logo
#

أحدث الأخبار مع #المرآةالسوداء

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • ترفيه
  • الجزيرة

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store