logo
#

أحدث الأخبار مع #المرجا_الزرقاء

'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة
'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • ترفيه
  • الجزيرة

'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة

'الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة'. هذا ما يخبرنا به فنان السينما المخرج الروسي 'أندريه تاركوفسكي'، في معرض حديثه عن معنى الوجود وغايته، وينحصران -في رؤيته- بين جدران التذوق الشخصي لمفردات الحياة، بكل ما تنطوي عليه من عطايا محسوسة، وأخرى تحتاج بلا شك إلى سعي محموم، يضمن لصاحبه بلوغ الجوهر المستور عن الأعين. والطفل يوسف بطل أحدث أفلام المخرج المغربي المرموق داوود أولاد السيد 'المرجا الزرقاء' (2024)، ينطلق مع جده العجوز في رحلة بحث عن البحيرة الزرقاء، التي تقع بين الحدود الصحراوية الشاسعة، ظنا منه أنها قد تعيد إليه بصره المسلوب. الأحداث تدور حول يوسف (الممثل يوسف أقادير) المكفوف البصر، الذي يقطن إحدى القرى النائية مع جده وجدته، وتتبدل حياته فجأة، بعد أن تناهت إلى مسامعه قدرة تلك البحيرة المبروكة على إعادة البصر المفقود. فما العلاقة إذن بين حكاية فيلمنا والاقتباس الذي ذكرنا؟ لإجابة هذا السؤال، ينبغي النظر إلى ماهية رحلة البطل ذاتها، التي تدور في سياق الوصول إلى الشفاء. هذا ما تبدو عليه ظاهريا، لكن الحقيقة أنها تحتوي على ما هو أعمق، فالبحث عن العلاج هو في حقيقة الأمر ليس إلا نبشا عن المكنون في الداخل الإنساني، وهذا الكنز المطمور يكشف حيثياته تلقائيا للمريد الباحث عن المعنى والجوهر. وهكذا نصبح أمام حكاية بسيطة الهيئة الشكلية، لكن بقدر تلك البساطة الآسرة، فإن المضمون مراوغ ماكر، إذ يتضمن مستويات قراءة متعددة الطبقات؛ يقع المستوى الأول الواضح بين أسوار المثابرة والإصرار، للوصول الآمن والمشروع إلى مرفأ الحلم، أما الطبقة الأخرى المستترة الأكثر عمقا، فينسج السرد خيوطها بدأب وعلى مهل، وتدور بين أتون البحث عن الذات، وما يرافق هذا السعي من إمساك بتلابيب الحقيقة، التي تتباين بالتأكيد من إنسان إلى آخر، كل بحسب معية إدراكه وقدرة تحصيله. وهذه النوعية من الأفلام -التي تسمى السينما الروحية- تلجأ إلى صياغة فنية مغايرة عن المألوف، تجنح نحو القول بالإشارة والتلميح، والابتعاد عن الإفصاح الصريح المباشر. فهل نجح فيلمنا في تغليف سياقه بالإحداثيات المستترة؟ أم كشف عن خبيئته علانية؟ تصاعد سردي على نمط موسيقي تكمن إجابة هذا السؤال بين رحى السيناريو المحكم البناء، الذي اشترك في كتابته مجيد سداتي والحسين الشاني وداود أولاد السيد، فقد اختار السرد أن يطلق مضمار الحكي من واقع بداية صوتية، في تطبيق عملي لمقولة مخرج الفيلم عن الصوت 'إن الصورة نراها ولا نرى الصوت، هو موجود وغامض، وهو الذي يعبر عما لا نراه'. وهنا نسمع أصوات أطفال يركضون ويلعبون، ثم نسمع أحدهم ينادي يوسف أن يشاركهم صورتهم، فيفاجئنا صوته أثناء عرضه لالتقاط الصورة لهم، وعندئذ تختفي الشاشة السوداء على حين بغتة، وينفتح الإطار على لقطة استهلالية للأطفال، في حين يصوب يوسف كاميرا هاتفه نحوهم. تمثل البداية الصوتية -المكللة بالشاشة السوداء- نوعا من التضامن مع الشخصية الرئيسية، أو -بمعنى أكثر دقة- دلالة وإشارة يسيرة عن يوسف، وكأننا أمام تمهيد أوّلي، لا عن البطل الرئيسي فحسب، بل عن البيئة العامة للأحداث كذلك، التي يقدمها البناء الدرامي في سرد حداثي مبتكر، مع ما يبدو عليه من تقليدية واضحة، تدعمها خطية السرد. فالحقيقة أن السرد أقرب في تكوينه إلى المقطوعة الموسيقية، التي تتكون عادة من أربع حركات، أولاها سريعة كالسوناتا، وفيها تمهيد عن الشخصيات ومحاولات كشف ملامحها الأولية. ومع بزوغ الحبكة ينطلق الفصل الثاني، القائم على رحلة البحث عن الحيز الجغرافي للبحيرة الزرقاء، وهنا نصل إلى الحركة الثانية البطيئة الإيقاع، وعند الوصول إلى البحيرة نصل إلى الحركة الثالثة الخاطفة السريعة، أما الحركة الرابعة فتطالعنا عند العودة من الرحلة. والواقع أن الاستعانة بهذا النمط من البنية الدرامية، أضفت قدرا لا بأس به من العذوبة والشاعرية على الهيكل العام للسرد، وأسهمت في تغليف النسيج العام بالسهولة والسلاسة، وتلك حيلة مراوغة تبطن أفكارا ودلالات أكثر غموضا، تحتاج إلى تأويل وقراءة هادئة، سعيا إلى الوصول لما يقبع بين السطور. عين مستعارة تعوض فقد النور مع وصول اليوم الدراسي إلى نهايته، يلتقي الجد علال (الممثل محمد خيي) بيوسف، فينطلقان في سيارة الأجرة التي يملكها نحو المنزل، وفي تلك الأثناء يعرج الجد على مصفف الشعر، لتهذيب شعر الطفل الذي أصابه الطول المفرط، وبينما ينتظر دوره، يلاحظ الجد انبهار يوسف بآلة تصوير يعرضها أحد الباعة الجائلين، فلا يتردد لحظة واحدة في الشراء، فالعمل على بهجة الحفيد يعد من أهم أولوياته. وحين تحل الكاميرا ضيفا على حياة يوسف، تبدأ حياته في التبدل التدريجي، فيطالعنا على الدوام ممسكا بالكاميرا، يلتقط كل ما تلمسه يداه، أو كل ما يشعر بوجوده في حدود محيطه المنغلق عليه. والمفارقة أنه يلتقط صورا حسنة الجودة، وعندها يمكن قراءة دلالة تلك الكاميرا، التي قد تبدو حيلة دفاعية يلجأ إليها، ليعوض بها فقدان نور عينيه، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن بقليل من التبصر نرى رمزية الكاميرا، فهي تبدو عينا مستعارة، يرى بها الطفل ما حوله، ويكتشف ما كان يعجز عن رؤيته أو الإحساس به، فلكل منا عصاه التي يتكئ عليها لقراءة مفردات هذا العالم، والكاميرا هنا تتضاعف قيمتها على نحو أكثر تقديرا. تقول الكاتبة والمصورة سوزان سونتاج، إن التقاط الصور امتلاك للمادة المصورة، وبذلك يدخل الإنسان في علاقة مع العالم، تجعله يشعر بلذة المعرفة، فالصورة نموذج مصغر عن الحقيقة، وبالعودة إلى العلاقة الوطيدة بين بطلنا والكاميرا، نجد أنها ستصاحبه طيلة أيامه المقبلة، وخلال رحلته الشاقة نحو البحيرة الزرقاء، يرى ما تعجز عيناه عن إدراكه، وكأنها تضيف إليه بعدا معرفيا يعوض خسارته السابقة، ويعزز إحساسه الداخلي بالاكتمال. وهكذا تسهب الحركة الأولى من السرد في تقديم الشخصية وعالمها، وكشف موطن أزمتها الوجودية، فانعدام البصر يشكل عائق يوسف الأكبر نحو ملامسة مفردات عالمه الصغير، مع أنه يستعين طوعا بعناصر خارجية مثل عدسة الكاميرا، لكن ثمة شيء ما يزال مفقودا، لذا عندما تطرق أسماعه أقاويل أحد أصدقاء الجد عن قدرة البحيرة الزرقاء على الشفاء، يعمل على تحويل هذا الهاجس إلى حقيقة. ترى هل سيحالفه النجاح؟ رحلة في عالم بلا حدود بعد أن أنصت يوسف إلى بعض الأقاويل المتناثرة عن البحيرة البعيدة، يقرر الانطلاق إليها، ولا يبالي بالمسافة الشاسعة الاتساع بينهما، وهنا نصل إلى الحدث المحفز، الذي تتبدل عنده أفعال الشخصيات ورؤيتها، فيدخلنا السرد إلى الحركة الثانية، التي تشكل النسبة الكبرى من الرقعة السردية، وفيها تطالعنا رحلة الجد ويوسف الباحثة عن مياه تلك البحيرة الشافية. قبل أن تبدأ الرحلة تحمّم الجدة يوسف وتغسله، وكأنه يستعد لرحلة حج مقدس، ثم يستقل الجد علال والطفل سيارة الأجرة، ويبدآن مقارعة الطريق الطويل، وفي تلك الأثناء يلتقيان أناسا من هنا وهناك، كل لقاء يحمل بين طياته إضافة ومغامرة على حد السواء، وهكذا يكتشف الطفل ما لم يكن يدركه سابقا عن هذا العالم، فالرحلة تمثل خروجا طوعيا عن الشرنقة التي تغلف إطار حياته. وبنظرة بانورامية على خريطة حياته، نجد أنها تنتمي كلية إلى الهامش، ولا يعود السبب إلى جغرافية المكان ذاته، الواقع بالقرب من الصحراء أو على الأطراف، بل إن السياق المحيط بهذا النمط المعيشي، ومعاناة الشخصيات، كل هذه العوامل، ترسخ سلطة الهامش، على حساب المتن المتباعد في المجهول. يتوغل علال ويوسف في أحضان الصحراء المفرطة الاتساع، التي لا يبين لها أول من آخر، فالمعتاد في تلك الأحيان، أن يصبح المكان موحشا مدثرا بالخوف، وما يرافقه من مشاعر أخرى متناقضة، مثلما يقول الكاتب عبد الرحمن منيف 'الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر، يتحول إلى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن، ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية، كالصحراء بلا نهاية'. لكن الكاميرا هنا تعمد إلى العكس تماما، فتلتقط عدساتها جمال التكوينات الصحراوية المتسعة، وما تحمله رمالها الصفراء من نعومة وسحر، ومن ثم تتحول تلك الصورة الذهنية الكاذبة عن الصحراء إلى أخرى مألوفة، وفي تلك الأثناء تصاب سيارة الجد بعطب مفاجئ، ولا مفر حينها من الاستعانة بالجمال، ليكون وسيلة انتقال بديلة، وبذلك يتواصل كشف جماليات الصحراء، وما يقبع خلف سكونها من حياة أخرى مغايرة. مجاز البحيرة الزرقاء بعد مسيرة بضعة أيام في عمق الصحراء، يصل علال ويوسف إلى موطن البحيرة الزرقاء، أو هذا ما بدا عليه الأمر، فيتوقف الجد على حين فجأة، ويعلن أن الرحلة قد اكتملت، فقد وصلا إلى البحيرة المقدسة، وبذلك يصل السرد إلى الحركة الثالثة، لكن الكاميرا لا تمارس دورها في اقتناص ما تيسر من لقطات أو مشاهد للبحيرة. وهنا نتضامن مرة أخرى مع يوسف في محنته البصرية، فيندثر الخيط الفاصل بين الواقع والخيال، ويصبح السؤال عن ماهية تلك البحيرة أمرا واجبا، هل هي حقيقية؟ وهل وصلا إليها؟ أم أن وقود الجد نفذ، وعَمد إلى التوقف المفاجئ، لا أحد يدري على وجه الدقة. لا شك أننا أمام فيلم طريق، أي يدور حول رحلة ذاتية، تضطلع بها الشخصية الرئيسية، وعند اكتمال خيوطها، يتبدل المكنون الداخلي للشخصية، أو تكتسب صفة أو ميزة تنافسية عن السابق، وبتطبيق هذه المفاهيم النظرية على فيلمنا، يمكن بمنتهى السهولة واليسر التقاط ما يكفي ويفيض من التبدلات أو الفيوض، التي لحقت بشخصية يوسف. وهذا يحيلنا تلقائيا إلى الركن الأهم من أعمدة مضمون الفيلم، حيث الفارق بين البصر والبصيرة، فإذا كان بطلنا يعاني من انحسار البصر، فإن سخاء البصيرة الذاتية يشكل تعويضا رحبا عن هذه المعاناة، وتلك البصيرة تنمو قدرتها وتتشعب خلال تلك الرحلة، ومن ثم يكتسب هذا الترحال أبعادا إضافية، غير اكتشاف العالم، وقراءة المكونات المحيطة به. يلتقي يوسف في أحد المشاهد بأحد مشايخ الصوفية، وفي هذه الجلسة، يضفي الشيخ بعض سكينته وعلمه على قلب الطفل، فيغذي روحه ببعض الفيض الإلهي، ويجعله يرى هذا الكون الشاسع، لا بعينيه المنغلقتين بل بعين قلبه، وهي الأصدق والأنقى، وتكتمل تلك المعرفة بملاقاة البحيرة الزرقاء، وحينها يولد من رحم تلك الرحلة إنسانا مغايرا عن المعتاد، فقد تحقق كنز البصيرة، الأعلى درجات من محدودية النظر. وهل يستوي الأعمى والبصير؟ حلاوة المعرفة بعد مشقة الرحلة في الحركة الرابعة من المقطوعة السردية، يُتم يوسف طقوس رحلته على الوجه الأكمل، ثم يعود إلى قريته، وعندما تباغته صديقته زينب بالسؤال عن صور البحيرة الزرقاء، يلزم السكون ولا يرافقها بالرد، فلكل واحد بحيرته، التي لا يراها ولا يدرك كنهها سواه، وهنا تتضح مجازية الرحلة ذاتها، أو الغرض منها، ألا وهو إدراك العمق أو الكنز الشخصي، الذي يقبع بين صدر كل إنسان. وهنا تتجلى عناصر الصراع الدرامي، القائم على تحقيق المعرفة الكاملة بالذات، وللوصول إلى درجاتها الكاملة، لا بد من الولوج في خضم معاناة روحية ذاتية، وهذا ما جرت وقائعه مع يوسف، الذي انساب بين أمواج الرحلة، حتى عبر نحو الشاطئ المقابل المكلل بالمعرفة اليقينية. وللتعبير عن تلك المكنونات الروحية، يلجأ السرد إلى تطعيم الحكاية بالرمزية والشاعرية، التي تضفي على النسيج السردي بعدا صوفيا لا يخطئه مذاق المتفرج، ومن ثم يصيب الفيلم بالعذوبة والرقة، وقد أسهم الإيقاع المشدود كالوتر، في تغليف الحكاية بجرعة فياضة من السلاسة، مع ما تبطنه زوايا الفيلم من جرعات تأملية مكثفة، ستظل ماثلة في الذاكرة مدة ليست بالهينة. وفي سياق متقارب يقول المتصوف أبو علي الدقاق: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة. وبطلنا بعد مشقة الرحلة، ذاق حلاوة المعرفة، ومن ذاق عرف.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store