#أحدث الأخبار مع #المنهجالغدمنذ 18 ساعاتعلومالغدماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)ماسة الدلقموني تراجعت سلطة العلامة في المقال الأول، فخفت وطأة السباق نحو رقمٍ محدد، وانفتح الباب أمام التعلّم ليأخذ نفسه الأول بعيدًا عن الركض خلف المعدلات. وفي المقال الثاني، حين تنفّست المناهج، لم تعد مضطرة لتطويع المعرفة كي تتماشى مع اختبارٍ أو معدلٍ يُحدّد مصير المتعلّم. تحرّرت من القوالب، وبدأت تبحث عن معناها خارج إطار التقييم. اضافة اعلان ولا بدّ لهذه التغيّرات أن تُحدث تشققات في بنية النظام. فحين تتراجع السلطة، ويتنفس المنهج، تتزلزل الشرعية التي بُنيت عليها تقسيمات التعليم التقليدي. وهنا تبدأ المواد الدراسية بالتململ.. لا لأنها ضعيفة، بل لأنها كُتبت في زمن كان يفرض على المعرفة أن تُفهرس وتُغلق داخل جدران، زمنٍ لم يُراعِ كيف يتعلّم الطفل، ولا كيف يُبنى العقل، بل يُراعي فقط كيف يُقيَّم ويُفرَز. في النظام الجديد، «انفجار المواد الدراسية» لن يأتي على شكل فوضى، بل كمشهد طبيعي لانهيار نظام فقد علّة وجوده. هذا الانفجار لا يعني إلغاء المحتوى، بل تحريره من سجن الفواصل الزمنية والجدران المنهجية ليخدم غاية أسمى، لا تُقاس فيها المعرفة بعدد الصفحات أو عدد الحصص، بل بمدى قدرتها على توليد المعنى، وإثارة التساؤل، وتحفيز التفكير. في عصرٍ أصبحت فيه المعرفة نهرًا متدفقًا يعبر الحدود ويتجاوز الجدران، ما زالت كثير من المدارس تُصرّ على توزيعها في قوالب منفصلة: حصة للرياضيات، وأخرى للفن، وثالثة للتاريخ، ورابعة للتكنولوجيا. مناهج تُفكّك العالم إلى أجزاء متباعدة، وتُقدّم المحتوى كما لو أن الفهم لا يتحقّق إلا بفصل الأشياء عن بعضها. لكن العالم لم يعد يتجزّأ بهذه الطريقة، والذكاء الاصطناعي تحديدًا لا يعيش في هذا التقسيم؛ فهو ابن التداخل. لا يقرأ الرياضيات دون أن يستدعي الفن، ولا يُفسّر ظاهرة طبيعية دون أن يستحضر التاريخ أو يتخيّل مستقبلًا. عندما تسأله، لا يُجيب بجملةٍ مغلقة، بل ينسج شبكة من المفاهيم، والصور، والروابط، والمقترحات العملية. فهو لا يتعامل مع المعرفة كخزائن منفصلة، بل كمجرةٍ من الأفكار المتفاعلة. وهنا يكمن أساس التصادم الحالي بين مناهج تُصنّف المعرفة لتضبطها وتقيّدها، وبين ذكاءٍ صناعي يُحرّر المعرفة ويُعيد تشكيلها على نحوٍ متداخل. فهو لا يفهم كيف يُنتظر من طالب أن ينمو في بيئة تعليمية تُلزمه بالإجابة داخل حدود مادة واحدة؟ وكيف لطفلٍ يُفكّر بطبيعته بطريقة استكشافية، أن يُجبر على تقطيع أسئلته وفق جدول الحصص؟ نعم، لقد بدأ العالم بالفعل بتجاوز جدران المواد الدراسية، بعدما أدرك أن تقسيم المعرفة إلى وحداتٍ منفصلة لم يعد يخدم عقل الطفل، ولا يُشبه طريقة تفكير الإنسان في القرن الحادي والعشرين. ففي فنلندا مثلا، لم تعد الفيزياء أو الجغرافيا أو الفنون تُدرّس كمقرراتٍ منفصلة، بل تُدمج ضمن مشروعاتٍ متعددة التخصصات تتناول قضايا حقيقية من الواقع. وفي كندا ونيوزيلندا، أصبح المنهج ينطلق من الظواهر أو الأسئلة الكبرى، لا من المواد، فتتداخل الرياضيات مع الفنون، والعلوم مع التاريخ، ضمن سياقٍ متكامل يُحفّز الفهم ويغذي الفضول. هذه الدول لم تعد ترى في جدران المواد إلا عوائق ذهنية، وبدأت تُعيد تصميم تعليمها ليُشبه العقل البشري أكثر من أن يُشبه فهرس كتاب. قرأت عام 2011 عن مفهوم «التعلّم بعمق» (Learning in Depth)، لأدرك حينها فاقِدي التعليمي الخاص. فهذا النوع من التعلّم هو التعلّم الحقيقي، ونعم، وجود الذكاء الاصطناعي له تأثيرٌ ضخم في تحقّق هذا المفهوم العميق، والذي أراه – دون مبالغة – أصل كل تعلّم حقيقي. فهذا المفهوم لا يتعلق بكمية المعلومات التي يحفظها الطالب، بل بجودة العلاقة التي يبنيها مع المعرفة. في هذا النموذج، يتعمّق الطفل في موضوعٍ واحد على مدى سنوات، فيُصبح خبيرًا صغيرًا فيه. لا من باب التخصص المبكر، بل من باب إدراك كيف تُبنى المعرفة، وكيف تتصل الأشياء ببعضها البعض عبر الزمن. إنه نوعٌ من التعلّم يجعل الطفل لا يقرأ فقط، بل يُلاحظ، ويُحلّل، ويتساءل، ويضيف شيئًا من نفسه لما تعلّمه، وهو يغوص في عالم اهتماماته، سامحًا له أن يُشكّل فهمًا متشابكًا لا يعترف بالحدود المعرفية. مسؤوليتنا اليوم تكمن في تحضير طلابنا إلى عالم لا يمنحهم الأسئلة في ورقة، بل يرميها عليهم من كل زاوية. ولهذا، فإن تقديم أدوات الذكاء الاصطناعي للطلبة دون تحرير المناهج هو مجرد خداع تقني. هو كأن تمنح الطفل تلسكوبا، ثم تأمره ألا يرى أبعد من نافذة الصف. نحن بحاجة إلى إعادة تصوّر جذري للمناهج: في بنائها، وفي منطقها، وفي شكلها، كي نُصمّم تعلّما يُشبه الحياة نفسها: مترابطًا، فضوليًا، عابرًا للتصنيفات. وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بالسؤال: «كيف ندمج الذكاء الاصطناعي في المناهج؟» بل بالسؤال الأعمق: هل نملك منهجًا قادرًا على أن يتعلّم معه؟ وربما حينها، لن يسألنا الطفل مجددًا: «ليش لازم أتعلم هذا؟» ويبقى السؤال: إذا تخلّصنا من الحصص، وحرّرنا المحتوى، وتجاوزنا الجدران.. فأين سيكون الصف؟ أو بالأحرى، هل ما زال الصف مكانًا… أم صار فكرة؟ بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية.. نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: «ماذا لو حمل الطالب غرفته الصفية في عقله؟»
الغدمنذ 18 ساعاتعلومالغدماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)ماسة الدلقموني تراجعت سلطة العلامة في المقال الأول، فخفت وطأة السباق نحو رقمٍ محدد، وانفتح الباب أمام التعلّم ليأخذ نفسه الأول بعيدًا عن الركض خلف المعدلات. وفي المقال الثاني، حين تنفّست المناهج، لم تعد مضطرة لتطويع المعرفة كي تتماشى مع اختبارٍ أو معدلٍ يُحدّد مصير المتعلّم. تحرّرت من القوالب، وبدأت تبحث عن معناها خارج إطار التقييم. اضافة اعلان ولا بدّ لهذه التغيّرات أن تُحدث تشققات في بنية النظام. فحين تتراجع السلطة، ويتنفس المنهج، تتزلزل الشرعية التي بُنيت عليها تقسيمات التعليم التقليدي. وهنا تبدأ المواد الدراسية بالتململ.. لا لأنها ضعيفة، بل لأنها كُتبت في زمن كان يفرض على المعرفة أن تُفهرس وتُغلق داخل جدران، زمنٍ لم يُراعِ كيف يتعلّم الطفل، ولا كيف يُبنى العقل، بل يُراعي فقط كيف يُقيَّم ويُفرَز. في النظام الجديد، «انفجار المواد الدراسية» لن يأتي على شكل فوضى، بل كمشهد طبيعي لانهيار نظام فقد علّة وجوده. هذا الانفجار لا يعني إلغاء المحتوى، بل تحريره من سجن الفواصل الزمنية والجدران المنهجية ليخدم غاية أسمى، لا تُقاس فيها المعرفة بعدد الصفحات أو عدد الحصص، بل بمدى قدرتها على توليد المعنى، وإثارة التساؤل، وتحفيز التفكير. في عصرٍ أصبحت فيه المعرفة نهرًا متدفقًا يعبر الحدود ويتجاوز الجدران، ما زالت كثير من المدارس تُصرّ على توزيعها في قوالب منفصلة: حصة للرياضيات، وأخرى للفن، وثالثة للتاريخ، ورابعة للتكنولوجيا. مناهج تُفكّك العالم إلى أجزاء متباعدة، وتُقدّم المحتوى كما لو أن الفهم لا يتحقّق إلا بفصل الأشياء عن بعضها. لكن العالم لم يعد يتجزّأ بهذه الطريقة، والذكاء الاصطناعي تحديدًا لا يعيش في هذا التقسيم؛ فهو ابن التداخل. لا يقرأ الرياضيات دون أن يستدعي الفن، ولا يُفسّر ظاهرة طبيعية دون أن يستحضر التاريخ أو يتخيّل مستقبلًا. عندما تسأله، لا يُجيب بجملةٍ مغلقة، بل ينسج شبكة من المفاهيم، والصور، والروابط، والمقترحات العملية. فهو لا يتعامل مع المعرفة كخزائن منفصلة، بل كمجرةٍ من الأفكار المتفاعلة. وهنا يكمن أساس التصادم الحالي بين مناهج تُصنّف المعرفة لتضبطها وتقيّدها، وبين ذكاءٍ صناعي يُحرّر المعرفة ويُعيد تشكيلها على نحوٍ متداخل. فهو لا يفهم كيف يُنتظر من طالب أن ينمو في بيئة تعليمية تُلزمه بالإجابة داخل حدود مادة واحدة؟ وكيف لطفلٍ يُفكّر بطبيعته بطريقة استكشافية، أن يُجبر على تقطيع أسئلته وفق جدول الحصص؟ نعم، لقد بدأ العالم بالفعل بتجاوز جدران المواد الدراسية، بعدما أدرك أن تقسيم المعرفة إلى وحداتٍ منفصلة لم يعد يخدم عقل الطفل، ولا يُشبه طريقة تفكير الإنسان في القرن الحادي والعشرين. ففي فنلندا مثلا، لم تعد الفيزياء أو الجغرافيا أو الفنون تُدرّس كمقرراتٍ منفصلة، بل تُدمج ضمن مشروعاتٍ متعددة التخصصات تتناول قضايا حقيقية من الواقع. وفي كندا ونيوزيلندا، أصبح المنهج ينطلق من الظواهر أو الأسئلة الكبرى، لا من المواد، فتتداخل الرياضيات مع الفنون، والعلوم مع التاريخ، ضمن سياقٍ متكامل يُحفّز الفهم ويغذي الفضول. هذه الدول لم تعد ترى في جدران المواد إلا عوائق ذهنية، وبدأت تُعيد تصميم تعليمها ليُشبه العقل البشري أكثر من أن يُشبه فهرس كتاب. قرأت عام 2011 عن مفهوم «التعلّم بعمق» (Learning in Depth)، لأدرك حينها فاقِدي التعليمي الخاص. فهذا النوع من التعلّم هو التعلّم الحقيقي، ونعم، وجود الذكاء الاصطناعي له تأثيرٌ ضخم في تحقّق هذا المفهوم العميق، والذي أراه – دون مبالغة – أصل كل تعلّم حقيقي. فهذا المفهوم لا يتعلق بكمية المعلومات التي يحفظها الطالب، بل بجودة العلاقة التي يبنيها مع المعرفة. في هذا النموذج، يتعمّق الطفل في موضوعٍ واحد على مدى سنوات، فيُصبح خبيرًا صغيرًا فيه. لا من باب التخصص المبكر، بل من باب إدراك كيف تُبنى المعرفة، وكيف تتصل الأشياء ببعضها البعض عبر الزمن. إنه نوعٌ من التعلّم يجعل الطفل لا يقرأ فقط، بل يُلاحظ، ويُحلّل، ويتساءل، ويضيف شيئًا من نفسه لما تعلّمه، وهو يغوص في عالم اهتماماته، سامحًا له أن يُشكّل فهمًا متشابكًا لا يعترف بالحدود المعرفية. مسؤوليتنا اليوم تكمن في تحضير طلابنا إلى عالم لا يمنحهم الأسئلة في ورقة، بل يرميها عليهم من كل زاوية. ولهذا، فإن تقديم أدوات الذكاء الاصطناعي للطلبة دون تحرير المناهج هو مجرد خداع تقني. هو كأن تمنح الطفل تلسكوبا، ثم تأمره ألا يرى أبعد من نافذة الصف. نحن بحاجة إلى إعادة تصوّر جذري للمناهج: في بنائها، وفي منطقها، وفي شكلها، كي نُصمّم تعلّما يُشبه الحياة نفسها: مترابطًا، فضوليًا، عابرًا للتصنيفات. وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بالسؤال: «كيف ندمج الذكاء الاصطناعي في المناهج؟» بل بالسؤال الأعمق: هل نملك منهجًا قادرًا على أن يتعلّم معه؟ وربما حينها، لن يسألنا الطفل مجددًا: «ليش لازم أتعلم هذا؟» ويبقى السؤال: إذا تخلّصنا من الحصص، وحرّرنا المحتوى، وتجاوزنا الجدران.. فأين سيكون الصف؟ أو بالأحرى، هل ما زال الصف مكانًا… أم صار فكرة؟ بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية.. نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: «ماذا لو حمل الطالب غرفته الصفية في عقله؟»