
وللماضي خباياه (2)
" السفر يتركك بلا كلمات، ثم يحولك إلى راوٍ للقصص (ابن بطوطة).
لم أخض في حياتي تجربة السفر خارج البلاد من قبل؛ فالأمر إضافة إلى أنه يتطلب المال الوفير: (تذكرة السفر، الحجز الفندقي، الأكل، التجوال…) يتطلب أيضًا إمكانات أخرى، كاللغة التي يمكن بها التواصل مع الآخرين، ومعرفة عاداتهم ونمط عيشهم، حتى تتم كل جوانب الاحترام والتفاهم.
والحق أن فرنسا لم تكن في يوم من الأيام غريبة عني، بحكم الترابط التاريخي منذ المعركة التاريخية التي جرت بين جيوش السلطان عبدالرحمن والألوية الفرنسية في معركة إسلي في 14 أغسطس/ آب 1844، هذه المعركة التي دخلها المغرب دفاعًا عن الأمير عبدالقادر، دون معلومات استخباراتية مسبقة تمكّنه من معرفة نقاط القوة والضعف لدى الخصم.
دخل المغرب في معركة، ولم يكن ينوي من خلالها سوى حماية الأمير عبدالقادر، الذي طلبت السلطات الفرنسية من المغرب تسليمه، بعد مطاردة دامت أكثر من 13 سنة.
خرجت من الماضي الأندلسي لأدخل في الماضي الاستعماري الفرنسي، حينما ظهر لأول مرة عِلم الجيوبوليتيك على يد ماكندر ببريطانيا. هذا العِلم -الذي هو دراسة العلاقة بين المكان والسلطة- فتح الباب أمام القوتين السائدتين آنذاك (فرنسا وبريطانيا) للصراع حول المستعمرات، وكان من حظ المغرب المرير أن وضعت السلطات الفرنسية عينها عليه، توج ذلك بمعاهدة الحماية سنة 1912 بحجة الدفاع عن السلطان عبدالحفيظ، بعد الأحداث الدموية التي شهدتها فاس في 30 مارس/ آذار 1912.
ظلت مخيلتي شاردة بين ثنايا الماضي وانكسارات مرايا التاريخ، التي لم نتعلم بعد منها الدروس والعبر رغم مرور السنين والقرون، وكأننا كائنات مجردة من التفكير ذي الرؤية المستقبلية!. لم نتمكن من صقل تجاربنا، التي قال عنها أينشتاين ذات يوم: "المعرفة لا تؤتى إلا بالتجربة، ويظل ما بقي مجرد معلومات."
مع وصولنا إلى أورليون orléans، طلب منا السائق الاستمتاع بآخر استراحة على الطريق السيار، قبل التوجه مباشرة إلى جنفيليه (Gennevillier) في الضاحية الباريسية. هنا بدأ زخم من الأسئلة يتهاطل على مخيلتي.. يا ترى، باريس مدينة جميلة بالفعل، كما كنت أرى في الأفلام، أم إن الواقع كفيل بأن يعطينا صورة أخرى عن هذه المدينة العالمية؟
وكنت شغوفًا برؤية نهر السين، وزيارة متحف اللوفر الشهير، والوقوف على رفات جون جاك روسو وفولتير، اللذين وضعا في متحف ومقبرة البونتيون (Le Pantheon)، ثم هل بإمكاني زيارة المقبرة الشهيرة "الأب لاشيز" ( Pere-Lachaise)؟
أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال
كانت الأسئلة تنهمر عليَّ وكأنني سأستطيع فعل كل هذه الأمور في وقت وجيز.. باريس التي قال عنها مترنيخ يومًا: "إذا أصيبت باريس بالزكام، فاعلم أن أوروبا بأسرها ستصاب بنزلات البرد"!. يبدو أنه الشغف والتطلع لمعرفة واستكشاف عاصمة الأنوار، ما جذبني إليها الجانب الثقافي أكثر من غيره.
ولعل هذا الجانب هو الذي دفعني مرارًا لزيارة الحي اللاتيني (Le Quartier latin)، حيث الكتب ولوحات الفنانين، وفرق الموسيقيين الذين يؤدون معزوفات غاية في الجمال في الممرات التي تؤدي إلى مترو الأنفاق، وخزانة الكتب الشهيرة المعروفة بمركز بومبيدو.
ولم أتوقع أن أجد باريس مدينة ضخمة، تصعب زيارتها حتى في أيام متتالية، بين الحي اللاتيني في المقاطعة السادسة لباريس، والحي الصيني في المقاطعة الثالثة عشرة، وحي الجزائريين المعروف اختصارًا بباربيص، وأحياء الطبقة الثرية كالمقاطعة الثامنة والمقاطعة السادسة عشرة، والمقاطعات الفقيرة التي تسكنها فئات من المهاجرين كالمقاطعات الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والعشرين، التي كتب عنها إيميل زولا في رواياته كـ"جرمينال" (Germinal).
لا أدري كيف أسرت هذه المدينة قلبي، رغم نورها الإيماني الفاتر، وقوتها الظلامية الآخذة في الصلابة.
فبين جدرانها المشربة ببرودة قرون من التجارب، وهوائها الذي يمتزج فيه الصفاء مع الرومانسية، وتطاير كؤوس القهوة والمطاعم التركية التي تفوح منها رائحة الشاورما لتعطي صورة أقل ما يقال عنها إنها غير متناسقة، بين آلاف المواطنين الذين يملؤون أرضيات محطات القطارات كل صباح وكل مساء بغية الذهاب إلى عملهم الروتيني، ومئات المتشردين الذين يخرجون كلما أدلج الليل، في رحلة تسول بين آلاف المسافرين.. متشردون يدعون أنهم في حاجة للأكل وللاستحمام، يحاولون استعطاف الجميع، رغم أن نيتهم صرف تلك النقود في المشروبات الكحولية، أو بقصد تناول المخدرات.
أقول هذه الكلمات انطلاقًا من مقارنتي باريس بمدن أخرى، بما فيها مدينتي التي نشأت وترعرعت فيها، وقد قال دو مارتان باج: "إذا أردت أن تحب باريس، فلا بد أولًا أن تجرب العيش في مكان آخر."
هي المدينة التي أسرت في يوم من الأيام قلب الكاتب المصري طه حسين، الرجل الذي قال عنها إنها مدينة الجن والملائكة!. لم يكتفِ طه حسين بهذه المقولة، بل ألّف مجموعة قصصية بعنوان: "صوت باريس"، وكأنه يريد أن يحمل ذكريات مرحلة الدراسة الجامعية في العاصمة الفرنسية إلى بلده، في اختيار حميمي لضم هذه الذكريات، وجمعها بين ثنايا كتابه.
وازداد اندهاشي لأول مرة حينما أيقنت أن باريس بضواحيها تضم ثلاث عشرة جامعة، ومدرسة للدراسات الجيوسياسية، ومركزًا للدراسات الشرقية، وهو المعروف اختصارًا بـ"INALCO"، ومدرسة عليا للعلوم السياسية، معروفة بـ"Sciences Po".. أدركت حينها أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال.
ليث شعري، لو كانت هذه الإمكانات الدراسية موجودة في بلادنا العربية، حينها سيسمع العالم عن عباقرة بصوت ولكنة عربيين، ولكن العيب في أمة لم تتدرب منذ نعومة أظفارها على حب الكتاب، والتشبع بالسياسة والفكر.
لكن، لماذا كل هذا العناء؟ فحكامنا يريدون عقولًا فارغة، تعفيهم من كثرة السؤال والقيل والقال، في زمن غيبوبة البال وتقلب الأحوال، ليصير الجهل مقدرًا بالمال، وذو العقل مكبلًا بالأغلال.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٠١-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
وللماضي خباياه (2)
" السفر يتركك بلا كلمات، ثم يحولك إلى راوٍ للقصص (ابن بطوطة). لم أخض في حياتي تجربة السفر خارج البلاد من قبل؛ فالأمر إضافة إلى أنه يتطلب المال الوفير: (تذكرة السفر، الحجز الفندقي، الأكل، التجوال…) يتطلب أيضًا إمكانات أخرى، كاللغة التي يمكن بها التواصل مع الآخرين، ومعرفة عاداتهم ونمط عيشهم، حتى تتم كل جوانب الاحترام والتفاهم. والحق أن فرنسا لم تكن في يوم من الأيام غريبة عني، بحكم الترابط التاريخي منذ المعركة التاريخية التي جرت بين جيوش السلطان عبدالرحمن والألوية الفرنسية في معركة إسلي في 14 أغسطس/ آب 1844، هذه المعركة التي دخلها المغرب دفاعًا عن الأمير عبدالقادر، دون معلومات استخباراتية مسبقة تمكّنه من معرفة نقاط القوة والضعف لدى الخصم. دخل المغرب في معركة، ولم يكن ينوي من خلالها سوى حماية الأمير عبدالقادر، الذي طلبت السلطات الفرنسية من المغرب تسليمه، بعد مطاردة دامت أكثر من 13 سنة. خرجت من الماضي الأندلسي لأدخل في الماضي الاستعماري الفرنسي، حينما ظهر لأول مرة عِلم الجيوبوليتيك على يد ماكندر ببريطانيا. هذا العِلم -الذي هو دراسة العلاقة بين المكان والسلطة- فتح الباب أمام القوتين السائدتين آنذاك (فرنسا وبريطانيا) للصراع حول المستعمرات، وكان من حظ المغرب المرير أن وضعت السلطات الفرنسية عينها عليه، توج ذلك بمعاهدة الحماية سنة 1912 بحجة الدفاع عن السلطان عبدالحفيظ، بعد الأحداث الدموية التي شهدتها فاس في 30 مارس/ آذار 1912. ظلت مخيلتي شاردة بين ثنايا الماضي وانكسارات مرايا التاريخ، التي لم نتعلم بعد منها الدروس والعبر رغم مرور السنين والقرون، وكأننا كائنات مجردة من التفكير ذي الرؤية المستقبلية!. لم نتمكن من صقل تجاربنا، التي قال عنها أينشتاين ذات يوم: "المعرفة لا تؤتى إلا بالتجربة، ويظل ما بقي مجرد معلومات." مع وصولنا إلى أورليون orléans، طلب منا السائق الاستمتاع بآخر استراحة على الطريق السيار، قبل التوجه مباشرة إلى جنفيليه (Gennevillier) في الضاحية الباريسية. هنا بدأ زخم من الأسئلة يتهاطل على مخيلتي.. يا ترى، باريس مدينة جميلة بالفعل، كما كنت أرى في الأفلام، أم إن الواقع كفيل بأن يعطينا صورة أخرى عن هذه المدينة العالمية؟ وكنت شغوفًا برؤية نهر السين، وزيارة متحف اللوفر الشهير، والوقوف على رفات جون جاك روسو وفولتير، اللذين وضعا في متحف ومقبرة البونتيون (Le Pantheon)، ثم هل بإمكاني زيارة المقبرة الشهيرة "الأب لاشيز" ( Pere-Lachaise)؟ أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال كانت الأسئلة تنهمر عليَّ وكأنني سأستطيع فعل كل هذه الأمور في وقت وجيز.. باريس التي قال عنها مترنيخ يومًا: "إذا أصيبت باريس بالزكام، فاعلم أن أوروبا بأسرها ستصاب بنزلات البرد"!. يبدو أنه الشغف والتطلع لمعرفة واستكشاف عاصمة الأنوار، ما جذبني إليها الجانب الثقافي أكثر من غيره. ولعل هذا الجانب هو الذي دفعني مرارًا لزيارة الحي اللاتيني (Le Quartier latin)، حيث الكتب ولوحات الفنانين، وفرق الموسيقيين الذين يؤدون معزوفات غاية في الجمال في الممرات التي تؤدي إلى مترو الأنفاق، وخزانة الكتب الشهيرة المعروفة بمركز بومبيدو. ولم أتوقع أن أجد باريس مدينة ضخمة، تصعب زيارتها حتى في أيام متتالية، بين الحي اللاتيني في المقاطعة السادسة لباريس، والحي الصيني في المقاطعة الثالثة عشرة، وحي الجزائريين المعروف اختصارًا بباربيص، وأحياء الطبقة الثرية كالمقاطعة الثامنة والمقاطعة السادسة عشرة، والمقاطعات الفقيرة التي تسكنها فئات من المهاجرين كالمقاطعات الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والعشرين، التي كتب عنها إيميل زولا في رواياته كـ"جرمينال" (Germinal). لا أدري كيف أسرت هذه المدينة قلبي، رغم نورها الإيماني الفاتر، وقوتها الظلامية الآخذة في الصلابة. فبين جدرانها المشربة ببرودة قرون من التجارب، وهوائها الذي يمتزج فيه الصفاء مع الرومانسية، وتطاير كؤوس القهوة والمطاعم التركية التي تفوح منها رائحة الشاورما لتعطي صورة أقل ما يقال عنها إنها غير متناسقة، بين آلاف المواطنين الذين يملؤون أرضيات محطات القطارات كل صباح وكل مساء بغية الذهاب إلى عملهم الروتيني، ومئات المتشردين الذين يخرجون كلما أدلج الليل، في رحلة تسول بين آلاف المسافرين.. متشردون يدعون أنهم في حاجة للأكل وللاستحمام، يحاولون استعطاف الجميع، رغم أن نيتهم صرف تلك النقود في المشروبات الكحولية، أو بقصد تناول المخدرات. أقول هذه الكلمات انطلاقًا من مقارنتي باريس بمدن أخرى، بما فيها مدينتي التي نشأت وترعرعت فيها، وقد قال دو مارتان باج: "إذا أردت أن تحب باريس، فلا بد أولًا أن تجرب العيش في مكان آخر." هي المدينة التي أسرت في يوم من الأيام قلب الكاتب المصري طه حسين، الرجل الذي قال عنها إنها مدينة الجن والملائكة!. لم يكتفِ طه حسين بهذه المقولة، بل ألّف مجموعة قصصية بعنوان: "صوت باريس"، وكأنه يريد أن يحمل ذكريات مرحلة الدراسة الجامعية في العاصمة الفرنسية إلى بلده، في اختيار حميمي لضم هذه الذكريات، وجمعها بين ثنايا كتابه. وازداد اندهاشي لأول مرة حينما أيقنت أن باريس بضواحيها تضم ثلاث عشرة جامعة، ومدرسة للدراسات الجيوسياسية، ومركزًا للدراسات الشرقية، وهو المعروف اختصارًا بـ"INALCO"، ومدرسة عليا للعلوم السياسية، معروفة بـ"Sciences Po".. أدركت حينها أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال. ليث شعري، لو كانت هذه الإمكانات الدراسية موجودة في بلادنا العربية، حينها سيسمع العالم عن عباقرة بصوت ولكنة عربيين، ولكن العيب في أمة لم تتدرب منذ نعومة أظفارها على حب الكتاب، والتشبع بالسياسة والفكر. لكن، لماذا كل هذا العناء؟ فحكامنا يريدون عقولًا فارغة، تعفيهم من كثرة السؤال والقيل والقال، في زمن غيبوبة البال وتقلب الأحوال، ليصير الجهل مقدرًا بالمال، وذو العقل مكبلًا بالأغلال.


الجزيرة
١٩-٠٣-٢٠٢٥
- الجزيرة
خوسانوف مدافع مانشستر سيتي يدخل القفص الذهبي
دخل المدافع الأوزبكي الشاب عبد القادر خوسانوف (لاعب مانشستر سيتي) عش الزوجية بعد شهرين من الانضمام إلى هذا النادي الإنجليزي. ونشر خوسانوف فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي خلال عقد قرانه على فتاة محجبة لم تُظهر وجهها. واحتفل الدولي الأوزبكي بحفل زفافه في أجواء مميزة، وسط حضور عائلته وأصدقائه وعدد من الشخصيات الرياضية البارزة، وتفاعلت جماهير مانشستر سيتي -عبر مواقع التواصل- مع احتفالية هذا اللاعب البالغ من العمر 21 عاما. وكان عبد القادر تلقى هدية قيّمة، لدى عودته إلى أوزبكستان للانضمام إلى منتخب بلاده من أجل مواجهة قيرغيزستان ثم إيران في تصفيات كأس العالم لكرة القدم 2026. وقدم أولوجبيك أسانباييف، وهو مسؤول كرة قدم أوزبكي من أصل كازاخستاني، هدية لعبد القادر، وهي عبارة عن سيارة مرسيدس فاخرة بقيمة 350 ألف يورو. وانضم عبد القادر إلى مانشستر سيتي قادماً من لانس الفرنسي في يناير/كانون الثاني الماضي في صفقة كلفت 40 مليون يورو. وخلال صيف 2023، انضم النجم الأوزبكي إلى لانس قادما من إنرجيتيك بي جي يو البيلاروسي، وفرض نفسه كأحد أبرز لاعبي قلب الدفاع الشباب. إعلان وخاض عبد القادر حتى الآن 18 مباراة بألوان بلاده، وساعد أوزبكستان على تحقيق بداية قوية في محاولتها التأهل لكأس العالم 2026 لأول مرة في تاريخها.


الجزيرة
١٢-٠٣-٢٠٢٥
- الجزيرة
"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟
وصفها ابن بطوطة في القرن الثالث عشر الهجري في رحلته الشهيرة، فقال إنه وصل إلى هرمز الجديدة وهي جزيرة ومدينتها تسمى جرون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان. لكن يبدو أن هذه الجزيرة باتت تمتلك سمعة أخرى مختلفة تماما، فقبل عدة أشهر تسببت الأمطار الغزيرة في جزيرة هرمز الواقعة جنوبي إيران في تكوين مشهد فريد يوحي باندلاع معركة دموية داخل المياه وعلى رمال الشاطئ الأحمر الدموي الساحر، وخلَّفت المياه المتدفقة ما يطلق عليه البعض وصف "شلال نادر من الدماء". منذ نشره، اجتذب مقطع الفيديو الكثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبينما تفاجأ البعض، لم يستطع آخرون التوقف عن التعليق على جمال هذا الحدث غير المعتاد. وللوهلة الأولى، اعتقد عدد من الأشخاص الذين كانوا يراقبون هذا المشهد المخيف باستمتاع أنها "شلالات دماء". في الواقع، وعند اكتشافه للمرة الأولى، اعتقد العديد من الناس على أرض الجزيرة التي يسكنها نحو 3000 نسمة، أن حدثًا كارثيا في طريقه إليهم، معتقدين أن الشاطئ كان مغطى بالدماء، لكن هذا كان مجرد تخيل منهم. سر المياه الحمراء ما شاهده الناس هو ظاهرة طبيعية نادرة تحدث نتيجة التركيز العالي لأكسيد الحديد في تربة الجزيرة، فعند هطول الأمطار تتفاعل المياه مع هذه المادة، وتُصبغ بهذا اللون الداكن. وبالطبع، فإن التدفق الكبير للمياه ووصولها إلى شواطئ الجزيرة يحوّل مياه ورمال البحر القريبة من اليابسة إلى هذا اللون المميز أيضًا، في مشهد فريد من نوعه يعطي الشاطئ مظهرًا من عالم آخر. هذه الظاهرة الفريدة تشبه التلوين المذهل لنهر تينتو في إسبانيا، حيث تنتج التركيزات العالية من الحديد والمعادن الأخرى المختلفة لونًا أحمر مكثفًا مماثلًا في الماء. وإذا قمت بكشط الرمال على الشاطئ، فستجد رمالًا حمراء زاهية اللون تحتها. هذه الرمال الداكنة تجعل أمواج البحر تكتسب لونًا أكثر كثافة واحمرارا، وبمجرد الاستحمام في هذه المياه، فإن جسدك سيُصبغ بهذا اللون، وتظل الصبغة على بشرتك لأيام. أصباغ طبيعية أكسيد الحديد هو مركب كيميائي يتكون من الحديد والأكسجين، وتُستخدم هذه المادة بشكل عام كأصباغ طبيعية أو قد يتم استخدامها في أغذية الحيوانات الأليفة، وفي تصنيع الحلويات وتلوين الطعام، كما يتم الاعتماد عليها في صناعة خبز محلي يُطلق عليه غالبًا اسم "تومشي". وبعيدًا عن الاستخدامات الطهوية، تدخل هذه الأكاسيد أيضًا في الأغراض الصناعية وتصنيع مستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية والسيراميك وصباغة الأقمشة والدهانات، وتُستخدم لتلوين المنتجات، وفي الرسم والطبخ والأعمال الطبية والفنية، حتى إن السكان المحليين يستخدمونها كتوابل في أطباقهم مثل الصلصات والمربيات وغيرها. ويذكر أنها تلعب دورًا مهمًا في المطبخ الإيراني، وخاصة في تحضير طبق تقليدي يسمى "سوراخ"، وهو عبارة عن حساء سمك وأرز لذيذ يجسد نكهات المنطقة، مما يبرز بشكل أكبر الموارد الغنية والتراث الثقافي للجزيرة. والمغرة الحمراء أو مغرة الحديد -التربة الحمراء التي يطلق عليها السكان المحليون اسم "جلاك"- من أهم صادرات المنطقة، وتجذب العديد من السياح، مما جعل البعض يصف هذه المادة بالثروة الاقتصادية العظيمة. وتتكون المغرة التي تعطي كلا من الرمل والماء لونهما الأحمر، من مزيج من أكسيد الحديد وكميات متفاوتة من الطين والرمل، ويتراوح لون هذا المزيج من الأصفر أو البرتقالي الغامق أو الأحمر، إلى البني والفيروزي الفاتح وحتى الذهبي، اعتمادًا على كمية الحديد التي يحتوي عليها. ويتميز وادي قوس قزح ذو التربة المتعددة الألوان في جنوب غرب الجزيرة بأكثر من 70 لونًا ومجموعة متنوعة من الأحجار والمعادن التي تشمل الدولوميت الأسود والأبيض والرمادي والبيريت والجبس والأنهيدريت والأباتيت وأكاسيد الحديد. عوامل بيئية وجيولوجية ويعد الشاطئ الأحمر كتابا جيولوجيا مفتوحا يروي قصة التطور الجيولوجي للجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها 42 كيلومترًا مربعا فقط، وهي مغطاة بالصخور الرسوبية وطبقات من المواد البركانية على سطحها. ووفقًا للأبحاث، يبلغ العمر الجيولوجي للجزيرة نحو 600 مليون عام، ويرتبط التاريخ الجيولوجي للجزيرة بالقوى التكتونية التي شكَّلت منطقة الخليج العربي. أدى اصطدام الصفيحة العربية بالصفيحة الأوراسية إلى تكوين جبال مطوية وأحواض رسوبية. مع مرور الوقت، ساهمت هذه القوى في تراكم المعادن الغنية بالحديد في المنطقة، وهي المسؤولة عن اللون الأحمر المميز للرمال الناعمة التي تبدو وكأنها مسحوق. وبشكل خاص، فإن العامل الأساسي الذي يساهم في اللون الأحمر المذهل للرمال هو وجود المعادن الغنية بالحديد المعروفة باسم الهيماتيت (المادة الأولية لإنتاج الحديد) أو حجر الدم، وهو معدن غني بالحديد يكوّن طبقة من الصدأ على السطح عندما يتعرض للأكسدة (أكسيد الحديد). تمنح هذه العملية الرمال لونها الأحمر الرائع، مما يخلق مشهدًا بصريا يتناقض بشكل جميل مع مياه الخليج الزرقاء. وتلعب الظروف المناخية لجزيرة هرمز أيضًا دورا مهما في تشكيل الشاطئ الأحمر، حيث تشهد المنطقة ظروفًا قاحلة بسبب قلة هطول الأمطار، مع غطاء نباتي محدود. نتيجة لذلك، يتسارع تآكل الصخور والمعادن الغنية بالحديد، مما يؤدي إلى تركيز الجسيمات الحمراء في الرواسب الدقيقة على طول الساحل. علاوة على ذلك، يتغير لون الشاطئ المكثف طوال اليوم حيث يساهم التفاعل بين ضوء الشمس والرمال الغنية بالحديد والمياه المالحة أيضًا في تكثيف درجات اللون الأحمر. يعزز التفاعل بين بلورات الملح وجزيئات أكسيد الحديد حيوية التلوين، مما يخلق منظرًا طبيعيا سرياليا ومتغيرًا باستمرار يجذب المصورين والجيولوجيين والسياح على حد سواء.