#أحدث الأخبار مع #الأنثروبولوجياالبنيويةالدستور١٣-٠٢-٢٠٢٥علومالدستوركلود ليفي شتراوس والبحث عن الجدول الدوري للغات البشريةمهدي نصير كلود ليفي شتراوس مفكر انثروبولوجي ميداني كبير خاض التجربة الانثروبولوجية مباشرة وعاش بين القبائل والشعوب البدائية واطلع على عاداتها وطقوسها ومعارفِها وموسيقاها وأديانها وأساطيرها وكتب عن كل ذلك بلغة علمية وحميمية شعرية أعطته نكهةً خاصة لا يمكن لأحد من الانثروبولوجيين مضاهاتها أو الاقتراب من نارها. ولد شتراوس في فرنسا في العام 1908 وفي العام 1935 كان أستاذا في جامعة ساو باولو في البرازيل حيث بدأ هناك وعلى مدار أربعة سنوات بحثه الميداني عن الشعوب الأصلية في البرازيل. انتقل بعد ذلك للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصدر في العام 1955 كتابه الشهير «مدارات حزينة». من كتبه الهامة كتابه الموسوعي «ميثولوجيات» وكتابه التأسيسي للأنثروبولوجيا البنيوية «الانثروبولوجيا البنيوية». وله كتبٌ وأبحاث ودراسات ومقالات ومقابلات كثيرة جداً بثَّ فيها خلاصة فكره وتجاربه ورؤاه في الانثروبولوجيا، ومما يُعطي دراسات شتراوس القيمة العلمية العالية هو أنها مبنية على دراسات ميدانية حقيقية تلقفها عقل جبار وحلَّلها برؤيوية وأشَّر إلى قضايا كبيرة وفتح أبواباً للبحث ما زالت بكراً حتى الآن وبحاجة الى جهود مئات بل آلاف الدارسين للوصول الى نتائج فيما طرحه هذا المفكر العملاق. في هذه الورقة سأقرأ عن بُعد مقولة طرحها هذا المفكر الكبير في كتابه « الأنثروبولوجيا البنيوية « وأسرتني لسنوات طويلة في الثمانينات من القرن الماضي وسوف أستعيد ظِلال هذه الفكرة كما علقت في ذاكرتي من تلك السنوات البعيدة إذ أن الكتاب اختفى من مكتبتي ولم أعثر على نسخة بديلة له. قبل الدخول في جوهر الفكرة الشتراوسية عن أصل اللغات البشرية دعوني أكرر فكرة أكَّد عليها كثير من مؤرخي الفلسفة وفحواها أن الفكر الغربي كان يتناوب على قيادته أفلاطون بمُثُلِهِ وكُليَّاتِهِ وأرسطو بمنطقه وجُزئياتهِ، فتجد تارةً الأفلاطونية تسيطر وكمثال على ذلك «البنيوية» التي هي أفلاطونية من حيث بحثها عن الكُليَّات أو البِنية بلغة الفلسفة المعاصرة وتارةً أُخرى تجد الأرسطية تسيطر وكمثال على ذلك التفكيكية التي انبثقت من البنيوية كما انبثق الفكر الأرسطي من الأفلاطونية. شذَّ عن هذه القاعدة الفكر الهيجلي – الماركسي الذي أسَّس للجدل بين الجزئيات والكليَّات بما أعاد فكرة الصيرورة المتغيرة للأشياء من خلال جدل الجزئيات والكليَّات وإنتاجها لكُليَّات جديدة مؤقتة سرعان ما تدخل في جدل مع جزئيات جديدة بما يُنتج كليَّات جديدة وهكذا إلى ما لا نهاية. سُقتُ هذه المقدمة لأتحدث عن فكرة شتراوس المدهشة في محاولته للبحث عن جدول دوري للِّغات البشرية كالجدول الدوري للعناصر في الطبيعة (جدول مندليف الدوري) والذي أدّى تكوينه إلى التنبوء بوجود عناصر في الطبيعة غير معروفة للإنسان حيث تم تحديد صفاتها وأوزانها وخصائصها قبل اكتشافها، حيث أثبتت الأبحاث العلمية لاحقاً صحة ودقة ما تنبأ به مندليف في جدوله الدوري للعناصر في الطبيعة. شتراوس ينطلق في مغامرته الكبرى في هذه الفكرة الجبارة من واقع العلم الحديث أولاً ومن ثمَّ من فكرة أفلاطونية «وجود كليَّات حقيقية» أي بلغة بنيوية وجود بِنية للِّغات البشرية تبدأ من اللغات البسيطة والبدائية كما بدأ الجدول الدوري للعناصر من ذرة الهيدروجين وتدرَّج إلى أعقد وأثقل العناصر الموجودة في الطبيعة، كان شتراوس يطمح أن تستطيع الانثروبولوجيا البنيوية أن تمضي بهذا الاتجاه وذلك لإدراكه العميق أن البحث بهذا الاتجاه لا يستطيعه عالم بمفرده مهما أوتي من القدرة والذكاء والإطلاع وأنه يحتاج إلى نبش عميق في طبقات المعرفة البشرية والتي لا يمكن القيام بها إلا من خلال مراكز بحث علمية رصينة. تتضمن هذه الفكرة الانثروبولوجية العميقة والرؤيوية أن أصل كل اللغات البشرية أصل صوتي واحد انبثق من مكونات عضوية للحنجرة البشرية (ذرة الهيدروجين في الجدول الدوري للعناصر) ومن ثَمَّ دخلت الحضارات واختلافها والبيئات والحاجات المختلفة للبيئات البشرية والعناصر المختلفة المُشكِّلة للأفق المعرفي للمجتمعات البشرية فتطورت هذه اللغات وانزاحت في اتجاهات مختلفة عن الأصل العضوي لها ولعل هذا الصَدى الذي نجده أحيانا في التشابهات (بعد إزالة بعض الأقنعة التاريخية للكلمات ) لكلمات كثيرة في لغات مختلفة ومتباعدة ولعل التشابه يكمن في المكونات الأولى للذهن البشري (بابا، ماما، ماء، سماء.. الخ). أن الوصول الى نتائج حقيقية وعلمية في هذا المجال بحاجة الى أبحاث صوتية ولسانية وميدانية مع الشعوب البدائية التي ما زالت لغاتها تحتفظ بالمكونات الأولى للغة الأُم ودراسات اركيولوجية للغات الحديثة بعائلاتها المختلفة للوصول (أو عدم الوصول) للعناصر المشتركة الأصلية لهذه اللغات. إن السؤال الجوهري الذي يُطرح بقدر كبير من الاحترام هو: هل هناك أصلٌ عضويٌ واحد لكل اللغات البشرية؟ أم أن هناك أصولاً متعددة؟ بغضِّ النظر عن الجواب على هذا السؤال فبمجرد طرحه بهذا الشكل يؤشِّر إلى فكرة إنسانية عبقرية وهي أن اللغات البشرية سواءً كانت أصولها واحدةً أم متعددةً، هي إنجازٌ بشريٌّ وليست هِبةً غيرَ ذات أصلٍ بشري. هذا الحديث بهذا الاتجاه والذي افتتحه شتراوس برؤيته العميقة والشمولية للحضارة البشرية وللتاريخ البشري يفتحُ باباً وحقلاً عميقاً من الأبحاث سيغيِّر رؤى كثيرة في إعادة قراءة التاريخ والوعي والحضارة البشرية، وسُيعيد النظر في بدهيات فكريَّة مسيطرة أدخلت شتراوس في صراعات مع مفكري عصره ومع فلسفات عصره المهيمنة (الماركسية والهيجلية مثالاً) ففكرته عن جدول دوري للغات الإنسانية هجوم عنيف على مركزيَّة الفكر الأوروبي وعلى خطيَّة التاريخ الهيجلية والماركسية معاً، وهي دعوة إلى أفقيَّة التاريخ لا خطِّيته وعموديَّته التي تُكرِّس النزعة المركزيَّة الأوروبية والأمريكية المنتصرة وتُلغي الآخر باعتباره صورة متخلَّفة تم تجاوزها على المستوى الحضاري الذي يؤمن برأسيَّة التطوّر التاريخي والتي لم يستطع حتى ماركس بفكره الإنساني الجبّار الإفلات من جبروتها، فشتراوس هاجم هذه المركزية الفكرية في الفكر الغربي وحاول تعريتها عبر تبنيه لمفهوم أفقي للتاريخ يعترف بالتنوع الثقافي كمكوِّن بُنيوي لحضارات الإنسان لا حضارته الواحدة المتغوِّلة التي تُلغي الحضارات الأخرى باسم العلم والفلسفة والتقدم، لذلك وبهذه الرؤية غلَّفت رؤية شتراوس للتاريخ رؤية شعريَّة يمكنني تسميتها الرؤية الشِّعرية للتاريخ وهو بهذا يقترب كثيراً من رؤية اشبنغلر الشعرية للتاريخ، ففكر شتراوس فكرٌ بَريٌّ ضد العولمة والهيمنة الأحادية، ضد نشر النموذج الغربي المنتصر كنموذج حتمي لحضارة الإنسان سواءً في بعده المتوحش الرأسمالي أو في بعده الماركسي الإنساني والذي كان شتراوس متعاطفاً معه، شتراوس يدعو إلى علم للتواريخ والثقافات البشريَّة وليس إلى علم للتاريخ. وفي واحدة من تجليات عقله في تحليله للبُنى العميقة اللاتاريخية أو التي تعمل على مستوى أعلى من مستويات التاريخ اليومي أو أن دورتها التاريخية طويلة إلى حد يمكن اعتبارها بُنى لاتاريخية إلى مستوى مقبول من التحليل لهذه البُنى في علاقاتها مع بُنى ذات دورة تغيُّر سريعة، تحدَّث عن بنية الموسيقى كبديل إنساني يُعيد التوازن في الفكر الغربي وكبديل للتوحُّش الغربي الرأسمالي المادي والذي عمل ويعمل على قتل كل البُنى اللاتاريخيَّة العميقة والبعيدة التأثير (لدى الثقافات الأخرى وفي الثقافة الغربية نفسها) والتي تُفلت من هيمنة اللغة كواحدة من البُنى المُراوغة والسريعة التبدل والقابلة للتصنيم والترميز وفي واحدة من أعتى تجليات سفالة وانحطاط منظري العولمة في الفكر الغربي عبرَ محاولة ضبط هذه البِنية اللاتاريخية (الموسيقى والأسطورة)، ولإحكام السيطرة على حركة التاريخ وتوجيهها كان الهجوم الكاسح على هذه البُنى من خلال تسطيحها وإنتاجها من خلال بُنى عامة وتحطيم نخبوية إنتاجها كمحرِّك نخبوي خارج السيطرة اليومية للتاريخ بما يمنح هذا التاريخ درجة من التوازن في مقاومة محاولة تسطيحه وتعويمه \وهذا ما نلاحظه في انتشار ثقافة مسطحة متشابهة نمطية تُعلَّم في المعاهد والجامعات وفق نماذج مدروسة ومسيطرة ينتجها محترفون وأكاديميون وعوام وإغراق التاريخ في هذا النتاج المشبوه ليفقد النتاج الحقيقي للثقافة قدرته على التأثير وقتله بهدوء.
الدستور١٣-٠٢-٢٠٢٥علومالدستوركلود ليفي شتراوس والبحث عن الجدول الدوري للغات البشريةمهدي نصير كلود ليفي شتراوس مفكر انثروبولوجي ميداني كبير خاض التجربة الانثروبولوجية مباشرة وعاش بين القبائل والشعوب البدائية واطلع على عاداتها وطقوسها ومعارفِها وموسيقاها وأديانها وأساطيرها وكتب عن كل ذلك بلغة علمية وحميمية شعرية أعطته نكهةً خاصة لا يمكن لأحد من الانثروبولوجيين مضاهاتها أو الاقتراب من نارها. ولد شتراوس في فرنسا في العام 1908 وفي العام 1935 كان أستاذا في جامعة ساو باولو في البرازيل حيث بدأ هناك وعلى مدار أربعة سنوات بحثه الميداني عن الشعوب الأصلية في البرازيل. انتقل بعد ذلك للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصدر في العام 1955 كتابه الشهير «مدارات حزينة». من كتبه الهامة كتابه الموسوعي «ميثولوجيات» وكتابه التأسيسي للأنثروبولوجيا البنيوية «الانثروبولوجيا البنيوية». وله كتبٌ وأبحاث ودراسات ومقالات ومقابلات كثيرة جداً بثَّ فيها خلاصة فكره وتجاربه ورؤاه في الانثروبولوجيا، ومما يُعطي دراسات شتراوس القيمة العلمية العالية هو أنها مبنية على دراسات ميدانية حقيقية تلقفها عقل جبار وحلَّلها برؤيوية وأشَّر إلى قضايا كبيرة وفتح أبواباً للبحث ما زالت بكراً حتى الآن وبحاجة الى جهود مئات بل آلاف الدارسين للوصول الى نتائج فيما طرحه هذا المفكر العملاق. في هذه الورقة سأقرأ عن بُعد مقولة طرحها هذا المفكر الكبير في كتابه « الأنثروبولوجيا البنيوية « وأسرتني لسنوات طويلة في الثمانينات من القرن الماضي وسوف أستعيد ظِلال هذه الفكرة كما علقت في ذاكرتي من تلك السنوات البعيدة إذ أن الكتاب اختفى من مكتبتي ولم أعثر على نسخة بديلة له. قبل الدخول في جوهر الفكرة الشتراوسية عن أصل اللغات البشرية دعوني أكرر فكرة أكَّد عليها كثير من مؤرخي الفلسفة وفحواها أن الفكر الغربي كان يتناوب على قيادته أفلاطون بمُثُلِهِ وكُليَّاتِهِ وأرسطو بمنطقه وجُزئياتهِ، فتجد تارةً الأفلاطونية تسيطر وكمثال على ذلك «البنيوية» التي هي أفلاطونية من حيث بحثها عن الكُليَّات أو البِنية بلغة الفلسفة المعاصرة وتارةً أُخرى تجد الأرسطية تسيطر وكمثال على ذلك التفكيكية التي انبثقت من البنيوية كما انبثق الفكر الأرسطي من الأفلاطونية. شذَّ عن هذه القاعدة الفكر الهيجلي – الماركسي الذي أسَّس للجدل بين الجزئيات والكليَّات بما أعاد فكرة الصيرورة المتغيرة للأشياء من خلال جدل الجزئيات والكليَّات وإنتاجها لكُليَّات جديدة مؤقتة سرعان ما تدخل في جدل مع جزئيات جديدة بما يُنتج كليَّات جديدة وهكذا إلى ما لا نهاية. سُقتُ هذه المقدمة لأتحدث عن فكرة شتراوس المدهشة في محاولته للبحث عن جدول دوري للِّغات البشرية كالجدول الدوري للعناصر في الطبيعة (جدول مندليف الدوري) والذي أدّى تكوينه إلى التنبوء بوجود عناصر في الطبيعة غير معروفة للإنسان حيث تم تحديد صفاتها وأوزانها وخصائصها قبل اكتشافها، حيث أثبتت الأبحاث العلمية لاحقاً صحة ودقة ما تنبأ به مندليف في جدوله الدوري للعناصر في الطبيعة. شتراوس ينطلق في مغامرته الكبرى في هذه الفكرة الجبارة من واقع العلم الحديث أولاً ومن ثمَّ من فكرة أفلاطونية «وجود كليَّات حقيقية» أي بلغة بنيوية وجود بِنية للِّغات البشرية تبدأ من اللغات البسيطة والبدائية كما بدأ الجدول الدوري للعناصر من ذرة الهيدروجين وتدرَّج إلى أعقد وأثقل العناصر الموجودة في الطبيعة، كان شتراوس يطمح أن تستطيع الانثروبولوجيا البنيوية أن تمضي بهذا الاتجاه وذلك لإدراكه العميق أن البحث بهذا الاتجاه لا يستطيعه عالم بمفرده مهما أوتي من القدرة والذكاء والإطلاع وأنه يحتاج إلى نبش عميق في طبقات المعرفة البشرية والتي لا يمكن القيام بها إلا من خلال مراكز بحث علمية رصينة. تتضمن هذه الفكرة الانثروبولوجية العميقة والرؤيوية أن أصل كل اللغات البشرية أصل صوتي واحد انبثق من مكونات عضوية للحنجرة البشرية (ذرة الهيدروجين في الجدول الدوري للعناصر) ومن ثَمَّ دخلت الحضارات واختلافها والبيئات والحاجات المختلفة للبيئات البشرية والعناصر المختلفة المُشكِّلة للأفق المعرفي للمجتمعات البشرية فتطورت هذه اللغات وانزاحت في اتجاهات مختلفة عن الأصل العضوي لها ولعل هذا الصَدى الذي نجده أحيانا في التشابهات (بعد إزالة بعض الأقنعة التاريخية للكلمات ) لكلمات كثيرة في لغات مختلفة ومتباعدة ولعل التشابه يكمن في المكونات الأولى للذهن البشري (بابا، ماما، ماء، سماء.. الخ). أن الوصول الى نتائج حقيقية وعلمية في هذا المجال بحاجة الى أبحاث صوتية ولسانية وميدانية مع الشعوب البدائية التي ما زالت لغاتها تحتفظ بالمكونات الأولى للغة الأُم ودراسات اركيولوجية للغات الحديثة بعائلاتها المختلفة للوصول (أو عدم الوصول) للعناصر المشتركة الأصلية لهذه اللغات. إن السؤال الجوهري الذي يُطرح بقدر كبير من الاحترام هو: هل هناك أصلٌ عضويٌ واحد لكل اللغات البشرية؟ أم أن هناك أصولاً متعددة؟ بغضِّ النظر عن الجواب على هذا السؤال فبمجرد طرحه بهذا الشكل يؤشِّر إلى فكرة إنسانية عبقرية وهي أن اللغات البشرية سواءً كانت أصولها واحدةً أم متعددةً، هي إنجازٌ بشريٌّ وليست هِبةً غيرَ ذات أصلٍ بشري. هذا الحديث بهذا الاتجاه والذي افتتحه شتراوس برؤيته العميقة والشمولية للحضارة البشرية وللتاريخ البشري يفتحُ باباً وحقلاً عميقاً من الأبحاث سيغيِّر رؤى كثيرة في إعادة قراءة التاريخ والوعي والحضارة البشرية، وسُيعيد النظر في بدهيات فكريَّة مسيطرة أدخلت شتراوس في صراعات مع مفكري عصره ومع فلسفات عصره المهيمنة (الماركسية والهيجلية مثالاً) ففكرته عن جدول دوري للغات الإنسانية هجوم عنيف على مركزيَّة الفكر الأوروبي وعلى خطيَّة التاريخ الهيجلية والماركسية معاً، وهي دعوة إلى أفقيَّة التاريخ لا خطِّيته وعموديَّته التي تُكرِّس النزعة المركزيَّة الأوروبية والأمريكية المنتصرة وتُلغي الآخر باعتباره صورة متخلَّفة تم تجاوزها على المستوى الحضاري الذي يؤمن برأسيَّة التطوّر التاريخي والتي لم يستطع حتى ماركس بفكره الإنساني الجبّار الإفلات من جبروتها، فشتراوس هاجم هذه المركزية الفكرية في الفكر الغربي وحاول تعريتها عبر تبنيه لمفهوم أفقي للتاريخ يعترف بالتنوع الثقافي كمكوِّن بُنيوي لحضارات الإنسان لا حضارته الواحدة المتغوِّلة التي تُلغي الحضارات الأخرى باسم العلم والفلسفة والتقدم، لذلك وبهذه الرؤية غلَّفت رؤية شتراوس للتاريخ رؤية شعريَّة يمكنني تسميتها الرؤية الشِّعرية للتاريخ وهو بهذا يقترب كثيراً من رؤية اشبنغلر الشعرية للتاريخ، ففكر شتراوس فكرٌ بَريٌّ ضد العولمة والهيمنة الأحادية، ضد نشر النموذج الغربي المنتصر كنموذج حتمي لحضارة الإنسان سواءً في بعده المتوحش الرأسمالي أو في بعده الماركسي الإنساني والذي كان شتراوس متعاطفاً معه، شتراوس يدعو إلى علم للتواريخ والثقافات البشريَّة وليس إلى علم للتاريخ. وفي واحدة من تجليات عقله في تحليله للبُنى العميقة اللاتاريخية أو التي تعمل على مستوى أعلى من مستويات التاريخ اليومي أو أن دورتها التاريخية طويلة إلى حد يمكن اعتبارها بُنى لاتاريخية إلى مستوى مقبول من التحليل لهذه البُنى في علاقاتها مع بُنى ذات دورة تغيُّر سريعة، تحدَّث عن بنية الموسيقى كبديل إنساني يُعيد التوازن في الفكر الغربي وكبديل للتوحُّش الغربي الرأسمالي المادي والذي عمل ويعمل على قتل كل البُنى اللاتاريخيَّة العميقة والبعيدة التأثير (لدى الثقافات الأخرى وفي الثقافة الغربية نفسها) والتي تُفلت من هيمنة اللغة كواحدة من البُنى المُراوغة والسريعة التبدل والقابلة للتصنيم والترميز وفي واحدة من أعتى تجليات سفالة وانحطاط منظري العولمة في الفكر الغربي عبرَ محاولة ضبط هذه البِنية اللاتاريخية (الموسيقى والأسطورة)، ولإحكام السيطرة على حركة التاريخ وتوجيهها كان الهجوم الكاسح على هذه البُنى من خلال تسطيحها وإنتاجها من خلال بُنى عامة وتحطيم نخبوية إنتاجها كمحرِّك نخبوي خارج السيطرة اليومية للتاريخ بما يمنح هذا التاريخ درجة من التوازن في مقاومة محاولة تسطيحه وتعويمه \وهذا ما نلاحظه في انتشار ثقافة مسطحة متشابهة نمطية تُعلَّم في المعاهد والجامعات وفق نماذج مدروسة ومسيطرة ينتجها محترفون وأكاديميون وعوام وإغراق التاريخ في هذا النتاج المشبوه ليفقد النتاج الحقيقي للثقافة قدرته على التأثير وقتله بهدوء.