#أحدث الأخبار مع #الإنجليزالبروتستانت؟المدنمنذ 9 ساعاتسياسةالمدنمآلات المشروع الجهادي وعودة مركزية العقل السياسيمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لحظة الهجوم المعقّد الذي شنّته حركة "حماسط التي تمتلك بنية أيديولوجية إسلامية وامتداداً اجتماعياً تاريخياً يتجاوز كونها مجرّد ذراع لإيران، رغم ارتباطها بها سياسياً ومالياً وعسكرياً – بدا واضحاً أن نقطة تحوّل حاسمة قد بدأت تتشكّل في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. الرد الإسرائيلي لم يكن مجرد عملية عسكرية موضعية، بل إعلاناً استراتيجياً بأن الزمن قد انقلب، وأن حدود الاحتمال السياسي والعسكري قد تم تجاوزها. إسرائيل، التي لطالما مارست سياسة الردع المتحكم، قررت في ذلك التاريخ أن تعيد صياغة قواعد اللعبة الإقليمية بالكامل: تدمير أذرع إيران أينما وُجدت. حزب الله، نظام الأسد، الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، الحوثيون والدوائر العسكرية الإيرانية العابرة للدول، جميعها أصبحت أهدافاً في حسابات الردع الإسرائيلي المتسارع. ولعل الضربة الأخيرة التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني شكّلت ذروة هذا المسار. لم تكن مجرد ضربة عسكرية، بل عرضاً تقنياً فائقاً كشف عن فجوة عميقة في البنية التكنولوجية والأمنية، وضَع إيران – التي تملك مشروعاً دينياً-سياسياً ذا طموحات إقليمية – في موقع المتأخر تقنياً بشكل مروّع، وكأنها على أعتاب العصر الحجري مقارنة بخصم يملك أدوات القرن الحادي والعشرين. هذا التفوّق لم يكن عسكرياً فحسب، بل فكرياً أيضاً، إذ دلّ على اختلال في مفاهيم إدارة الدولة والسيادة ضمن مشاريع أيديولوجية تتّكل على الإيمان العقائدي أكثر من اعتمادها على تحليل الواقع ومعطياته الصلبة. فالخلل الذي نواجهه هنا لا يكمن في "المنطق العسكري فقط أو السياسي الأيديولوجي بالمعنى السطحي" كما قد يُفهم بشكل مجرّد، بل في المنطق الفلسفي الأعمق لناحية النظرة للعالم ووعيه والتعامل معه: إذ إن العقيدة الدينية، كما تُمارس في مثل هذه المشاريع، ما تزال تنظر إلى الواقع بوصفه ميداناً لتجلّي الإرادة الإلهية، أكثر منه ساحة تنافس تخضع للعلم والتخطيط. والمفارقة أن الفقه الإسلامي ذاته مليء بالنصوص التي تدعو إلى الإعداد والتخطيط وتقدير موازين القوة، "وأعدّوا لهم ما استطعتم" كما تقول الآية الأثيرة على قلوب المنظرين الجهاديين في كل زمان، لكن هذه النصوص غالباً ما تُختزل لصالح خطاب تعبوي يراهن على "النصر الإلهي" وحده. هذا الانفصام بين الخطاب الديني النظري وسلوك الجماعات الجهادية العملية هو الذي يُعرّي اليوم فشل تلك العقائد في ميدان الواقع. إنها تنهار، لا فقط أمام مدافع العدو، بل أمام أعين أتباعها، الذين يصطدمون بتهافت الوعود المقدسة أمام تفوق التكنولوجيا والعقل. وهو ما يعيد إلى الأذهان ما نُسب إلى نابليون حين سأله أحد الجنود قبيل اندلاع معركة "واترلو": هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنجليز البروتستانت؟ فأجابه: الله مع صاحب المدفع الأكبر! وما يعزّز هذا المنحى والجبهة الفكرية – إن صحت تسميتها – للمعارك التي تجري منذ السابع من أكتوبر، هو ما تسرّب من مصادر داخلية عن أن إسرائيل، في بداية معركتها مع غزة، تبنّت ما سمّته داخلياً بـ"قواعد حماة"، في إشارة صريحة إلى المجازر التي ارتكبها حافظ الأسد في مدينة حماة عام 1982. فكما كان هدف الأسد سحق المدينة وإبادة جزء من سكانها لإلحاق الهزيمة بوعي جماعي يرى فيه تهديداً لاستقراره، سعت إسرائيل إلى توظيف ذات المنهج في غزة: إلحاق هزيمة لا تقتصر على البنية العسكرية لحماس، بل تمتد إلى البنية المجتمعية الحاضنة لها، باعتبارها – بحسب هذا التصور – هي التي تُنتج مثل هذه الكيانات. وبصرف النظر عن موقفنا الأخلاقي من مثل هذه المقارنة، فإن تبنّي هذا النموذج – الذي هو في جوهره عقيدة عنف ضد الذاكرة الجمعية – يكشف عن تحوّل مقلق في طبيعة المعارك، من مواجهة مع تنظيمات إلى محاولة تفكيك النسيج الاجتماعي الذي ترى فيه إسرائيل رحماً محتملًا للمقاومة، وإلحاق الهزيمة بوعي هذه المجتمعات وليس فقط هزيمتها عسكرياً. في هذا السياق، يبدو أن الحرب لم تعد تدور فقط على الأرض، بل على مستوى المعنى ذاته: أي الحق في تعريف المستقبل. صحيح أن إسرائيل لا تسعى لنشر نموذج ديمقراطي أو إنساني، بل تحركها مصالح قومية صارمة تهدف إلى كسر البيئة التي تُنتج العنف والمواجهة، لكنها، وإن عن غير قصد، تكشف بذلك عن هشاشة المشاريع التي تتغذى على الخرافة وتتحرك بلا بوصلة واقعية. إن هزيمة المشاريع الجهادية، ليست في حقيقتها هزيمة عسكرية فحسب، بل هي سحقٌ لأوهام كبرى لم تستطع أن تصمد في وجه منظومات عقلانية تعتمد على أدوات العلم والمعرفة والتراكم، لا على اليقينيات الخلاصية والشعارات الدامية. وفي هذا الإطار، تُصبح المسألة السورية مركزية. فهي ليست ساحة منسيّة، بل المختبر الأخطر الذي حاولت فيه التيارات الجهادية، تحت مظلّة النظام السابق أو في مواجهته، إعادة إنتاج نموذج مضاد للعقل الديمقراطي. وتاريخ سوريا القريب لا يشكّل مجرد خلفية لهذا المشروع، بل يعدّ من أكثر التجارب تأثيراً في تاريخ الجهاد العالمي، سواء على مستوى الخبرة التنظيمية والعملياتية، أو على صعيد التنظير العقائدي والفقهي. سوريا كانت، عملياً، حاضنة لأبرز منظّري هذا الفكر، وأكثر ساحات إنتاجه تطوراً، متفوّقة في ذلك على دول ذات تاريخ جهادي أسبق وأعمق. وإذا كانت بعض الأصوات، خصوصاً في أعقاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، قد سوّقت لفكرة أن الولايات المتحدة تبحث عن "تسويات واقعية" مع قوى إسلامية أو جهادية تقبل الركون ضمن خرائطها الوطنية دون تمدّد عالمي، فإن هذا الخطاب ينطوي على درجة كبيرة من الاستسهال، بل الاستغفال السياسي. إنه الرهان على الرمال المتحرّكة ذاتها التي اعتاد البعض في العالم العربي والإسلامي أن يبني عليها أوهامه. ما جرى – ويجري – ليس تخلياً عن الديمقراطية أو عن مشروع الاستقرار العالمي، بل مراجعة أدواته وشروط تفعيله ضمن منظومات متشابكة ومعقدة. فالاستراتيجية الأميركية، كما تتبدى في أدبيات كبرى مراكز التفكير السياسي، لا تزال تؤمن بأن الاستقرار الكوني غير ممكن من دون ديمقراطيات راسخة. وليست المسألة تعبيراً عن رغبة مثالية "نبوية" أميركية لنشر الخير في العالم. فمن المعروف أن تاريخ السياسة الأميركية مليء بدعم دكتاتوريات والانقلاب على ديمقراطيات، بل وحتى تمويل حركات جهادية لأغراض قصيرة المدى في مواجهة أعداء مباشرين. غير أن بناء ديمقراطيات مستقرة ليس "هدية أميركية"، بل مصلحة استراتيجية عليا بعيدة المدى. قد تُهمل في لحظات الانفعال أو الحسابات الضيقة، لكنها تعود دوماً إلى السطح بوصفها الحاجة العضوية الوحيدة لإنتاج أسواق مستدامة، ومجتمعات شفافة، وأمن عابر للقارات. ذلك أن العالم كما يراه أصحاب هذا التوجّه لم يعد يحتمل في المستقبل مثل هذه النتوءات الراديكالية: فكل مشروع خارج منطق الدولة والقانون والحقوق، يتحول تلقائياً إلى تهديد لبنية الاستقرار العالمي. وأي انحراف داخلي في دولة ما سرعان ما يتحول إلى زلزال إقليمي، كما أثبتت التجارب في الشرق الأوسط وأفريقيا والقرن الآسيوي. إن إخفاق بعض مراحل مشروع "نشر الديمقراطية" لا يعني أن الديمقراطية كمبدأ قد تهاوت. بل هو تأكيد على أن السير نحوها معقّد، ومتعرّج، وذو كلفة باهظة، لكنه ما زال الطريق الوحيد الممكن. لقد أصبحت الديمقراطية أيقونة سياسية لا تنافسها أية أيديولوجيا أخرى من حيث القبول الكوني أو الاعتراف بقيمتها. وفي زمن العولمة الرقمية، والشفافية الفورية، وسقوط الحجب الإعلامية، لم يعد ممكنًا الترويج لأي نظام قمعي أو شوفيني تحت ستار "الخصوصية الثقافية". تلك الأكاذيب فقدت جدواها، بل وأصبحت موضع تندّر وسخرية في الجامعات كما في الميادين. من هنا، فإن سوريا – بكل تعقيداتها – لا يمكن أن تكون ساحة لإعادة تدوير الفشل، ولا منصّة لبناء أنظمة ما قبل الدولة. إن السلطة الحالية، إن أرادت البقاء لا مجرد الصمود، فهي مطالبة بتلبية شروط استراتيجية عليا تتجاوز مجرد إدارة الأزمة، نحو بناء منظومة حكم تضمن الحقوق وتحمي السلام الداخلي والإقليمي. وما يجب أن يُفهم، وبوضوح، أن الأمر لم يعد شأنًا مؤجلًا إلى 'لحظة مناسبة' في المستقبل. إن الوقت هو الآن، وهذه اللحظة هي الفرصة الأخيرة. إذ إن الإجراءات التي اتُخذت منذ سقوط النظام إلى اليوم، وآخرها ما كُشف من تعديلات تُحصّن رئيس الجمهورية من أي مساءلة أو إقالة، وتمنحه سلطة فعلية على كامل مجلس الشعب عبر تعيين اللجنة التي تختار ثلثيه، بينما يقوم هو بتعيين الثلث الأخير بشكل مباشر، تمثل سلوكًا سلطويًا فاق كل دكتاتوريات العصور، حتى في أشد نماذجها فجاجة وابتذالًا. هذا لا يندرج حتى تحت 'الواقعية السياسية'، بل هو مهزلة دستورية تمتهن مفهوم السيادة الشعبية برمّته. وسوق الحجج والذرائع لن ينقذ أحدًا من انهيار قادم إذا استمر هذا النهج في صناعة الهياكل. وإن البراغماتية المفرطة، التي تراهن على تحييد القوى الكبرى عبر تقديم خدمات أمنية وسلوك منضبط، لن تنطلي بعد اليوم، لا على إسرائيل التي هي فاعل إقليمي مركزي وتدرك حجم التهديدات في محيطها وقد دفعت أثماناً غالية سابقاً، ولا على المجتمع الدولي الذي بات يرى في القمع الداخلي مشروعاً موقوتاً لانفجار مقبل. لا أحد سيضع رأسه في فم الأسد مجدداً. إن محاولة التذاكي السلطوي ليست سوى إعادة إنتاج لأنظمة هشّة تزرع بذور انهيارها بأيديها. الرسالة التي ينبغي أن تتلقفها دوائر القرار في دمشق اليوم واضحة: لا مشروع قابل للبقاء خارج الديمقراطية. ليست "الوصفة الغربية" ما يُطلب، بل الحد الأدنى من عقل الدولة، منطق المؤسسات، وإرادة الإصلاح الجاد، وهذا كما هو مؤكد ومعروف حاجة ماسة سورية أولاً للشعب السوري قبل أي طرف آخر في العالم، بما فيهم من هم في السلطة الآن ومن يؤيدهم من السوريين، فهم من يُفترض أنهم دفعوا أكبر الأثمان بين بقية السوريين، ويجب أن يكونوا هم الأحرص على نجاح مشروع بناء الدولة. لقد آن أوان الاعتراف بأن الديمقراطية ليست ترفاً ولا استعارة أخلاقية، بل ضرورة وجودية. فالعالم لم يعد يتّسع لمزيد من الحروب العقائدية أو التجارب الدموية. وحده المشروع الذي يلتقي فيه العقل مع الكرامة، والسياسة مع العدالة، هو ما يمكن أن ينقذ ما تبقى من هذه المنطقة التي تطاولت انهياراتها وكأنها بلا نهاية.
المدنمنذ 9 ساعاتسياسةالمدنمآلات المشروع الجهادي وعودة مركزية العقل السياسيمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لحظة الهجوم المعقّد الذي شنّته حركة "حماسط التي تمتلك بنية أيديولوجية إسلامية وامتداداً اجتماعياً تاريخياً يتجاوز كونها مجرّد ذراع لإيران، رغم ارتباطها بها سياسياً ومالياً وعسكرياً – بدا واضحاً أن نقطة تحوّل حاسمة قد بدأت تتشكّل في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. الرد الإسرائيلي لم يكن مجرد عملية عسكرية موضعية، بل إعلاناً استراتيجياً بأن الزمن قد انقلب، وأن حدود الاحتمال السياسي والعسكري قد تم تجاوزها. إسرائيل، التي لطالما مارست سياسة الردع المتحكم، قررت في ذلك التاريخ أن تعيد صياغة قواعد اللعبة الإقليمية بالكامل: تدمير أذرع إيران أينما وُجدت. حزب الله، نظام الأسد، الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، الحوثيون والدوائر العسكرية الإيرانية العابرة للدول، جميعها أصبحت أهدافاً في حسابات الردع الإسرائيلي المتسارع. ولعل الضربة الأخيرة التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني شكّلت ذروة هذا المسار. لم تكن مجرد ضربة عسكرية، بل عرضاً تقنياً فائقاً كشف عن فجوة عميقة في البنية التكنولوجية والأمنية، وضَع إيران – التي تملك مشروعاً دينياً-سياسياً ذا طموحات إقليمية – في موقع المتأخر تقنياً بشكل مروّع، وكأنها على أعتاب العصر الحجري مقارنة بخصم يملك أدوات القرن الحادي والعشرين. هذا التفوّق لم يكن عسكرياً فحسب، بل فكرياً أيضاً، إذ دلّ على اختلال في مفاهيم إدارة الدولة والسيادة ضمن مشاريع أيديولوجية تتّكل على الإيمان العقائدي أكثر من اعتمادها على تحليل الواقع ومعطياته الصلبة. فالخلل الذي نواجهه هنا لا يكمن في "المنطق العسكري فقط أو السياسي الأيديولوجي بالمعنى السطحي" كما قد يُفهم بشكل مجرّد، بل في المنطق الفلسفي الأعمق لناحية النظرة للعالم ووعيه والتعامل معه: إذ إن العقيدة الدينية، كما تُمارس في مثل هذه المشاريع، ما تزال تنظر إلى الواقع بوصفه ميداناً لتجلّي الإرادة الإلهية، أكثر منه ساحة تنافس تخضع للعلم والتخطيط. والمفارقة أن الفقه الإسلامي ذاته مليء بالنصوص التي تدعو إلى الإعداد والتخطيط وتقدير موازين القوة، "وأعدّوا لهم ما استطعتم" كما تقول الآية الأثيرة على قلوب المنظرين الجهاديين في كل زمان، لكن هذه النصوص غالباً ما تُختزل لصالح خطاب تعبوي يراهن على "النصر الإلهي" وحده. هذا الانفصام بين الخطاب الديني النظري وسلوك الجماعات الجهادية العملية هو الذي يُعرّي اليوم فشل تلك العقائد في ميدان الواقع. إنها تنهار، لا فقط أمام مدافع العدو، بل أمام أعين أتباعها، الذين يصطدمون بتهافت الوعود المقدسة أمام تفوق التكنولوجيا والعقل. وهو ما يعيد إلى الأذهان ما نُسب إلى نابليون حين سأله أحد الجنود قبيل اندلاع معركة "واترلو": هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنجليز البروتستانت؟ فأجابه: الله مع صاحب المدفع الأكبر! وما يعزّز هذا المنحى والجبهة الفكرية – إن صحت تسميتها – للمعارك التي تجري منذ السابع من أكتوبر، هو ما تسرّب من مصادر داخلية عن أن إسرائيل، في بداية معركتها مع غزة، تبنّت ما سمّته داخلياً بـ"قواعد حماة"، في إشارة صريحة إلى المجازر التي ارتكبها حافظ الأسد في مدينة حماة عام 1982. فكما كان هدف الأسد سحق المدينة وإبادة جزء من سكانها لإلحاق الهزيمة بوعي جماعي يرى فيه تهديداً لاستقراره، سعت إسرائيل إلى توظيف ذات المنهج في غزة: إلحاق هزيمة لا تقتصر على البنية العسكرية لحماس، بل تمتد إلى البنية المجتمعية الحاضنة لها، باعتبارها – بحسب هذا التصور – هي التي تُنتج مثل هذه الكيانات. وبصرف النظر عن موقفنا الأخلاقي من مثل هذه المقارنة، فإن تبنّي هذا النموذج – الذي هو في جوهره عقيدة عنف ضد الذاكرة الجمعية – يكشف عن تحوّل مقلق في طبيعة المعارك، من مواجهة مع تنظيمات إلى محاولة تفكيك النسيج الاجتماعي الذي ترى فيه إسرائيل رحماً محتملًا للمقاومة، وإلحاق الهزيمة بوعي هذه المجتمعات وليس فقط هزيمتها عسكرياً. في هذا السياق، يبدو أن الحرب لم تعد تدور فقط على الأرض، بل على مستوى المعنى ذاته: أي الحق في تعريف المستقبل. صحيح أن إسرائيل لا تسعى لنشر نموذج ديمقراطي أو إنساني، بل تحركها مصالح قومية صارمة تهدف إلى كسر البيئة التي تُنتج العنف والمواجهة، لكنها، وإن عن غير قصد، تكشف بذلك عن هشاشة المشاريع التي تتغذى على الخرافة وتتحرك بلا بوصلة واقعية. إن هزيمة المشاريع الجهادية، ليست في حقيقتها هزيمة عسكرية فحسب، بل هي سحقٌ لأوهام كبرى لم تستطع أن تصمد في وجه منظومات عقلانية تعتمد على أدوات العلم والمعرفة والتراكم، لا على اليقينيات الخلاصية والشعارات الدامية. وفي هذا الإطار، تُصبح المسألة السورية مركزية. فهي ليست ساحة منسيّة، بل المختبر الأخطر الذي حاولت فيه التيارات الجهادية، تحت مظلّة النظام السابق أو في مواجهته، إعادة إنتاج نموذج مضاد للعقل الديمقراطي. وتاريخ سوريا القريب لا يشكّل مجرد خلفية لهذا المشروع، بل يعدّ من أكثر التجارب تأثيراً في تاريخ الجهاد العالمي، سواء على مستوى الخبرة التنظيمية والعملياتية، أو على صعيد التنظير العقائدي والفقهي. سوريا كانت، عملياً، حاضنة لأبرز منظّري هذا الفكر، وأكثر ساحات إنتاجه تطوراً، متفوّقة في ذلك على دول ذات تاريخ جهادي أسبق وأعمق. وإذا كانت بعض الأصوات، خصوصاً في أعقاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، قد سوّقت لفكرة أن الولايات المتحدة تبحث عن "تسويات واقعية" مع قوى إسلامية أو جهادية تقبل الركون ضمن خرائطها الوطنية دون تمدّد عالمي، فإن هذا الخطاب ينطوي على درجة كبيرة من الاستسهال، بل الاستغفال السياسي. إنه الرهان على الرمال المتحرّكة ذاتها التي اعتاد البعض في العالم العربي والإسلامي أن يبني عليها أوهامه. ما جرى – ويجري – ليس تخلياً عن الديمقراطية أو عن مشروع الاستقرار العالمي، بل مراجعة أدواته وشروط تفعيله ضمن منظومات متشابكة ومعقدة. فالاستراتيجية الأميركية، كما تتبدى في أدبيات كبرى مراكز التفكير السياسي، لا تزال تؤمن بأن الاستقرار الكوني غير ممكن من دون ديمقراطيات راسخة. وليست المسألة تعبيراً عن رغبة مثالية "نبوية" أميركية لنشر الخير في العالم. فمن المعروف أن تاريخ السياسة الأميركية مليء بدعم دكتاتوريات والانقلاب على ديمقراطيات، بل وحتى تمويل حركات جهادية لأغراض قصيرة المدى في مواجهة أعداء مباشرين. غير أن بناء ديمقراطيات مستقرة ليس "هدية أميركية"، بل مصلحة استراتيجية عليا بعيدة المدى. قد تُهمل في لحظات الانفعال أو الحسابات الضيقة، لكنها تعود دوماً إلى السطح بوصفها الحاجة العضوية الوحيدة لإنتاج أسواق مستدامة، ومجتمعات شفافة، وأمن عابر للقارات. ذلك أن العالم كما يراه أصحاب هذا التوجّه لم يعد يحتمل في المستقبل مثل هذه النتوءات الراديكالية: فكل مشروع خارج منطق الدولة والقانون والحقوق، يتحول تلقائياً إلى تهديد لبنية الاستقرار العالمي. وأي انحراف داخلي في دولة ما سرعان ما يتحول إلى زلزال إقليمي، كما أثبتت التجارب في الشرق الأوسط وأفريقيا والقرن الآسيوي. إن إخفاق بعض مراحل مشروع "نشر الديمقراطية" لا يعني أن الديمقراطية كمبدأ قد تهاوت. بل هو تأكيد على أن السير نحوها معقّد، ومتعرّج، وذو كلفة باهظة، لكنه ما زال الطريق الوحيد الممكن. لقد أصبحت الديمقراطية أيقونة سياسية لا تنافسها أية أيديولوجيا أخرى من حيث القبول الكوني أو الاعتراف بقيمتها. وفي زمن العولمة الرقمية، والشفافية الفورية، وسقوط الحجب الإعلامية، لم يعد ممكنًا الترويج لأي نظام قمعي أو شوفيني تحت ستار "الخصوصية الثقافية". تلك الأكاذيب فقدت جدواها، بل وأصبحت موضع تندّر وسخرية في الجامعات كما في الميادين. من هنا، فإن سوريا – بكل تعقيداتها – لا يمكن أن تكون ساحة لإعادة تدوير الفشل، ولا منصّة لبناء أنظمة ما قبل الدولة. إن السلطة الحالية، إن أرادت البقاء لا مجرد الصمود، فهي مطالبة بتلبية شروط استراتيجية عليا تتجاوز مجرد إدارة الأزمة، نحو بناء منظومة حكم تضمن الحقوق وتحمي السلام الداخلي والإقليمي. وما يجب أن يُفهم، وبوضوح، أن الأمر لم يعد شأنًا مؤجلًا إلى 'لحظة مناسبة' في المستقبل. إن الوقت هو الآن، وهذه اللحظة هي الفرصة الأخيرة. إذ إن الإجراءات التي اتُخذت منذ سقوط النظام إلى اليوم، وآخرها ما كُشف من تعديلات تُحصّن رئيس الجمهورية من أي مساءلة أو إقالة، وتمنحه سلطة فعلية على كامل مجلس الشعب عبر تعيين اللجنة التي تختار ثلثيه، بينما يقوم هو بتعيين الثلث الأخير بشكل مباشر، تمثل سلوكًا سلطويًا فاق كل دكتاتوريات العصور، حتى في أشد نماذجها فجاجة وابتذالًا. هذا لا يندرج حتى تحت 'الواقعية السياسية'، بل هو مهزلة دستورية تمتهن مفهوم السيادة الشعبية برمّته. وسوق الحجج والذرائع لن ينقذ أحدًا من انهيار قادم إذا استمر هذا النهج في صناعة الهياكل. وإن البراغماتية المفرطة، التي تراهن على تحييد القوى الكبرى عبر تقديم خدمات أمنية وسلوك منضبط، لن تنطلي بعد اليوم، لا على إسرائيل التي هي فاعل إقليمي مركزي وتدرك حجم التهديدات في محيطها وقد دفعت أثماناً غالية سابقاً، ولا على المجتمع الدولي الذي بات يرى في القمع الداخلي مشروعاً موقوتاً لانفجار مقبل. لا أحد سيضع رأسه في فم الأسد مجدداً. إن محاولة التذاكي السلطوي ليست سوى إعادة إنتاج لأنظمة هشّة تزرع بذور انهيارها بأيديها. الرسالة التي ينبغي أن تتلقفها دوائر القرار في دمشق اليوم واضحة: لا مشروع قابل للبقاء خارج الديمقراطية. ليست "الوصفة الغربية" ما يُطلب، بل الحد الأدنى من عقل الدولة، منطق المؤسسات، وإرادة الإصلاح الجاد، وهذا كما هو مؤكد ومعروف حاجة ماسة سورية أولاً للشعب السوري قبل أي طرف آخر في العالم، بما فيهم من هم في السلطة الآن ومن يؤيدهم من السوريين، فهم من يُفترض أنهم دفعوا أكبر الأثمان بين بقية السوريين، ويجب أن يكونوا هم الأحرص على نجاح مشروع بناء الدولة. لقد آن أوان الاعتراف بأن الديمقراطية ليست ترفاً ولا استعارة أخلاقية، بل ضرورة وجودية. فالعالم لم يعد يتّسع لمزيد من الحروب العقائدية أو التجارب الدموية. وحده المشروع الذي يلتقي فيه العقل مع الكرامة، والسياسة مع العدالة، هو ما يمكن أن ينقذ ما تبقى من هذه المنطقة التي تطاولت انهياراتها وكأنها بلا نهاية.