logo
#

أحدث الأخبار مع #البونتيون

وللماضي خباياه (2)
وللماضي خباياه (2)

الجزيرة

time٠١-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الجزيرة

وللماضي خباياه (2)

" السفر يتركك بلا كلمات، ثم يحولك إلى راوٍ للقصص (ابن بطوطة). لم أخض في حياتي تجربة السفر خارج البلاد من قبل؛ فالأمر إضافة إلى أنه يتطلب المال الوفير: (تذكرة السفر، الحجز الفندقي، الأكل، التجوال…) يتطلب أيضًا إمكانات أخرى، كاللغة التي يمكن بها التواصل مع الآخرين، ومعرفة عاداتهم ونمط عيشهم، حتى تتم كل جوانب الاحترام والتفاهم. والحق أن فرنسا لم تكن في يوم من الأيام غريبة عني، بحكم الترابط التاريخي منذ المعركة التاريخية التي جرت بين جيوش السلطان عبدالرحمن والألوية الفرنسية في معركة إسلي في 14 أغسطس/ آب 1844، هذه المعركة التي دخلها المغرب دفاعًا عن الأمير عبدالقادر، دون معلومات استخباراتية مسبقة تمكّنه من معرفة نقاط القوة والضعف لدى الخصم. دخل المغرب في معركة، ولم يكن ينوي من خلالها سوى حماية الأمير عبدالقادر، الذي طلبت السلطات الفرنسية من المغرب تسليمه، بعد مطاردة دامت أكثر من 13 سنة. خرجت من الماضي الأندلسي لأدخل في الماضي الاستعماري الفرنسي، حينما ظهر لأول مرة عِلم الجيوبوليتيك على يد ماكندر ببريطانيا. هذا العِلم -الذي هو دراسة العلاقة بين المكان والسلطة- فتح الباب أمام القوتين السائدتين آنذاك (فرنسا وبريطانيا) للصراع حول المستعمرات، وكان من حظ المغرب المرير أن وضعت السلطات الفرنسية عينها عليه، توج ذلك بمعاهدة الحماية سنة 1912 بحجة الدفاع عن السلطان عبدالحفيظ، بعد الأحداث الدموية التي شهدتها فاس في 30 مارس/ آذار 1912. ظلت مخيلتي شاردة بين ثنايا الماضي وانكسارات مرايا التاريخ، التي لم نتعلم بعد منها الدروس والعبر رغم مرور السنين والقرون، وكأننا كائنات مجردة من التفكير ذي الرؤية المستقبلية!. لم نتمكن من صقل تجاربنا، التي قال عنها أينشتاين ذات يوم: "المعرفة لا تؤتى إلا بالتجربة، ويظل ما بقي مجرد معلومات." مع وصولنا إلى أورليون orléans، طلب منا السائق الاستمتاع بآخر استراحة على الطريق السيار، قبل التوجه مباشرة إلى جنفيليه (Gennevillier) في الضاحية الباريسية. هنا بدأ زخم من الأسئلة يتهاطل على مخيلتي.. يا ترى، باريس مدينة جميلة بالفعل، كما كنت أرى في الأفلام، أم إن الواقع كفيل بأن يعطينا صورة أخرى عن هذه المدينة العالمية؟ وكنت شغوفًا برؤية نهر السين، وزيارة متحف اللوفر الشهير، والوقوف على رفات جون جاك روسو وفولتير، اللذين وضعا في متحف ومقبرة البونتيون (Le Pantheon)، ثم هل بإمكاني زيارة المقبرة الشهيرة "الأب لاشيز" ( Pere-Lachaise)؟ أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال كانت الأسئلة تنهمر عليَّ وكأنني سأستطيع فعل كل هذه الأمور في وقت وجيز.. باريس التي قال عنها مترنيخ يومًا: "إذا أصيبت باريس بالزكام، فاعلم أن أوروبا بأسرها ستصاب بنزلات البرد"!. يبدو أنه الشغف والتطلع لمعرفة واستكشاف عاصمة الأنوار، ما جذبني إليها الجانب الثقافي أكثر من غيره. ولعل هذا الجانب هو الذي دفعني مرارًا لزيارة الحي اللاتيني (Le Quartier latin)، حيث الكتب ولوحات الفنانين، وفرق الموسيقيين الذين يؤدون معزوفات غاية في الجمال في الممرات التي تؤدي إلى مترو الأنفاق، وخزانة الكتب الشهيرة المعروفة بمركز بومبيدو. ولم أتوقع أن أجد باريس مدينة ضخمة، تصعب زيارتها حتى في أيام متتالية، بين الحي اللاتيني في المقاطعة السادسة لباريس، والحي الصيني في المقاطعة الثالثة عشرة، وحي الجزائريين المعروف اختصارًا بباربيص، وأحياء الطبقة الثرية كالمقاطعة الثامنة والمقاطعة السادسة عشرة، والمقاطعات الفقيرة التي تسكنها فئات من المهاجرين كالمقاطعات الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والعشرين، التي كتب عنها إيميل زولا في رواياته كـ"جرمينال" (Germinal). لا أدري كيف أسرت هذه المدينة قلبي، رغم نورها الإيماني الفاتر، وقوتها الظلامية الآخذة في الصلابة. فبين جدرانها المشربة ببرودة قرون من التجارب، وهوائها الذي يمتزج فيه الصفاء مع الرومانسية، وتطاير كؤوس القهوة والمطاعم التركية التي تفوح منها رائحة الشاورما لتعطي صورة أقل ما يقال عنها إنها غير متناسقة، بين آلاف المواطنين الذين يملؤون أرضيات محطات القطارات كل صباح وكل مساء بغية الذهاب إلى عملهم الروتيني، ومئات المتشردين الذين يخرجون كلما أدلج الليل، في رحلة تسول بين آلاف المسافرين.. متشردون يدعون أنهم في حاجة للأكل وللاستحمام، يحاولون استعطاف الجميع، رغم أن نيتهم صرف تلك النقود في المشروبات الكحولية، أو بقصد تناول المخدرات. أقول هذه الكلمات انطلاقًا من مقارنتي باريس بمدن أخرى، بما فيها مدينتي التي نشأت وترعرعت فيها، وقد قال دو مارتان باج: "إذا أردت أن تحب باريس، فلا بد أولًا أن تجرب العيش في مكان آخر." هي المدينة التي أسرت في يوم من الأيام قلب الكاتب المصري طه حسين، الرجل الذي قال عنها إنها مدينة الجن والملائكة!. لم يكتفِ طه حسين بهذه المقولة، بل ألّف مجموعة قصصية بعنوان: "صوت باريس"، وكأنه يريد أن يحمل ذكريات مرحلة الدراسة الجامعية في العاصمة الفرنسية إلى بلده، في اختيار حميمي لضم هذه الذكريات، وجمعها بين ثنايا كتابه. وازداد اندهاشي لأول مرة حينما أيقنت أن باريس بضواحيها تضم ثلاث عشرة جامعة، ومدرسة للدراسات الجيوسياسية، ومركزًا للدراسات الشرقية، وهو المعروف اختصارًا بـ"INALCO"، ومدرسة عليا للعلوم السياسية، معروفة بـ"Sciences Po".. أدركت حينها أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال. ليث شعري، لو كانت هذه الإمكانات الدراسية موجودة في بلادنا العربية، حينها سيسمع العالم عن عباقرة بصوت ولكنة عربيين، ولكن العيب في أمة لم تتدرب منذ نعومة أظفارها على حب الكتاب، والتشبع بالسياسة والفكر. لكن، لماذا كل هذا العناء؟ فحكامنا يريدون عقولًا فارغة، تعفيهم من كثرة السؤال والقيل والقال، في زمن غيبوبة البال وتقلب الأحوال، ليصير الجهل مقدرًا بالمال، وذو العقل مكبلًا بالأغلال.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store