، على الوعود التي لم تحفظ، والأحلام التي تساقطت كالأوراق في مهب الريح. لكنها، على رغم كل شيء، تظل زهرة، تمنح العالم فتنتها، واحتمالات الحب والجمال أو الفقد الغياب.
لعل ما يميز هذا الكتاب، تقديمه جرعة دسمة من عناوين الروايات والأفلام والمقطوعات الموسيقية والقصائد، عربية وغربية، تحتاج إلى توقف ومراجعة لها، بعضها معروف ومنتشر عالمياً، وجزء آخر تعيد الكاتبة اكتشافه وتقديمه للقارئ في تحليل دقيق وبارع، بغرض العثور على الصلة بين مضمون العمل الفني وعنوان الكتاب، أو كما تستدل المؤلفة بتعبير الشاعر فؤاد حداد "الفلة جنب الياسمينا"، حيث وردة تجاور أخرى، من دون أن نعرف إن كانت ستغدو عقداً أو سواراً أو بيت شعر في قصيدة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
١١-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية
تتجول نورا ناجي بين مآسي بطلات روايتها "بيت الجاز" (دار الشروق - القاهرة)، لكنها لا تمنح أياً منهن صوت السرد، وإنما تمنحه لراوٍ عليم خارجي، لتحقق عبر صوته نوعاً من العدالة السردية بينهن، وتتيح في الوقت نفسه وحدة النص عبر توحيد نغمة السرد، من دون التقيد بمقتضى الحال. وإضافة إلى ما حققته ناجي عبر هذا الأسلوب من موضوعية، فإنها تحررت من ذاتية الشخوص، التي ربما قادت إلى تبرير الزلات وتجميل الخطايا. وتمكنت من توجيه إدانة أكثر شمولاً واتساعاً لمجتمع اعتاد مواراة عاره بالتكتم والصمت. ولم يتضح تقاطع الواقع والخيال عبر انطلاق السرد من حادثة حقيقية، أو عبر بروز الحقيقة كعنوان لكثير من فصول الرواية فحسب، ولكن هذا التقاطع بين الحقيقي والمتخيل، بدا على نحو أكبر مع اعتماد الكاتبة أسلوب الميتا سرد، أو الرواية داخل رواية، فكانت الكاتبة "رضوى"، واحدة من شخصيات النسيج، والمنوطة في الوقت نفسه بالكتابة ونسج الأحداث. وعبر هذه التقنية، التي تعبر عن وعي الكتابة بذاتها، كسر الجدار بين النص والقارئ، فبات مشاركاً في لعبة السرد. تناظر السقوط الرواية المصرية (دار الشروق) خالفت الكاتبة الزمن الحقيقي للحادثة، واختارت لها "يناير 2011" لتُزامن بين سقوط المولود من النافذة سقوط الشباب الثوار قتلى في الميادين، وبذا أبرزت منذ بداية رحلتها، قسوة العالم الذي يزهق الحيوات بغير اكتراث. وشرعت في سد الفجوات، واستكمال الأجزاء الغائبة من الحكاية، فالأم التي دان المجتمع فعلتها في الواقع، لم تكن في الرواية سوى ضحية أخرى، فهي طفلة صغيرة "مرمر"، لم تتجاوز الـ13 من عمرها. تعيش في بيت الجاز، بين عائلة تمثل طبقة من المهمشين، الذين يعانون الفقر في زمن لم يعد فيه "الجاز" سلعة رائجة. يعتدي العم الأعزب والعاطل عن العمل على ابنة أخيه، فتحمل "مرمر" من دون أن تعي ما حدث لها. وتلجأ العائلة التي تفشل في إجهاض الطفلة، إلى توليدها في حمام المستشفى الجامعي، ثم إلقاء المولود من النافذة. هذا السقوط لم يكن من نصيب الطفل وحده، ولم تتجرعه الأم المغتصبة وحدها، إذ تشاركته البطلتان الأخريان، وخلف كل سقوط نسجت الكاتبة أسباباً وأحداثاً، كشفت من خلالها سوءات المجتمع، وما يعتريه من قسوة، وعطب: "الكتابة أقسى من الحياة. في الحياة سيسقط الطفل من الشباك، وسيلتقطه رجل ما، وسينجو، سيجد من يرعاه. الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية. عن القسوة التي أدت إلى الفعل، عن البطن التي لفظت واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يلف العالم. الشر يخفي كل اليأس" ص 28. أبعاد سيكولوجية عمدت الكاتبة في رحلتها إلى بلوغ الطبقات الأعمق من النفس الإنسانية والغوص في متاهاتها المعتمة، المكتظة بالتوتر، والقلق، والهشاشة، والاضطراب. وجسدت رغبتها المحمومة في الخلاص، التي إما تتولد عن أزمة أو تخلقها، فكان ما شهدته "يمنى" في طفولتها من اعتداء جنسي على "مرمر"، ثم مشاهدتها للفتاة وهي تشعل النار في جسدها، سبباً في اضطراباتها النفسية والجنسية وما ألم بها من انحراف سلوكي، سيكوباتية وافتقار للأمومة والعاطفة، وكذلك الشعور العميق بالذنب، الذي دفع بها في النهاية للسقوط في براثن الخطيئة: "منذ رأت جسم زيزو فوق مرمر عبر شباك البيت وهي تشعر بشيء ما يأكلها من الداخل. شيء ملح يدفعها لفعل أمور لا تفهمها ولا تدري حتى بأنها تفعلها" ص40. أما الحقيقة التي أعلنتها أم رضوى لابنتها، بأنها طفلة متبناة، ومعاملتها كحيوان أليف، من دون صرامة تقتضيها التربية أحياناً، فخلقت لديها شعوراً بالاغتراب واللاانتماء، في حين لجأت أم يمنى للإنكار، كمحاولة للتواؤم مع انتهاك زوجها لجسدها، بالضرب، وهي مشاهد أسهمت بدورها، في زيادة الاضطراب النفسي، الذي لازم ابنتها في كل مراحل حياتها. وقد مررت الكاتبة عبر كل ما أودعته النص من ظلال نفسية، رؤية حول الأثر الخطر للطفولة، في تشكيل حياة الإنسان. نورا ناجي (صفحة الكاتبة - فيسبوك) واتساقاً مع الحضور القوي للبعد السيكولوجي داخل السرد، لجأت ناجي إلى بعض التقنيات السردية، مثل المونولوغ الداخلي، الذي ورد بضمير الخطاب "أنت"، ليعكس تشظي الشخوص، وصراعاتها الداخلية، إضافة إلى تقنيات الانزياح الزمني، إذ جمعت في أسلوب السرد بين التذكر، والتدفق الأفقي، والمفارقات الزمنية: "ستسير مرمر بين أمها وعمتها، بسرعة حتى لا يوقفهن أمين شرطة متجول ويسألهن عن سبب وجودهن في الشارع مساءً على رغم حظر التجوال. ستبتلع ريقها لتسقي السحلية داخلها، السحلية التي تقول أمها إنها طفل ينمو في بطنها، وأن الأوان قد فات لفعل أي شيء" ص44. وأسفر هذا التنوع والانزياح الزمني، عن خلخلة الزمن الخطي للسرد، وعزز حال القلق، وفقدان السيطرة التي تعيشها الشخوص. اتساقاً مع محاولتها الوصول إلى الطبقات الأعمق من النفس، وظفت الكاتبة تقنيات الوصف، لا لتصوير المكان والشخوص وحسب، وإنما لتجسيد الحالة الشعورية لبطلاتها، فنقلت حال الهزيمة والفراغ الذي خلفه مشهد احتراق "مرمر" لدى يمنى، القلق والضغط الذي تسببه الكتابة، والفقد والخواء الذي يتركه الموت عندما يأخذ الأحباء. وفضلاً عما أتاحته من سمات بصرية، عمدت لاستنفار حواس أخرى، مثل الشم، والسمع، عبر استدعاء رائحة الجاز، الروث، الهواء المترب. وكذلك أصوات الصراخ، والضجيج، والسباب. واستفادت من طاقاتها الرمزية، في تمرير دلالات تحيل إلى الطبقات الاجتماعية، التي تنتمي إليها الشخوص، ولا سيما الطبقة المهمشة. ثيمة القسوة بدت القسوة ثيمة رئيسة عبر كل القضايا، التي رصدتها الكاتبة، وكان من بينها قضايا وثيقة الصلة بالمرأة، إذ رصدت ما تتعرض له من تحرش واغتصاب، عنف، وتهميش، وقهر، واضطهاد: "على صفحات (فيسبوك) تعليقات متبوعة بوجوه صفراء تضحك حد البكاء، يسخرون فيها من امرأة فازت بجائزة لأنها لا ترتدي الحجاب، ويسبون فيها أخرى لأنها تحمل ملامح ذكورية، أو تمارس رياضة عنيفة، تعليقات تشجع شاباً قتل أخته، أو رجلاً ضرب فتاة في الشارع، أو شاباً ذبح طالبة أمام الجامعة، لأنها رفضت الارتباط به" ص 155. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) كذلك تطرقت إلى قضايا شائكة أخرى مثل الإجهاض، والأقنعة الاجتماعية الزائفة، والتفاوت الطبقي، والفقر، والأدوية المغشوشة، وحوادث الطرق، واستشراء الجريمة والفساد، وسلبية المجتمع في التعامل مع الجرائم والمجرمين، وسطحيته في التعامل مع البشر: "الناس لا يحترمون سوى الجمال ولو كان غلافاً لروح مشوهة، يحتقرون القبح ولو كان غطاء لأجمل روح في العالم" ص90. وعبر شخصية الكاتبة "رضوى"، طرحت ناجي كثيراً من قضايا الكتابة والإبداع، مثل إحباطات الكاتب، والمقارنات، والحروب المستمرة في أوساط المثقفين، والاتهامات الكاذبة، إضافة إلى الآثار الجانبية للكتابة، التي تحرم الكاتبة من أن تحب، وأن تحيا حياة عادية، في مجتمع موسوم بالذكورية المتجذرة. وإمعاناً في إبراز قسوة العالم، استدعت الكاتبة مشاهد من غزة، لأطفال ميتين، ومستشفيات محترقة، وطفلة محاصرة بين الجثث، تتوسل نجدتها، لكنها لا تحصل إلا على الموت. حاولت الكاتبة تشكيل كولاج أدبي، عبر التناص مع أعمال أدبية مهمة، مثل رواية "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو، ومع شعر محمود درويش. وبدا تضافر ما استدعته من هذه الأعمال، مع ما مررته من معارف، ولا سيما عن مرض الجذام، ومرض السكري، في إنتاج المعنى، وتكثيف الدلالة، التي دائماً ما تحيل إلى قسوة العالم ووحشيته. وعبر ما فجرته من قضايا، رصدت صوراً من التناقضات، تجمع بين الحاضر والماضي، والجمال والقبح، والرقة والقسوة، والراحة والألم، والسعادة والحزن، والخير والشر. ومررت رؤى حول مسؤولية ذلك التناقض عن تحقيق توازن الكون. كما رصدت أنماطاً من التحول، أثمرت اندثار تجارة الجاز، وتلاشي بعض الحرف والورش، وتغير سمات الشوارع والمدن، نتيجة التوسع العمراني. وإضافة إلى التحولات المادية، رصدت تحول مشاعر الشخوص، مثل تحول شعور "رضوى" من الإثارة إلى الملل، مع تكرر رحلاتها عبر القطار، وتحول "يمنى" من الشعور بالذنب إلى التصالح مع ذاتها، وكذلك تحول الأحلام، والأعمار إلى الشيخوخة، ثم إلى الزوال. التقطت الكاتبة بعض أوجه التماثل بين بطلة روايتها "مرمر"، وأبطال الأفلام، وأيضاً أبطال الواقع، مثل "بوعزيزي" مفجر الثورة التونسية، والجندي الأميركي الذي أحرق نفسه، اعتراضاً على قتل الأطفال في غزة، فجميعهم اختاروا النار وسيلة للاحتجاج، والتعبير عن الغضب. وكانت النار ذاتها ومشاهد الاحتراق، مدخلاً سلكته الكاتبة، لتمرير أسئلتها الوجودية، حول معنى الحياة، ماهية الموت، وأسئلة المصير، التي يثيرها قدر، يختار للبعض الهامش، بينما يرفل آخرون في النعيم. وقد هيمن الموت كسمة ما بعد حداثية على السرد، سواء في صورته الطبيعية أو المجازية، حاملاً رؤى فلسفية، حول هشاشة الوجود الإنساني، وحتمية الفناء، وإن لم ينفِ تعطش الإنسان للأمل، ورغبته في الاستمرار.


مجلة سيدتي
٢٤-٠٣-٢٠٢٥
- مجلة سيدتي
نقوش الأزهار تنعش ديكورات المنزل وتجعلها مواكبة للموضة على الدوام
تضفي نقوش الأزهار إيقاعاً ولوناً على مساحات المنزل الداخليّة، مُحوّلةً ما هو عادي إلى استثنائي، ففي عالم يبدو فوضويّاً، تُضفي التصاميم الزهرية شعوراً بالسكينة والتواصل مع الطبيعة، مُخففةً من وطأة حياتنا اليومية. من ورق الجدران إلى الأقمشة المُستخدمة في تنجيد المفروشات، مروراً بالستائر والوسائد، تحلّ الأزهار على عناصر شتى في الديكور، ممّا يجعل كلّ غرفة فيه أشبه بحديقةٍ تبعث في النفس دفقةً من الفرح. نقوش الأزهار من مصر القديمة إلى الديكور المعاصر لطالما كانت الأنماط أو النقوش الزهرية ركناً أساسيّاً في عالم الموضة، أكان الأمر يتعلّق بالملابس أو ديكور المنزل، فهذه الأنماط، بألوانها النابضة بالحياة وتصاميمها المُعقّدة، تُضفي لمسة من الأناقة والأنوثة أينما تحلّ. جدير بالذكر أن للأنماط الزهرية تاريخاً عريقاً يعود إلى قرون مضت، وإلى حضارات قديمة مثل مصر وبلاد ما بين النهرين. فقد اشتهر المصريون، على وجه الخصوص، بزخارفهم المُعقّدة المُستوحاة من زهرة اللوتس وورق البردي، وذلك للترميز إلى التجدّد والخصوبة. لم تقتصر هذه الزخارف على الملابس فحسب، بل استُخدمت أيضاً في الاحتفالات الدينية والتصاميم المعمارية. وبالمثل، استخدم سُكّان بلاد ما بين النهرين الزخارف الزهرية لتمثيل الطبيعة ووفرة الأرض. تضمّنت تصاميمهم أزهاراً ونباتات مُنمّقة، تُظهر ارتباطهم بالعالم الطبيعي. مع مرور الوقت، انتشرت الزخارف الزهرية عبر ثقافات مختلفة، حيث أضافت كل حضارة لمستها الفريدة إلى التصاميم. على سبيل المثال، أدرج الإغريق الزخارف الزهرية في فخارهم ومنسوجاتهم، مُصوّرين مشاهد من الأساطير والحياة اليومية. شكّل العصر الفيكتوري نقطة تحوّل مُهمّة؛ فقد أدّى حبّ الملكة فيكتوريا للأزهار إلى انتشار الزخارف الزهرية، بخاصّة في ملابس النساء. لذلك، زيّنت الورود الرقيقة والأقحوانات وغيرها من الأزهار الفساتين والأكسسوارات، ممّا خلق جماليّة رومانسيّة وأنثوية. وأصبحت المطبوعات الزهرية رمزاً للأناقة والرقي، عاكسةً مُثُل العصر الفيكتوري في التواضع والجمال. اعتمدت نساء ذلك العصر الأنماط الزهرية ليس لجاذبيتها الجمالية فحسب، بل أيضاً كوسيلة للتعبير عن أنوثتهن ومكانتهن الاجتماعية. ولم تقتصر الزخارف الزهرية على الملابس بل شقّت طريقها أيضاً إلى ديكور المنزل ، حيث أصبح كل من ورق الجدران والمفروشات الزهرية خيارات شائعة للديكورات الداخلية الفيكتورية. في الوقت الراهن، تستمرّ الأنماط الزهرية في التطوّر والتكيف مع الأنماط المعاصرة؛ فقد أدرج المصممون زخارف زهرية جريئة ومُجرّدة في مجموعاتهم، جامعين بين العناصر الكلاسيكية والحديثة، إذ يتيح تنوّع الأنماط الزهرية تفسيرات إبداعية لا حصر لها. من الأزهار الكبيرة والنابضة بالحياة إلى الأزهار الرقيقة والدقيقة، هناك نمط أو نقش زهري يناسب ذوق كل فرد وأسلوبه. 5 أسباب تجعل من نقوش الأزهار دارجة على الدوام لماذا لا تزال الطبعات الزهرية رائجة؟ تعدّد الاستخدامات: من أهم أسباب "صمود" الطبعات الزهرية أمام اختبار الزمن هو تعدّد استخداماتها، إذ يُمكن تنسيق هذه النقوش مع مجموعةٍ واسعةٍ من عناصر الديكور، مثل: ورق الجدران و الأقمشة المستخدمة في تنجيد الأثاث والستائر وتغليف الوسائد والسجاد. التواصل مع الطبيعة: تُجسّد الطبعات الزهرية جمال الطبيعة وصفائها. ففي عالمٍ تسيطر عليه التكنولوجيا والاصطناعية بشكلٍ متزايد، تربطنا هذه التصاميم بالعالم الطبيعي وتُذكّرنا بجمال الأزهار الزائل. إضافة إلى ذلك، للأزهار معنى رمزي عميق في العديد من الثقافات، إذ ترتبط بالتجدّد والحبّ والحياة نفسها، ممّا يمنحها صدىً عاطفيّاً دائماً. القدرة على التكيّف مع مختلف الأنماط والعصور: سواءً أكانت طبعات زمن الستينيّات من القرن الماضي الجذّابة أو التصاميم الجريئة اليوم، لطالما كانت الأزهار جزءاً لا يتجزّأ من عالم موضة الديكور. قدرة النقوش على التكيّف مع الأنماط والعصور المختلفة تضمن لها مكانةً في أي منزل في أي لحظة من التاريخ. التعبير عن الشخصيّة: تتيح الطبعات الزهرية لكلّ صاحبة منزل، التعبير عن شخصيتها وفرديّتها. سواء أكانت تُفضّل طبعة زهرية جريئة وجذّابة أو طبعة أكثر رقّةً، فلا حصر للخيارات. إلهام فنّي مستمر: لطالما ألهم جمال الأزهار الفنّانين والمُصمّمين عبر التاريخ، ولا يزال هذا المصدر اللامتناهي للإلهام يُغذّي الإبداع في عالم الموضة المعاصرة. من الانطباعيين إلى مُصمّمي الأزياء والديكور الأكثر طليعيّة، كانت الأزهار مصدر إلهام فنّي دائم. فتنوع أشكالها وألوانها وملمسها يتيح إمكانيات لا حصر لها للإبداع والتجريب في عالم التصميم المتداخل. نقوش الأزهار وموضة ديكور المنزل في 2025 في العام الجاري (2025)، يزدهر اتجاه تصميمي واحد يتفوّق على غيره: الأزهار الخضراء. يجمع هذا الاتجاه بين التأثيرات المُهدّئة للون الأخضر وجاذبية الأنماط الزهرية الخالدة، علماً أن اللون الأخضر عبارة عن حالة مزاجية مريحة، تخلق بيئةً هادئةً في المساحات داخل المنزل، سواءً استُخدم في غرف النوم أو المعيشة أو المكتب المنزلي. في هذا الإطار، سيضفي ورق الجدران الأخضر المنقوش بالأزهار لمسةً من الأناقة وسيعزّز الاسترخاء. لكن، تدعو النصيحة إلى تنسيق ورق الجدران المزهر الأخضر مع أثاث محايد وعناصر ذات ملمس طبيعي مثل الخشب أو الحجر. في العموم، تسترجع نقوش الأزهار حقبةً كلاسيكيّةً، إلا أن جعلها معاصرة لناحية الأسلوب يتحقق من خلال اختيار النقوش جريئة وكبيرة. جدير بالذكر أن التصميم البيوفيلي ، هو نهج يدمج عناصر طبيعيّة بالديكور الداخلي، ويهيمن في عام 2025. تُجسّد الأزهار الخضراء هذا المفهوم ببراعة، حيث تُضفي لمسةً من الطبيعة على الداخل وتُعزّز التواصل مع الطبيعة. سواء أكانت قارئة هذه السطور تعيش في شقّة صغيرة في ضواحي المدينة أو منزل فسيح، يُمكن لورق الجدران الأخضر المُزيّن بالأزهار أن يُحوّل مساحتها إلى ملاذٍ غنيّ مُفعم بالحياة والترحاب. لإتمام المظهر، تصحّ إضافة وحداتٍ ذهبية أو نحاسيةً للمسةٍ من الفخامة، ونباتاتٍ خضراء في أصص لتعزيز الطابع الطبيعي، مع توزيع قطع أثاث بسيطة لغرض إبراز ورق الجدران المنقوش بالأزهار. طرق دمج المطبوعات الزهرية بديكور منزلك إضافة إلى ورق جدران، إليك طرق دمج المطبوعات الزهرية بديكور منزلك: الكنب أو الكراسي الجانبية ذات الأقمشة المنجدة والمطبوعة بطبعات الأزهار. وسائد الكنب. ستائر غرفة النوم أو غرفة الجلوس أو الحمّام. مفروشات السرير. السجاد. رأسية السرير (هيدبورد). لا حصر للأفكار المتعلقة؛ اجعلي ذوقك موجهاً لك، فالنقوش الزهرية تجعل منزلك مفعماً بالنضارة والأنوثة.


Independent عربية
٠٨-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
أسرار الوردة المسحورة كما تتجلى في الفن والأدب
ثمة مفارقة، قد نجدها في صفحات رواية ما، بين نشأة بطلها في بيئة وضيعة، وبين مآلات مصيره المجيد، هذا الحدث السردي يتوازى فطرياً مع زهرة اللوتس التي تنمو من قلب الوحل، وتطفو على سطح الماء في سمو وحسن، حتى اعتبارها زهرة المفارقات أيضاً. فالورود لها عالم سحري وغامض، يجعلها تتجاوز في وجودها كونها مجرد نباتات جميلة وهشة، كي تمضي نحو أفق شاسع، مرتحلة عبر التاريخ الإنساني الطويل، حاملة بين وريقاتها دلالات رمزية حول المعاني العاطفية والثقافية والفنية والسياسية أيضاً. فالوردة سواء كانت جزءاً من لوحة فنية، بيتاً شعرياً، أو هدية بسيطة، أو شعاراً في الحرب، فإنها تظل وسيلة تعبير تتجاوز الكلمات، كي تعكس مشاعر الإنسان في أكثر لحظاته عمقاً وصدقاً. زهرة مقدسة ارتبطت زهرة اللوتس بالحضارات القديمة، استخدمها الفراعنة في طقوسهم الدينية، فكانت تزين الولائم والمعابد، كما استخدمت الورود عند الإغريق والرومان كأكاليل توضع على رؤوس المنتصرين. وفي العصور الوسطى، أصبحت رمزاً دينياً وروحياً، وارتبطت بالقديسة مريم العذراء في المسيحية كما نرى في لوحات العصر القوطي، مثلاً لوحة الفنان الألماني ستيفن لوخنر "العذراء في حديقة الورد"، واتخذت بعض الدول الأوروبية الوردة شعاراً لها، كما حدث في "حرب الوردتين" بين أسرتي يورك ولانكاستر في إنجلترا عام 1455، فقد كان شعار لانكستر وردة حمراء، بينما كان شعار آل يورك وردة بيضاء. كتاب منى أبو النصر (دا رالشروق) وفي الإبداع الفني والأدبي، لعبت الورود دوراً أساسياً. ففي اللوحات الفنية، استخدمها الرسامون للتعبير عن الجمال الزائل، كما نجدها في لوحات عصر النهضة التي جسدت الوردة كرمز للترف والفناء. أما في الأدب، فقد كانت الوردة حاضرة بقوة، من قصائد الشاعر الفارسي عمر الخيام إلى أعمال شكسبير، حيث جسدت معاني الحب والشوق، لكنها في بعض الأحيان كانت رمزاً للحزن والوداع، والنقاء والانحطاط، كما في قصيدة بودلير "أزهار الشر"، فالعنوان نفسه يشي بأن الجمال قد ينبت وسط الفساد، وأن الفن يمكن أن يزدهر وسط التجربة الإنسانية الأكثر ظلاماً وقسوة. لقد رسخ مرور الزمن، واقع بقاء الورود كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، يحمل دلالات يمكن اعتبارها لغة بحد ذاتها، إذ يعبر كل لون عن معنى مختلف: الأحمر للحب والعاطفة، الأبيض للنقاء، الأصفر للصداقة والغيرة أحياناً، بينما يرمز الأسود إلى الفقدان والحداد. هذه الرمزية لم تقتصر على الاستخدام الشخصي، بل دخلت في مجالات مثل السينما والموسيقى، إذ أصبحت الورود عنصراً بصرياً قوياً يستخدم لنقل الأحاسيس والمشاهد الدرامية، يكفي أن نتأمل في عناوين الأعمال الأدبية والفنية، التي تحمل كلمة "وردة" في عنوانها، كي ندرك مدى حضور هذه الكائنات البديعة في عالمنا الواقعي والمتخيل. سحر الوردة في كتابها "الحالة السردية للوردة المسحورة"، الصادر عن دار الشروق، تقدم الكاتبة منى أبو النصر، رؤيتها الإبداعية لحضور الورد في الفن والأدب، مؤكدة أن الوردة كثيراً ما ظلت جسراً بين الطبيعة والإنسان، تحمل في بتلاتها قصصاً من الحب والجمال والتاريخ، والألم كي تذكرنا دائماً بأن الجمال الحقيقي، على رغم زواله الظاهري، يبقى خالداً بين صفحات عمل أدبي فذ، وفي لحن موسيقي، وفيلم مؤثر. يمضي هذا الكتاب عبر 14 فصلاً في رحلة استثنائية، مستندًا إلى أكثر من 100 عمل فني، ليكشف عن أثر الوردة من زاوية غير مألوفة، إذ تمتزج الفنون المتنوعة مع النصوص الأدبية والمشاهد البصرية، لتشكل نسيجاً معرفياً كاشفاً للمعاني والدلالات. تتبع الكاتبة ظهور الوردة ككائن ينبض بالحياة، يختزن أسراراً تتجاوز شكلها المرئي، كي تروي حكايتها الخاصة بلغة الصمت والعطر واللون، بوصفها كائناً سردياً يحمل في طياته فلسفات متشابكة ورؤى درامية متداخلة. كتاب الشاعر الألماني ريلكه عن الورد (أمازون) ننتقل من فصل إلى آخر في رحلة تأملية تتقاطع فيها الأسطورة مع الأدب، نجد الوردة متجذرة في الميثولوجيا اليونانية، متوهجة في قصائد محمود درويش، متشابكة مع حكايات نجيب محفوظ وماركيز، أو حاضرة في دروب محمد المنسي قنديل في "قمر على سمرقند". نلمحها أيضاً في عالم المسرح، تتمايل في باليه "جيزيل"، ثم نراها تتحول إلى رمز للدهشة في "أليس في بلاد العجائب"، وإلى زهرة نادرة في ملحمة "هوميروس"، قبل أن تتراءى لنا من بين سطور "الأمير الصغير" ككائن شديد الفرادة، يحمل أسرار الكون في بتلاته. تتبع الوردة في الأدب، يتقاطع فيه السحر والغموض، في أعمال شكسبير، تظهر الوردة كرمز للحب، وأخرى كإشارة إلى الفناء، وثالثة كدليل على الصراع بين العوالم والأقدار. لنقرأ: "لا يتوقف انشغال الفن بالأزهار كهيئة وبنية شكلية وشخصية وحسب، بل انطلق منها كفكرة فلسفية تنطوي على كل شيء في ذاتها، الدلالة واللغز، كما كان يراها أمبرتو إيكو، الذي سئل مراراً عن سبب اختياره عنوان اسم الوردة لروايته الأشهر. يقول إيكو إن هذا العنوان جاءه صدفة، وعرف الوردة بأنها إحدى الصور المترعة بدلالات كثيرة، إلا أنها قد تؤول في نهاية المطاف، إلى عدم الإحالة كليا أو تقريبياً، على أية دلالة من تلك الدلالات جميعها". في "بؤساء" فيكتور هيغو أدركت إيبونين، في لحظة حاسمة، أنها تقف على أعتاب الحياة والموت، شعرت بوهج الحب ينساب في أنفاسها الأخيرة، كأنما الأمل الذي قادها يوماً على دروب المستحيل لم يتركها إلا بعدما نثر عليها عبقه الأخير. همست باسم ماريوس، فكان ذلك الوعد الأخير الذي حملته الرياح إلى العدم، بينما بقيت الوردة شاهدة على رحلتها نحو الأبدية. لم يكن لها من الدنيا سوى ذلك الهمس، وتلك الزهرة التي سقطت. في تقلبات الحياة وبؤسها، تجلت الوردة رمزاً يعبر العصور، بين أفراح تذبل سريعاً وأحزان تورق بلا نهاية. حين حملت الطفلة "هولابا" وردة صغيرة إلى دار النساء في فيلم "أوراق متساقطة"، لم تكن مجرد زينة توضع على طاولة طعام شحيحة، بل كانت إشارة إلى لحظة نادرة من الأمل، وقطرة لون تضيء ظلمة الحياة الرمادية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وردة أخرى، متوارية في جيب رجل متعب على رصيف محطة القطار في فيلم "هوجو"، تحكي قصة انتظار بلا نهاية. هي زهرة صغيرة، لكنها تحمل بين وريقاتها ثقل الذكريات ورائحة الحنين، واللقاءات التي لن تحدث. الأنوثة والورد لقد ارتبطت الوردة دوماً بما هو أنثوي، فهي مزيج من الرقة والغموض الجارح، من الجمال الذي يأسر، والقوة المختبئة بين أشواكها. ومنذ أزمنة بعيدة، تغنى الشعراء بالورد. كتبت الشاعرة إميلي ديكنسون، المعروفة بين أصدقائها كونها بستانية أكثر مما هي شاعرة، عن شدة ولعها بالنرجس والزهور الياقوتية والروز، كما درست علم النبات في أكاديمية أمهرست، ولها قصيدة بعنوان "زهرة مايو"، وهو الشهر نفسه الذي غادرت فيه ديكنسون الحياة. أما فريدا كاهلو، فكانت تقول: "أرسم الزهور، كي لا تموت"، وذلك رداً على تساؤل مكرر حول الزهور التي تتكرر في لوحاتها، ومن المعروف أنها خلقت خيطاً مشتركاً يجمع بين النباتات والزهور والفاكهة، مما أضفى بعداً سريالياً في لوحاتها. وبين اللوحة واللحن، تنساب موسيقى باليه "جيزيل" في تعبير كلاسيكي راقص، كي يحكي قصة حب جيزيل للأمير الذي تخلى عنها من أجل أخرى، فتموت في ريعان شبابها، أما هو فيلحق بروحها المعذبة إلى قبرها، كي يضع لها زهور الزنبق. تتوقف الكاتبة أمام إبداعات عربية، قصص وروايات، تشير إلى الورد، كما قصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله: "أنا وهي وزهور العالم"، تصفها بأنها تنساب كقصيدة. هذا ينسجم أيضاً مع وصف الشاعرة فاطمة قنديل لغزل الكلمات في متن النص بأنه أقرب لنظم عقد من الفل، وعلى النقيض منها رولا بطلة رواية أمجد ناصر "هنا الوردة"، حين تقول للبطل: "شاعر ولا تفهم بالورد". دمعة أفروديت أما فلسفياً، فإن الوردة في الأسطورة اليونانية القديمة هي الدمعة الأولى التي طفرت من عين أفروديت حزناً، اختلطت بالتراب فظهرت وردة بيضاء، لذا الوردة مخلوقة من جمال صاف. وفي الصوفية ترمز الوردة إلى تقلبات الحياة نفسها، فهي تنبثق، وتزهر، ثم تذبل، في دورة لا تنتهي، كأنها تلخص قصة الإنسان بكل ما فيها من لقاءات وفراق. إنها الشاهد الصامت على مرور الزمن، على الوعود التي لم تحفظ، والأحلام التي تساقطت كالأوراق في مهب الريح. لكنها، على رغم كل شيء، تظل زهرة، تمنح العالم فتنتها، واحتمالات الحب والجمال أو الفقد الغياب. لعل ما يميز هذا الكتاب، تقديمه جرعة دسمة من عناوين الروايات والأفلام والمقطوعات الموسيقية والقصائد، عربية وغربية، تحتاج إلى توقف ومراجعة لها، بعضها معروف ومنتشر عالمياً، وجزء آخر تعيد الكاتبة اكتشافه وتقديمه للقارئ في تحليل دقيق وبارع، بغرض العثور على الصلة بين مضمون العمل الفني وعنوان الكتاب، أو كما تستدل المؤلفة بتعبير الشاعر فؤاد حداد "الفلة جنب الياسمينا"، حيث وردة تجاور أخرى، من دون أن نعرف إن كانت ستغدو عقداً أو سواراً أو بيت شعر في قصيدة.