٢٥-٠٧-٢٠٢٥
القوة فوق الحق
أثارت التصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي، التى دأب فيها على التلويح باستخدام القوة لفرض واقع جديد فى أكثر من موضع من مواضع الصراع فى العالم، قلق المفكرين الإستراتيجيين والسياسيين من أن تلك النوعية من التصريحات تعد ردة إلى زمن شريعة الغاب التى «تُشرعن» الغزو؛ حيث تأتى القوة قبل الحق ــ الحقوق...
حول هذا الموضوع، الجد خطير، نشرت دورية الفورين أفيرز الأمريكية العتيدة فى عددها الصادر هذا الشهر (عدد يوليو/أغسطس 2025) دراسة بعنوان: «القوة تنقض الحق: الانهيار الكارثى للضوابط المناهضة لاستخدام القوة»Might Unmakes Right: The Catastrophic Collapse of Norms Against the Use of Force؛ أعدها اثنان من أساتذة القانون بجامعة ييل(رئيسة الجمعية الأمريكية للقانون الدولي، وسكوت شابيرو، وقد قاما بتأليف مشترك لكتاب «الأمميون: كيف أدت خطة جذرية لحظر الحرب إلى إعادة تشكيل العالم».).
ينطلق أستاذا القانون فى دراستهما من رصد مكثف لتصريحات ترامب خلال الأشهر الأولى من ولايته الرئاسية الثانية التى هدد من خلالها باستخدام القوة العسكرية لحسم أكثر من نزاع حول العالم، أو لاستيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على مواقع استراتيجية لإدارتها عنوة. وبغض النظر عن مدى ودرجة جدية تلك التصريحات. إلا أنها تعكس، فى حقيقتها، الإصرار والتعمد فى التعدى على المبادئ العتيدة لنصوص ومبادئ القانون الدولى ومرجعيته المنظمة للعلاقات بين الدول التى تمنع استخدام القوة العسكرية فى حل النزاعات. وكيف أن إفراط ترامب فى التلويح باستخدام القوة، على حساب الحقوق والشرعيات بمختلف أشكالها، يمثل عودة إلى ما قبل القرن العشرين، إلى زمنٍ كان فيه السياسيون والقانونيون يرفعون شعار «حق الغزو» Right of Conquest؛ ويبررون بل ويشرّعون استخدام القوة لشن الحروب والاستيلاء على أراضى ومقدّرات الغير.
وفى هذا المقام، يُذكر الباحثان بأمرين هما: الأول: معاهدة كيلوج ــ برييان التى وقعتها 15 دولة فى باريس نهاية أغسطس 1928، التى جرمت نصوصه الحروب العدوانية وعدم شرعيتها، كما حرمت غزو البلدان. والثاني: ميثاق الأمم المتحدة المُعتمد عام 1945، الذى لم يثبت، فقط، ما تم التوافق عليه قبل 17 عاما فى باريس. بل شدد، صراحة وبجلاء، نصا، على حظر التهديد ــ أصلا ــ باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة ووحدة أراضى دولة أخرى. وتوافقت الدول الأعضاء، من خلال الخبرة التاريخية، على مساندة المبادئ الداعمة للحق والشرعية من خلال آليات سلامية وحوارية واقتصادية تيسر ترسيخ الشرعية الدولية.
بالطبع، لم تمنع المعاهدات والمواثيق الدولية المذكورة الحروب أو الغزوات، إلا أن الباحثَين القانونيين، من خلال توثيق تاريخى معمق ومركّز، يؤكدان أن»الحروب قد تراجعت بعض الشيء، بل باتت أقل انتشارا ــ بدرجة أو أخرى ــ خلال العقود التى تلت الاتفاقات والتسويات التى أنهت الحرب العالمية الثانية. ويدلل الباحثان على ذلك من خلال رصدهما انخفاض عدد الدول التى تم غزوها conquered؛ من قبل دول أخرى، وما ترتب على هذا الغزو ــ فى بعض الحالات ــ من «استقطاع» مساحات من الدول التى تم غزوها لصالح الدول الغازية. ومن ثم رسم حدود جديدة فى ضوء هذه الغزوات وتلك الاستقطاعات. ويقدر أستاذا القانون انخفاض المساحات التى استولت عليها دول أجنبية سنوياً إلى أقل من 6%، مقارنة بالغزوات الحربية التى كانت تتم على مدى قرن من الزمان سبق معاهدة 1928الباريسية، وميثاق 1945 الأممي.
بيد أن الباحثين يربطان بين إدارة بوش الابن (2001 ــ 2008) المدعومة بالصقور المحافظين: السياسيين والدينيين؛ والخروج السافر للولايات المتحدة الأمريكية على المعاهدات الدولية التى تلزم الدول بعدم غزو دول أخرى وذلك عندما قررت الإدارة الأمريكية المحافظة ــ النفطية المصالح ــ غزو العراق تأسيسا على حجة واهية، بل وكاذبة حسبما تبين لاحقا.
إلا أن ما اقترفته إدارة بوش من خروج على المبادئ الدولية لم تواكبه أى تصريحات علنية من قبلها تضرب عرض الحائط بتلك المبادئ. على النقيض، تماما، فلقد وضح أن ترامب غير آبه بالكلية فى الالتزام بالضوابط التى وضعتها الأسرة الدولية للنظام العالمى ما بعد الحرب العالمية الثانية الذى يُحرم/يُجرم استخدام القوة لحصول أى دولة على ما ليس لها من دولة أخرى سواء كانت أراضى أو مقدرات أو غير ذلك من منافع. ومن ثم رصد الباحثان كيف استعاد ترامب ــ من خلال تصريحاته ــ منطق شن الحرب أو التهديد بها كوسيلة رئيسية لحل خلافات الدول. وهو النهج الذى تلقفه رئيس وزراء الكيان الإبادى ومارسه فى غزة. كما نتج عن تهديدات ترامب الخاصة ببنما استجابة للمطالب الترامبية، كذلك قبلت كييف بالتوقيع على اتفاقية تتيح للولايات المتحدة الأمريكية حق الوصول إلى موارد بعد أن هددها ترامب بالسماح لبوتين بأن يضم أجزاء من الأراضى الأوكرانية.
وينبه الباحثان إلى أن السلوك الترامبى التهديدى يعد انتقاصا للحظر المفروض على استخدام القوة والتهديد بها للنيل من أصحاب الحق. ما يعنى حكما ــ عودة التقاتل حول الجغرافيا السياسية وثرواتها ومزاياها الاستراتيجية وفق المنطق «الهوبزي»، (نسبة للفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز 1588 ــ 1679 القائل بتحويل العالم إلى غابة شريعتها القوة والصراع ومن ثم البقاء للأقوى دون أى اعتبار للحقوق)، الذى يترتب عليه تداعيات كارثية منها: تجدد حروب الغزو/الغزوات الحربية، وتسارع وتيرة سباق التسلح العالمي، وانكماش التجارة العالمية، وتصدع آليات التعاون الدولى المنوط بها مواجهة التهديدات العالمية المشتركة. كما يحذران من الردة التى ستلحق بالقانون الدولى من جراء إطلاقية استخدام القوة.
وبعد، يستدعى أستاذا القانون عبارة ذات دلالة للمؤرخ الإغريقى «ثوسيديديس (Thucydides) (460 ــ 395 ق.م.) وردت فى كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيسية «تقول: «يفعل الأقوياء ما يشاءون لفرض إرادتهم، ويعانى الضعفاء الرضوخ لما يُفرض عليهم عنوة»، وذلك للتدليل على الممارسة الترامبية ــ والتى من المرجح أنها سوف تفتح الباب على مصراعيه، إضافة إلى إسرائيل، لممارسته ــ التى تقوم على منطق: الغلبة/القوة/العنف فى إدارة الشأن الدولى وإن جار على الحق/الحقوق.