
'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة
'الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة'.
هذا ما يخبرنا به فنان السينما المخرج الروسي 'أندريه تاركوفسكي'، في معرض حديثه عن معنى الوجود وغايته، وينحصران -في رؤيته- بين جدران التذوق الشخصي لمفردات الحياة، بكل ما تنطوي عليه من عطايا محسوسة، وأخرى تحتاج بلا شك إلى سعي محموم، يضمن لصاحبه بلوغ الجوهر المستور عن الأعين.
والطفل يوسف بطل أحدث أفلام المخرج المغربي المرموق داوود أولاد السيد 'المرجا الزرقاء' (2024)، ينطلق مع جده العجوز في رحلة بحث عن البحيرة الزرقاء، التي تقع بين الحدود الصحراوية الشاسعة، ظنا منه أنها قد تعيد إليه بصره المسلوب.
الأحداث تدور حول يوسف (الممثل يوسف أقادير) المكفوف البصر، الذي يقطن إحدى القرى النائية مع جده وجدته، وتتبدل حياته فجأة، بعد أن تناهت إلى مسامعه قدرة تلك البحيرة المبروكة على إعادة البصر المفقود.
فما العلاقة إذن بين حكاية فيلمنا والاقتباس الذي ذكرنا؟
لإجابة هذا السؤال، ينبغي النظر إلى ماهية رحلة البطل ذاتها، التي تدور في سياق الوصول إلى الشفاء. هذا ما تبدو عليه ظاهريا، لكن الحقيقة أنها تحتوي على ما هو أعمق، فالبحث عن العلاج هو في حقيقة الأمر ليس إلا نبشا عن المكنون في الداخل الإنساني، وهذا الكنز المطمور يكشف حيثياته تلقائيا للمريد الباحث عن المعنى والجوهر.
وهكذا نصبح أمام حكاية بسيطة الهيئة الشكلية، لكن بقدر تلك البساطة الآسرة، فإن المضمون مراوغ ماكر، إذ يتضمن مستويات قراءة متعددة الطبقات؛ يقع المستوى الأول الواضح بين أسوار المثابرة والإصرار، للوصول الآمن والمشروع إلى مرفأ الحلم، أما الطبقة الأخرى المستترة الأكثر عمقا، فينسج السرد خيوطها بدأب وعلى مهل، وتدور بين أتون البحث عن الذات، وما يرافق هذا السعي من إمساك بتلابيب الحقيقة، التي تتباين بالتأكيد من إنسان إلى آخر، كل بحسب معية إدراكه وقدرة تحصيله.
وهذه النوعية من الأفلام -التي تسمى السينما الروحية- تلجأ إلى صياغة فنية مغايرة عن المألوف، تجنح نحو القول بالإشارة والتلميح، والابتعاد عن الإفصاح الصريح المباشر.
فهل نجح فيلمنا في تغليف سياقه بالإحداثيات المستترة؟ أم كشف عن خبيئته علانية؟
تصاعد سردي على نمط موسيقي
تكمن إجابة هذا السؤال بين رحى السيناريو المحكم البناء، الذي اشترك في كتابته مجيد سداتي والحسين الشاني وداود أولاد السيد، فقد اختار السرد أن يطلق مضمار الحكي من واقع بداية صوتية، في تطبيق عملي لمقولة مخرج الفيلم عن الصوت 'إن الصورة نراها ولا نرى الصوت، هو موجود وغامض، وهو الذي يعبر عما لا نراه'.
وهنا نسمع أصوات أطفال يركضون ويلعبون، ثم نسمع أحدهم ينادي يوسف أن يشاركهم صورتهم، فيفاجئنا صوته أثناء عرضه لالتقاط الصورة لهم، وعندئذ تختفي الشاشة السوداء على حين بغتة، وينفتح الإطار على لقطة استهلالية للأطفال، في حين يصوب يوسف كاميرا هاتفه نحوهم.
تمثل البداية الصوتية -المكللة بالشاشة السوداء- نوعا من التضامن مع الشخصية الرئيسية، أو -بمعنى أكثر دقة- دلالة وإشارة يسيرة عن يوسف، وكأننا أمام تمهيد أوّلي، لا عن البطل الرئيسي فحسب، بل عن البيئة العامة للأحداث كذلك، التي يقدمها البناء الدرامي في سرد حداثي مبتكر، مع ما يبدو عليه من تقليدية واضحة، تدعمها خطية السرد.
فالحقيقة أن السرد أقرب في تكوينه إلى المقطوعة الموسيقية، التي تتكون عادة من أربع حركات، أولاها سريعة كالسوناتا، وفيها تمهيد عن الشخصيات ومحاولات كشف ملامحها الأولية.
ومع بزوغ الحبكة ينطلق الفصل الثاني، القائم على رحلة البحث عن الحيز الجغرافي للبحيرة الزرقاء، وهنا نصل إلى الحركة الثانية البطيئة الإيقاع، وعند الوصول إلى البحيرة نصل إلى الحركة الثالثة الخاطفة السريعة، أما الحركة الرابعة فتطالعنا عند العودة من الرحلة.
والواقع أن الاستعانة بهذا النمط من البنية الدرامية، أضفت قدرا لا بأس به من العذوبة والشاعرية على الهيكل العام للسرد، وأسهمت في تغليف النسيج العام بالسهولة والسلاسة، وتلك حيلة مراوغة تبطن أفكارا ودلالات أكثر غموضا، تحتاج إلى تأويل وقراءة هادئة، سعيا إلى الوصول لما يقبع بين السطور.
عين مستعارة تعوض فقد النور
مع وصول اليوم الدراسي إلى نهايته، يلتقي الجد علال (الممثل محمد خيي) بيوسف، فينطلقان في سيارة الأجرة التي يملكها نحو المنزل، وفي تلك الأثناء يعرج الجد على مصفف الشعر، لتهذيب شعر الطفل الذي أصابه الطول المفرط، وبينما ينتظر دوره، يلاحظ الجد انبهار يوسف بآلة تصوير يعرضها أحد الباعة الجائلين، فلا يتردد لحظة واحدة في الشراء، فالعمل على بهجة الحفيد يعد من أهم أولوياته.
وحين تحل الكاميرا ضيفا على حياة يوسف، تبدأ حياته في التبدل التدريجي، فيطالعنا على الدوام ممسكا بالكاميرا، يلتقط كل ما تلمسه يداه، أو كل ما يشعر بوجوده في حدود محيطه المنغلق عليه.
والمفارقة أنه يلتقط صورا حسنة الجودة، وعندها يمكن قراءة دلالة تلك الكاميرا، التي قد تبدو حيلة دفاعية يلجأ إليها، ليعوض بها فقدان نور عينيه، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن بقليل من التبصر نرى رمزية الكاميرا، فهي تبدو عينا مستعارة، يرى بها الطفل ما حوله، ويكتشف ما كان يعجز عن رؤيته أو الإحساس به، فلكل منا عصاه التي يتكئ عليها لقراءة مفردات هذا العالم، والكاميرا هنا تتضاعف قيمتها على نحو أكثر تقديرا.
تقول الكاتبة والمصورة سوزان سونتاج، إن التقاط الصور امتلاك للمادة المصورة، وبذلك يدخل الإنسان في علاقة مع العالم، تجعله يشعر بلذة المعرفة، فالصورة نموذج مصغر عن الحقيقة، وبالعودة إلى العلاقة الوطيدة بين بطلنا والكاميرا، نجد أنها ستصاحبه طيلة أيامه المقبلة، وخلال رحلته الشاقة نحو البحيرة الزرقاء، يرى ما تعجز عيناه عن إدراكه، وكأنها تضيف إليه بعدا معرفيا يعوض خسارته السابقة، ويعزز إحساسه الداخلي بالاكتمال.
وهكذا تسهب الحركة الأولى من السرد في تقديم الشخصية وعالمها، وكشف موطن أزمتها الوجودية، فانعدام البصر يشكل عائق يوسف الأكبر نحو ملامسة مفردات عالمه الصغير، مع أنه يستعين طوعا بعناصر خارجية مثل عدسة الكاميرا، لكن ثمة شيء ما يزال مفقودا، لذا عندما تطرق أسماعه أقاويل أحد أصدقاء الجد عن قدرة البحيرة الزرقاء على الشفاء، يعمل على تحويل هذا الهاجس إلى حقيقة.
ترى هل سيحالفه النجاح؟
رحلة في عالم بلا حدود
بعد أن أنصت يوسف إلى بعض الأقاويل المتناثرة عن البحيرة البعيدة، يقرر الانطلاق إليها، ولا يبالي بالمسافة الشاسعة الاتساع بينهما، وهنا نصل إلى الحدث المحفز، الذي تتبدل عنده أفعال الشخصيات ورؤيتها، فيدخلنا السرد إلى الحركة الثانية، التي تشكل النسبة الكبرى من الرقعة السردية، وفيها تطالعنا رحلة الجد ويوسف الباحثة عن مياه تلك البحيرة الشافية.
قبل أن تبدأ الرحلة تحمّم الجدة يوسف وتغسله، وكأنه يستعد لرحلة حج مقدس، ثم يستقل الجد علال والطفل سيارة الأجرة، ويبدآن مقارعة الطريق الطويل، وفي تلك الأثناء يلتقيان أناسا من هنا وهناك، كل لقاء يحمل بين طياته إضافة ومغامرة على حد السواء، وهكذا يكتشف الطفل ما لم يكن يدركه سابقا عن هذا العالم، فالرحلة تمثل خروجا طوعيا عن الشرنقة التي تغلف إطار حياته.
وبنظرة بانورامية على خريطة حياته، نجد أنها تنتمي كلية إلى الهامش، ولا يعود السبب إلى جغرافية المكان ذاته، الواقع بالقرب من الصحراء أو على الأطراف، بل إن السياق المحيط بهذا النمط المعيشي، ومعاناة الشخصيات، كل هذه العوامل، ترسخ سلطة الهامش، على حساب المتن المتباعد في المجهول.
يتوغل علال ويوسف في أحضان الصحراء المفرطة الاتساع، التي لا يبين لها أول من آخر، فالمعتاد في تلك الأحيان، أن يصبح المكان موحشا مدثرا بالخوف، وما يرافقه من مشاعر أخرى متناقضة، مثلما يقول الكاتب عبد الرحمن منيف 'الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر، يتحول إلى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن، ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية، كالصحراء بلا نهاية'.
لكن الكاميرا هنا تعمد إلى العكس تماما، فتلتقط عدساتها جمال التكوينات الصحراوية المتسعة، وما تحمله رمالها الصفراء من نعومة وسحر، ومن ثم تتحول تلك الصورة الذهنية الكاذبة عن الصحراء إلى أخرى مألوفة، وفي تلك الأثناء تصاب سيارة الجد بعطب مفاجئ، ولا مفر حينها من الاستعانة بالجمال، ليكون وسيلة انتقال بديلة، وبذلك يتواصل كشف جماليات الصحراء، وما يقبع خلف سكونها من حياة أخرى مغايرة.
مجاز البحيرة الزرقاء
بعد مسيرة بضعة أيام في عمق الصحراء، يصل علال ويوسف إلى موطن البحيرة الزرقاء، أو هذا ما بدا عليه الأمر، فيتوقف الجد على حين فجأة، ويعلن أن الرحلة قد اكتملت، فقد وصلا إلى البحيرة المقدسة، وبذلك يصل السرد إلى الحركة الثالثة، لكن الكاميرا لا تمارس دورها في اقتناص ما تيسر من لقطات أو مشاهد للبحيرة.
وهنا نتضامن مرة أخرى مع يوسف في محنته البصرية، فيندثر الخيط الفاصل بين الواقع والخيال، ويصبح السؤال عن ماهية تلك البحيرة أمرا واجبا، هل هي حقيقية؟ وهل وصلا إليها؟ أم أن وقود الجد نفذ، وعَمد إلى التوقف المفاجئ، لا أحد يدري على وجه الدقة.
لا شك أننا أمام فيلم طريق، أي يدور حول رحلة ذاتية، تضطلع بها الشخصية الرئيسية، وعند اكتمال خيوطها، يتبدل المكنون الداخلي للشخصية، أو تكتسب صفة أو ميزة تنافسية عن السابق، وبتطبيق هذه المفاهيم النظرية على فيلمنا، يمكن بمنتهى السهولة واليسر التقاط ما يكفي ويفيض من التبدلات أو الفيوض، التي لحقت بشخصية يوسف.
وهذا يحيلنا تلقائيا إلى الركن الأهم من أعمدة مضمون الفيلم، حيث الفارق بين البصر والبصيرة، فإذا كان بطلنا يعاني من انحسار البصر، فإن سخاء البصيرة الذاتية يشكل تعويضا رحبا عن هذه المعاناة، وتلك البصيرة تنمو قدرتها وتتشعب خلال تلك الرحلة، ومن ثم يكتسب هذا الترحال أبعادا إضافية، غير اكتشاف العالم، وقراءة المكونات المحيطة به.
يلتقي يوسف في أحد المشاهد بأحد مشايخ الصوفية، وفي هذه الجلسة، يضفي الشيخ بعض سكينته وعلمه على قلب الطفل، فيغذي روحه ببعض الفيض الإلهي، ويجعله يرى هذا الكون الشاسع، لا بعينيه المنغلقتين بل بعين قلبه، وهي الأصدق والأنقى، وتكتمل تلك المعرفة بملاقاة البحيرة الزرقاء، وحينها يولد من رحم تلك الرحلة إنسانا مغايرا عن المعتاد، فقد تحقق كنز البصيرة، الأعلى درجات من محدودية النظر.
وهل يستوي الأعمى والبصير؟
حلاوة المعرفة بعد مشقة الرحلة
في الحركة الرابعة من المقطوعة السردية، يُتم يوسف طقوس رحلته على الوجه الأكمل، ثم يعود إلى قريته، وعندما تباغته صديقته زينب بالسؤال عن صور البحيرة الزرقاء، يلزم السكون ولا يرافقها بالرد، فلكل واحد بحيرته، التي لا يراها ولا يدرك كنهها سواه، وهنا تتضح مجازية الرحلة ذاتها، أو الغرض منها، ألا وهو إدراك العمق أو الكنز الشخصي، الذي يقبع بين صدر كل إنسان.
وهنا تتجلى عناصر الصراع الدرامي، القائم على تحقيق المعرفة الكاملة بالذات، وللوصول إلى درجاتها الكاملة، لا بد من الولوج في خضم معاناة روحية ذاتية، وهذا ما جرت وقائعه مع يوسف، الذي انساب بين أمواج الرحلة، حتى عبر نحو الشاطئ المقابل المكلل بالمعرفة اليقينية.
وللتعبير عن تلك المكنونات الروحية، يلجأ السرد إلى تطعيم الحكاية بالرمزية والشاعرية، التي تضفي على النسيج السردي بعدا صوفيا لا يخطئه مذاق المتفرج، ومن ثم يصيب الفيلم بالعذوبة والرقة، وقد أسهم الإيقاع المشدود كالوتر، في تغليف الحكاية بجرعة فياضة من السلاسة، مع ما تبطنه زوايا الفيلم من جرعات تأملية مكثفة، ستظل ماثلة في الذاكرة مدة ليست بالهينة.
وفي سياق متقارب يقول المتصوف أبو علي الدقاق: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة.
وبطلنا بعد مشقة الرحلة، ذاق حلاوة المعرفة، ومن ذاق عرف.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
ثلاثية راندا معروفي.. حكايات السينما والسلطة والعمران في المغرب
بمناسبة عرض فيلم 'المينة' (2025) للمخرجة المغربية راندا معروفي في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة، ضمن أسبوع النقد بمهرجان 'كان' السينمائي الدولي هذا العام 2025، تنشر 'الجزيرة الوثائقية' هذا المقال الذي يستعرض بالتحليل والنقد ثلاثة من أعمالها الفيلمية. تتطرق الأفلام الثلاثة إلى قضايا المجتمع المغربي من زوايا عميقة ومختلفة، لم تكن معتادة في الأعمال المماثلة، وتعتمد على المجاز السينمائي والرصد للواقع من الميدان، وتلك لغة اختارتها راندا معروفي لنفسها في سرد حكايات المجتمع، وصراعه مع الأنظمة البيروقراطية والحدود وألوان التهميش. لا يسعى فيلم 'المينة' إلى تمجيد المعاناة ولا تجميلها، بل إلى ملامستها من الداخل، بمقاربة جماعية في الكتابة والإنتاج. راندا معروفي.. لغة بصرية تعيد صياغة التفكير تستكشف الفنانة المغربية راندا معروفي (الدار البيضاء، 1987) منذ أعمالها الأولى العلاقات المتوترة بين الأجساد والفضاءات الاجتماعية، مسلطة الضوء على بنيات الهيمنة، التي تحدد أشكال الحضور والحركة في المجال العام. بين التصوير الفوتوغرافي والفيديو والمنشأة والسينما، تطور راندا منهجية بصرية، تعيد التفكير في الممارسات اليومية، وتكشف الديناميات الخفية التي تحكم علاقات الناس بالسلطة وتمثيلاتها، في الوطن العربي كما في الغرب. يتجلى ذلك بوضوح في ثلاثيتها: 'الحديقة' (2015). 'باب سبتة' (2019). 'المينة' (2025). وهي أعمال سينمائية تمزج بين الطابع الوثائقي والتجريبي، فتصبح مشاهد الانتظار نوعا من الأداء الجسدي الجماعي، يُبرز التوتر القائم بين النظام والمقاومة، وبين السلطة الجماعية والإيماءات الفردية. 'الحديقة'.. فضاء مهجور يتجاوز الحدود الفيزيائية في فيلم 'الحديقة'، تنتقل راندا معروفي إلى فضاء مهمل في قلب مدينة الدار البيضاء؛ حديقة ملاهٍ مهجورة أصبحت موقع أطلال وحداد بصري، تسكنه أجساد شبابية تائهة بين الرغبة في الظهور وعبثية المشهد. لا يقدم الفيلم سردا وثائقيا تقليديا، بقدر ما يشكل تجربة بصرية متأرجحة بين التوثيق والتجريد، فتستعير المخرجة عناصر من الواقع، لتفككها وتعيد ترتيبها، ضمن تركيبة جمالية تبرز هشاشة الفضاء الحضري وحدوده الرمزية. تتجول الكاميرا في حركة بطيئة، تلتقط تفاصيل الصمت والركود، فتبدو الشخصيات معلقة في وضعيات ثابتة، أشبه بتماثيل أو صور جامدة. ومع ذلك، تكسر بعض الإيماءات هذا الجمود؛ يد تتحرك، وهاتف يستعمل، ونظرة تتلاشى في الضباب البصري. تنبع الحياة هنا من تفاصيل هامشية، من لحظات توحي بأن الزمن لم يتوقف تماما، بل دخل في حالة من التعليق المريب، ولا يعكس هذا التعليق الزمني العطالة الاجتماعية فحسب، بل يفتح تساؤلات حول التمثيل والأداء والظهور، بصفته فعلا سياسيا في فضاء مهمش. تكشف راندا في الفيلم التوتر الكامن في صور الحياة اليومية كما تُتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، فالشخصيات ليست في وضعيات أداء فقط، بل تتقمص دورها بوعي كامل، برغبة أن ترى. في هذا السياق، يصبح الفضاء المهجور مسرحا لشكل جديد من التمثيل، فيصبح الركام العمراني أثاثا معاصرا لصور تمثل جيلا يعيش على أطراف المدينة وهامش المجتمع، جيل يتشبث بالصورة والاستعراض والفرجة، حتى في أكثر أشكالها فجاجة، ويتخذها وسيلة وجود ومقاومة صامتة. بهذا المعنى، يتجاوز فيلم 'الحديقة' مفهوم الحدود الفيزيائية، نحو أسئلة أعمق بخصوص الظهور والاختفاء، حول من يحق له أن يكون مرئيا، ومن يُدفع نحو العتمة. على غرار فيلمها الثاني 'باب سبتة'، لا تروي راندا قصة محددة، بل توفر فضاء بصريا للتأمل في بُنى الهيمنة، وحضور الأجساد في فضاءات محكوم عليها بالإقصاء. من هذا المنطلق، يمكن وضع عملها في حوار مع تحليلات الفيلسوف 'جاك رانسيير' حول العلاقة بين الفن والسياسة، فلا يكون الفن انعكاسا للواقع فحسب، بل أداة لإعادة توزيع الحواس، وإعادة تشكيل الإدراك العام، لما هو مرئي وما هو مستبعد من المجال البصري. 'باب سبتة'.. مجاز الهيمنة والمقاومة وعقوبة السلطة تشكل الحدود بطبيعتها فضاء للانتظار، وهو انتظار محكوم بقوانين خفية، تتحكم في مسارات الأجساد، وتفرض عليها إيقاعا معينا. وفي فيلم 'باب سبتة'، لا تقدم العبور الحدودي على أنها مجرد لحظة انتقال من نقطة إلى أخرى، بل هي حدث مسرحي مكثف، فيصبح الجسد في تكراره للأفعال اليومية عنصرا في تكوين بصري متشابك. تستغل المخرجة الحركات البسيطة كحمل البضائع، والجلوس القسري الطويل، والانتظار في صفوف متعرجة، فتضفي عليها بعدا نحتيا، تتبلور فيه هذه الحركات، وتصبح إيماءات مشحونة بالدلالات السياسية والاجتماعية. على عكس الأفلام الوثائقية التقليدية التي تركز على تقديم سرديات خطية للأحداث، يعتمد فيلم 'باب سبتة' أسلوبا مختلفا، فهو لا يسعى إلى تفسير الظاهرة ولا تحليلها، بل إعادة صياغتها بصريا، وذلك بتفكيكها وتركيبها من جديد في فضاء مجرد، بتركيز وحرص شديدين على الحركات والإيقاع والتكرار. تجعل هذه المقاربة 'باب سبتة' تجربة حسية مكثفة، تُفرغ المكان من تفاصيله المعتادة، حتى يصبح أشبه بمسرح خاوٍ، تستوطنه الأجساد فقط، وتعيد بحركاتها تشكيل المعنى. بتوثيق مظاهر الانتظار القسري في حياة هؤلاء الناس، حاولت تصوير الزمن، لا على أنه حركة، بل حالة من الجمود، تفرضها البنى السلطوية. هذا الاشتغال على الجسد بوصفه محورا للتمثيل الفني يجعل 'باب سبتة' عملا قريبا من بعض تجارب السينما، التي تهتم بجانب الواقع الحركي والزمني. قد يذكرنا ذلك -على نحو مفارق- بفيلم هارون فاروكي 'خروج العمال من المصنع' (1995)، فهو يحلل مغادرة العمال لمواقع عملهم على أنه حدث متكرر، مليء بالدلالات السياسية حول العمل والسلطة، ويعتمد على مزيج من وثائق الأرشيف وتعليق صوتي عليها. لا يقتصر الاشتغال إذن على مفهوم الحدود في 'باب سبتة' على المعنى الجغرافي، بل يتجاوزه إلى البعد الاجتماعي والسياسي. ففي أحد المشاهد، نرى النساء وهن يجلسن على أكياس ضخمة من السلع المهربة، منتظرات ساعات قبل السماح لهن بالعبور، وليس انتظار مجرد تفصيل يومي، بل هو رمز لنظام كامل من العنف البيروقراطي، الذي يتحكم في حركة الأفراد، متخذا الحدود أداة للسيطرة. يذكرنا هذا بمفهوم 'الزمن الميت' لدى الفيلسوف 'بول فيريليو'، ففيه تصبح أوقات الانتظار أشكالا من العقوبات غير المعلنة، التي تمارسها السلطة على الأفراد. تقول المخرجة راندا معروفي في حوار هاتفي مع الجزيرة الوثائقية: بتوثيق مظاهر الانتظار القسري في حياة هؤلاء الناس، حاولت تصوير الزمن، لا على أنه حركة، بل حالة من الجمود، تفرضها البنى السلطوية. ومع أن 'باب سبتة' يتناول وضعا محددا مرتبطا بالحدود المغربية الإسبانية، فإن أسئلته تتجاوز السياق المحلي، وتشمل قضايا عالمية تتعلق بالحركة والهجرة والحدود بوصفها أدوات للسيطرة. لكن ما يميز مقاربة راندا هو تركيزها على الجسد أرشيفا للصراع الاجتماعي، بعيدا عن الخطابات المباشرة حول المعاناة أو اللجوء، وقد نجد ههنا تقاربا مع أعمال الفنانة الأمريكية 'سوزان ميزلز' (1948)، التي وثقت بصورها تفاصيل حياة المهمشين اليومية، من دون أن تقع في فخ استدرار العواطف. لا تحاول راندا تقديم صورة عن واقع معين في الفيلم، بل تقترح مساحة لإعادة التفكير فيما نراه وما لا نراه، فالحدود لا ترسم فقط على الخرائط، بل تمتد إلى المخيلة الجماعية، فتكرس صورا نمطية حول من يحق له العبور، ومن يحكم عليه بالبقاء في الهامش. لا توثق راندا واقعا مألوفا، بل تعيد بناءه ضمن مقاربة جمالية، تجعل الحدود حيزا للأداء والمقاومة، لا نقطة فصل فقط، فالجسد ههنا لا يكتفي بتلقي الأوامر البيروقراطية؛ بل هو كيان فعال، يعيد تعريف ذاته بحركات متكررة، تكتسب معاني جديدة مع كل تكرار. يجعل هذا الاشتغال على الجسد والحدود والزمن عملها جزءا من تيار أوسع في السينما والفن المعاصر، تيار يسائل العلاقة بين الفرد والمنظومة، وبين السلطة والمقاومة، وبين المرئي والمخفي. في نهاية المطاف، لا يقدم الفيلم إجابات جاهزة، بل يفتح المجال لتساؤلات جديدة، حول أشكال الهيمنة، وأشكال التملص منها أو التمرد عليها، وإن بأبسط الإيماءات اليومية. تفكيك المرئي والمخفي والذاكرة بين فيلمين يتمحور الربط بين فيلمي 'باب سبتة' و'المينة' حول التقاط التوترات والظلال، التي تحيط بالمساحات الجغرافية، المتأثرة بالحدود والاقتصاد غير الرسمي، بالإضافة إلى التصوير التجريدي للمدن ذات الطابع الصناعي والمهمش. في فيلم 'باب سبتة'، تركزت الكاميرا على الثغر الإسباني عند الحدود المغربية الإسبانية، لتسجل حياة الناس في ظل اقتصاد غير رسمي، يتمحور حول التهريب والنقل غير المشروع للبضائع عبر الحدود. أما فيلم 'المينة'، فتبرز فيه مدينة جرادة (شرق المغرب) بموقعها الصناعي والجغرافي، وهي مدينة تعيش على هامش الذاكرة والراهن، فتتداخل فيه توترات المجتمع مع تحديات الاقتصاد، الناتجة عن الإقصاء السياسي والعوز المادي والتدهور البيئي. يتناول العملان فكرة الحدود بطرق غير مباشرة، قد تبدو متباينة في شكلها، لكنها تتقاطع في سيرورة المخرجة الجمالية والسياسية، فـ'باب سبتة' يلتقط الحدود الجغرافية بين دولتين كما تتجسد في حركة الأفراد والبضائع عبر المعابر الضيقة، وأما 'المينة' فيعيد تشكيل حدود المدينة بطريقة أكثر رمزية، بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد، التي تتيح استكشاف الهياكل المعمارية والفضاءات الصناعية من منظور غير معتاد. هكذا يشير استخدام المسح الضوئي والتقنيات الحديثة في 'المينة' إلى بحث في طرق جديدة، لرؤية الأماكن التي باتت معالمها تتلاشى، أو أصبحت -في طريقها للاندثار- فضاءات يمكن وصفها أنها 'مقاوِمة'. في هذا السياق، لا سبيل لفصل البعد الجمالي في فيلم 'المينة' عن خياراته الأخلاقية والسياسية. تقول راندا معروفي: لا يسعى الفيلم إلى تمجيد المعاناة ولا تجميلها، بل إلى ملامستها من الداخل، بمقاربة جماعية في الكتابة والإنتاج. لقد اعتمدت راندا منذ المراحل الأولى للمشروع على حوارات موسعة مع سكان جرادة، لا سيما من عايشوا واقع مناجم الفحم العشوائية، المعروفة محليا باسم 'الساندريات'، ثم أصبحت تلك الحوارات نسيجا سرديا، شارك في صياغته أبناء المدينة أنفسهم، وجسدوا في الفيلم أدوارا مستلهمة من حياتهم. أعدتُ بناء فضاء رمزي في منزل بمدينة جرادة، لأن التصوير في المناجم الحقيقية كان مستحيلا، فأعاد شباب من عائلة موسعة تمثيل حياتهم. وفي 'المينة'، تستخدم راندا أدوات تصوير متعددة، منها المسح الثلاثي الأبعاد، وتقنيات السوبر 8، لخلق طبقات من القراءة البصرية؛ الأولى توثيقية ذات طابع رسمي وتقني في آن، ترتبط بأدوات المراقبة والهندسة المعمارية، والثانية حميمية وعائلية، تستحضر ذاكرة الجسد والعائلة والبيت، وتربط مباشرة بين الخاص والعام، وبين العملي والعاطفي. تقول راندا: أعدتُ بناء فضاء رمزي في منزل بمدينة جرادة، لأن التصوير في المناجم الحقيقية كان مستحيلا، فأعاد شباب من عائلة موسعة تمثيل حياتهم. يسعى فيلما 'باب سبتة' و'المينة' إذن إلى إعادة النظر في المناطق المجهولة والمعتمة في الواقع المعاصر؛ فمن جهة يقدم 'باب سبتة' الحدود واقعا اجتماعيا جغرافيا بين عالمين مختلفين، في حين يتأمل 'المينة' في نوع آخر من الحدود، تلك التي تخلقها الصناعات والذاكرة المنسية، التي تتآكل بمرور الوقت، محاولا إعادة بناء ما بقي منها بصريا وعاطفيا.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة
'الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة'. هذا ما يخبرنا به فنان السينما المخرج الروسي 'أندريه تاركوفسكي'، في معرض حديثه عن معنى الوجود وغايته، وينحصران -في رؤيته- بين جدران التذوق الشخصي لمفردات الحياة، بكل ما تنطوي عليه من عطايا محسوسة، وأخرى تحتاج بلا شك إلى سعي محموم، يضمن لصاحبه بلوغ الجوهر المستور عن الأعين. والطفل يوسف بطل أحدث أفلام المخرج المغربي المرموق داوود أولاد السيد 'المرجا الزرقاء' (2024)، ينطلق مع جده العجوز في رحلة بحث عن البحيرة الزرقاء، التي تقع بين الحدود الصحراوية الشاسعة، ظنا منه أنها قد تعيد إليه بصره المسلوب. الأحداث تدور حول يوسف (الممثل يوسف أقادير) المكفوف البصر، الذي يقطن إحدى القرى النائية مع جده وجدته، وتتبدل حياته فجأة، بعد أن تناهت إلى مسامعه قدرة تلك البحيرة المبروكة على إعادة البصر المفقود. فما العلاقة إذن بين حكاية فيلمنا والاقتباس الذي ذكرنا؟ لإجابة هذا السؤال، ينبغي النظر إلى ماهية رحلة البطل ذاتها، التي تدور في سياق الوصول إلى الشفاء. هذا ما تبدو عليه ظاهريا، لكن الحقيقة أنها تحتوي على ما هو أعمق، فالبحث عن العلاج هو في حقيقة الأمر ليس إلا نبشا عن المكنون في الداخل الإنساني، وهذا الكنز المطمور يكشف حيثياته تلقائيا للمريد الباحث عن المعنى والجوهر. وهكذا نصبح أمام حكاية بسيطة الهيئة الشكلية، لكن بقدر تلك البساطة الآسرة، فإن المضمون مراوغ ماكر، إذ يتضمن مستويات قراءة متعددة الطبقات؛ يقع المستوى الأول الواضح بين أسوار المثابرة والإصرار، للوصول الآمن والمشروع إلى مرفأ الحلم، أما الطبقة الأخرى المستترة الأكثر عمقا، فينسج السرد خيوطها بدأب وعلى مهل، وتدور بين أتون البحث عن الذات، وما يرافق هذا السعي من إمساك بتلابيب الحقيقة، التي تتباين بالتأكيد من إنسان إلى آخر، كل بحسب معية إدراكه وقدرة تحصيله. وهذه النوعية من الأفلام -التي تسمى السينما الروحية- تلجأ إلى صياغة فنية مغايرة عن المألوف، تجنح نحو القول بالإشارة والتلميح، والابتعاد عن الإفصاح الصريح المباشر. فهل نجح فيلمنا في تغليف سياقه بالإحداثيات المستترة؟ أم كشف عن خبيئته علانية؟ تصاعد سردي على نمط موسيقي تكمن إجابة هذا السؤال بين رحى السيناريو المحكم البناء، الذي اشترك في كتابته مجيد سداتي والحسين الشاني وداود أولاد السيد، فقد اختار السرد أن يطلق مضمار الحكي من واقع بداية صوتية، في تطبيق عملي لمقولة مخرج الفيلم عن الصوت 'إن الصورة نراها ولا نرى الصوت، هو موجود وغامض، وهو الذي يعبر عما لا نراه'. وهنا نسمع أصوات أطفال يركضون ويلعبون، ثم نسمع أحدهم ينادي يوسف أن يشاركهم صورتهم، فيفاجئنا صوته أثناء عرضه لالتقاط الصورة لهم، وعندئذ تختفي الشاشة السوداء على حين بغتة، وينفتح الإطار على لقطة استهلالية للأطفال، في حين يصوب يوسف كاميرا هاتفه نحوهم. تمثل البداية الصوتية -المكللة بالشاشة السوداء- نوعا من التضامن مع الشخصية الرئيسية، أو -بمعنى أكثر دقة- دلالة وإشارة يسيرة عن يوسف، وكأننا أمام تمهيد أوّلي، لا عن البطل الرئيسي فحسب، بل عن البيئة العامة للأحداث كذلك، التي يقدمها البناء الدرامي في سرد حداثي مبتكر، مع ما يبدو عليه من تقليدية واضحة، تدعمها خطية السرد. فالحقيقة أن السرد أقرب في تكوينه إلى المقطوعة الموسيقية، التي تتكون عادة من أربع حركات، أولاها سريعة كالسوناتا، وفيها تمهيد عن الشخصيات ومحاولات كشف ملامحها الأولية. ومع بزوغ الحبكة ينطلق الفصل الثاني، القائم على رحلة البحث عن الحيز الجغرافي للبحيرة الزرقاء، وهنا نصل إلى الحركة الثانية البطيئة الإيقاع، وعند الوصول إلى البحيرة نصل إلى الحركة الثالثة الخاطفة السريعة، أما الحركة الرابعة فتطالعنا عند العودة من الرحلة. والواقع أن الاستعانة بهذا النمط من البنية الدرامية، أضفت قدرا لا بأس به من العذوبة والشاعرية على الهيكل العام للسرد، وأسهمت في تغليف النسيج العام بالسهولة والسلاسة، وتلك حيلة مراوغة تبطن أفكارا ودلالات أكثر غموضا، تحتاج إلى تأويل وقراءة هادئة، سعيا إلى الوصول لما يقبع بين السطور. عين مستعارة تعوض فقد النور مع وصول اليوم الدراسي إلى نهايته، يلتقي الجد علال (الممثل محمد خيي) بيوسف، فينطلقان في سيارة الأجرة التي يملكها نحو المنزل، وفي تلك الأثناء يعرج الجد على مصفف الشعر، لتهذيب شعر الطفل الذي أصابه الطول المفرط، وبينما ينتظر دوره، يلاحظ الجد انبهار يوسف بآلة تصوير يعرضها أحد الباعة الجائلين، فلا يتردد لحظة واحدة في الشراء، فالعمل على بهجة الحفيد يعد من أهم أولوياته. وحين تحل الكاميرا ضيفا على حياة يوسف، تبدأ حياته في التبدل التدريجي، فيطالعنا على الدوام ممسكا بالكاميرا، يلتقط كل ما تلمسه يداه، أو كل ما يشعر بوجوده في حدود محيطه المنغلق عليه. والمفارقة أنه يلتقط صورا حسنة الجودة، وعندها يمكن قراءة دلالة تلك الكاميرا، التي قد تبدو حيلة دفاعية يلجأ إليها، ليعوض بها فقدان نور عينيه، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن بقليل من التبصر نرى رمزية الكاميرا، فهي تبدو عينا مستعارة، يرى بها الطفل ما حوله، ويكتشف ما كان يعجز عن رؤيته أو الإحساس به، فلكل منا عصاه التي يتكئ عليها لقراءة مفردات هذا العالم، والكاميرا هنا تتضاعف قيمتها على نحو أكثر تقديرا. تقول الكاتبة والمصورة سوزان سونتاج، إن التقاط الصور امتلاك للمادة المصورة، وبذلك يدخل الإنسان في علاقة مع العالم، تجعله يشعر بلذة المعرفة، فالصورة نموذج مصغر عن الحقيقة، وبالعودة إلى العلاقة الوطيدة بين بطلنا والكاميرا، نجد أنها ستصاحبه طيلة أيامه المقبلة، وخلال رحلته الشاقة نحو البحيرة الزرقاء، يرى ما تعجز عيناه عن إدراكه، وكأنها تضيف إليه بعدا معرفيا يعوض خسارته السابقة، ويعزز إحساسه الداخلي بالاكتمال. وهكذا تسهب الحركة الأولى من السرد في تقديم الشخصية وعالمها، وكشف موطن أزمتها الوجودية، فانعدام البصر يشكل عائق يوسف الأكبر نحو ملامسة مفردات عالمه الصغير، مع أنه يستعين طوعا بعناصر خارجية مثل عدسة الكاميرا، لكن ثمة شيء ما يزال مفقودا، لذا عندما تطرق أسماعه أقاويل أحد أصدقاء الجد عن قدرة البحيرة الزرقاء على الشفاء، يعمل على تحويل هذا الهاجس إلى حقيقة. ترى هل سيحالفه النجاح؟ رحلة في عالم بلا حدود بعد أن أنصت يوسف إلى بعض الأقاويل المتناثرة عن البحيرة البعيدة، يقرر الانطلاق إليها، ولا يبالي بالمسافة الشاسعة الاتساع بينهما، وهنا نصل إلى الحدث المحفز، الذي تتبدل عنده أفعال الشخصيات ورؤيتها، فيدخلنا السرد إلى الحركة الثانية، التي تشكل النسبة الكبرى من الرقعة السردية، وفيها تطالعنا رحلة الجد ويوسف الباحثة عن مياه تلك البحيرة الشافية. قبل أن تبدأ الرحلة تحمّم الجدة يوسف وتغسله، وكأنه يستعد لرحلة حج مقدس، ثم يستقل الجد علال والطفل سيارة الأجرة، ويبدآن مقارعة الطريق الطويل، وفي تلك الأثناء يلتقيان أناسا من هنا وهناك، كل لقاء يحمل بين طياته إضافة ومغامرة على حد السواء، وهكذا يكتشف الطفل ما لم يكن يدركه سابقا عن هذا العالم، فالرحلة تمثل خروجا طوعيا عن الشرنقة التي تغلف إطار حياته. وبنظرة بانورامية على خريطة حياته، نجد أنها تنتمي كلية إلى الهامش، ولا يعود السبب إلى جغرافية المكان ذاته، الواقع بالقرب من الصحراء أو على الأطراف، بل إن السياق المحيط بهذا النمط المعيشي، ومعاناة الشخصيات، كل هذه العوامل، ترسخ سلطة الهامش، على حساب المتن المتباعد في المجهول. يتوغل علال ويوسف في أحضان الصحراء المفرطة الاتساع، التي لا يبين لها أول من آخر، فالمعتاد في تلك الأحيان، أن يصبح المكان موحشا مدثرا بالخوف، وما يرافقه من مشاعر أخرى متناقضة، مثلما يقول الكاتب عبد الرحمن منيف 'الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر، يتحول إلى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن، ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية، كالصحراء بلا نهاية'. لكن الكاميرا هنا تعمد إلى العكس تماما، فتلتقط عدساتها جمال التكوينات الصحراوية المتسعة، وما تحمله رمالها الصفراء من نعومة وسحر، ومن ثم تتحول تلك الصورة الذهنية الكاذبة عن الصحراء إلى أخرى مألوفة، وفي تلك الأثناء تصاب سيارة الجد بعطب مفاجئ، ولا مفر حينها من الاستعانة بالجمال، ليكون وسيلة انتقال بديلة، وبذلك يتواصل كشف جماليات الصحراء، وما يقبع خلف سكونها من حياة أخرى مغايرة. مجاز البحيرة الزرقاء بعد مسيرة بضعة أيام في عمق الصحراء، يصل علال ويوسف إلى موطن البحيرة الزرقاء، أو هذا ما بدا عليه الأمر، فيتوقف الجد على حين فجأة، ويعلن أن الرحلة قد اكتملت، فقد وصلا إلى البحيرة المقدسة، وبذلك يصل السرد إلى الحركة الثالثة، لكن الكاميرا لا تمارس دورها في اقتناص ما تيسر من لقطات أو مشاهد للبحيرة. وهنا نتضامن مرة أخرى مع يوسف في محنته البصرية، فيندثر الخيط الفاصل بين الواقع والخيال، ويصبح السؤال عن ماهية تلك البحيرة أمرا واجبا، هل هي حقيقية؟ وهل وصلا إليها؟ أم أن وقود الجد نفذ، وعَمد إلى التوقف المفاجئ، لا أحد يدري على وجه الدقة. لا شك أننا أمام فيلم طريق، أي يدور حول رحلة ذاتية، تضطلع بها الشخصية الرئيسية، وعند اكتمال خيوطها، يتبدل المكنون الداخلي للشخصية، أو تكتسب صفة أو ميزة تنافسية عن السابق، وبتطبيق هذه المفاهيم النظرية على فيلمنا، يمكن بمنتهى السهولة واليسر التقاط ما يكفي ويفيض من التبدلات أو الفيوض، التي لحقت بشخصية يوسف. وهذا يحيلنا تلقائيا إلى الركن الأهم من أعمدة مضمون الفيلم، حيث الفارق بين البصر والبصيرة، فإذا كان بطلنا يعاني من انحسار البصر، فإن سخاء البصيرة الذاتية يشكل تعويضا رحبا عن هذه المعاناة، وتلك البصيرة تنمو قدرتها وتتشعب خلال تلك الرحلة، ومن ثم يكتسب هذا الترحال أبعادا إضافية، غير اكتشاف العالم، وقراءة المكونات المحيطة به. يلتقي يوسف في أحد المشاهد بأحد مشايخ الصوفية، وفي هذه الجلسة، يضفي الشيخ بعض سكينته وعلمه على قلب الطفل، فيغذي روحه ببعض الفيض الإلهي، ويجعله يرى هذا الكون الشاسع، لا بعينيه المنغلقتين بل بعين قلبه، وهي الأصدق والأنقى، وتكتمل تلك المعرفة بملاقاة البحيرة الزرقاء، وحينها يولد من رحم تلك الرحلة إنسانا مغايرا عن المعتاد، فقد تحقق كنز البصيرة، الأعلى درجات من محدودية النظر. وهل يستوي الأعمى والبصير؟ حلاوة المعرفة بعد مشقة الرحلة في الحركة الرابعة من المقطوعة السردية، يُتم يوسف طقوس رحلته على الوجه الأكمل، ثم يعود إلى قريته، وعندما تباغته صديقته زينب بالسؤال عن صور البحيرة الزرقاء، يلزم السكون ولا يرافقها بالرد، فلكل واحد بحيرته، التي لا يراها ولا يدرك كنهها سواه، وهنا تتضح مجازية الرحلة ذاتها، أو الغرض منها، ألا وهو إدراك العمق أو الكنز الشخصي، الذي يقبع بين صدر كل إنسان. وهنا تتجلى عناصر الصراع الدرامي، القائم على تحقيق المعرفة الكاملة بالذات، وللوصول إلى درجاتها الكاملة، لا بد من الولوج في خضم معاناة روحية ذاتية، وهذا ما جرت وقائعه مع يوسف، الذي انساب بين أمواج الرحلة، حتى عبر نحو الشاطئ المقابل المكلل بالمعرفة اليقينية. وللتعبير عن تلك المكنونات الروحية، يلجأ السرد إلى تطعيم الحكاية بالرمزية والشاعرية، التي تضفي على النسيج السردي بعدا صوفيا لا يخطئه مذاق المتفرج، ومن ثم يصيب الفيلم بالعذوبة والرقة، وقد أسهم الإيقاع المشدود كالوتر، في تغليف الحكاية بجرعة فياضة من السلاسة، مع ما تبطنه زوايا الفيلم من جرعات تأملية مكثفة، ستظل ماثلة في الذاكرة مدة ليست بالهينة. وفي سياق متقارب يقول المتصوف أبو علي الدقاق: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة. وبطلنا بعد مشقة الرحلة، ذاق حلاوة المعرفة، ومن ذاق عرف.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
وفيّ لجدته ومحب لأسرته.. قصة مؤثرة وراء اسم لامين جمال
يحظى لامين جمال نجم برشلونة باهتمام كبير من وسائل الإعلام، بعد الأداء الفني المذهل الذي قدّمه مع برشلونة هذا الموسم وقيادته الفريق للتتويج بـ3 ألقاب محلية. وليس هذا فحسب بل انهالت على لامين جمال عديد من عبارات المديح والإطراء من قبل الصحافة ونجوم كرة القدم، بسبب شخصيته القوية وأدائه الرائع، خاصة في المباريات الكبيرة. وُلد لامين جمال يوم 13 يوليو/تموز 2007 في بلدة إسبلوغاس دي يوبريغات الواقعة ضمن حدود برشلونة، لأب مغربي يدعى منير نصراوي، وأم من غينيا الاستوائية واسمها شيلا إيبانا. قبل ولادته بوقت قصير كانت أسرته تعيش ظروفا حرجة، فتلّقت مساعدة من شخصين في أثناء وجودها في إحدى محطات رحلتهم مهاجرين إلى برشلونة. سبب تسمية لامين جمال وحسب صحيفة "آس" الإسبانية، فإنه في الوقت الذي لم يتمكن فيه والدا جمال من دفع إيجار السكن الذي كانا يعيشان فيه، ساعدهما رجلان اسمهما لامين وجمال في توفير مسكن. وتقديرا لهما وفي بادرة امتنان، أطلق منير على طفله اسمهما معا، وهو ما يفسر الاسم المركب لنجم برشلونة المتألق. ونشأ نجم برشلونة الشاب في حيّ "روكافوندا" العمالي الذي تنتهي رموز بريده بالرقم 304، وهو الرقم الذي يشكّله جمال بأصابعه كلما سجل هدفا للبلوغرانا أو لمنتخب إسبانيا، وهي وسيلته للتعبير عن رفضه نسيان أصوله، بل وإظهارها لأوروبا والعالم. كما يحرص لامين جمال على وضع 3 أعلام على حذائه لإسبانيا والمغرب وغينيا الاستوائية، وهي الدول الثلاث التي تمثّل هويته من ناحية والده ووالدته وكذلك الفريق الوطني الذي يلعب له حاليا. وفاء لامين لجدته وحسب الصحيفة ذاتها، انفصل والداه وهو في سن مبكّرة، ورغم ذلك يحافظ جمال على علاقة طيبة مع كليهما، علما بأنه تربى على يد جدّته فاطمة التي غادرت مدينة طنجة المغربية قبل أكثر من 30 عاما للعيش في العاصمة الإسبانية مدريد. هناك عملت فاطمة لبعض الوقت مقدّمة رعاية لكبار السن، وبعد وفاة المسّن الذي كانت تهتم به تنّقلت في عدة بلدات إسبانية حتى استقرت بها الحال في برشلونة مع أبنائها الأربعة ومن بينهم منير والد لامين جمال. وعندما سطع نجم لامين جمال وأصبح يتقاضى راتبا كبيرا من كرة القدم إلى جانب عقد الرعاية من "أديداس"، فإن أول شيء فعله هو شراء منزل لجدته بالقرب من بيت أسرته، وفق ما أكده موقع "لارزون" الإسباني. ويولي لامين جمال اهتماما بالغا بأسرته، وآخرهم أخوه الأصغر كين الذي وُلد في السادس من سبتمبر/أيلول 2022، والذي يُعد بمثابة "القلب النابض" للاعب ويحرص على اصطحابه معه في معظم المباريات سواء لبرشلونة أو لمنتخب إسبانيا. وقد ظهر كين محمولا بين يدي لامين بعد عديد من المباريات المهمة، أبرزها احتفالات برشلونة بكأس ملك إسبانيا، وكذلك بعد الفوز على ريال مدريد في الجولة الـ35 من الدوري الإسباني. إعلان والآن أصبح لامين جمال (17 عاما) واحدا من أبرز نجوم برشلونة، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، ولاعبا أساسيا في منتخب إسبانيا. ومنذ مشاركته لأول مرة مع الفريق الأول لبرشلونة في أبريل/نيسان 2023، خاض 104 مباريات بجميع البطولات، وسجل خلالها 24 هدفا وقدمّ 34 تمريرة حاسمة، وفق أرقام موقع "ترانسفير ماركت" الشهير، وقد حطّم عديدا من الأرقام القياسية. كما تُوج بـ4 ألقاب مع برشلونة هي الدوري الإسباني (2)، كأس ملك إسبانيا (1)، وكأس السوبر الإسباني (1)، بالإضافة إلى لقب كأس أوروبا (يورو 2024) مع منتخب إسبانيا.