logo
#

أحدث الأخبار مع #المعصوم

من التكرار إلى الابتكار.. حين يبدع العقل خارج النص
من التكرار إلى الابتكار.. حين يبدع العقل خارج النص

شبكة النبأ

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • منوعات
  • شبكة النبأ

من التكرار إلى الابتكار.. حين يبدع العقل خارج النص

كلَّ تجربة، مهما بدت بسيطة أو مألوفة، يمكن أن تتحوّل إلى فرصة ذهبية حين تُخضع لمنهج التفكير خارج النص. فالعباقرة لا يملكون عقولًا خارقة؛ بل يمتلكون الجرأة على رؤية المألوف من زاوية غير مألوفة، وعلى تحويل الفكرة الساكنة إلى مشروعٍ نابض بالتجديد. وختامًا، لنجعل من عقولنا ساحات للتأليف... يشهد العالم المعاصر تحوّلات متسارعة وتغيُّرات متلاحقة شملت مختلف مناحي الحياة، ما أفرز صعوبات غير تقليديَّة تتطلَّب مهارات عقليَّة متقدِّمة تتجاوز النمطيَّة والتَّفكير التَّقليدي. وفي خضم هذا السِّياق، برز التَّفكير الإبداعي وتوليد الأفكار بوصفه عنصرًا حيويًّا في مسيرة التَّقدُّم والتَّميُّز، ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى المؤسسات والمجتمعات كذلك؛ فقد أصبح امتلاك القدرة على إنتاج أفكار جديدة، وربط الأفكار القائمة بطرق مبتكرة من ضروريات التكيُّف والرِّيادة في عصر المعرفة والابتكار. ولا يُعدُّ الإبداع مجرَّد موهبة فطريَّة تُمنح للبعض من دون غيرهم، وإنَّما هو مهارة يمكن صقلها وتطويرها من خلال المعرفة والممارسة والتَّدريب المنهجي. كما أنَّ عمليَّة تأليف الأفكار، بما تحمله من تعقيد وتركيب، تمثِّل جوهر التَّفكير الإبداعي؛ إذ تعتمد على تكامل الخبرات والمعارف المتنوعة في صيغ فكريَّة مبتكرة تتسم بالأصالة والملاءمة. ونقصدُ بتأليف الأفكار: توليد أفكار جديدة وربطِها ببعضِها البعض بطرق مبتكرة وغير مألوفة؛ فهي عمليَّة إبداعيَّة تتطلَّب القدرة على تجاوز التَّفكير التَّقليدي، والبحث عن حلول غير اعتياديَّة للمشكلات التي قد تبدو معقدة أو مستعصيَّة. ولا يقتصر تأليف الأفكار على إيجاد حلول جديدة؛ وإنَّما يشمل أيضًا دمج المفاهيم المختلفة من مجالات متعدِّدة لإيجاد مداخل غير تقليديَّة للمشاكل؛ وهذه العمليَّة تفتح أمام الإنسان آفاقًا واسعة لتطوير أساليب مبتكرة تلبي احتياجات العصر وتواكب تغيُّراته المتسارعة. ولأضرب مثالًا على تأليف الأفكار، أو الاستفادة من أفكار أخرى: الرِّزقُ والغِنى وكسبُ المالِ يحتاج إلى العملِ وبذلِ الجهدِ والتَّعبِ؛ ولكن القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) تعطينا عدَّة أفكار لها علاقة بالرِّزق؛ لكنَّها غير مباشرة، ومثالُ ذلكَ؛ قوله (تعالى): (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (1)؛ فالآية القرآنية تبيِّن أنَّ الزَّواجَ من طرق الرِّزق والغنى. وقال الرَّسولُ الأعظمُ محمّدٌ (صلَّى الله عليه وآله): "إلتمسوا الرِّزقَ بالنِّكاحِ"(2). وقال (صلَّى الله عليه وآله): "تزوَّجوا النِّساءَ، فإنَّهن يأتينَ بالمالِ"(3). فنلاحظ أنَّ المعصوم (عليه السلام) يعطى فكرة من خارج أفكارِنا، ويؤلِّفُ فكرةً جديدةً نحن لم نعتدْ عليها وأعطاها لنا؛ ففي قضية الشَّخص الفقير الذي نقول له: تزوَّج، هو ينظر بعدم وجود دافع ومحفِّز لجمعِ الأموالِ من الزَّواج، وعلى العكس من ذلك سوف تكون هناك مؤونة على الرَّجلِ؛ لكن هذا الإنسان يجهل أنَّ الله (تبارك وتعالى) قادر على فتح أبوابٍ من الرزق على يد تلك المرأة. وإذا أردنا أن نعرفَ سرَّ العباقرة والمفكرينَ ستجدهم يؤلفونَ بين الأفكار، وعادةً ما تكون تلك الأفكار مختلفة، ولا يوجد بينها علاقة بمنظورنا الذي اعتدنا عليه؛ ولأهميَّة الموضوع سوف نبحثه على شكل محاور: المحور الأوَّل: طرق تطوير مهارة تأليف الأفكار تتنوَّعُ الطرقُ والاستراتيجياتُ التي تسهمُ في تنمية هذه المهارة وتطويرها بفعَّالية، وأهمُّ هذه الطُّرق: 1. مراجعة الأفكار: كلُّ فكرة قد قدَّسناها في الماضي لابدَّ من عرضها على القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام)؛ فإذا كانت متوافقة معهما، نتمسَّك بها، وأمَّا إذا لم نجد توافقًا، فعلينا تركها والتَّخلي عنها. وبمعنى آخر: إذا كانت بعض الأفكار التي تكوَّنت سابقًا خاطئة أو محدودة، فمن الأفضل إعادة تقييمها أو البحث عن طرق جديدة لتجاوزها؛ وهذا هو جوهر "التَّفكير خارج الصُّندوق"؛ أي التَّفكير بطرق غير تقليديَّة والنَّظر إلى الأمور من زوايا جديدة من دون التَّوقف عند الأفكار القديمة التي قد تعيق التَّقدُّم. 2. القراءة والاطلاع: قراءةُ الكتبِ والمقالات، والاطِّلاع على مختلفِ المجالات هي من الوسائل المهمَّة التي تسهم في توسيع مداركنا وتعميق فهمنا للعالم من حولنا؛ فعندما نغمر أنفسنا في عالم الكتب نكتسب معارف متنوعة من تجارب الآخرين وأفكارهم، ممَّا يُحفِّز عقولنا على التَّفكير النَّقدي والإبداعي؛ فالانفتاح على مجالات مختلفة، سواء كانت علميَّة أو أدبيَّة أو ثقافيَّة، يمكن أن يُثري آفاقنا الفكريَّة ويوفر لنا الأفكار الجديدة التي تُساعد في حلِّ المشكلات وتطوير الذَّات. 3. التَّفكير الحر: تخصيص وقت يومي للتفكير الحر من الخطوات الضروريَّة التي يمكن أن يتَّخذها الإنسان لتنمية إبداعه وتوسيع آفاقه الفكريَّة، وحينما تسمح لنفسك بالتجول بأفكارك بحرية من دون قيود أو حواجز عقليَّة، فإنَّك تفتح أمام عقلك مساحات واسعة من الإبداع والتَّأمُّل. وهذه اللحظات من التَّفكير غير المحدود تسمح لك بمراجعة تجاربك، وتوليد أفكار جديدة. كما أنَّها تتيح لك استكشاف أبعاد جديدة للأشياء التي قد تكون غفلت عنها في برنامجك اليومي. 4. العصف الذِّهني: عقد جلسات عصف ذهني مع فريق العمل أو الأصدقاء هو وسيلة فعَّالة لتحفيز الإبداع الجماعي وتوليد أفكار جديدة ومبتكرة؛ وفي هذه الجلسات، يتمُّ طرح الأفكار بحرية من دون تقييم أو انتقاد، ممَّا يسمح لكلِّ فرد بالمشاركة من دون خوف من الحكم عليه. وهذه البيئة الآمنة والمفتوحة تشجِّع الجميع على التَّفكير بشكل غير تقليدي والابتكار خارج الحدود التي تضعها المعايير التَّقليديَّة. 5. استخدام أدوات الإبداع: مثل الخرائط الذهنيَّة، والجداول، والرُسومات البيانيَّة أسلوب فعَّال لتنظيم الأفكار وتحفيز التَّفكير المنظم؛ فالخرائط الذِّهنية أداة قوية تساعد في ربط الأفكار ببعضها البعض بشكل بصري، ممَّا يسهل عليك فهم العلاقات بين المفاهيم المختلفة وتوليد أفكار جديدة. وأمَّا الجداول فتساعد في ترتيب المعلومات بشكل منظم وواضح، وهذا بدوره يساعد على تحديد الأولويات والتَّركيز على النقاط الأساسيَّة من جهة. ومن جهة أخرى، تتيح لك الرُّسومات البيانيَّة تمثيل البيانات بشكل مرئي، ممَّا يسهل فهمها واستخدامها في اتِّخاذ القرارات. 6. الاستفادة من تجارب الآخرين: تعلَّم من تجارب الآخرينَ النَّاجحينَ، واستلهمْ من أفكارِهم؛ فإنَّ استشارة الآخرينَ سوف تمكِّنك من الحصولِ على أفكار جديدة، وبعد ذلكَ ستمازج بينَ الأفكارِ التي تمتلكُها سابقًا والأفكار الجديدة؛ لذلكَ إذا لم تستطعْ أن تنتجَ الأفكارَ استوردْها من الآخرينَ. 7. تطوير مهارات الاستماع: الاستماع الفعَّال مهارة أساسيَّة ترفع نسبة فهم وجهات نظر الآخرين وتعمق التَّواصل بين الأفراد. وعندما نولي الاستماع كامل تركيزنا من دون مقاطعة، نُظهر احترامنا لآراء الآخرين، ما يسهم في تبادل الأفكار والمفاهيم بشكل أكثر انفتاحًا. وهذا النوع من الاستماع يتجاوز مجرَّد سماع الكلمات ليشمل فهم المشاعر والتَّوجهات التي تكمن وراء كلِّ رأي. يضاف إلى ذلك توسيع آفاقنا واكتساب رؤى جديدة قد تغيب عنَّا أو نكون غير مدركين لها. 8. الصَّبر والمواصلة: الإبداع في التَّفكير يشبه عمل الغوَّاص الذي يغوص في أعماقِ البحر بحثًا عن اللؤلؤ؛ وعلى الرَّغم من أنَّه قد يجمع الكثيرَ من المحَّار، إلَّا أنَّه قد لا يجد اللؤلؤ إلَّا في واحدةٍ منها. دمجُ الأفكار من المهارات الفكريَّة التي تساند الإبداعَ، وتتنوعُ الطرقُ المستخدمةُ لتحقيق هذا الدمج بما يدفع إلى توليد رؤى مبتكرة وحلول متكاملة، ومنها: 1. الجمع (دمج فكرتين أو أكثر لإنشاء فكرة جديدة متكاملة). الجمع هو أسلوب نستخدمه عندما نريد إنشاء فكرة جديدة تنبع من دمج فكرتين أو أكثر اندماجًا كاملًا، بحيث تخرج بنتيجة مميزة لم تكن موجودة سابقًا. وهذا النَّوع من التأليف يتطلَّب دمجًا عميقًا ومتوازنًا بين مكوِّنات الأفكار الأصليَّة لتُنتج فكرة تحمل ميزات جديدة ومبتكرة. ومثال ذلك: دمج الواقع الافتراضي مع التَّعليم الطِّبي، لننتج منصة تدريب جراحي ثلاثية الأبعاد، تسمح لطلَّاب الطب بممارسة العمليات الجراحية في بيئة افتراضيَّة آمنة؛ والنتيجة إننا لا نضع التَّعليم والواقع الافتراضي بجانب بعضهما؛ وإنَّما نخلق تجربة جديدة قائمة على تفاعلهم الكامل. 2. التوسيع (إضافة عناصر جديدة إلى فكرة موجودة لتطويرها). في هذا الأسلوب، لا نغيِّر جوهر الفكرة؛ وإنَّما نطوّرها بإضافة أبعاد جديدة تجعلها أكثر نفعًا أو شمولًا، فنأخذ الفكرة كما هي، ونسأل: ماذا يمكنني أن أضيف إليها لتصبح أقوى أو تخدم فئة أوسع؟ ومثال ذلك: برنامج محو أمية للكبار يتمُّ توسيعه ليشمل التَّعليم المالي، مثل تعلم كيفيَّة إدارة المصروف، وفتح حساب مصرفي، والتَّعرف على طرق الحماية من الاحتيال المالي؛ وبذلك نحصل على برنامج أكثر ارتباطًا بحياة المتعلمين، ويمنحهم أدوات عملَّية للعيش بثقة واستقلاليَّة. * من آثارِ النَّشاط. فقدَ أحدُ الرِّجال عملَهُ فجأةً، ولم يكن له رأسمال يتمكَّن أن يتاجرَ به، فاستنصح أحدَ أصدقائه. فقال له الصَّديق: تنوَّع في العملِ وانشط. فعمل الرَّجلُ بنصح الصَّديق، فأخذَ يبيع الخبزَ صباحًا، فإذا طلعت الشَّمسُ يخدم حمامًا بنشر المآزر في الشَّمسِ، وبعدَ ذلكَ يبيعُ الجرائد، وعند الظَّهيرة يبيع العصيرَ، وقبل المغربِ إلى ساعتينِ من الليلِ، يعمل صبَّاغًا للأحذية في المقاهي والشَّوارع، فاستغرقت أعمالُه أربع عشرة ساعة، فلم تمض إلَّا خمس سنوات؛ وإذا به يصبحُ من كبارِ الأثرياء (4). وإذا دققنا في القصَّة سنجد أنَّ الرَّجل في القصَّة لم يبتكر فكرة جديدة تمامًا؛ بل بدأ بفكرة بسيطة وهي العمل اليومي لكسب الرِّزق، ثمَّ وسعها تدريجيًا بإضافة أنشطة متعددة: (بيع الخبز، خدمة الحمام، بيع الجرائد، العصير، تلميع الأحذية...) حتَّى أصبح غنيًّا بعد ذلك. 3. الحذف (إزالة ما هو غير ضروري لتبسيط الفكرة وتحسينها). أحيانًا تكون الفكرة الأصليَّة جيِّدة؛ لكنَّها مليئة بالتَّفاصيل غير الضروريَّة أو المعقّدة التي تعيق فهمها أو استخدامها. وباستخدام الحذف، نحتفظ بجوهر الفكرة؛ لكن نُزيل الأجزاء الزَّائدة لتصبح أكثر وضوحًا وسهولة في التَّنفيذ. ومثال ذلك: منصة تعليم إلكتروني مليئة بالأدوات والخيارات التقنيَّة يتمُّ تبسيطها بإزالة الإضافات الزَّائدة، وجعل الواجهة واضحة وسهلة الاستخدام لكبار السن أو المستخدمين غير التقنيين. والفكرة الناتجة من ذلك ستكون أبسط وأكثر شمولًا لفئة أكبر من النَّاس. 4. التعديل (تكييف الفكرة لتناسب مع جمهور أوسع أو سياق مختلف). التَّعديل هو أخذ فكرة موجودة وتغيير بعض عناصرها لتتناسب مع جمهور جديد، وبيئة مختلفة، أو وقت مختلف. والفكرة الأساسيَّة تظل كما هي؛ لكننا نُعيد تشكيلها بما يتلاءم مع الظرف الجديد. ومثال ذلك: برنامج تدريب مهني كان يُقدَّم حضوريًّا داخل المراكز التدريبيَّة، يتمُّ تعديله ليُقدَّم عبر تطبيق هاتف ذكي مصمم خصيصًا للذين لا يستطيعون التَّنقل بسهولة. وبعد ذلك التَّعديل سنجد أنَّ الفكرة قديمة أصبحت ذات تأثير جديد بفضل تكييفها للواقع. * كيف تتقاضى مالك وتحصل عليه بسهولة؟ رَوىَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى رَفَعَهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، قَالَ: " قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ لِي عَلَى بَعْضِ الْحَسَنِيِّينَ مَالًا وَقَدْ أَعْيَانِي أَخْذُهُ وَقَدْ جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ وَلَا آمَنُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ مَا أَغْتَمُّ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): "لَيْسَ هَذَا طَرِيقَ التَّقَاضِي، وَلَكِنْ إِذَا أَتَيْتَهُ أَطِلِ الْجُلُوسَ وَالْزَمِ السُّكُوتَ". قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ إِلَّا يَسِيراً حَتَّى أَخَذْتُ مَالِي"(5). وإذا دققنا النَّظر سنرى أنَّ الرَّجل في القصَّة أراد أن يتقاضى ماله بالكلام، والمطالبة، وربما بالمواجهة الكلاميَّة الحادَّة؛ لكن هذه الطريقة لم تنجح، وزادت التَّوتر، وأوصلته إلى طريق مسدود. وحينما استشار الإمام الصادق (عليه السلام) لم يرفض (عليه السلام) فكرة التَّقاضي، وإنَّما عدّل طريقتها، وحوَّلها من طريقة مباشرة متوترة إلى أسلوب نفسي هادئ يقوم على التَّأثير الصَّامت، وضغط الحضور والسُّكوت، وهو أسلوب فعَّال لمنع الصِّدام وجعل الطَّرف الآخر يتحرَّك من تلقاء نفسه. 5. العكس (قلب الفكرة لرؤية جديدة تمامًا). يستند هذا الأسلوب على قلب الفكرة أو تغيير أدوارها، بهدف اكتشاف إمكانيات جديدة لم تكن ظاهرة من قبل. ويمكن أن يكون عبر عكس الفرضيات، أو عكس الأدوار، أو تحويل السلبيَّات إلى فرص. ومثال ذلك: بدلًا من أن يكون الطالب متلقّيًا للمعلومة فقط، يُطلب منه أن يُقدِّم درسًا لزملائه بعد التَّعلُّم، ويقوم بدور المعلِّم لفترة قصيرة؛ وهنا انقلبت الأدوار، فأصبح التَّعلُّم أكثر تفاعلية وتأثيرًا. * الصدقة مفتاح الرزق. عَنْ هَارُونَ بْنِ عِيسَى قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) لِمُحَمَّدٍ ابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ، كَمْ فَضَلَ مَعَكَ مِنْ تِلْكَ النَّفَقَةِ"؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ دِينَاراً. قَالَ: اخْرُجْ فَتَصَدَّقْ بِهَا. قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعِي غَيْرُهَا! قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَا فَإِنَ‏ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُخْلِفُهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِكُلِّ شَيءٍ مِفْتَاحاً وَمِفْتَاحَ الرِّزْقِ الصَّدَقَةُ، فَتَصَدَّقْ بِهَا. فَفَعَلَ، فَمَا لَبِثَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَاءَهُ مِنْ مَوْضِعٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْطَيْنَا لله أَرْبَعِينَ دِينَاراً فَأَعْطَانَا اللهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ"(6). وإذا تأمَّلنا في هذه القصة سنجد التفكير الطبيعي يقول: إذا لم يبقَ معي سوى أربعين دينارًا، فعليَّ أن أحتفظ بها حتَّى لا أفتقر؛ لكن الإمام (عليه السلام) يقلب هذه القاعدة ويقول: تصدَّق بها؛ لأنَّ مفتاح الرزق الصَّدقة. وبدل أن يكون الاحتفاظ بالمال سببًا للبقاء، تصبح الصدقة – وهي التخلِّي عن المال– سببًا لحصول رزق أكبر. * التِّجارة بالمال الحلال. دخلَ رجل شاب على الصَّادق (عليه السلام)، وقال: ليس لي رأسُ مال. قال الإمام (عليه السلام): "كن صادقًا أمينًا، يرزقك الله". فخرجَ فوجدَ في الطَّريق هميانًا (7) فيه سبع مائة دينار. فقال في نفسهِ: لا بدَّ أن أمتثلَ وصيَّةَ الإمام (عليه السلام) وعليه يجب أن أعلنَ على الملأ من فقدَ هميانًا فليأتي إليَّ. فصاح قائلًا: من ضاع منه شيءٌ فليذكره ليأخذه. فجاءه رجل، وأعطاه أوصاف الهميان فأخذَهُ بعد أن أهدى الشَّاب سبعينَ دينارًا. فأخذها وأتى الإمام (عليه السلام) وأخبره القضيَّةَ، فقال (عليه السلام): هذه السبعون دينار الحلال أفضل من تلك السبعمائة الحرام، وهذا رزقك من الله. فاتَّجر الشَّابُ بها حتَّى أصبح ثريًا (8). وإذا تابعنا القصة سنكتشف أنَّ العقل المادِّي كان يقول للشاب: "السبعمائة دينار بين يديك، فاحتفظ بها، ولا أحد يعرف بذلك"؛ لكن الشاب قلب هذا التفكير تمامًا، وعمل بعكسه وفضَّل الصِّدق على المال السَّهل. فأعاد المال لأهله على الرَّغم من حاجته إليه. وكانت النَّتيجة: رزقًا مباركًا ونجاحًا مستمرًا. 6. الدمج الجزئي (أخذ جزء من كلِّ فكرة لصناعة فكرة جديدة). الدَّمج الجزئي يعني اختيار جوانب محددة من فكرتين مختلفتين، وتجميعها بطريقة دقيقة لصناعة فكرة جديدة تحمل فقط أهمَّ وأقوى العناصر من الفكرتين الأصليتين. ومثال على ذلك: أخذ ميزة "البث المباشر" من وسائل التَّواصل، مع فكرة "جلسات الدَّعم النَّفسي"، لننتج فكرة جديدة: (جلسات دعم نفسي مباشر عبر الإنترنت) تُبثُّ بشكل جماعي ويشارك فيها مختصون. والنتيجة: خدمة جديدة تستفيد من عنصر التَّفاعل المباشر دون الحاجة لبناء منصة ضخمة من الصِّفر. * أسهل طريق لزيادة الرِّزق. قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ الله بْنِ الْحَسَنِ عَلِّمْنِي‏ شَيْئاً فِي الرِّزْقِ؟ فَقَالَ: الْزَمْ مُصَلَّاكَ إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ أَنْجَعُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ. فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) (9). فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ فِي الرِّزْقِ مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى. قَالَ: خُذْ مِنْ شَارِبِكَ وَأَظْفَارِكَ كُلَّ جُمُعَةٍ"(10). وفي هذه القصة نلاحظ وجود طريقتين مختلفتين في ظاهرها لتحصيل الرِّزق: 1. الجلوس في المصلى بعد صلاة الفجر (عمل تعبّدي). 2. الاهتمام بالنَّظافة الشخصية (قص الشارب والأظفار؛ وهو سلوك بدني). لكن القصة لا تدمج هاتين الفكرتين لصناعة نظام واحد متكامل جديد، كما يحصل في "الجمع الكامل"، بل: تأخذ عنصرًا من العبادة؛ ألا وهو الارتباط بالوقت والمكان المقدس بعد الفجر، وتربطه بـ عنصر مادي دنيوي بسيط جدًا (النظافة الأسبوعية). ثمَّ يتمُّ تقديم كلاهما كمفتاح غير تقليدي للرزق؛ لكن من دون أن يكون هناك تفاعل مباشر يُنتج فكرة جديدة موحدة؛ وإنَّما نحصل على فهم مركب جديد من خلال تفاعل جزئي بين مظهرين من مظاهر السلوك (المعنوي والبدني). وبتوضيح آخر: العنصر الأول: العبادة (الجلوس بعد الفجر). العنصر الثَّاني: الطهارة والنظافة الشخصية (قص الشَّارب والأظفار). النتيجة: فكرة جديدة ترى أن أسباب الرزق قد تكون موزعة بين الرُّوح والجسد؛ بين العبادة والمظهر، وهو توسيع ضمني لمفهوم "طلب الرزق". * الرزق وعلاقته بالصلاة. يُرْوَى عَنْ رَسُولِ الله (صلَّى الله عليه وآله‏) أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ خَصَاصَةٌ (11) قَالَ: قُومُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي، قَالَ اللهُ (تَعَالَى)‏: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) (12) "(13). تستعرض هذه الرواية العلاقة بين الصَّلاة والرزق؛ إذ يتمُّ الربط بين العبادة (الصَّلاة) والاطمئنان برزق الله (تعالى) من جهة، وبين السلوك الإيماني والتَّعامل مع الضيق الاقتصادي من جهة أخرى. ويمكن تفصيل العلاقة على النَّحو الآتي: 1. الرواية تشير إلى أن النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) كان إذا نزل به وأهله ضيق في المعيشة (خصاصة)، لم يبدأ بالشَّكوى أو الانفعال؛ بل قال: "قوموا إلى الصلاة". وهذا يبيِّن أنَّ الصَّلاة هي أوَّل ما يلجأ إليه في أوقات الشدَّة، ممَّا يكشف عن بُعدٍ علاجيّ ومعنويّ للصَّلاة في مواجهة الأزمات الاقتصاديَّة. 2. أوضح الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ الصلاة وسيلة للتقرب إلى الرَّازق الحقيقي، وربط هذا السلوك بقول الله (تعالى): (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)، ممَّا يدل على أنَّ العبادة لا تُطلب مقابل الرزق؛ وإنَّما الرزق بيد الله (تعالى)، والصَّلاة تذكير دائم بهذه الحقيقة التوحيديَّة. فحين يُؤمر بالصلاة، يُربَّى في النفس اعتمادها على الله (تعالى) كمصدر للرزق، لا على الجهد المادِّي فقط. 3. الصلاة في هذا السياق لا تعني التخلِّي عن العمل أو السَّعي؛ ولكن تعني البدء بإصلاح العلاقة مع الله (سبحانه) والتوكل عليه؛ وبصورة أخرى الصلاة: هي بوصلة معنوية توجه الإنسان إلى أن الرِّزق لا ينحصر في الأسباب الظاهرة فقط، بل إنَّ النيَّة والتوجه القلبي والطَّاعة هي جزء من منظومة الرِّزق. 4. الأمر بالصَّلاة عند الخصاصة يُراد به أيضًا الاصطبار، كما قال تعالى: (واصطبر عليها)، وهذا يؤكِّد أنَّ الرِّزق لا يأتي بالانفعال أو القلق؛ بل بالصَّبر المرتبط بالعبادة، وهو ما يسهم في تنمية سلوك التوكل الإيجابي. * تنبيه: عندما نقول: إنَّ الصَّلاة والصَّدقة والأمانة وسائل للرزق، فهذا تأكيد على أهميَّة العمل والسَّعي إلى جانب العبادة، وليس المقصود هنا أن نكتفي بالجلوس وانتظار الرِّزق، وإنَّما لا بدَّ من اجتماعهما معًا؛ فالصَّلاة تقوي العلاقة مع الله (تعالى) وتزرع في القلبِ الأملَ والتَّفاؤلَ، ممَّا يحفز الفرد على السَّعي في حياته. علاوة على ذلكَ، فإنَّ الصَّدقة تضاعف قيم العطاء والمشاركة، وتفتح أبواب الرِّزق بطرق غير متوقعة، ومن هنا فإننا حينما نشاركُ الآخرينَ ما لدينا نخلق بيئةً من التَّعاون والمحبَّة، ممَّا ينعكس إيجابًا على المجتمع ويزيدُ من فرص النَّجاح؛ لذا ينبغي أن نعدَّ هذه الممارسات بوصفها جزءًا من استراتيجية شاملة لتحقيق النَّجاح، إذ تتكامل العبادة مع الجهدِ الشَّخصي في تحقيقِ الأهدافِ. المحور الثَّالث: عوائق الأفكار والإبداع. الأفكار والإبداع هما نبع التغيير وروح التقدُّم، لكن قد تُواجَه أحيانًا بعوائق تقلّل من بريقهما، وعندما تُهمَّش هذه الطاقات، يخسر الأفراد والمجتمعات فرصًا للنمو والتطور؛ وأهمُّ العوامل التي تدمر التَّفكير والإبداع هي: 1. الخوف من الفشل: فهو يُكبّل العقول ويُقيّد الطموحات. وعندما يخشى الإنسان التجربة خوفًا من الوقوع في الخطأ أو التَّعرض للنقد والسخريَّة، فإنَّه يُحرم نفسه من فرصٍ كثيرة للتعلُّم والنمو. إنَّ هذا الخوف يُغلق الأبواب أمام الابتكار، ويجعل الفرد يفضّل البقاء في منطقة الراحة، حيث لا جديد ولا مغامرة. ومع مرور الوقت، يتحوّل الخوف من الفشل إلى حاجز نفسي يمنع الإنسان من استكشاف قدراته الحقيقيَّة، ويُثنيه عن السَّعي لتحقيق أحلامه. 2. الالتزام بالأفكار التَّقليدية: عندما يتمسَّك الأفراد بالمفاهيم والأساليب القديمة التي اعتادوا عليها، فإنَّهم يرفضون بشكل تلقائي كلَّ فكرة جديدة لم يسبق لهم التَّعامل معها؛ لأنَّ الجديد يُشعرهم بعدم الأمان أو يتعارض مع ما تعلَّقوا به من معتقدات سابقة، وهذا الرَّفض يُعيق التَّقدُّم ويقلّل من فرص التعلُّم والتطوّر. 3. التَّركيز على النَّتيجة: التركيز المفرط على النتيجة النهائية قد يُضعف جوهر العمليَّة الإبداعيَّة، ويُحوّل الإبداع من رحلة اكتشاف ممتعة إلى مهمَّة مليئة بالتَّوتر والضُّغوط؛ فحينما ينشغل الأفراد فقط بتحقيق نتائج محددة أو الكمال المُنتظر، فإنَّهم يُهملون اللحظات التي تنضج فيها الأفكار، وتنمو فيها الخيالات، وتُختبر فيها الاحتمالات. 4. نقص الدَّافع: عندما يغيب الشعور بالحماسة أو الغاية، تنطفئ شرارة السَّعي نحو الحلول الجديدة، ويحلُّ مكانها الرضا بالواقع مهما كان محدودًا أو غير فعَّال؛ فالإبداع يحتاج إلى طاقة دافعة، وإلى شغف يدفع صاحبه لاكتشاف المجهول وتجاوز العقبات. أمَّا في غياب هذا الدافع، يصبح التفكير المبتكر مجرّد رفاهية ذهنية لا يجد الإنسان مبررًا للانشغال بها. ولهذا، فإنَّ بناء بيئة تُقدِّر الجهد الإبداعي وتُشجِّع على طرح الأفكار الجديدة، مع تعزيز الإحساس بالقيمة الشخصيَّة، من شأنه أن يُعيد إحياء الحافز ويمنح الأفراد الدَّافع للسعي نحو التغيير والتجديد. 5. البيئة السَّلبية: البيئةُ التي تفتقر إلى الدَّعم والتَّشجيع تقتلُ الإبداعَ، وكذلك تتصف بالنَّقد غيرِ العلمي؛ ولهذا إذا أردنا أن نُنتج أفكارًا جديدة ومثمرة، علينا أن نتجنبَ الانشغال بالنَّقد غيرِ البناء. نعم، إنَّ النَّقدَ المبني على أسس علمية هو الذي يساعدُنا في ترقيةِ أفكارِنا وجعلها أكثر دقة ونجاحًا، ومع ذلكَ، في كثيرٍ من الأحيانِ، عندما تُطرح أفكار جديدة أمام الآخرين، يُحكَم عليها بالفشل بسرعة، من دون أن تُمنح الفرصة لاختبارها أو تجربتها بشكل حقيقي، وهذا الحكمُ المسبق غالبًا ما يكون ناتجًا عن تأثيرِ الأفكارِ المتراكمة السَّابقة أو الأنماط الفكريَّة التَّقليدية التي تملأ عقولَ النَّاس؛ فكلُّ فرد أو مجموعة قد تكون قد اعتادت على طريقة معينة في التَّفكير أو حل المشكلات، وأي فكرة جديدة تتعارض مع هذه الطرق المعتادة تواجه مقاومةً شديدةً؛ لذا من المهم أن نكونَ أكثرَ انفتاحًا على الأفكارِ الجديدةِ، وأن نسمحَ لأنفسِنا بتجربةِ طرق مختلفةٍ للحل والنَّظر إلى الأمور من زوايا جديدة، بعيدًا عن الخوفِ من الفشلِ أو مقاومةِ التَّغيير. 6. الضُّغوط الزَّائدة: تحت وطأة التَّوتر والقلق، ينحصر العقل في دائرة ضيقة من التفكير تُهيمن عليها الرغبة في التخلص من الموقف بأسرع ما يمكن، حتَّى وإن كان ذلك على حساب الجودة أو الابتكار. كما أنَّ البيئة المليئة بالضغوط قد تُصيب الفرد بالإرهاق الذهني، ممَّا يجعله أقل استعدادًا للمخاطرة أو التَّجريب. وفي المقابل، يحتاج الإبداع إلى بيئة هادئة نسبيًا، تسمح للعقل بأن يسترخي، ويتأمل، ويُفكّر بحرية من دون خوف أو استعجال، وكلَّما خفَّ الضغط، زادت مساحة التَّفكير الخلَّاق واتَّسعت آفاق الاحتمالات. 7. نقص المعرفة: إنَّ الإبداع يقوم على فهمٍ واسع للموضوعات، وتراكمٍ معرفي يُغذّي الخيال، ويُمكّن الفرد من الربط بين المفاهيم بشكل غير مألوف؛ فعندما يفتقر الإنسان إلى المعلومات أو التَّجربة، تقل قدرته على تخيّل حلول مبتكرة أو استنباط رؤى جديدة. وكلَّما اتّسعت قاعدة المعرفة، ازدادت معها احتمالات الإبداع والتجديد؛ لذلك، فإنَّ تنمية الفضول المعرفي، والسَّعي الدائم للتعلُّم، واكتساب المهارات من مصادر متنوعة ضرورية لأي شخص يسعى إلى التفكير بطرق غير تقليديَّة، والخروج بأفكار قادرة على إحداث تغيير حقيقي. 8. التَّقييم المبكر للأفكار: في المراحل الأولى من التَّفكير، قد تبدو الأفكار غير مكتملة أو غير عملية، ممَّا يجعلها عرضة للإقصاء؛ لكن العديد من الأفكار المبدعة تحتاج إلى وقت وصبر لتصبح قابلة للتطبيق والنَّجاح؛ لذا، يجب إعطاء كلِّ فكرة الفرصة الكافية للتطور قبل الحكم عليها. 9. الخوفُ من التَّغيير: في سياق العمل أو الحياة اليومية، قد يسبب الخوف من المجهول قلقًا ينعكس على قدرة الأفراد على تقبل الجديد أو التكيف معه؛ وهذا الخوف يمكن أن يعوق التَّقدم ويجعل الأفراد متمسكين بالطرق القديمة على الرغم من عدم فعَّاليتها. وفي نهاية المطاف، يمكننا القول: لم يعد التكرار كافيًا، ولا الركون إلى المألوف مجديًا؛ فالإبداع لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة حتمية للتكيّف مع معوقات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. إنّ تأليف الأفكار ودمجها وتوسيعها، وحتَّى قلبها رأسًا على عقب، هو ما يمنح الإنسان القدرة على صناعة المعنى وسط فوضى المعطيات، وفتح أبواب الرزق في وجه انسداد الطرق، مع العلم أنَّ الإبداع ليس خرقًا للواقع؛ وإنَّما إعادة بناء له من الداخل، تبدأ من العقل وتنتهي بالسلوك. وإنَّ كلَّ تجربة، مهما بدت بسيطة أو مألوفة، يمكن أن تتحوّل إلى فرصة ذهبية حين تُخضع لمنهج "التفكير خارج النص". فالعباقرة لا يملكون عقولًا خارقة؛ بل يمتلكون الجرأة على رؤية المألوف من زاوية غير مألوفة، وعلى تحويل الفكرة الساكنة إلى مشروعٍ نابض بالتجديد. وختامًا، لنجعل من عقولنا ساحات للتأليف لا للتكرار، ومن واقعنا حاضنًا للابتكار لا مهددًا له، ولنتذكَّر دومًا أنَّ كلَّ فكرة جديدة قد تكون بداية عالم جديد. ........................................ الهوامش: 1. سورة النور/ الآية: 32. 2. مستدرك الوسائل: ج ١٤، ص١٧٣. 3. مكارم الأخلاق: ص196. 4. النازحون من العراق: ص12. 5. المصدر نفسه: ج5، ص100. 6. الكافي: ج4، ص9. 7. الهميان: هو وعاء صغير يُستخدم لحفظ النقود أو الأشياء الثَّمينة، وغالبًا ما يكون مصنوعًا من الجلد أو القماش، ويُربط حول الخصر أو يُحمل كجزء من اللباس. 8. حكايات بحار الأنوار: ص100. 9. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق (عليه السلام)؛ سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام). 10. الكافي: ج6، ص491. 11. الخَصَاصَةُ: الفَقْر والحاجة وسوء الحال. 12. سورة طه/ الآية: 132. 13. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): ج1، ص222.

كل أمتي معافى إلا المجاهرين!!
كل أمتي معافى إلا المجاهرين!!

الخبر

time٠٥-٠٥-٢٠٢٥

  • الخبر

كل أمتي معافى إلا المجاهرين!!

المجاهرة بالمعاصي استخفاف بمن عُصي، واستخفاف برسول الله، وبالمجتمع، وإظهار العناد لأهل الطاعة، والمعاصي تذل أهلها وتفضحهم في الدنيا قبل الآخرة، وللأسف، فإن المجاهرة بالمعصية والتبجح والمفاخرة بها صارت سمة من سمات البعض. عند الشيخين يقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه». قال الحافظ ابن حجر: 'المجاهر هو الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، أما المجاهرون في الحديث الشريف فيحتمل أن يكون بمعنى من جهر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد المعنى الأول'. وورد في الموطأ من حديث زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال: 'فوق هذا' (أي: أصلب منه)، فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: 'دون هذا'، فأتي بسوط قد ركب به ولان (أي لا هو يابس ولا هو ليِّن) فأمر به رسول الله فجلد ثم قال: 'أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نُقِمْ عليه كتابَ الله'. إن الذنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة: {فكُلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا}. وأعظم الذنوب المجاهرة بها، ومعناها أن يرتكب الشخص الإثم علانية أو يرتكبه سرا فيستره مولاه، ولكنه يخبر به بعد ذلك مستهينا بستر الله له: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما}. فالله تعالى لا يحب لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال أو الأفعال السيئة إلا من وقع عليه الظلم، فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول في الحدود التي تمكنه من رفع الظلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، قال الإمام القرطبي رحمه الله: والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه، ولكن مع اقتصاد، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا. ويروي أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه، أي على السارق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لا تسبخي عنه' أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، وعقد الإمام البخاري بابا قال فيه: باب لصاحب الحق مقال، ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: 'لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه'، فالمماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للناس أن يذكروه بالسوء. وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدنيا قبل الآخرة، يقول ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 'يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم'. فإشاعة المعاصي والتباهي بها يحمل الناس الآخرين على الوقوع فيها، والشريعة حذرت من المجاهرة بالمعصية، لما في ذلك من آثار خطيرة، فالمجاهر يدعو غيره ويجذبه، ويزين له ويغريه؛ ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية جريمة نكراء، وخطرا محدقا بالأمة جمعاء.. والله ولي التوفيق. * إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي

منهجية التعامل مع حديث المعصوم (ع)
منهجية التعامل مع حديث المعصوم (ع)

شبكة النبأ

time٢٧-٠٤-٢٠٢٥

  • منوعات
  • شبكة النبأ

منهجية التعامل مع حديث المعصوم (ع)

حديث المعصوم (ع) هو تجلٍّ حيٌّ لنور الهداية، وصوتٌ خالدٌ للوحي الإلهي، ومعينٌ لا ينضب من الحكمة والمعرفة، والتعامل مع هذا الحديث المبارك يستدعي خشوع القلب، وتعظيم المقام، والتسلّح بأدب التلقّي والفهم والتبليغ؛ فمن خلال كلماتهم تُستضاء العقول، وتُشفى الأرواح، وتُهتدى القلوب التائهة إلى صراط الله المستقيم. لقد... حينما نتأمَّل في كلمات المعصومين (عليهم السلام) نشعر بأنَّنا إزاء نورٍ يمتدُّ من عمق السَّماء؛ فحديثهم ليس مجرَّد نصٍّ ديني يُتناقل، وإنَّما هو امتدادٌ حيٌّ لوحي الله (تعالى)، وعدلٌ للقرآن، وصدًى لصوت النبوَّة الذي لم يخفت برحيل الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، بل تجسَّد في صدور أوصيائه المطهرين (عليهم السلام). لقد أودع الله (سبحانه) في حديثهم من العلم والحكمة ما يعجز عن حمله المَلَكُ المقرَّب، والنبيُّ المرسل، والمؤمن الممتحَن، كما صرَّح بذلك الإمام الصَّادق (عليه السلام)؛ ومن هنا، فإنَّ التَّعامل مع حديثهم لا ينبغي أن يكون كتعاملنا مع النصوص العادية أو الثقافات البشريَّة العابرة، وإنَّما هو تعامل مع تراثٍ إلهيّ له ضوابطه، وآدابه، ومراتب فهمه وتدبّره؛ فكيف نقف على باب كلامهم؟ وكيف نقرأه، ونفهمه، وننقله، ونعمل به؟ هل نأخذ منه ما وافق أذواقنا، ونردُّ ما استغلق علينا؟ أم أن هناك قواعد وضعها الله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام) لفهم هذا الحديث العظيم؟ وهل ندرك خطورة التسرُّع في الحكم عليه، كما نحسن اغتنام بركته في الدنيا والآخرة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال عرض قواعد التلقي، وآداب النقل، فلعلَّنا بذلك نفتح قلوبنا قبل عقولنا على هذا النور، ونسلك السبيل الذي يُرضي الله (تعالى) ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام). حديث المعصوم (عليه السلام) هو نصٌّ مقدَّس، ولا مبالغة في اعتباره عدل القرآن الكريم، إذ يَتَّصف بصفات القرآن، وكما أنَّ القرآن يُحيي القلوب، كذلك تُحييها أحاديثهم (عليهم السلام)؛ عن أبي جعفر (عليه السلام): "يَا فُضَيْلُ، إِنَّ حَدِيثَنَا يُحْيِي الْقُلُوبَ"(1)، وكما أنَّ القرآن الكريم له محكم ومتشابه فكذلك كلماتهم (عليهم السلام)؛ عن الإمام الرضا (عليه السلام): "مَنْ رَدَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ثمَّ قال (عليه السلام): إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُتَشَابِهًا كَمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَمُحْكَمًا كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَرُدُّوا مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا وَلَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا"(2). وكما أنَّ القرآن الكريم يحمل ثقلًا علميًّا؛ فكذلك حديثهم (عليهم السلام)؛ عَنْ أَبِي الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): "إِنَّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ شَرِيفٌ كَرِيمٌ ذَكْوَانُ ذَكِيٌّ وَعْرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ قُلْتُ فَمَنْ يَحْتَمِلُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ قَالَ: مَنْ شِئْنَا يَا أَبَا الصَّامِتِ..."(3). وعن أبي محمَّد (عليه السلام) في تفسيره: "إِنَّمَا مَعنَاهُ أَنَّ المَلَكَ لَا يَحتَمِلُهُ فِي جَوفِهِ حَتَّى يُخرِجَهُ إِلَى مَلَكٍ مِثلِهِ، وَلَا يَحتَمِلُهُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخرِجَهُ إِلَى نَبِيٍّ مِثلِهِ، وَلَا يَحتَمِلُهُ مؤمِنٌ حَتَّى يُخرِجَهُ إِلَى مُؤمِنٍ مِثلِهِ. إِنَّمَا مَعنَاهُ أَلَّا يَحتَمِلُهُ فِي قَلبِهِ مِن حَلَاوَةِ مَا هُوَ فِي صَدرِهِ حَتَّى يُخرِجَهُ إِلَى غَيرِهِ"(4). ويمكن القول وبثقة تامَّة أنَّ كلامهم داخل ضمن دائرة قوله (تعالى): (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) (5)؛ عن حماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله، وحَدِيثُ رَسُولِ اللَّه قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ"(6). المحور الأول: من آثار نص المعصوم (عليه السلام) إنَّ حديث المعصوم (عليه السلام) ليس كأيّ كلام؛ فهو نفَسٌ من أنفاس النبوَّة، وشعاعٌ من نور القرآن، ودواءٌ يشفي الأرواح كما يشفي الأبدان، وليس عجبًا أن يعلو قدر الراوي لحديثهم على آلاف العابدين، أو أن تُشخَص الأمراض بكلمةٍ من أقوالهم، أو تُرفع الدرجات بمجرد حفظ رواية، أو يُمطر الله (سبحانه) على القلوب من نوره عبر أحاديثهم الشريفة. كيف لا، وهم ورثة علم النبي محمَّد (صلى الله عليه وآله)، ومخازن سرِّ الله (تعالى) في أرضه، وتُراثهم الناطق هو أحد الوجوه التي بها نُحشر يوم القيامة: إمَّا إلى الجنَّة، أو -لا قدر الله (سبحانه)- إلى النَّار، بحسب موقفنا من كلامهم (عليهم السلام)؛ لذلك، سنقف على بعض آثار نصوصهم المباركة، وما تفيض به من رفعةٍ وثوابٍ وشفاءٍ، مستعرضين نماذج حيَّة من بركات الحديث الشريف كما نقلها الثقات من العلماء والمحبِّين؛ لعلَّنا نُدرك أنَّ التعامل مع حديثهم لا يقتصر على كونه علمًا يُلقَّن، وإنما هو حياة تنبض بالمَعنى، وطريقٌ إلى الله (تعالى) يُسلك بنورهم؛ لذا، سنذكر بعض خصائص حديثهم (عليهم السلام): 1ـ يرفع الدَّرجات. عن أبي عبد الله (عليه السلام): "الرّاويةُ للحَديثِ المُتَفقِّهُ في الدِّينِ أفْضَلُ مِن ألفِ عابِدٍ لا فِقْهَ لَهُ ولا رِوايةَ"(7). وهذا الحديث الشريف يضع ميزانًا دقيقًا في التفاضل بين العمل والوعي، بين العبادة العاطفية والعبادة الواعية، ويبيِّن أنَّ الرواية عنهم مع الفقه والفهم في الدين رسالةٌ وهداية، وأنّ حامل العلم وناشره، إنَّما يحيي أمَّة ويقود العقول إلى النور، بينما العابد إن لم يكن على بصيرة، قد يعبد على جهل، وقد يضلُّ ويُضِلُّ وهو لا يشعر. والحديث يرسم لنا صورة أنَّ العبادة لا تكتمل إلَّا على نور الفقه، وأنَّ الفقه لا يثمر إلَّا بنشره وتعليمه للناس. ثمَّ إنَّ قوله "أفضل من ألف عابد" هو بيان لمقام عظيم، حتَّى يُدرك المتلقي أنَّ قيمة العلم في منظومة أهل البيت (عليهم السلام) تُقاس بعمق الأثر والبصيرة والهداية؛ فكم من عابدٍ في التاريخ كان بلا فقه، فكان سببًا في انحرافه أو انحراف غيره، وكم من راويةٍ فقيهٍ ترك بصمته الخالدة في قلوب الناس، وساهم في حفظ الدين ونشر نور أهل البيت (عليهم السلام). 2ـ الشَّفاء من الأمراض البدنية والمعنوية. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إِنَّ ذِكْرَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ شِفَاءٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالأَسْقَامِ وَوَسْوَاسِ الرَّيبِ، وَإِنَّ حُبَّنَا رِضَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَالآخِذُ بِأَمْرِنَا وَطَريقَتِنَا وَمَذْهَبِنَا مَعَنَا غَدًا في حَظيرَةِ الْفِرْدَوْسِ، وَالْمُنْتَظِرُ لأَمْرِنَا كَالْمُتَشَحِّطِ بدِمَهَِ في سَبيلِ اللهِ"(8). وهذا الحديث الشريف يشير إلى أن ذكر أهل البيت (عليهم السلام) دواءٌ فعَّالٌ للعلل البدنية والنفسية، ومنها "وسواس الريب"، أي الشكّ والاضطراب الذي قد يصيب قلب المؤمن، والدواء لذلك هو التعلُّق بكلامهم وسيرتهم، كما يُصرّح الإمام (عليه السلام) بأنَّ محبَّتهم طريق مضمون لرضى الله (تعالى)، ومصداق من مصادق القرب الإلهي. ويؤكّد النصُّ الشريف أنَّ المعيار الواقعي للفوز بالجنَّة الأخذ بأوامرهم، واتباع نهجهم، والتدين بمذهبهم، وهو ما عبّر عنه الإمام (عليه السلام) بوضوح بقوله: "الآخذ بأمرنا... معنا غدًا في حظيرة الفردوس". 3ـ يضاعف الثَّواب. عن الإمام الباقر (عليه السلام): "يا جابِرُ، واللَّهِ لَحَديثٌ تُصيبُه مِن صادِقٍ في حَلالٍ وحَرامٍ، خَيرٌ لَك مِمَّا طَلَعَت عليه الشمسُ حتّى تَغرُبَ"(9). وهذا الرواية تضع معيارًا دقيقًا لأهميَّة العلم المرتبط بأهل البيت (عليهم السلام)، ويُبرز مكانة الحديث الصحيح عنهم، خصوصًا في أبواب الحلال والحرام، وهي المفاصل الدقيقة التي يقوم عليها التديُّن والالتزام الشرعي؛ فالقَسَم بـ "والله" في مطلع الحديث، يؤكد شدَّة اهتمام الإمام الباقر (عليه السلام) بالأمر، وهو إشارة إلى عظمة المضمون وخطورته في ميزان القيم الدينية. إنَّ الإمام (عليه السلام) لا يتحدَّث هنا عن أيّ علم؛ بل عن علمٍ مأخوذ من "صادق"؛ أي إمام معصوم أو راوٍ موثوق، يوضح حكم الله (تعالى) في مسألة من مسائل الحلال والحرام، وهي من أهمِّ ما ينبغي للمؤمن أن يعرفه ويتقنه ليعبد الله (سبحانه) على بصيرة. ثمَّ تأتي المفاضلة العجيبة: وأنَّ هذا الحديث الواحد الذي يصيبك من مصدر موثوق، خيرٌ لك من الدُّنيا وما فيها؛ أي كلُّ ما "طلعت عليه الشمس حتَّى غربت" -من أموال، ومناصب، ولذّات، ومباهج الحياة- لا يُقاس في نظر الإمام بثواب، وأثر، وقيمة حديثٍ واحد صحيح يُقرّبك إلى الله (تعالى)، ويضيء لك طريق الحلال والحرام. وهذا ما يبيِّن أنَّ العلوم الدنيوية كلها، مهما عظُمت، لا ترقى في ميزان الآخرة إلى مرتبة العلم الربَّاني المأخوذ عن حجج الله (تعالى) على الخلق؛ لأنَّ هذا العلم هو الذي يُحدّد لك كيف تعيش، وماذا تأكل، ومتى تصمت، ومتى تنطق، وكيف تعبد... فهو مفتاح رضا الله (تبارك وتعالى)، وباب النجاة. من بركات الحديث الشريف نقل المرجع الدِّيني السيد المرعشي النجفي (رحمه الله)... ذات يوم جاء الشَّيخ عبَّاس القمي إلى منزلنا، وكان يومًا حارًا فذهبت لأحضر له كأسًا من الزَّنجبيل، وحينما جئته به رأيت أنني نسيت أن أضع الملعقة ليخلطه قبل شربه، وحينما ذهبت مرَّة ثانية تأخرت قليلًا؛ إذ قمت بغسل الملعقة التي كانت متسخة ولم يكن لدينا غيرها... وحينما عدت إليه رأيته يخلط الشَّراب بإصبعه فبادرني إلى القول: لا تظنني على عجلة لشرب الكأس؛ ولكنني تذكرت بأنني اكتب، وأنقل روايات وأحاديث الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم)، وظننت أن تكون البركة بإصبعي فيرتفع بها ما أشعر من الحمى. وأضاف السيِّد: وبعد هنيئة وضع الشَّيخ عباس القمي يده على الأخرى: وقال لي: لقد انقطعت الحمَّى (10). المحور الثَّاني: آداب التعامل مع الرواية. وإذا كان الحديث الشَّريف يتصف ببعض هذه الصِّفات، فكيف ينبغي لنا أن نتعامل معه؟ وهذه القضية تُعَدُّ من المسائل التي تكثر الابتلاءات بها؛ لذلك، سنذكر بعض الآداب، وأهمَّ القواعد التي لا بدَّ أن تكون معنا حينما نتعامل مع حديث المعصوم (عليه السلام): أما بالنسبة للقسم الأوَّل؛ فمن هذه الآداب: 1ـ الاهتمام بحديثهم (صلوات الله عليهم) وقراءته، والتَّدبر فيه. الاهتمام بحديث أهل البيت (عليهم السلام) هو عناية بمصدر من مصادر الهداية الإلهية التي تمثِّل الامتداد الطبيعي لبيان القرآن وتفسيره الواقعي؛ فإنَّ أحاديثهم (صلوات الله عليهم) هي الشرح العملي والتطبيقي للقرآن الكريم، ومن دونه يبقى كثيرٌ من معاني القرآن غامضًا على الأفهام. وقد أكَّدت الروايات أنّ حديثهم عدل القرآن؛ بمعنى أنّه قرينٌ له في الحجية، ومكمّلٌ له في البيان، فلا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، والتدبر في كلامهم يُنشئ الفقه والبصيرة في الدِّين، ويُرشد الإنسان إلى الصراط المستقيم في العقيدة والعمل والسُّلوك. 2ـ طبع الأحاديث الشريفة المروية عنهم (صلوات الله عليهم) ونشرها. ويُعدّ من أسمى صور خدمة الدِّين ونشر نور الهداية؛ لما في ذلك من حفظ تراثهم المبارك، وإيصاله إلى الأجيال المتعاقبة؛ فهذه الأحاديث تتضمَّن سيرتهم العملية، وأخلاقهم الرفيعة، ومعاجزهم التي تُظهر مقامهم الربّاني، وكلُّ ذلك يشكِّل مصدرًا للتربية والاقتداء. إنَّ طباعة هذا التراث ونشره يمثّل ربطًا للأمَّة بمصادر النور، وتمكينًا للناس من الرجوع إلى الينابيع الأصيلة للمعرفة، بعيدًا عن التحريف والتأويل المنحرف؛ وانطلاقًا من هذه النقطة، فإنَّ طبع هذه الأحاديث يمثِّل عملًا رساليًا، له أثرٌ باقٍ في الدنيا وثوابٌ جزيل في الآخرة؛ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المُؤمِنَ إذا ماتَ وَتَرَكَ وَرَقَةً واحِدَةً عَلَيها عِلمٌ، تَكونُ تِلكَ الوَرَقَةُ يَومَ القِيامَةِ سِترًا فيما بَينَهُ وَبَيَنَ النَّارِ، وَأعطاهُ اللَّهُ تبارَكَ وَتعالى بِكُلِّ حَرفٍ مَكتوبٍ عَلَيها مَدينَةً أوسَعَ مِنَ الدُّنيا سَبعَ مَرَّاتٍ"(11). وعن داوود بن قاسم الجعفري قال: عرضت على أبي محمَّد العسكري (عليه السلام) كتاب (يوم وليلة) ليونس، فقال لي: تصنيف من هذا؟ فقلت تصنيف يونس مولى آل يقطين، فقال (عليه السّلام): أعطاه اللهُ بكلِّ حرف نورًا يوم القيامة"(12). 3ـ حفظ أحاديثهم (عليهم السلام). فإنَّ له دور كبير في رفعة الإنسان في الدنيا والآخرة لما لأحاديثهم (صلوات الله عليهم) من نور يؤثِّر على باطن الإنسان وظاهره؛ والحقيقة أنَّ حفظ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) هو تفاعل روحي وعقائدي يربط الإنسان بمصادر النور الإلهي؛ فهذه الأحاديث الشريفة، بما تحمله من حكمة وهداية، تترك أثرًا عميقًا في قلب الحافظ وسلوكه، فتزكِّي النفس، وتطهّر الباطن، وتنير الطريق في الحياة الدنيا، وهي كذلك سبب في رفعة الدرجات يوم القيامة، كما ورد في الروايات عن فضل حفظ أربعين حديثًا، حيث يُبعث الحافظ عالمًا فقيهًا. ومن جهة أخرى، فإنَّ حفظ الأحاديث يُعدّ من وسائل صيانة الدين؛ فهو حفظٌ للرسالة واستمرارٌ لنبض الإمامة في حياة الأمة، وهو باب من أبواب القرب إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ومن خلالهم إلى الله (عزَّ وجلَّ)؛ وقد وردت الرِّوايات الشَّريفة تشجع على حفظ أربعين حديثًا؛ عن أبي عبد الله (عليه السلام): "مَنْ حَفِظَ مِنْ أَحَادِيثِنَا أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا فَقِيهًا"(13). ويضاف إلى هذه الآداب بعض ما ورد عن العلماء الأعلام؛ ومنها: - الوضوء والجلوس باتجاه القبلة. جاء في سيرة العالم الزاهد الشيخ عباس القمي، لم ير مرَّة أنه قد دوَّن حديثًا دون أن يكون على وضوء وطهارة، أو يضع يده على صفحة كتاب أو جلده من دون وضوء، وكان دائمًا عند المطالعة أي كتاب يجلس متجهًا نحو القبلة جاثيًا على ركبتيه (14). - تقبيل الكتاب. كان الآخوند فاضل الدربندي يحترم الكتب العلميَّة كثيرًا إلى حد أنَّه كان يقبل كتاب «التهذيب» للشيخ الطوسي (رحمه الله) ونحوه دومًا عند حمله مثلما كان يقبل كلام الله، ويضعه على رأسه، وكان يقول: كتب الأخبار كالقرآن لها احترام (15). - اختيار المكان المناسب لها. قال الشَّهيد الثَّاني زين الدِّين بن علي بن الحر العاملي: "...ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها، وشرفها، وشرف مصنفها فيضع الأشرف أعلى الكلِّ، والأولى أن يكون في خريطة (16) ذات عروة في مسمار أو وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس ..."(17). - بذل الجهد في تدوينها ونشرها. يقول أحد أقرباء المرجع الدِّيني السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): بلغ الأمر بالإمام الشيرازي (رحمه الله) أنَّه من كثرة انعكافه على التَّأليف، والكتابة؛ بحيث أنَّ سبابته عجزت عن أخذ القلم؛ ولذا كان يستفيد من سائر الأصابع الأخرى. ومن جراء الكتابة الكثيرة فقد عجزت أصابعه الأخرى عن أخذ القلم، والكتابة؛ ولذا، لجأ (رحمه الله) إلى التسجيل على "أشرطة الكاسيت"، ثمَّ يدونها البعض على الورق، وقد ألفت بعض مؤلفاته بهذه الكيفية أخريات حياته الشريفة (18). المحور الثَّالث: قواعد التَّعامل مع الروايات الشريفة. في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كما في القرآن الكريم، تتنوّع النصوص بين المحكم والمتشابه؛ والمحكم هو البيِّن الواضح الذي يُفهم بظاهر لفظه، ويُعمل به مباشرة، أمَّا المتشابه فهو ما يحتاج إلى تأملٍ عميق وتفسير دقيق لفهم مراده، وهذا التنوّع هو أسلوبٌ تربويٌ وتشريعيٌ عميق، يربّي العقول على التدبُّر، ويدعو العلماء إلى التسلّح بالأدوات العلمية والرجوع إلى أهل الاختصاص لفهم النصوص؛ إذ ليس كلّ حديث يمكن الأخذ به من دون فهمٍ دقيق لسياقه، ومراده، ودرجة صدوره، وما إذا كان ظاهرًا أو بحاجة إلى تأويل. وهذه الحقيقة تجعلنا نتعامل مع رواياتهم بعين الباحث المتأمِّل، لا السطحي المستعجل، مما يعمِّق علاقتنا بعلمهم، ويصوننا من الانحراف في الفهم أو التَّفسير. فما هو موقف الإنسان اتِّجاه الروايات التي قد يصعب عليه تقبُّلها أحيانًا؟ الجواب: إنَّ القرآن الكريم والمعصومين (عليهم السلام) قد وضعوا قواعد عديدة للتعامل مع مثل هذه النصوص الشَّريفة؛ وأهمُّها: القاعدة الأولى: ألَّا نسارع في إنكار هذه الأخبار. قال الله (سبحانه): (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (19). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مَنْ رَدَّ حَدِيثًا بَلَغَهُ عَنِّي فَأَنَا مُخَاصِمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا بَلَغَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ لَمْ تَعْرِفُوا فَقُولُوا: اللهُ أَعْلَمُ"(20). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "لَا تُكَذِّبُوا بِحَدِيثٍ أَتَاكُمْ بِهِ مُرْجِئِيٌّ، وَلَا قَدَرِيٌّ، وَلَا خَارِجِيٌّ نَسَبَهُ إِلَيْنَا، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ، فَتُكَذِّبُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ"(21). من الخطأ الكبير أن نردَّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) لمجرَّد أنَّها لم تدخل عقولنا أو لم نفهمها بشكل مباشر؛ فالأحاديث التي وردت عنهم (صلوات الله عليهم) تحمل في طيَّاتها معاني عظيمة وتوجيهات إلهية عميقة، وقد لا نكون في بعض الأحيان قادرين على استيعابها تمامًا بسبب محدودية معرفتنا أو فهمنا. إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) هم من أرقى مصادر المعرفة في ديننا، وهم يحملون علمًا واسعًا استمدوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وعليه، فإنَّ تقبل رواياتهم والعمل بها يجب أن يكون من منطلق الإيمان العميق بأنَّ ما يخرج عنهم هو جزء من علم الله (تعالى) اللامتناهي. وعندما نجد حديثًا لم نتمكن من استيعابه، يجب أن نتريث ونبحث في معانيه بشكل أعمق بدلًا من ردِّه أو تكذيبه؛ عن أبي عبد الله (عليه السلام): "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَصَرَ عِبَادَهُ بِآيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ: أَلَّا يَقُولُوا حَتَّى يَعْلَمُوا، وَلَا يَرُدُّوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (22) وقَالَ: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (23) "(24). القاعدة الثَّانية: ردُّ الحديث عند عدم العلم به إلى أهله. عن الإمام الباقر (عليه السلام): "ما وَردَ علَيكُم مِن حَديثِ آلِ محمّدٍ صلواتُ اللهِ علَيهِم فلانَتْ لَهُ قُلوبُكُم وعَرَفْتُموهُ فاقْبَلوهُ، وما اشْمَأزَّتْ مِنهُ قُلوبُكُم وأنْكَرْتُموهُ فَرُدّوهُ إلى اللهِ وإلى الرَّسولِ وإلى العالِمِ مِن آلِ محمَّدٍ عليهم السلام"(25). عندما نواجه حديثًا شريفًا عن أهل البيت (عليهم السلام) لم نفهمه أو لم نكن على يقين من صحته، يجب أن نتذكر أن ردَّ الحديث في هذه الحالة إلى أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم، أو إلى العلماء الموثوقين الذين يمثلون خطَّهم الصحيح، هو الطريق الأنسب؛ قال الله (تعالى): (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (26)؛ فإنَّ العلماء الثقاة هم الذين يستطيعون إضاءة الطريق لنا وتوضيح معاني الأحاديث الشريفة. إنَّ ردَّ الأحاديث إلى أهل البيت (عليهم السلام) أو العلماء هو علامة على التَّواضع والاعتراف بحدود علمنا، وكذلك يعكس هذا السلوك الإيمان العميق بأنَّ ما نقله أهل البيت (عليهم السلام) هو الحقيقة العظيمة التي يجب علينا أن نتبصر في معانيها ونسعى جاهدين لفهمها بشكل صحيح. القاعدة الثالثة: التَّوقف عند الشبهات. عن الإمام الصادق (عليه السلام): "الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ وتَرْكُكَ حَدِيثًا لَمْ تُرْوَه خَيْرٌ مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثًا لَمْ تُحْصِه"(27). عندما نواجه روايات متشابهة أو غير واضحة عن أهل البيت (عليهم السلام)، يتعيَّن علينا التوقف والتأمل، بدلًا من التسرع في إصدار الأحكام أو رفضها؛ فالروايات المتشابهة قد تكون محملة بمعانٍ عميقة أو تحتاج إلى سياق أوسع لفهمها بشكل صحيح، وقد يكون في ظاهرها تعارض؛ لكن فهمها يتطلَّب دراية علمية ودينية دقيقة؛ فأهل البيت (عليهم السلام)، بما لديهم من علم ومعرفة، كانوا يعبرون عن أبعاد مختلفة من الحقيقة، وقد يكون التشابه في بعض الروايات نتيجة لاختلاف السياقات أو الأهداف من الحديث. وفي مثل هذه الحالات، من الضروري أن نستعين بعلماء متخصصين في تفسير الأحاديث ودراستها؛ لأن لديهم القدرة على تمييز المعاني الدقيقة وإزالة أي لبس قد يطرأ عند القارئ غير المتمكن. والتَّوقف هنا لا يعني الجمود أو الركون إلى الشكوك، وإنَّما هو دعوة للتعمق في البحث والتفكير؛ فالتمحيص والتدقيق في الأحاديث المتشابهة يعمق فهمنا لتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ويوجهنا إلى تفسير دقيق يتماشى مع سياق الدين وفلسفته؛ لذا، فإنَّ احترام الروايات المتشابهة والبحث عنها بروح من التفهم والتواضع هو الطريق الأمثل لفهم أعمق وأكثر صدقًا لهذا التراث العظيم. القاعدة الرابعة: عرض الحديث على القرآن الكريم وعلى المحكم من رواياتهم الشَّريفة. عندما نواجه حديثًا عن أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ من أهم أساليب التحقق من صحته وفهمه هو عرضه على القرآن الكريم وعلى المحكم من روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم، وهذا الأسلوب يعكس تكامل التشريع الإسلامي الذي لا يتناقض فيه القرآن مع السنة النبوية والأحاديث الشريفة.؛ لأنَّ القرآن هو المصدر الأول للتشريع في الإسلام، وإذا كان الحديث يتفق مع ما ورد في القرآن ويؤيده، فإنَّ ذلك يدلُّ على صحته وتوافقه مع المعاني الأساسية للإسلام، وأمَّا إذا كان الحديث يتعارض مع آيات واضحة في القرآن، فإنَّ هذا يستدعي التوقف والتدقيق، وربما يحتاج إلى تفسير أو تأويل يزيل أي لبس. وأمَّا بالنسبة لعرض الحديث على المحكم من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، أي الأحاديث التي تعتبر ثابتة وواضحة في معناها؛ فإنَّ أهل البيت (عليهم السلام) هم أدرى بما ورد عنهم، وقد رويت العديد من الأحاديث التي تشرح بعضها بعضًا وتوضّح المفاهيم العميقة في الدين؛ وإذا كان الحديث موافقًا للمحكم من رواياتهم، فإنَّه يكتسب مزيدًا من الثقة والمصداقية؛ عن الإمام الرضا (عليه السلام) قيل له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلطة؟ قال: "مَا جَاءَكَ عَنَّا فَقِسهُ عَلى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَل وأحَادِيثِنَا فَإن كَانَ يَشبَهُهَا فَهُوَ مِنَّا وإن لَم يُشبِهُهَا فَلَيسَ مِنَّا..."(28). إنَّ حديث المعصوم (عليه السلام) هو تجلٍّ حيٌّ لنور الهداية، وصوتٌ خالدٌ للوحي الإلهي، ومعينٌ لا ينضب من الحكمة والمعرفة، والتعامل مع هذا الحديث المبارك يستدعي خشوع القلب، وتعظيم المقام، والتسلّح بأدب التلقّي والفهم والتبليغ؛ فمن خلال كلماتهم تُستضاء العقول، وتُشفى الأرواح، وتُهتدى القلوب التائهة إلى صراط الله (تعالى) المستقيم. لقد علَّمنا الأئمة (عليهم السلام) أنَّ من رام نور القرآن الكريم فلا غنى له عن حديثهم (عليهم السلام)، ومن ابتغى مرضاة الله (سبحانه وتعالى) فلا طريق له إلَّا باتّباعهم، ومن أراد النجاة فعليه أن يُقبِل على حديثهم بعقلٍ متفكر، وقلبٍ منفتح، وسلوكٍ صادق. .............................................. الهوامش: 1. بحار الأنوار: ج2، ص307. 2. نوادر الأخبار: ص94. 3. بصائر الدرجات: ص42. 4. معاني الأخبار: ص188. 5. سورة النجم/ الآية: 3ـ 4. 6. شرح أصول الكافي: ج1، ص335-336. 7. بحار الأنوار: ج2، ص308. 8. تحف العقول: ص115. 9. نوادر الأخبار: ص90. 10. التحفة الصادقية: ص101. 11. بحار الأنوار: ج2، ص307. 12. نوادر الأخبار: ص55. 13. بحار الأنوار: ج2، ص314. 14. سر نجاح الحكماء، 132. 15. المصدر نفسه: ص135. 16. شيء أشبه بالحقيبة. 17. منية المريد: ص193ـ 194. 18. ينظر: القصص الشيرازية: ص61ـ 62. 19. سورة الإسراء/ الآية:36. 20. بحار الأنوار: ج2، ص212. 21. المصدر السابق: ج2، ص212. 22. سورة الأعراف/ الآية: 169. 23. سورة يونس/ الآية: 39. 24. بصائر الدرجات: ص538. 25. بحار الأنوار: ج2، ص189. 26. سورة النحل/ الآية: 43. 27. نوادر الأخبار: ص107. 28. جامع أحاديث الشيعة: ج1، ص64.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store