#أحدث الأخبار مع #الفرعونوالقسّيسالنهار١٧-٠٢-٢٠٢٥سياسةالنهارآل فرعون: الكيانيّة اللبناية ومسؤولية استئناف الحضارة!الدكتور جورج كلاس تشكل عملية تظهير العلاقة المحورية لدور العائلات اللبنانية بين الجذور والحضور، مركزية التأريخات العميقة في عملية تقويم دور العائلات على مقاسات حضورها الوطني والقومي. على هذه النمطية من التعاطي مع الموروثات الاجتماعية والسياسية، يؤرخ الدكتور كمال ديب لمأثورات وتاريخ وتفاعل عائلة فرعون وحضورهم التاريخي، كواحدة مِن العائلات الكيانية ذات الحضور الوازن في وجدان العلاقات المجتمعية العربية، التي جمعت بين المعرفة وفنّ إدارة السياسة وإعلاء الشأن القيمي في تقويم العلاقات وبناء التسويات العادلة على أسس وفاقية تسودها علاقات الرضى وقناعة الفرقاء بأن بناء التوافقات يتطلب تضَلُّعاً من خصائص وماضي كل جماعة ونظرتها المستقبلية إلى ما يمكن أن يكون لصالح الجميع ويتصف برضى ومقبولية من الأكثرية. كتاب "الفرعون والقسّيس" الذي يحكي مأثورات إحدى أبرز العائلات اللبنانية وأكثرها فعلاً في وجودية الكيان اللبناني، وتفاعلاً وانفتاحاً مع البيئات العربية، يؤرخ برصدية فنية وحرفية توثيقية وتدقيقيةٍ علمية، للحضور الفكري والنضال والوجودي لآل فرعون في مسيرتهم الحضارية ومسارهم التاريخي والفكري، ويؤسس لنمط جديد من البحثيات التاريخية المعمقة والمرتكزة على آثار ومتروكات وإنجازات التراث السياسي للعائلات العريقة، مع تركيز على ما قدمته عائلة فرعون للبلاد التي عاشت فيها وتعاملت معها وانتمت إليها والتزمت مبادئها ودافعت عن قيمها، فصادقت ملوكها وأمراءها ورؤساءها وزعماءها، وأسهمت بإنشاء كيانات مجتمعية تستند إلى ثوابت فكرية ذات خصوصيات حضارية مائزة، تنضوي فيها قيم الانتماء والالتزام ومسؤولية الحفاظ على أصالة النسب ولزومية الارتقاء بالموقع ومتابعة حماية كرامة الإرث العائلي من حيث إنه أمانة تاريخية يجب تنميتها بالحضور والفعل والجهد الوطني ومتابعة تطورية الأجيال، بما يؤكد الوفاء للماضي والإيمان بالمستقبل ومتابعة عملية النهوض والحفاظ على الرصيد الشعبي والموقع الوطني والسمعة السياسية ذات الجودة الموصوفة. تشكل القراءة النقدية لكتاب "الفرعون والقسيس؛ آل فرعون، استقلال لبنان ومسار الشرق 1500-2024" للدكتور كمال الديب الباحث المرجعي والعميق الثقافات، مدخلاً علمياً للتركيز على مفاصل هذا الأثر القيِّم الذي تنتظم مضامينه الثرَّة خمسة أبواب موزعة منهجياً على سبعة عشر فصلاً، هي من الأسفار التأريخية التي توثق لنشأة ودور عائلة فرعون وموقعها في الحضور المشرقي، وتظهير أثرها في تركيز كيانية لبنان الحديث على أسس صلبة وتوجهات انفتاحية تتلاقى فيها المبادرات الاندفاعية، الهادفة إلى بناء المجتمعات السياسية، حيث تتضافر الجهود العملية والتضحيات الميدانية والسعي لإثبات الفكر الاستقلالي وتأكيد التفكير السيادي للعائلة ذات المقام النبيل في لبنان وسوريا ومصر، وذلك انطلاقاً من زخم التراكمات التاريخية التي تحكي المرويات وتبرز الخصوصيات التي انمازتْ بها هذه السلالة العريقة على مدى أكثر من خمسمئة وأربع وعشرين سنة من الحضور التفاعلي في البيئة المشرقية واللبنانية خصوصاً، التي تتصف بأن سرَّ نوعيتها الوجودية هو بتنوّعها الحضاري وتكاملياتها الروحية الكنزية الغنى، وبالثراء المعرفي الغارف من وقائع الحوادث والمتعظ من الزمن والمتفهم الواعي للتحديات، والمدرك دقة التعامل مع المتغيرات والمتوقي من فجائية الأحداث، والدائم الحذر من تقلبات الزمن، والتي غالباً ما يتم إلباسها عباءة الثورات والانقلابات، بطابعها السياسي المبرّر، وثوب الخيانات والخيبات بشكلها المرفوض البغيض. الفرعون… من فرعون الماضي إلى فرعون الحاضر، من فرعونٍ مضى إلى فرعونٍ حضر وفرعونٍ دائم الحضور، يعلن ميشال بيار فرعون بيانه الوطني والسياسي، مركزاً على القيم التي تنتظم فكره السياسي وتوازن بين انتمائه الوطني والتزامه الخلقي والقيمي، مستخلصاً من إيجابات الاسئلة التي طرحها عليه المؤلف عناوين واضحة لخطه، في أي موقع كان، مقدماً إجابات صلبة ومعلناً مواقف واضحة، تُرسِّمُ حدود بيانه ومجالات تحركه، مُقدِّراً ظروف كل مرحلة ودقتها، من تنازل ولاتهاونٍ، مُقدِّماً نفسه حامياً للصيغة ومبشراً بديمومة ورسولية الكيان ولعل ما تنماز به عائلة فرعون، في حضورها اللبناني وعمقها العربي وانتشارها الدولي، أنها من العائلات الأرستقراطية غير الطبقية، نهجاً وفكراً وسلوكاً، ما أحلَّها مكانة مرموقة وكرَّسها مقامات وطنية توفيقية تتحمل مسؤلية "مشيخة الصلح" وهندسة التوافقات وإيجاد المخارج اللائقة ومشاريع الحلول لكل ما قد يطرأ من أزمات ويحدث من خلافات ويظهر من نزاعات في الميدان المحلي، فتحضر عندها فطرة "الدهاء الكاثوليكي" كنمط حضورٍ مائز لمرجعيات كاثوليكية شعبية، شاع معها المصطلح اللبناني "الكوتلة"، بمعنى إيجاد نقاط التلاقي بين المتخاصمين وبناء الجسور بين المتعادين، فإذا بعبارة "عم بيكَوْتلوها" تحتل حيّزاً واسعاً من مفهموم التسويات وإزالة التشنجات وقتل الفتن ومنع الصدامات. وقد نجحت سلوكات "الكوتلة" في تحقيق تسويات أهلية وتوافقات وطنية على مستويين: {مستوى علاجي}، يعمل على حلّ الخلافات الطارئة والقائمة بين فرقاء وجماعات وأفراد؛ و{مستوى وقائي}، يستبق ما قد ينشأ من نزاعات ويسعى إلى وضع تفاهمات، تمنع حصول مشاكل مستقبلية وتحدُّ من فعاليتها. في ناموس العراقة العيلية وعلم أصالة النَسَب، يحضر ميزان الشرف. إبرتهُ الكرامة، وكَفَّتاه، الوفاء والشهامة، وقاعدته الأخلاق وخدمة الحق. وعلى صورة الميزان التاريخي ودقة إبرة الزمن، تستوي كفَّتا ميزان البحث العلمي الذي يحمله كمال ديب بيسراه شعاراً للعدالة التاريخية، ويكتبه ياليمنى سفراً من ألواح التاريخ المنقوش على صخور الأيام. هذه الأدبيات النقدية تحصّلت لديّ من خلال قراءتي التقويمية للعناوين الغنيّة واللافتة التي رسمت هذه اللوحة التاريخية وزيّنتها بنمنماتٍ متقنة التفنن والتزيين، استحال معها الكتاب أيقونة معرفية مكتوبة بجهد تأليفي، ومقارنات نقدية انتهى إليها الكاتب بصياغات صلبة وتوثيقات مثبتة ومرويّات مؤكدة، ما جعل هذا الكتاب مرجعية منهجية في علم الأنساب وتأريخ العائلات والبناء عليها في عملية التقويم والاستنتاج، بالارتكاز التتابعي على فنون الرصد والتقميش والعرض والمقارنة والموازنة والتحليل. المبذولات الجهدية التي أنتجها كمال ديب كتاباً يؤرِّخ لخمسة قرون من زمنيات آل فرعون، شكلت طرائق نموذجية لتحديث منهجية التعاطي مع علم الأنساب وأصول كتابة تاريخ العائلة العريقة والتركيز على أدوارها التاريخية وإنجازاتها الحضارية، في الفكر والسياسة والوطنيات وحقول الإيمان، وصولاً إلى تشكيل بعضها الدرع الواقي للمقامات الدينية ودعم كيانيتها نظراً إلى موقعها المجتمعي وتحصين واقعها الوجودي في بيئات إيمانية متعددة. على هذه الخطى انتهج آل فرعون، كتابة تاريخهم بإنجازاتهم وبحضورهم السياسي والدبلوماسي، على وسع انتشاريتهم ومدى توزعاتهم ومحورية الأدوار التي قاموا بها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية بالتوازي مع نسج علاقات رفيعة مع أقطاب المجتمعات التي عاشوا فيها، فانعكست إيجابياتها على كل مَنْ عرفهم من شعوب، وتعامل معهم من جماعات، واستشارهم فكرياً، وشاركهم اقتصادياً وتفاعل معهم اجتماعياً وتعاونوا معه في حقول الخير وميادين الوطنيات والدفاع عن القومية العربية والحضارة المشرقية، التي للمسيحيين علاقة عضوية وتاريخية لصيقة بتاريخهم، وتسكن وجدانهم وترسم مستقبلهم الحضاري الذي تقع عليه مسؤولية استئنافه ومتابعة المهمة من جديد. حصيلة ما انتهى إليه الباحث في عملية الرصد والتجميع والتحقق من كل مسموعة ومكتوبة، أنه نجح في تحويل المجهولات إلى معلومات، من خلال اتباعه تقنية تحميض المرويّات الخام وتظهيرها لوحات إشراقية زاهية التلاوين ودلالية الرموز. على هذه الركائز المعرفية استوت عملية التأريخ العيليّ التي طالت أنشطة آل فرعون وما قاموا به من أدوار وبرعوا فيه من مواقع وارتقوه من مناصب وأكّدوه من حضور في ميادين مختلفة التقت فيها خصال الأرستقراطية والتزاماتها المعتقدية الصلبة وسلوكاتها الراقية. تنماز المنهجية التأليفية المعتمدة في وضع هذا الأثر وإصداره كنتاجٍ معرفي، بأنها تجمع بين علوم التوثيق وتحقيق المخطوطات والتدقيق في الوثائق والنقليات المروية، وتعمد لتقديم كل جديد من الأنبوشات واللُقى بالاستناد إلى بحوث معمقة في المصادر، ودراسات مقارنة بين المراجع، ما جعل من ترتيب المعلومات وتأكيد التواريخ المرافقة للأحداث والضابطة للمواقف، فنّاً علمياً إثباتياً، قاعدته (المعلومة الموثقة، والتاريخ المؤكَّد، والقراءة التاريخية المبنية على فنِّيات التفكيك والتركيب، وتنتهي بالتحليل والتركيز وتقديم المعلومات المعرفية ذات الفائدة التنويرية الكاشفة للجديد والمضيئة على مفاصل تاريخية، لها نكهتها ودلالتها وقيمتها). وعلى هذا النهج، رتّب المؤرِّخ كمال ديب، معلوماته الثرّة التي خلص إليها وأدارها بفنية حرفية جاذبة، تمازجت فيها المعارف بالحشريات التفصيلية، الممتعة للقراءة والجاذبة للانتباه والمفيدة في إعادة تشكيل الذاكرة التاريخية للعائلات المؤثرة في ماضيها، والفاعلة في حاضرها، والواعدة في مستقبلها، في تأكيدية لاستمرارية العلاقة بين الجذور في الفروع، ومسؤولية احترام السمعة السياسية والحضارية للعائلة التي قعَّد أقطابها المتنوّعو القدرات ركائز التفاعل العمقي بين أركان البلدان التي انتموا إليها وعاشوا فيها وأسهموا ببنائية علاقاتها ونجحوا في تظهير صورها. والناظر في مفاصل الكتاب الذي تناولت إضاءاته مراحل الحضور الفرعوني في التاريخ العربي المعاصر، يتبدّى له أن عمق تاريخ العائلة في بلاد الشام يعود إلى جذور الأجداد في بصرى الشام ودمشق، ودورهم الفاعل في نشأة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، مع متابعة دقيقة لهجرة العائلة إلى مصر ونجاحهم في تطوير التجارة وإسهامهم في تحديث الإدارة العامة ورفد النهضة الثقافية بالكثير من العطاءات. وتركيز المؤلف على موقع آل فرعون في أوروبا وعلاقتهم مع إيطاليا والنمسا وفرنسا، شكلت مدخلاً لاكتشاف "سرّ المهنة" عند العيلة وتنوّع ثقافتها وعمق علاقاتها الدولية، هذا السرّ الذي طبع حركة وجودها وفاعلية دورها النموذجي، ومنحها دفعاً في صناعة التوافقات وهندسة العلاقات بين مكونات المجتمع، خصوصاً في لبنان، كمجتمع تفاعلي ورسالي تحكمه القيم والتوازنات. ويتظهر الحضور الفرعوني في فلسطين من خلال النهضة التجارية والنشاط المصرفي الذي شكلت العائلة أحد أبرز أركانه ومحاور فروعه المالية والاستثمارية. كل هذه التمهيدات توصل إلى تقديم مقاربة واضحة للدور الكبير الذي قام به الزعيم الكاثوليكي هنري فرعون في تأسيس دولة الاستقلال وما رافق تلك المرحلة من نضالات واتصالات مع الدول المؤثرة التي ساعدت على حماية الكيان اللبناني وتحصينه من أي استهداف. وبرز الدور الوطني والنضالي لهنري فرعون كبطل استقلالي في إطلاقه لفكرة الحيادية الإيجابية من ضمن طرحه للموقع الثالث وتعامله مع الواقعية التاريخية والحرص على السمعة الوطنية والعربية الطيبة للعائلة. وهذا ما طبع الاتجاهات السياسية لهنري فرعون بإيجابية وازنة رسّخته رجل دولةٍ ذا ثقلٍ تاريخي، تلتقي حوله تطلعات اللبنانيين. وتتوّج إجابات المقابلة التي أجراها المؤلف مع ميشال بيار فرعون، السياسي والنائب والوزير مرحلة تأريخية امتدت لأكثر من خمسمئة سنة من الوجود السياسي والاقتصادي والحضاري، لترسم إطاراً لرؤية وريث العائلة المؤتمن على تراثها الوطني ودورها التوفيقي والذي نجح في بناء جسور التواصل مع الأقطاب والجماعات اللبنانية بكل مستوياتها وتنوعاتها. وهذا ما ساعد على وضع مفهوم حديث لتعاطي السياسة المجتمعية الانفتاحية القائمة على التواصل والتشاور والاحتكام الدائم للدستور المكتوب والميثاق المعيش. كتاب "الفرعون والقسّيس"*، هو كتابة للتاريخ وليس كتابة تاريخية فقط. * سلسلة العائلات اللبنانية. دار النهار. 2024، في 450 صفحة مع ملاحق.
النهار١٧-٠٢-٢٠٢٥سياسةالنهارآل فرعون: الكيانيّة اللبناية ومسؤولية استئناف الحضارة!الدكتور جورج كلاس تشكل عملية تظهير العلاقة المحورية لدور العائلات اللبنانية بين الجذور والحضور، مركزية التأريخات العميقة في عملية تقويم دور العائلات على مقاسات حضورها الوطني والقومي. على هذه النمطية من التعاطي مع الموروثات الاجتماعية والسياسية، يؤرخ الدكتور كمال ديب لمأثورات وتاريخ وتفاعل عائلة فرعون وحضورهم التاريخي، كواحدة مِن العائلات الكيانية ذات الحضور الوازن في وجدان العلاقات المجتمعية العربية، التي جمعت بين المعرفة وفنّ إدارة السياسة وإعلاء الشأن القيمي في تقويم العلاقات وبناء التسويات العادلة على أسس وفاقية تسودها علاقات الرضى وقناعة الفرقاء بأن بناء التوافقات يتطلب تضَلُّعاً من خصائص وماضي كل جماعة ونظرتها المستقبلية إلى ما يمكن أن يكون لصالح الجميع ويتصف برضى ومقبولية من الأكثرية. كتاب "الفرعون والقسّيس" الذي يحكي مأثورات إحدى أبرز العائلات اللبنانية وأكثرها فعلاً في وجودية الكيان اللبناني، وتفاعلاً وانفتاحاً مع البيئات العربية، يؤرخ برصدية فنية وحرفية توثيقية وتدقيقيةٍ علمية، للحضور الفكري والنضال والوجودي لآل فرعون في مسيرتهم الحضارية ومسارهم التاريخي والفكري، ويؤسس لنمط جديد من البحثيات التاريخية المعمقة والمرتكزة على آثار ومتروكات وإنجازات التراث السياسي للعائلات العريقة، مع تركيز على ما قدمته عائلة فرعون للبلاد التي عاشت فيها وتعاملت معها وانتمت إليها والتزمت مبادئها ودافعت عن قيمها، فصادقت ملوكها وأمراءها ورؤساءها وزعماءها، وأسهمت بإنشاء كيانات مجتمعية تستند إلى ثوابت فكرية ذات خصوصيات حضارية مائزة، تنضوي فيها قيم الانتماء والالتزام ومسؤولية الحفاظ على أصالة النسب ولزومية الارتقاء بالموقع ومتابعة حماية كرامة الإرث العائلي من حيث إنه أمانة تاريخية يجب تنميتها بالحضور والفعل والجهد الوطني ومتابعة تطورية الأجيال، بما يؤكد الوفاء للماضي والإيمان بالمستقبل ومتابعة عملية النهوض والحفاظ على الرصيد الشعبي والموقع الوطني والسمعة السياسية ذات الجودة الموصوفة. تشكل القراءة النقدية لكتاب "الفرعون والقسيس؛ آل فرعون، استقلال لبنان ومسار الشرق 1500-2024" للدكتور كمال الديب الباحث المرجعي والعميق الثقافات، مدخلاً علمياً للتركيز على مفاصل هذا الأثر القيِّم الذي تنتظم مضامينه الثرَّة خمسة أبواب موزعة منهجياً على سبعة عشر فصلاً، هي من الأسفار التأريخية التي توثق لنشأة ودور عائلة فرعون وموقعها في الحضور المشرقي، وتظهير أثرها في تركيز كيانية لبنان الحديث على أسس صلبة وتوجهات انفتاحية تتلاقى فيها المبادرات الاندفاعية، الهادفة إلى بناء المجتمعات السياسية، حيث تتضافر الجهود العملية والتضحيات الميدانية والسعي لإثبات الفكر الاستقلالي وتأكيد التفكير السيادي للعائلة ذات المقام النبيل في لبنان وسوريا ومصر، وذلك انطلاقاً من زخم التراكمات التاريخية التي تحكي المرويات وتبرز الخصوصيات التي انمازتْ بها هذه السلالة العريقة على مدى أكثر من خمسمئة وأربع وعشرين سنة من الحضور التفاعلي في البيئة المشرقية واللبنانية خصوصاً، التي تتصف بأن سرَّ نوعيتها الوجودية هو بتنوّعها الحضاري وتكاملياتها الروحية الكنزية الغنى، وبالثراء المعرفي الغارف من وقائع الحوادث والمتعظ من الزمن والمتفهم الواعي للتحديات، والمدرك دقة التعامل مع المتغيرات والمتوقي من فجائية الأحداث، والدائم الحذر من تقلبات الزمن، والتي غالباً ما يتم إلباسها عباءة الثورات والانقلابات، بطابعها السياسي المبرّر، وثوب الخيانات والخيبات بشكلها المرفوض البغيض. الفرعون… من فرعون الماضي إلى فرعون الحاضر، من فرعونٍ مضى إلى فرعونٍ حضر وفرعونٍ دائم الحضور، يعلن ميشال بيار فرعون بيانه الوطني والسياسي، مركزاً على القيم التي تنتظم فكره السياسي وتوازن بين انتمائه الوطني والتزامه الخلقي والقيمي، مستخلصاً من إيجابات الاسئلة التي طرحها عليه المؤلف عناوين واضحة لخطه، في أي موقع كان، مقدماً إجابات صلبة ومعلناً مواقف واضحة، تُرسِّمُ حدود بيانه ومجالات تحركه، مُقدِّراً ظروف كل مرحلة ودقتها، من تنازل ولاتهاونٍ، مُقدِّماً نفسه حامياً للصيغة ومبشراً بديمومة ورسولية الكيان ولعل ما تنماز به عائلة فرعون، في حضورها اللبناني وعمقها العربي وانتشارها الدولي، أنها من العائلات الأرستقراطية غير الطبقية، نهجاً وفكراً وسلوكاً، ما أحلَّها مكانة مرموقة وكرَّسها مقامات وطنية توفيقية تتحمل مسؤلية "مشيخة الصلح" وهندسة التوافقات وإيجاد المخارج اللائقة ومشاريع الحلول لكل ما قد يطرأ من أزمات ويحدث من خلافات ويظهر من نزاعات في الميدان المحلي، فتحضر عندها فطرة "الدهاء الكاثوليكي" كنمط حضورٍ مائز لمرجعيات كاثوليكية شعبية، شاع معها المصطلح اللبناني "الكوتلة"، بمعنى إيجاد نقاط التلاقي بين المتخاصمين وبناء الجسور بين المتعادين، فإذا بعبارة "عم بيكَوْتلوها" تحتل حيّزاً واسعاً من مفهموم التسويات وإزالة التشنجات وقتل الفتن ومنع الصدامات. وقد نجحت سلوكات "الكوتلة" في تحقيق تسويات أهلية وتوافقات وطنية على مستويين: {مستوى علاجي}، يعمل على حلّ الخلافات الطارئة والقائمة بين فرقاء وجماعات وأفراد؛ و{مستوى وقائي}، يستبق ما قد ينشأ من نزاعات ويسعى إلى وضع تفاهمات، تمنع حصول مشاكل مستقبلية وتحدُّ من فعاليتها. في ناموس العراقة العيلية وعلم أصالة النَسَب، يحضر ميزان الشرف. إبرتهُ الكرامة، وكَفَّتاه، الوفاء والشهامة، وقاعدته الأخلاق وخدمة الحق. وعلى صورة الميزان التاريخي ودقة إبرة الزمن، تستوي كفَّتا ميزان البحث العلمي الذي يحمله كمال ديب بيسراه شعاراً للعدالة التاريخية، ويكتبه ياليمنى سفراً من ألواح التاريخ المنقوش على صخور الأيام. هذه الأدبيات النقدية تحصّلت لديّ من خلال قراءتي التقويمية للعناوين الغنيّة واللافتة التي رسمت هذه اللوحة التاريخية وزيّنتها بنمنماتٍ متقنة التفنن والتزيين، استحال معها الكتاب أيقونة معرفية مكتوبة بجهد تأليفي، ومقارنات نقدية انتهى إليها الكاتب بصياغات صلبة وتوثيقات مثبتة ومرويّات مؤكدة، ما جعل هذا الكتاب مرجعية منهجية في علم الأنساب وتأريخ العائلات والبناء عليها في عملية التقويم والاستنتاج، بالارتكاز التتابعي على فنون الرصد والتقميش والعرض والمقارنة والموازنة والتحليل. المبذولات الجهدية التي أنتجها كمال ديب كتاباً يؤرِّخ لخمسة قرون من زمنيات آل فرعون، شكلت طرائق نموذجية لتحديث منهجية التعاطي مع علم الأنساب وأصول كتابة تاريخ العائلة العريقة والتركيز على أدوارها التاريخية وإنجازاتها الحضارية، في الفكر والسياسة والوطنيات وحقول الإيمان، وصولاً إلى تشكيل بعضها الدرع الواقي للمقامات الدينية ودعم كيانيتها نظراً إلى موقعها المجتمعي وتحصين واقعها الوجودي في بيئات إيمانية متعددة. على هذه الخطى انتهج آل فرعون، كتابة تاريخهم بإنجازاتهم وبحضورهم السياسي والدبلوماسي، على وسع انتشاريتهم ومدى توزعاتهم ومحورية الأدوار التي قاموا بها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية بالتوازي مع نسج علاقات رفيعة مع أقطاب المجتمعات التي عاشوا فيها، فانعكست إيجابياتها على كل مَنْ عرفهم من شعوب، وتعامل معهم من جماعات، واستشارهم فكرياً، وشاركهم اقتصادياً وتفاعل معهم اجتماعياً وتعاونوا معه في حقول الخير وميادين الوطنيات والدفاع عن القومية العربية والحضارة المشرقية، التي للمسيحيين علاقة عضوية وتاريخية لصيقة بتاريخهم، وتسكن وجدانهم وترسم مستقبلهم الحضاري الذي تقع عليه مسؤولية استئنافه ومتابعة المهمة من جديد. حصيلة ما انتهى إليه الباحث في عملية الرصد والتجميع والتحقق من كل مسموعة ومكتوبة، أنه نجح في تحويل المجهولات إلى معلومات، من خلال اتباعه تقنية تحميض المرويّات الخام وتظهيرها لوحات إشراقية زاهية التلاوين ودلالية الرموز. على هذه الركائز المعرفية استوت عملية التأريخ العيليّ التي طالت أنشطة آل فرعون وما قاموا به من أدوار وبرعوا فيه من مواقع وارتقوه من مناصب وأكّدوه من حضور في ميادين مختلفة التقت فيها خصال الأرستقراطية والتزاماتها المعتقدية الصلبة وسلوكاتها الراقية. تنماز المنهجية التأليفية المعتمدة في وضع هذا الأثر وإصداره كنتاجٍ معرفي، بأنها تجمع بين علوم التوثيق وتحقيق المخطوطات والتدقيق في الوثائق والنقليات المروية، وتعمد لتقديم كل جديد من الأنبوشات واللُقى بالاستناد إلى بحوث معمقة في المصادر، ودراسات مقارنة بين المراجع، ما جعل من ترتيب المعلومات وتأكيد التواريخ المرافقة للأحداث والضابطة للمواقف، فنّاً علمياً إثباتياً، قاعدته (المعلومة الموثقة، والتاريخ المؤكَّد، والقراءة التاريخية المبنية على فنِّيات التفكيك والتركيب، وتنتهي بالتحليل والتركيز وتقديم المعلومات المعرفية ذات الفائدة التنويرية الكاشفة للجديد والمضيئة على مفاصل تاريخية، لها نكهتها ودلالتها وقيمتها). وعلى هذا النهج، رتّب المؤرِّخ كمال ديب، معلوماته الثرّة التي خلص إليها وأدارها بفنية حرفية جاذبة، تمازجت فيها المعارف بالحشريات التفصيلية، الممتعة للقراءة والجاذبة للانتباه والمفيدة في إعادة تشكيل الذاكرة التاريخية للعائلات المؤثرة في ماضيها، والفاعلة في حاضرها، والواعدة في مستقبلها، في تأكيدية لاستمرارية العلاقة بين الجذور في الفروع، ومسؤولية احترام السمعة السياسية والحضارية للعائلة التي قعَّد أقطابها المتنوّعو القدرات ركائز التفاعل العمقي بين أركان البلدان التي انتموا إليها وعاشوا فيها وأسهموا ببنائية علاقاتها ونجحوا في تظهير صورها. والناظر في مفاصل الكتاب الذي تناولت إضاءاته مراحل الحضور الفرعوني في التاريخ العربي المعاصر، يتبدّى له أن عمق تاريخ العائلة في بلاد الشام يعود إلى جذور الأجداد في بصرى الشام ودمشق، ودورهم الفاعل في نشأة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، مع متابعة دقيقة لهجرة العائلة إلى مصر ونجاحهم في تطوير التجارة وإسهامهم في تحديث الإدارة العامة ورفد النهضة الثقافية بالكثير من العطاءات. وتركيز المؤلف على موقع آل فرعون في أوروبا وعلاقتهم مع إيطاليا والنمسا وفرنسا، شكلت مدخلاً لاكتشاف "سرّ المهنة" عند العيلة وتنوّع ثقافتها وعمق علاقاتها الدولية، هذا السرّ الذي طبع حركة وجودها وفاعلية دورها النموذجي، ومنحها دفعاً في صناعة التوافقات وهندسة العلاقات بين مكونات المجتمع، خصوصاً في لبنان، كمجتمع تفاعلي ورسالي تحكمه القيم والتوازنات. ويتظهر الحضور الفرعوني في فلسطين من خلال النهضة التجارية والنشاط المصرفي الذي شكلت العائلة أحد أبرز أركانه ومحاور فروعه المالية والاستثمارية. كل هذه التمهيدات توصل إلى تقديم مقاربة واضحة للدور الكبير الذي قام به الزعيم الكاثوليكي هنري فرعون في تأسيس دولة الاستقلال وما رافق تلك المرحلة من نضالات واتصالات مع الدول المؤثرة التي ساعدت على حماية الكيان اللبناني وتحصينه من أي استهداف. وبرز الدور الوطني والنضالي لهنري فرعون كبطل استقلالي في إطلاقه لفكرة الحيادية الإيجابية من ضمن طرحه للموقع الثالث وتعامله مع الواقعية التاريخية والحرص على السمعة الوطنية والعربية الطيبة للعائلة. وهذا ما طبع الاتجاهات السياسية لهنري فرعون بإيجابية وازنة رسّخته رجل دولةٍ ذا ثقلٍ تاريخي، تلتقي حوله تطلعات اللبنانيين. وتتوّج إجابات المقابلة التي أجراها المؤلف مع ميشال بيار فرعون، السياسي والنائب والوزير مرحلة تأريخية امتدت لأكثر من خمسمئة سنة من الوجود السياسي والاقتصادي والحضاري، لترسم إطاراً لرؤية وريث العائلة المؤتمن على تراثها الوطني ودورها التوفيقي والذي نجح في بناء جسور التواصل مع الأقطاب والجماعات اللبنانية بكل مستوياتها وتنوعاتها. وهذا ما ساعد على وضع مفهوم حديث لتعاطي السياسة المجتمعية الانفتاحية القائمة على التواصل والتشاور والاحتكام الدائم للدستور المكتوب والميثاق المعيش. كتاب "الفرعون والقسّيس"*، هو كتابة للتاريخ وليس كتابة تاريخية فقط. * سلسلة العائلات اللبنانية. دار النهار. 2024، في 450 صفحة مع ملاحق.