logo
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

الجزيرةمنذ 14 ساعات

لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور.
في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين.
يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي.
ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته.
هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟
تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟
وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية.
واقع اليوم هو مستقبل الأمس
سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم.
يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق.
اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا.
تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها.
قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة
أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل.
يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار.
يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل.
يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين.
وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية.
تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها.
قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام.
وسيط للانتقام والتشوه النفسي
ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها.
ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما.
وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة.
تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل.
الواقع المزيف وقلق الحقيقة
'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع.
إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا.
إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية.
من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا.
الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة.
تيه بين نسخ الواقع المتصارعة
أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها.
إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم.
فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة.
يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات.
من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟
يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية.
أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية
نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار.
يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته.
في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية.
هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم.
جانب التكنولوجيا المشرق
لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة.
ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر.
في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة.
وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع.
ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل.
تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هيئة المعاشات المصرية تعتبر الفنان عبد الرحمن أبو زهرة متوفيا بعد بلوغه الـ 90
هيئة المعاشات المصرية تعتبر الفنان عبد الرحمن أبو زهرة متوفيا بعد بلوغه الـ 90

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

هيئة المعاشات المصرية تعتبر الفنان عبد الرحمن أبو زهرة متوفيا بعد بلوغه الـ 90

تصدر اسم الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة عناوين الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، بعد أن كشف نجله عن توقف صرف معاش والده بشكل مفاجئ، رغم تجاوزه الـ90 من العمر. أثار الموقف حالة من الجدل والتعاطف الشعبي، خاصة مع القيمة الكبيرة التي يمثلها الفنان في تاريخ الفن المصري عقب تداول الأزمة، تلقى الفنان عبد الرحمن أبو زهرة اتصالا هاتفيا من الرئيس عبد الفتاح السيسي للاطمئنان على صحته، مؤكدًا تقديره لما قدمه من عطاء فني وثقافي على مدى عقود. الرد الرسمي من هيئة التأمينات عقب نشر المنشور، أكد نجل الفنان عبد الرحمن أبو زهرة أن الأزمة المتعلقة بتوقف صرف معاش والده لاقت استجابة سريعة من الجهات المعنية. وأوضح أن الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية، تواصل معه فورا وسعى لحل المشكلة بالتنسيق مع الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي. وأضاف أن اللواء جمال عوض، رئيس مجلس إدارة الهيئة، تواصل معه شخصيا، وقدّم اعتذارا رسميا باسم الهيئة عما حدث من خطأ تقني، مؤكدا احترامه وتقديره للفنان عبد الرحمن أبو زهرة. وأشار إلى أن رئيس الهيئة لم يكتفِ بالاعتذار الهاتفي، بل أوفد وفدا من الهيئة إلى منزل الأسرة لتقديم الاعتذار بشكل مباشر، مصحوبا بباقة ورد، تعبيرا عن التقدير والاحترام. ونظرًا لعدم قدرة الفنان على استقبال الوفد، قام نجله باستقبالهم نيابة عن العائلة، مقدمًا شكره لهم على هذه اللفتة، وأكد أنه تلقى الوثائق الرسمية التي تثبت حل المشكلة على النظام وإعادة صرف المعاش. واختتم نجل الفنان تصريحاته بتوجيه الشكر للدكتور أشرف زكي، ولكل من تفاعل وتابع وأسهم في حل الأزمة بسرعة واحترام. من جهته، أوضح اللواء جمال عوض، رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، السبب الحقيقي وراء توقف صرف المعاش. وأكد عوض، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج "حضرة المواطن"، أن ما حدث يعود إلى خلل تقني ناتج عن عدم تسجيل الرقم القومي لبعض الحالات القديمة ضمن قاعدة بيانات الهيئة، مشيرا إلى أن بعض هذه الحالات تعود لفترة الستينيات والسبعينيات، مما أدى إلى تعذر الربط الرقمي الحديث معها. وخلال المداخلة، أقر اللواء عوض بأن ما حدث هو خطأ غير مقصود، وقدم اعتذارا رسميا للفنان عبد الرحمن أبو زهرة ولكل المتضررين، مشيرا إلى أن المشكلة تم حلها فورا بعد تداول منشور من نجل الفنان عبر وسائل التواصل. معاشات 325 شخصا مهددة وكشف رئيس هيئة التأمين الاجتماعي أن الفنان أبو زهرة لم يكن الحالة الوحيدة، بل إن الأزمة طالت 325 شخصا من كبار السن، جميعهم تجاوزوا الـ90 عاما، وتوقف صرف معاشهم بسبب غياب أرقامهم القومية عن النظام الرقمي الجديد. ورغم أن الرقم يبدو صغيرا نسبيا مقارنة بإجمالي عدد المستفيدين من المعاشات في مصر والذي يبلغ نحو 11 مليون شخص، فإن توقيت الأزمة وطبيعة الفئة المتضررة من كبار السن، أثارت قلقا واسعا بين المصريين. وأضاف عوض أن الهيئة تحركت بسرعة فور اكتشاف الخلل، وتم التواصل مع الحالات المتضررة لتحديث بياناتها واستئناف الصرف بشكل فوري، مضيفًا أن الهيئة تسعى إلى تنقية قواعد البيانات وضمان ألا تتكرر هذه المشكلة مستقبلا، خاصة مع المسنين الذين يعتمدون على المعاش كمصدر دخل رئيسي.

رواية "حارة الصوفي".. التأريخ بين قبعة الاستعمار وطربوش الهُوية
رواية "حارة الصوفي".. التأريخ بين قبعة الاستعمار وطربوش الهُوية

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

رواية "حارة الصوفي".. التأريخ بين قبعة الاستعمار وطربوش الهُوية

في رواية "حارة الصوفي" الصادرة عن دار دون المصرية عام 2024، يقدم الكاتب المصري محمد عبد العال الخطيب (1973) موضوعا تأريخيا شائكا لم يُطرح كثيرا في الرواية العربية، وهو مرحلة ما بعد الثورة المهدية في السودان ووضع السودانيين الذي أُجبروا على الرحيل من السودان والسكن في مصر، وتحديدا في حارة الصوفي، وبذلك يضعنا عنوان العمل قبالة عتبة النص بشكل مباشر. فعنصر المكان لم يكن مجرد مساحة تحتضن الحدث، بل كان المحرك الأساس له، فحارة الصوفي كانت بؤرة انطلاق وصيحة الديك التي افتتح بها الكاتب روايته لتبدأ قصة "سيرة آخر سلاطين الجنوب" كما يخبرنا العنوان الفرعي للرواية، الذي اكتفى بكلمة "الجنوب" بدلا من "السودان"، إسقاطا مكانيا لوحدانية السودان ومصر. تطرح الرواية، بدءا من صفحاتها الأولى، قضية التوتر بين المصريين والسودانيين عبر رفض عائلة "قمر" السودانية زواجها بصلاح، أو "سلاطين"، المصري. وبذلك يُسقط الكاتب حقبة سياسية كاملة ظلت عالقة في أذهان السودانيين حتى بعد سنوات من الحرب المصرية، بقيادة بريطانية، على السودان. هذا التوتر ينتقل لمستويات وشخوص عدة، سواء على الصعيد الاجتماعي، والسياسي، وحتى العاطفي. فنمر السوداني لم ينس ما فعله الدفتردار بجده في السودان، مدفوعا برغبة الانتقام لكل سوداني دُفن عنوة في مقابر الشافعي جوار قاتليهم ليلقي "قنبلته" المزعومة على فندق "شبرد". كما أن رغبة "سلاطين" في الانتقام من أحفاد الشافعي، وانتقام عفيفة من قمر، وانتقام الكرداوي من سلاطين، وسلاطين من الكرداوي، لم تكن أقل شراسة، فهي حرب بشرية، ولكل منهم دوافعه، التي لم تكن دائما صائبة. بعيدا عن صراع الأفراد، أفردت الرواية مساحة غير قليلة عن تأثير الاستعمار البريطاني على الحياة المشتركة بين السودانيين والمصريين، ليس فقط قُبيل وخلال إعلان الحرب العالمية الأولى، بل تعود بنا إلى الوراء لمعالجة الثورة العرابية وتقاطعها مع ثورة المهدي والدور الاستعماري الذي لعبته بريطانيا بتشظي البلدين لضمان سيطرتها على خيرات الشمال والجنوب. وبالحديث عن شخوص العمل، زخرت الرواية بشخوص حقيقية من التأريخ، كالمهدي وسليمان الحلبي، وأخرى مُتخيَلة كسلاطين وقمر، كذلك تنوعت الشخوص وظيفيا بين النماء والتسطح بشكلٍ دقيق، مما خدم التدفق السلس للأحداث. واللافت أنه حتى الشخوص غير النامية لعبت دورا جوهريا في دفع الحدث للأمام، كشخصية "عفيفة" التي أججت غيرة سلاطين من الكرداوي، وشخصية "قمر" التي كانت السبب الرئيس في الصراع بين "سلاطين" و"الكرداوي"، وشخصية "خير" الذي كشف حقيقة القلادة لسلاطين. كانت شخصيتا سلاطين والكرداوي الأكثر نموا في العمل، فشخصية سلاطين تعرضت لكثير من التقلبات وتحديدا بعد معرفة حقيقة أصوله السودانية وأنه ابن المهدي، وليس فقط رجلا مصريا فقيرا يعمل في الوقائع المصرية ويسكن "حارة الصوفي" رفقة والده الترزي. أما شخصية الكرداوي، وهي شخصية حقيقية، فقد نمت وتغيرت بشكلٍ خاطف ومذهل، فمن طالب علم يود إكمال دراسته في تركيا، إلى شيخ ذي كرامات، فمشارك بعملية اغتيال السلطان… وفي واقع الأمر لم يكن الكرداوي صاحب القرار في أي من الطرق التي قذفته إليها حياته العجيبة. رمزيات وأحاجٍ تُستخدم الرمزية بمهارة في الرواية، ليس فقط على مستوى السرد والحدث، وإنما على الصعيد التأريخي. فثمة قلادة سلاطين التي تحمل صورة مسجد في السودان تجسيدا للهُوية، والنبتة الذهبية التي كانت بوصلة سلاطين لقبر أمه، وورقة "الكوتشينة" الكاشفة لحقيقة أصول سلاطين المهداوية، وحتى كلبة راسيل البريطاني استُعملت كإسقاطٍ أخلاقي على حرية يناضل الاستعمار في منحها حتى لكلابهم، بينما يسرقونها من بشرٍ يحتلون بلدانهم ويستولون على خيراتهم ويقتلون شعوبهم بكل وقاحة. من خلال هذه الرمزيات، يسلط الخطيب الضوء على تأثير الأحداث التأريخية على الأفراد والمجتمعات، ويُظهر كيف أن الاستعمار لم يكن مجرد احتلال للأراضي ونهب للبلاد والعباد، بل كان له تأثير أعمق على الهُويات والثقافات لسنوات طوال سارية حتى اللحظة. تشظي الزمن سرديا استخدم الكاتب أسلوب التشظي الزمني، أو ما نطلق عليه في النقد الأدبي "السرد غير الخطي"، متنقلا بين أزمنة وشخوص عدة، موزعا السرد والحوار بتوافق انسجم مع الحدث. هذه التقنية خدمت العمل بشكلٍ ممتاز إذ أضافت نوعا من التشويق وعلامات الاستفهام التي بقي بعضها قائما حتى قُبيل نهاية العمل. اللغة كانت سلسة للغاية تخللتها بعض الأخطاء اللغوية الشائعة كأن يقول الكاتب في الصفحة رقم 37: "أنا من قمت بالرسم"، والصواب " أنا من رسمت"، فاستخدام الفعل "قام" له دلالة غير التي تفيدها الجملة، وغيرها من الأخطاء النحوية التي يمكن أن نتغاضى عنها لقلتها أولا ولثقل العمل، على مستوى اللغة والمضمون، ثانيا. كما تخللت الرواية بعض المشاكل على صعيد الحبكة وسير الأحداث، فمثلا لم تكن رسالة توفيق صاحب البنسيون الذي نزل فيه الكرداوي لمرسي التُربي مبررة في النص، ولم يكن منطقيا أن تسرد لنا الرواية أن الكرداوي لم يلحق بسفينته المتجهة لتركيا، لأنه لم يملك ثمن ليلة واحدة قبل إبحار السفينة من الإسكندرية في الفندق، لنجده بعد ذلك يسكن في الفندق لأسبوعين ويبتاع ثمن تذكرة أخرى. كذلك لم تبين الرواية كيف عرف لورانس أن سلاطين يعمل في الوقائع المصرية وهو لم يلتق به إلا مرة واحدة، ولم يدر بينهما أي حديث يخص عمل سلاطين. جميعها هفوات كان على الكاتب أو الدار -في أقل تقدير- اصطيادها قبل نشر هذا الرواية الرائعة والمختلفة شكلا ومضمونا. حارة الصوفي رواية تطرح، وتؤرخ، وتعالج مرحلة دقيقة من التأريخ المصري السوداني، تصرخ في وجوهنا لعلنا نتعلم من أخطاء أسلافنا ونُعلم أخلافنا.

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

الجزيرة

timeمنذ 14 ساعات

  • الجزيرة

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store