logo
"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟

"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟

الجزيرة١٢-٠٣-٢٠٢٥

وصفها ابن بطوطة في القرن الثالث عشر الهجري في رحلته الشهيرة، فقال إنه وصل إلى هرمز الجديدة وهي جزيرة ومدينتها تسمى جرون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان.
لكن يبدو أن هذه الجزيرة باتت تمتلك سمعة أخرى مختلفة تماما، فقبل عدة أشهر تسببت الأمطار الغزيرة في جزيرة هرمز الواقعة جنوبي إيران في تكوين مشهد فريد يوحي باندلاع معركة دموية داخل المياه وعلى رمال الشاطئ الأحمر الدموي الساحر، وخلَّفت المياه المتدفقة ما يطلق عليه البعض وصف "شلال نادر من الدماء".
منذ نشره، اجتذب مقطع الفيديو الكثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبينما تفاجأ البعض، لم يستطع آخرون التوقف عن التعليق على جمال هذا الحدث غير المعتاد. وللوهلة الأولى، اعتقد عدد من الأشخاص الذين كانوا يراقبون هذا المشهد المخيف باستمتاع أنها "شلالات دماء".
في الواقع، وعند اكتشافه للمرة الأولى، اعتقد العديد من الناس على أرض الجزيرة التي يسكنها نحو 3000 نسمة، أن حدثًا كارثيا في طريقه إليهم، معتقدين أن الشاطئ كان مغطى بالدماء، لكن هذا كان مجرد تخيل منهم.
سر المياه الحمراء
ما شاهده الناس هو ظاهرة طبيعية نادرة تحدث نتيجة التركيز العالي لأكسيد الحديد في تربة الجزيرة، فعند هطول الأمطار تتفاعل المياه مع هذه المادة، وتُصبغ بهذا اللون الداكن.
وبالطبع، فإن التدفق الكبير للمياه ووصولها إلى شواطئ الجزيرة يحوّل مياه ورمال البحر القريبة من اليابسة إلى هذا اللون المميز أيضًا، في مشهد فريد من نوعه يعطي الشاطئ مظهرًا من عالم آخر.
هذه الظاهرة الفريدة تشبه التلوين المذهل لنهر تينتو في إسبانيا، حيث تنتج التركيزات العالية من الحديد والمعادن الأخرى المختلفة لونًا أحمر مكثفًا مماثلًا في الماء.
وإذا قمت بكشط الرمال على الشاطئ، فستجد رمالًا حمراء زاهية اللون تحتها. هذه الرمال الداكنة تجعل أمواج البحر تكتسب لونًا أكثر كثافة واحمرارا، وبمجرد الاستحمام في هذه المياه، فإن جسدك سيُصبغ بهذا اللون، وتظل الصبغة على بشرتك لأيام.
أصباغ طبيعية
أكسيد الحديد هو مركب كيميائي يتكون من الحديد والأكسجين، وتُستخدم هذه المادة بشكل عام كأصباغ طبيعية أو قد يتم استخدامها في أغذية الحيوانات الأليفة، وفي تصنيع الحلويات وتلوين الطعام، كما يتم الاعتماد عليها في صناعة خبز محلي يُطلق عليه غالبًا اسم "تومشي".
وبعيدًا عن الاستخدامات الطهوية، تدخل هذه الأكاسيد أيضًا في الأغراض الصناعية وتصنيع مستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية والسيراميك وصباغة الأقمشة والدهانات، وتُستخدم لتلوين المنتجات، وفي الرسم والطبخ والأعمال الطبية والفنية، حتى إن السكان المحليين يستخدمونها كتوابل في أطباقهم مثل الصلصات والمربيات وغيرها.
ويذكر أنها تلعب دورًا مهمًا في المطبخ الإيراني، وخاصة في تحضير طبق تقليدي يسمى "سوراخ"، وهو عبارة عن حساء سمك وأرز لذيذ يجسد نكهات المنطقة، مما يبرز بشكل أكبر الموارد الغنية والتراث الثقافي للجزيرة.
والمغرة الحمراء أو مغرة الحديد -التربة الحمراء التي يطلق عليها السكان المحليون اسم "جلاك"- من أهم صادرات المنطقة، وتجذب العديد من السياح، مما جعل البعض يصف هذه المادة بالثروة الاقتصادية العظيمة.
وتتكون المغرة التي تعطي كلا من الرمل والماء لونهما الأحمر، من مزيج من أكسيد الحديد وكميات متفاوتة من الطين والرمل، ويتراوح لون هذا المزيج من الأصفر أو البرتقالي الغامق أو الأحمر، إلى البني والفيروزي الفاتح وحتى الذهبي، اعتمادًا على كمية الحديد التي يحتوي عليها.
ويتميز وادي قوس قزح ذو التربة المتعددة الألوان في جنوب غرب الجزيرة بأكثر من 70 لونًا ومجموعة متنوعة من الأحجار والمعادن التي تشمل الدولوميت الأسود والأبيض والرمادي والبيريت والجبس والأنهيدريت والأباتيت وأكاسيد الحديد.
عوامل بيئية وجيولوجية
ويعد الشاطئ الأحمر كتابا جيولوجيا مفتوحا يروي قصة التطور الجيولوجي للجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها 42 كيلومترًا مربعا فقط، وهي مغطاة بالصخور الرسوبية وطبقات من المواد البركانية على سطحها.
ووفقًا للأبحاث، يبلغ العمر الجيولوجي للجزيرة نحو 600 مليون عام، ويرتبط التاريخ الجيولوجي للجزيرة بالقوى التكتونية التي شكَّلت منطقة الخليج العربي. أدى اصطدام الصفيحة العربية بالصفيحة الأوراسية إلى تكوين جبال مطوية وأحواض رسوبية.
مع مرور الوقت، ساهمت هذه القوى في تراكم المعادن الغنية بالحديد في المنطقة، وهي المسؤولة عن اللون الأحمر المميز للرمال الناعمة التي تبدو وكأنها مسحوق.
وبشكل خاص، فإن العامل الأساسي الذي يساهم في اللون الأحمر المذهل للرمال هو وجود المعادن الغنية بالحديد المعروفة باسم الهيماتيت (المادة الأولية لإنتاج الحديد) أو حجر الدم، وهو معدن غني بالحديد يكوّن طبقة من الصدأ على السطح عندما يتعرض للأكسدة (أكسيد الحديد).
تمنح هذه العملية الرمال لونها الأحمر الرائع، مما يخلق مشهدًا بصريا يتناقض بشكل جميل مع مياه الخليج الزرقاء.
وتلعب الظروف المناخية لجزيرة هرمز أيضًا دورا مهما في تشكيل الشاطئ الأحمر، حيث تشهد المنطقة ظروفًا قاحلة بسبب قلة هطول الأمطار، مع غطاء نباتي محدود. نتيجة لذلك، يتسارع تآكل الصخور والمعادن الغنية بالحديد، مما يؤدي إلى تركيز الجسيمات الحمراء في الرواسب الدقيقة على طول الساحل.
علاوة على ذلك، يتغير لون الشاطئ المكثف طوال اليوم حيث يساهم التفاعل بين ضوء الشمس والرمال الغنية بالحديد والمياه المالحة أيضًا في تكثيف درجات اللون الأحمر.
يعزز التفاعل بين بلورات الملح وجزيئات أكسيد الحديد حيوية التلوين، مما يخلق منظرًا طبيعيا سرياليا ومتغيرًا باستمرار يجذب المصورين والجيولوجيين والسياح على حد سواء.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وللماضي خباياه (2)
وللماضي خباياه (2)

الجزيرة

time٠١-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

وللماضي خباياه (2)

" السفر يتركك بلا كلمات، ثم يحولك إلى راوٍ للقصص (ابن بطوطة). لم أخض في حياتي تجربة السفر خارج البلاد من قبل؛ فالأمر إضافة إلى أنه يتطلب المال الوفير: (تذكرة السفر، الحجز الفندقي، الأكل، التجوال…) يتطلب أيضًا إمكانات أخرى، كاللغة التي يمكن بها التواصل مع الآخرين، ومعرفة عاداتهم ونمط عيشهم، حتى تتم كل جوانب الاحترام والتفاهم. والحق أن فرنسا لم تكن في يوم من الأيام غريبة عني، بحكم الترابط التاريخي منذ المعركة التاريخية التي جرت بين جيوش السلطان عبدالرحمن والألوية الفرنسية في معركة إسلي في 14 أغسطس/ آب 1844، هذه المعركة التي دخلها المغرب دفاعًا عن الأمير عبدالقادر، دون معلومات استخباراتية مسبقة تمكّنه من معرفة نقاط القوة والضعف لدى الخصم. دخل المغرب في معركة، ولم يكن ينوي من خلالها سوى حماية الأمير عبدالقادر، الذي طلبت السلطات الفرنسية من المغرب تسليمه، بعد مطاردة دامت أكثر من 13 سنة. خرجت من الماضي الأندلسي لأدخل في الماضي الاستعماري الفرنسي، حينما ظهر لأول مرة عِلم الجيوبوليتيك على يد ماكندر ببريطانيا. هذا العِلم -الذي هو دراسة العلاقة بين المكان والسلطة- فتح الباب أمام القوتين السائدتين آنذاك (فرنسا وبريطانيا) للصراع حول المستعمرات، وكان من حظ المغرب المرير أن وضعت السلطات الفرنسية عينها عليه، توج ذلك بمعاهدة الحماية سنة 1912 بحجة الدفاع عن السلطان عبدالحفيظ، بعد الأحداث الدموية التي شهدتها فاس في 30 مارس/ آذار 1912. ظلت مخيلتي شاردة بين ثنايا الماضي وانكسارات مرايا التاريخ، التي لم نتعلم بعد منها الدروس والعبر رغم مرور السنين والقرون، وكأننا كائنات مجردة من التفكير ذي الرؤية المستقبلية!. لم نتمكن من صقل تجاربنا، التي قال عنها أينشتاين ذات يوم: "المعرفة لا تؤتى إلا بالتجربة، ويظل ما بقي مجرد معلومات." مع وصولنا إلى أورليون orléans، طلب منا السائق الاستمتاع بآخر استراحة على الطريق السيار، قبل التوجه مباشرة إلى جنفيليه (Gennevillier) في الضاحية الباريسية. هنا بدأ زخم من الأسئلة يتهاطل على مخيلتي.. يا ترى، باريس مدينة جميلة بالفعل، كما كنت أرى في الأفلام، أم إن الواقع كفيل بأن يعطينا صورة أخرى عن هذه المدينة العالمية؟ وكنت شغوفًا برؤية نهر السين، وزيارة متحف اللوفر الشهير، والوقوف على رفات جون جاك روسو وفولتير، اللذين وضعا في متحف ومقبرة البونتيون (Le Pantheon)، ثم هل بإمكاني زيارة المقبرة الشهيرة "الأب لاشيز" ( Pere-Lachaise)؟ أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال كانت الأسئلة تنهمر عليَّ وكأنني سأستطيع فعل كل هذه الأمور في وقت وجيز.. باريس التي قال عنها مترنيخ يومًا: "إذا أصيبت باريس بالزكام، فاعلم أن أوروبا بأسرها ستصاب بنزلات البرد"!. يبدو أنه الشغف والتطلع لمعرفة واستكشاف عاصمة الأنوار، ما جذبني إليها الجانب الثقافي أكثر من غيره. ولعل هذا الجانب هو الذي دفعني مرارًا لزيارة الحي اللاتيني (Le Quartier latin)، حيث الكتب ولوحات الفنانين، وفرق الموسيقيين الذين يؤدون معزوفات غاية في الجمال في الممرات التي تؤدي إلى مترو الأنفاق، وخزانة الكتب الشهيرة المعروفة بمركز بومبيدو. ولم أتوقع أن أجد باريس مدينة ضخمة، تصعب زيارتها حتى في أيام متتالية، بين الحي اللاتيني في المقاطعة السادسة لباريس، والحي الصيني في المقاطعة الثالثة عشرة، وحي الجزائريين المعروف اختصارًا بباربيص، وأحياء الطبقة الثرية كالمقاطعة الثامنة والمقاطعة السادسة عشرة، والمقاطعات الفقيرة التي تسكنها فئات من المهاجرين كالمقاطعات الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والعشرين، التي كتب عنها إيميل زولا في رواياته كـ"جرمينال" (Germinal). لا أدري كيف أسرت هذه المدينة قلبي، رغم نورها الإيماني الفاتر، وقوتها الظلامية الآخذة في الصلابة. فبين جدرانها المشربة ببرودة قرون من التجارب، وهوائها الذي يمتزج فيه الصفاء مع الرومانسية، وتطاير كؤوس القهوة والمطاعم التركية التي تفوح منها رائحة الشاورما لتعطي صورة أقل ما يقال عنها إنها غير متناسقة، بين آلاف المواطنين الذين يملؤون أرضيات محطات القطارات كل صباح وكل مساء بغية الذهاب إلى عملهم الروتيني، ومئات المتشردين الذين يخرجون كلما أدلج الليل، في رحلة تسول بين آلاف المسافرين.. متشردون يدعون أنهم في حاجة للأكل وللاستحمام، يحاولون استعطاف الجميع، رغم أن نيتهم صرف تلك النقود في المشروبات الكحولية، أو بقصد تناول المخدرات. أقول هذه الكلمات انطلاقًا من مقارنتي باريس بمدن أخرى، بما فيها مدينتي التي نشأت وترعرعت فيها، وقد قال دو مارتان باج: "إذا أردت أن تحب باريس، فلا بد أولًا أن تجرب العيش في مكان آخر." هي المدينة التي أسرت في يوم من الأيام قلب الكاتب المصري طه حسين، الرجل الذي قال عنها إنها مدينة الجن والملائكة!. لم يكتفِ طه حسين بهذه المقولة، بل ألّف مجموعة قصصية بعنوان: "صوت باريس"، وكأنه يريد أن يحمل ذكريات مرحلة الدراسة الجامعية في العاصمة الفرنسية إلى بلده، في اختيار حميمي لضم هذه الذكريات، وجمعها بين ثنايا كتابه. وازداد اندهاشي لأول مرة حينما أيقنت أن باريس بضواحيها تضم ثلاث عشرة جامعة، ومدرسة للدراسات الجيوسياسية، ومركزًا للدراسات الشرقية، وهو المعروف اختصارًا بـ"INALCO"، ومدرسة عليا للعلوم السياسية، معروفة بـ"Sciences Po".. أدركت حينها أن تأخرنا وتشرذمنا مرده إلى تقشف حكوماتنا في الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي، وما دمنا على هذا النهج فسنظل دومًا في نقطة الصفر، في زمن عرفت فيه عجلة الذكاء الاصطناعي سرعة تفوق الخيال. ليث شعري، لو كانت هذه الإمكانات الدراسية موجودة في بلادنا العربية، حينها سيسمع العالم عن عباقرة بصوت ولكنة عربيين، ولكن العيب في أمة لم تتدرب منذ نعومة أظفارها على حب الكتاب، والتشبع بالسياسة والفكر. لكن، لماذا كل هذا العناء؟ فحكامنا يريدون عقولًا فارغة، تعفيهم من كثرة السؤال والقيل والقال، في زمن غيبوبة البال وتقلب الأحوال، ليصير الجهل مقدرًا بالمال، وذو العقل مكبلًا بالأغلال.

"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟
"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟

الجزيرة

time١٢-٠٣-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"شلال دماء" في جزيرة هرمز الإيرانية.. كيف يفسر العلم هذه الظاهرة؟

وصفها ابن بطوطة في القرن الثالث عشر الهجري في رحلته الشهيرة، فقال إنه وصل إلى هرمز الجديدة وهي جزيرة ومدينتها تسمى جرون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان. لكن يبدو أن هذه الجزيرة باتت تمتلك سمعة أخرى مختلفة تماما، فقبل عدة أشهر تسببت الأمطار الغزيرة في جزيرة هرمز الواقعة جنوبي إيران في تكوين مشهد فريد يوحي باندلاع معركة دموية داخل المياه وعلى رمال الشاطئ الأحمر الدموي الساحر، وخلَّفت المياه المتدفقة ما يطلق عليه البعض وصف "شلال نادر من الدماء". منذ نشره، اجتذب مقطع الفيديو الكثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبينما تفاجأ البعض، لم يستطع آخرون التوقف عن التعليق على جمال هذا الحدث غير المعتاد. وللوهلة الأولى، اعتقد عدد من الأشخاص الذين كانوا يراقبون هذا المشهد المخيف باستمتاع أنها "شلالات دماء". في الواقع، وعند اكتشافه للمرة الأولى، اعتقد العديد من الناس على أرض الجزيرة التي يسكنها نحو 3000 نسمة، أن حدثًا كارثيا في طريقه إليهم، معتقدين أن الشاطئ كان مغطى بالدماء، لكن هذا كان مجرد تخيل منهم. سر المياه الحمراء ما شاهده الناس هو ظاهرة طبيعية نادرة تحدث نتيجة التركيز العالي لأكسيد الحديد في تربة الجزيرة، فعند هطول الأمطار تتفاعل المياه مع هذه المادة، وتُصبغ بهذا اللون الداكن. وبالطبع، فإن التدفق الكبير للمياه ووصولها إلى شواطئ الجزيرة يحوّل مياه ورمال البحر القريبة من اليابسة إلى هذا اللون المميز أيضًا، في مشهد فريد من نوعه يعطي الشاطئ مظهرًا من عالم آخر. هذه الظاهرة الفريدة تشبه التلوين المذهل لنهر تينتو في إسبانيا، حيث تنتج التركيزات العالية من الحديد والمعادن الأخرى المختلفة لونًا أحمر مكثفًا مماثلًا في الماء. وإذا قمت بكشط الرمال على الشاطئ، فستجد رمالًا حمراء زاهية اللون تحتها. هذه الرمال الداكنة تجعل أمواج البحر تكتسب لونًا أكثر كثافة واحمرارا، وبمجرد الاستحمام في هذه المياه، فإن جسدك سيُصبغ بهذا اللون، وتظل الصبغة على بشرتك لأيام. أصباغ طبيعية أكسيد الحديد هو مركب كيميائي يتكون من الحديد والأكسجين، وتُستخدم هذه المادة بشكل عام كأصباغ طبيعية أو قد يتم استخدامها في أغذية الحيوانات الأليفة، وفي تصنيع الحلويات وتلوين الطعام، كما يتم الاعتماد عليها في صناعة خبز محلي يُطلق عليه غالبًا اسم "تومشي". وبعيدًا عن الاستخدامات الطهوية، تدخل هذه الأكاسيد أيضًا في الأغراض الصناعية وتصنيع مستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية والسيراميك وصباغة الأقمشة والدهانات، وتُستخدم لتلوين المنتجات، وفي الرسم والطبخ والأعمال الطبية والفنية، حتى إن السكان المحليين يستخدمونها كتوابل في أطباقهم مثل الصلصات والمربيات وغيرها. ويذكر أنها تلعب دورًا مهمًا في المطبخ الإيراني، وخاصة في تحضير طبق تقليدي يسمى "سوراخ"، وهو عبارة عن حساء سمك وأرز لذيذ يجسد نكهات المنطقة، مما يبرز بشكل أكبر الموارد الغنية والتراث الثقافي للجزيرة. والمغرة الحمراء أو مغرة الحديد -التربة الحمراء التي يطلق عليها السكان المحليون اسم "جلاك"- من أهم صادرات المنطقة، وتجذب العديد من السياح، مما جعل البعض يصف هذه المادة بالثروة الاقتصادية العظيمة. وتتكون المغرة التي تعطي كلا من الرمل والماء لونهما الأحمر، من مزيج من أكسيد الحديد وكميات متفاوتة من الطين والرمل، ويتراوح لون هذا المزيج من الأصفر أو البرتقالي الغامق أو الأحمر، إلى البني والفيروزي الفاتح وحتى الذهبي، اعتمادًا على كمية الحديد التي يحتوي عليها. ويتميز وادي قوس قزح ذو التربة المتعددة الألوان في جنوب غرب الجزيرة بأكثر من 70 لونًا ومجموعة متنوعة من الأحجار والمعادن التي تشمل الدولوميت الأسود والأبيض والرمادي والبيريت والجبس والأنهيدريت والأباتيت وأكاسيد الحديد. عوامل بيئية وجيولوجية ويعد الشاطئ الأحمر كتابا جيولوجيا مفتوحا يروي قصة التطور الجيولوجي للجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها 42 كيلومترًا مربعا فقط، وهي مغطاة بالصخور الرسوبية وطبقات من المواد البركانية على سطحها. ووفقًا للأبحاث، يبلغ العمر الجيولوجي للجزيرة نحو 600 مليون عام، ويرتبط التاريخ الجيولوجي للجزيرة بالقوى التكتونية التي شكَّلت منطقة الخليج العربي. أدى اصطدام الصفيحة العربية بالصفيحة الأوراسية إلى تكوين جبال مطوية وأحواض رسوبية. مع مرور الوقت، ساهمت هذه القوى في تراكم المعادن الغنية بالحديد في المنطقة، وهي المسؤولة عن اللون الأحمر المميز للرمال الناعمة التي تبدو وكأنها مسحوق. وبشكل خاص، فإن العامل الأساسي الذي يساهم في اللون الأحمر المذهل للرمال هو وجود المعادن الغنية بالحديد المعروفة باسم الهيماتيت (المادة الأولية لإنتاج الحديد) أو حجر الدم، وهو معدن غني بالحديد يكوّن طبقة من الصدأ على السطح عندما يتعرض للأكسدة (أكسيد الحديد). تمنح هذه العملية الرمال لونها الأحمر الرائع، مما يخلق مشهدًا بصريا يتناقض بشكل جميل مع مياه الخليج الزرقاء. وتلعب الظروف المناخية لجزيرة هرمز أيضًا دورا مهما في تشكيل الشاطئ الأحمر، حيث تشهد المنطقة ظروفًا قاحلة بسبب قلة هطول الأمطار، مع غطاء نباتي محدود. نتيجة لذلك، يتسارع تآكل الصخور والمعادن الغنية بالحديد، مما يؤدي إلى تركيز الجسيمات الحمراء في الرواسب الدقيقة على طول الساحل. علاوة على ذلك، يتغير لون الشاطئ المكثف طوال اليوم حيث يساهم التفاعل بين ضوء الشمس والرمال الغنية بالحديد والمياه المالحة أيضًا في تكثيف درجات اللون الأحمر. يعزز التفاعل بين بلورات الملح وجزيئات أكسيد الحديد حيوية التلوين، مما يخلق منظرًا طبيعيا سرياليا ومتغيرًا باستمرار يجذب المصورين والجيولوجيين والسياح على حد سواء.

الكشري هندي والفول مصري والملوخية طعام الملوك.. تاريخ أشهر الأطعمة الشعبية
الكشري هندي والفول مصري والملوخية طعام الملوك.. تاريخ أشهر الأطعمة الشعبية

الجزيرة

time١١-٠٣-٢٠٢٥

  • الجزيرة

الكشري هندي والفول مصري والملوخية طعام الملوك.. تاريخ أشهر الأطعمة الشعبية

نستمتع بأكل الأطعمة المفضلة، لكن كثيرا منا لا يعرفون أصول هذه الأغذية وجذورها التاريخية، مع أن تاريخها غالبا ما يحمل نكهات ومفارقات أشهى من نكهات الوصفة المأكولة. في السطور التالية، نحاول رصد الجذور التاريخية للكشري والفول والملوخية والفتة والحواوشي، فقد كان لهذه الأطعمة الرائجة في مصر وبلاد الشام قصص شائقة، منها ما يعود إلى عصر الفراعنة، الذين أكلوها ورسموها على جدرانهم. مرت تلك الأطعمة بمراحل تاريخية كثيرة، تركت آثارها على الطعم النهائي للوجبة، بعضها يعود لأسباب صحية، وبعضها ناتج عن ظروف اقتصادية وسلطانية بحتة، ولم تزل تلك التفاصيل حاضرة في كل مرة نتذوق فيها طعم هذه الوجبات. الكشري.. وجبة لا تقاوم وصفها ابن بطوطة في الهند أجرت قناة 'سي أن أن' الأمريكية حوارا مع محمد صلاح، نجم الكرة المصري ونادي 'ليفربول' الإنجليزي، وقد فاجأ كثيرا من الناس بقوله: حين أعود إلى مصر، أتصل بصديقي المقرب بعد وصولي إلى المطار، لشراء طبق 'الكشري'، لكي نأكل في السيارة فورا، فأنا لا أقاوم حب هذه الوجبة على الإطلاق. قد يكون أول من ذكر الكشري في التاريخ المدوَّن هو ابن بطوطة في 'تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار'، ففي وصف الهند قال عنه: يطبخون المنجا مع الأرز، ويأكلونه بالسمن، ويسمونه كشري (بالكاف والشين المعجمة والراء) وعليه يفطرون في كل يوم. وتقول أغلب الروايات إن مصر عرفت الكشري عن طريق الهنود، عندما اصطحبهم البريطانيون خلال الحرب العالمية الأولى إلى مصر، وفرضوا الحماية عليها في عام 1914 [1]. لكن آخرين يرون أن لا إثبات على أن الطبق الهندي 'خيجري' أو 'خيجدي' (بالإنجليزية: Khichdi) له علاقة بالكشري، فالطبق الهندي يحتوي على الأرز والعدس فقط، وأما الكشري المصري ففيه مكونات كثيرة، مع الصلصة المصرية وغيرها من الإضافات المميزة. كلمة كشري مشتقة من مصطلح فرنسي جاء من تعبير 'ريز كاشير' ومعناها الأرز المضاف إليه عناصر أخرى، وكان الهنود يسمونه 'كوتشري'، كما كانت في اللغة السنسكريتية (الهندية)، وقد حُرِّفت إلى 'كشري' على لسان المصريين، خلال التبادل التجاري بين الهنود والمصريين. وكان الكشري الهندي خليطا من الأرز والعدس أبو جبة، وهو العدس الحَب، ويقال إنه أطلق عليه (بجبة) في مصر، نسبة إلى علماء الأزهر الذين تظهر في أعلى جبينهم علامة الصلاة، ولأنهم يلبسون جبة. وصفة صنعتها الذائقة المصرية يقول باحثون إن اختلاط المصريين بالجنود الهنود في البيع والشراء، عرّف المصريين بهذه الوجبة، فانتشرت في أحياء القاهرة التي كانت تسكنها مع المصريين أقليات إيطالية أحبت الأكلة أيضا، ثم أضاف لها الإيطاليون المعكرونة التي يحبونها، وأحبَّ المصريون تلك الإضافة. بذلك أصبح الكشري مزيجا من الأرز والعدس والمعكرونة والشعيرية، حتى قرر المصريون إعداده بطريقة مميزة، فأضافوا له الصلصة الحمراء، والدَقّة التي تتكون من الثوم المهروس الممزوج بالخل، والشطة الحمراء. كما أضافوا إليه البصل المُحمّر، ورشّوه على سطح طبق الكشري، بالإضافة إلى الحمص. ومنذ ذلك الوقت أصبح الكشري علامة من علامات المطبخ المصري. ثمة روايات أخرى عن أصل الكشري وتاريخه، تقول إحداها إن أجنبيا دخل مطعما في وقت متأخر من الليل، وطلب طعاما سريعا يسد جوعه الشديد، ولم يكن في المطعم إلا بعض الأرز بالشعرية، وبعض المعكرونة والعدس. فوضع الطاهي قليلا من الصلصة ليخبئ هذه المكونات غير المتناسقة، ثم قدَّمه إلى الرجل، فغضب ورفض أكله، فألح عليه أن يتذوقه، فلما أكله أعجبه. ثم سمى صاحب المطعم هذا الطعام بكلمة كشري، لتجسيد حالة التكشير والغضب التي تبدو على وجه آكل الكشري الذي يُفضل اللحم. الملوخية.. طعام الملوك الذي عافه الفاطميون سميت الملوخية 'طعام الملوك' بسبب قوتها العلاجية. وثمة روايتان حول سبب التسمية، إحداهما أن قدماء المصريين وجدوا أن أوراقها تنمو على ضفاف النيل، ورسموها على جدران مقابرهم، لكنهم لم يأكلوها ظانين أنها نبات سام [2] فسمّوها 'خيّة'، وحينما احتل الهكسوس مصر أجبروا المصريين على أكلها من باب الإهانة، فكانوا يقولوا لهم 'ملو- خية'، و'ملو' تعني كلوا بلغتهم. لكن د. منة الله الدري، المتخصصة في علم النباتات الأثرية، تدحض بعض الادعاءات، التي تقول إن الملوخية كانت معروفة عند قدماء المصريين [3]. أما الرواية الثانية فتقول -وفقا للمقريزي [4] – إن انتشار الملوخية كان على عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه، فقد أكثر زراعتها في بلاد الشام، وأصبحت ذات شعبية جارفة. وفي أيام المعز لدين الله الفاطمي، أعيدت تسمية الأكلة التي توارثها المصريون منذ أجدادهم من المصريين القدماء؛ وقد عجز المعز -مع كل أمجاده التي حققها في حياته- عن هزم الثقافة الشعبية الفرعونية الغارقة في القدم، فقد أصر الشعب على تداول الأكلة، حتى بعد أن وصلت عقوبة زرعها وأكلها إلى القتل. [5] وثمة تعديل على هذه الرواية وفقا للمقريزي؛ إذ يقول إن المعز الفاطمي وجد ألما في البطن، فوصف له الأطباء الملوخية علاجا، وكانت سببا في شفائه، ووجدت الحاشية السلطانية حسن مذاقها، فانتشرت زراعتها في مصر، لكن المعز أراد ألا يأكلها أحد من الحاشية فسمّاها 'ملوكية'. ويقول المقريزي إن الملوخية كانت تزرع وتُهرَّب سرا بين أفراد الشعب، حتى مات الحاكم وأذن خليفته بأكلها. ومع المكانة التي تحتلها الملوخية، أضفى المصريون طقوسا احتفالية خاصة عند إعدادها، تضفي على هذا الطبق الشعبي لمسة مميزة، ولأن 'التقلية' (الثوم والبصل والتوابل والبهارات)، أو ما يسمى 'طشة الملوخية'، هي أساس إعداد الملوخية؛ فقد انصبت الطقوس حولها. الفول المدمس.. حبيب الشعب منذ أيام الفراعنة كلمة فول كلمة مصرية قديمة، وهو نبات وجد في مصر قديما، وكان المصريون القدماء يتخذونه غذاء للحيوانات، كما كانوا يزرعونه ويذكرونه في البرديات وعلى جدران المعابد، وكانت زراعته مفيدة للتربة، ولا سيما بعد زراعة القمح. وبعد احتلال الهكسوس لمصر، عانى المصريون القدماء من الفقر والجوع، وأصبحوا يبحثون عن بدائل للأطعمة، فاختاروا الفول بديلا. وُجدت بذور الفول في أحد قبور الأسرة الثانية عشرة، ويعد من أهم البقول التي عرفها المصريون القدماء منذ عصر الأُسر الأولى. وقد عثر أيضا على بذور الفول في قبور بسقارة وكوم أوشيم من العصر اليوناني الروماني، وهذه البذور محفوظة في المتحف الزراعي في منطقة الدقي بمصر. ومنذ 2000 عام وأكثر، كان الفول يُزرع في جرجا وأسيوط والمنيا والفيوم وضواحيها، وكان يصدّر لجزيرة العرب وبلاد البحر الأبيض المتوسط. ويقال أيضا إن منطقة آسيا الوسطى هي مركز النشوء الأصلي للفول. قصة التدميس يفترض باحثون أن قدماء المصريين عملوا على تدميس الفول في قدور كبيرة، صُنعت من الفخار ثم النحاس ثم الألومنيوم، لكن عالمة النباتات الأثرية د. منة الله الدري تقول: 'لم يأكل المصريون القدماء الفول المدمس' [6] ، في إشارة إلى عدم وجود أدلة كافية. ويبدو أن الفول لم ينتشر إلا في العصر اليوناني الروماني. ويُتصور أنه كان محرما على الكهنة أكل الفول، ولكن لا يمكن القطع بمدى امتداد هذا التحريم فيما بين شرائح المجتمع المصري، لكن الباحثة قالت إنها اكتشفت دليلا على وجود الفول النابت، أو الفول الأخضر، وهو أمر مثير للغاية. في كتابه 'مطبخ زرياب'، يفرد فاروق مردم بك للفول فصلا خاصا، فيقول عنه: يُمتدح الفول بأنه يقوم للفقير مقام اللحم، ولكن هذا الاعتراف بمنافعه الغذائية الكبيرة يجعله في الوقت ذاته أسير وضع اجتماعي، يكاد يتعذر تجاوزه. والواقع أن الفول عالمي من حيث أصوله وتاريخه، وهو يختزن من الأسرار أكثر مما يذخر به من البروتينات والأملاح المعدنية، وربما كان يحتوي على السر الأعظم، سر الحياة والموت. هذا ما آمن به -قبل 4 آلاف سنة- كهنة مصر، وطن الفول، فكانوا يسمّون المكان الذي تقبع فيه أرواح الموتى في انتظار تناسخها من جديد 'حقل الفول' [7]. تعود أصل كلمة مدمس إلى الطريقة التي يطبخ بها الفول، فقد طبخ الفول المدمس بدفنه في الوقود والرماد، وكلمة مدمس هي كلمة قبطية تعني المطمور أو المطبوخ تحت الأرض. وأصل الكلمة هي 'تمس'، وقد حُرفت في اللغة العربية إلى دمس ثم إلى مدمس. ويقال إن أول من عرف الفول رجل يوناني يدعى 'ديموس'، وفي ذلك الزمان لم تكن بالمنازل حمّامات، بل كانت الحمامات عمومية، وخلف كل حمام مستودع للقمامة تُحرق فيه، حتى تسخن حرارة النار مياه الحمام. وتقول الرواية إن 'ديموس' كان يمتلك أحد هذه الحمامات، وذات يوم راودته فكرة أن يدس قدر الفول بالقمامة المشتعلة حتى يستوي، وقد نجحت تجربته، ومن هنا كانت بداية المصريين مع الفول. الحواوشي.. أكلة الفقراء اللذيذة تروي مصادر متطابقة أن أنور مصطفى الحواوشي كان أول من ابتدع رغيف 'اللحم المفروم بالتوابل والبصل داخل الفرن'، واتخذه وجبة سريعة مكونة من اللحم لطلبة الجامعة في القاهرة. ولأنه كان المبتكر والمحتكر لهذا الرغيف، فقد سمي نسبة إلى اسمه الحواوشي. كان رغيف الحواوشي في البداية محشوا باللحم والكبد، حتى طوّر محمد مصطفى الحواوشي (توفي عام 2018) اختراعَ والده، وابتكر -في محله بسوق الخضار في العتبة الخضراء- أنواعا جديدة من الحواوشي، محشوة بالسجق والقلب والكلاوي ومزيج من اللحوم. لكن يبقى 'الحواوشي' المصنوع من اللحم المفروم هو الأشهر والمفضّل لدى معظم المصريين. جاء في كتاب 'المنصورة قصص وتاريخ' للدكتور إيهاب الشربيني أن مصطفى الحواوشي كان يتفنن في تقطيع اللحوم بطريقة تعلمها من اليونانيين، فيخلصها من القطع غير المرغوبة، ويوصلها إلى علية القوم في ذلك الزمان. وقد أراد أن يستفيد من تلك البواقي، فخلطها بالتوابل، ووضعها في رغيف، ثم طبخها في الفرن، فخرجت بطعم أشهى من اللحم نفسه، وباعها للغلابة بأسعار زهيدة، وفور تنفيذها اشتهرت بين المصريين، وانتشرت بشكل كبير، واقترن اسمه بها، فكان من يريد هذه الأكلة يطلب رغيف الحواوشي، واستمر إطلاق اسمه حتى الآن. [8] وصفة من تاريخ مصر القديم تقول سميرة عبد القادر، مؤسِسة مبادرة 'توثيق المطبخ المصري'، إن مصطفى الحواوشي لم يخترع بل أعاد صناعة وصفة مصرية قديمة، ورد ذكرها في كتاب 'الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب'، وهو كتاب يضم مجموعة من وصفات الطبخ تعود للقرن الثالث عشر، للمؤلف ابن العديم الحلبي [9]. وتروي سميرة أن الحواوشي قديما كان يسمى 'الخبز باللحم'، فتقول: ينقسم الحواوشي إلى نوعين؛ المصري والإسكندراني. والنوعان انتقلا إلى بلاد الشام في القرن الثالث عشر تقريبا. وقد حمل الحواوشي المصري في بلاد الشام اسم 'عرايس'، أما الحواوشي الإسكندراني فيُسمّى 'لحم بعجين'. ويُفترض أن أصل الحواوشي يعود إلى العصور القديمة، فقد كانت الإسكندرية مركزا للتجارة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب. يتكون الحواوشي الإسكندراني من خبز العجين الرقيق المحشو بشرائح اللحم المشوية والبهارات والبصل والطماطم والخُضر المشوية. ويتصور أن هذا الطبق كان يعدّ في أصله بلحم الحوشي (الخروف أو العجل)، ومن هنا جاءت تسميته بـ'حواوشي'. ومع مرور الوقت، تطورت الوصفة وأصبحت تشمل أنواعا شتى من اللحوم، منها الدجاج والكفتة. أما مكاوي سعيد فيقول في كتابه 'مقتنيات وسط البلد': يعود أصل الكلمة إلى قرية (الحواويش) بمحافظة سوهاج بصعيد مصر، وهي بلد أنور الحواوشي، الذي افتتح محل جزارة عام 1935 بالعتبة. وكان أنور يدرس في جامعة الأزهر، وبعد عودته من الجامعة كان يضع اللحم المفروم داخل رغيف بلدي، ويدخله الفرن.. ثم أضاف إليه الكبدة والبفتيك ويأكله طعاما للغداء' [10]. الفتة.. جذور فرعونية تزينها تحسينات تاريخية يقول بعض الناس إن الفتة فرعونية الأصل، وكان القدماء المصريين أول من أعدوها، وسموها 'فتة' لأنها تُصنع من فتات الخبز، ويضاف إليه الأرز ومرقة اللحم أو اللبن. ولاحتوائها على عناصر غذائية عالية، كانت تُقدَم لملوك مصر القديمة. حكاية أول وصفة فتة عرفها التاريخ تحكيها نقوش معبد سوبيك، وتشير إلى قصة الكاهنة المصرية 'كارا' التي ذبحت خروفا، وحشته بالبرغل والبصل، وزيّنته بالباذنجان المقلي، وفتتت فيه قطع الخبز، وأضافت لها المرق والثوم والخل والبصل، ثم قطعته ووزعته في عيد الإله. بعد دخول الإسلام إلى مصر صار للفتة شأن آخر، فزاد اهتمام الأمراء والخلفاء بها إلى حد كبير. وفي العصر الفاطمي ازدهرت الأكلات الشعبية، وهبات الحكام لعامة الشعب في الأعياد والمناسبات، فاستعادوا 'الفتة'؛ وكان الفاطميون يُكثرون الذبائح في أول أيام عيد الأضحى، ويأمرون الطهاة بإعداد أطباق الفتة باللحم، وتوزيعها على عامة الشعب احتفالا بتلك المناسبة. ظلت الفتة بالخل والثوم الطريقة المعتمدة لدى المصريين، حتى أضاف لها الفاطميون الطماطم المطهية (الصلصة)، فظهرت فتة بالصلصة، تعطي مزيدا من النكهة الطيبة لهذه الأكلة المحببة. ثم تطورت طريقة إعدادها، وأضيفت لها دقة من الثوم والبصل والبهارات والسمن في العصور الحديثة، وتعد بـ'تسقية' مكوناتها بشوربة اللحمة أو الكوارع. وثمة من يقول إن أصل الفتة شامي، وأن المصريين أخذوا طريقة إعدادها من الشام، وأضافوا لها اللمسات المصرية، وكانت تعد من أهم أطعمة الشام في عيد الأضحى وفي عطلة الأسبوع، ويستخدمون أحيانا الحمص بدلا من اللحم في طهيها، والفتة السورية تقدم حتى الآن باسم 'التسقية'. مراجع ومصادر: [1] حسام شورى، تاريخ الطعام (4): الكشري.. اخترعه الهنود وطوره الإيطاليون.. وأخرج المصريون شكله النهائي، موقع «بوابة الشروق» الإلكتروني، 12 مايو 2019. [2] بدون اسم مؤلف، كنز الفوائد في تنويع الموائد، تحقيق: مانويلا مارين وديفيد واينز، فرانتس شتاينر شتوتغارت، بيروت، 1993. [3] Mai Samih, Ancient Egyptian cuisine, Al-Ahram Weekly, Cairo, 16 Sep 2021. [4] تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك، تحقيق: د.جمال الدين الشيال، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2000. [5] هشام اليتيم، الملوخية والمنسف وورق العنب… أكلات بطعم السياسة، موقع 'اندبندنت عربية' الإلكتروني، 20 يوليو 2023. [6] Mai Samih, Op. Cit. [7] فاروق مردم بك، مطبخ زرياب، ترجمة: د.جان ماجد جبور، مشروع كلمة، أبوظبي، 2015. [8] د.إيهاب رجب الشربيني، المنصورة قصص وتاريخ، دار الإيمان، الإسكندرية، 2022. [9] إسلام الكلحي، ليس من بينها الكشري والفول.. 6 أطباق نرشحها لكم عند زيارتكم مصر، موقع 'رصيف 22' الإلكتروني، 21 أبريل 2024. [10] مكاوي سعيد، مقتنيات وسط البلد، دار الشروق، القاهرة، 2010.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store