logo
ماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)

ماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)

الغدمنذ 11 ساعات

ماسة الدلقموني
تراجعت سلطة العلامة في المقال الأول، فخفت وطأة السباق نحو رقمٍ محدد، وانفتح الباب أمام التعلّم ليأخذ نفسه الأول بعيدًا عن الركض خلف المعدلات.
وفي المقال الثاني، حين تنفّست المناهج، لم تعد مضطرة لتطويع المعرفة كي تتماشى مع اختبارٍ أو معدلٍ يُحدّد مصير المتعلّم. تحرّرت من القوالب، وبدأت تبحث عن معناها خارج إطار التقييم.
اضافة اعلان
ولا بدّ لهذه التغيّرات أن تُحدث تشققات في بنية النظام. فحين تتراجع السلطة، ويتنفس المنهج، تتزلزل الشرعية التي بُنيت عليها تقسيمات التعليم التقليدي. وهنا تبدأ المواد الدراسية بالتململ.. لا لأنها ضعيفة، بل لأنها كُتبت في زمن كان يفرض على المعرفة أن تُفهرس وتُغلق داخل جدران، زمنٍ لم يُراعِ كيف يتعلّم الطفل، ولا كيف يُبنى العقل، بل يُراعي فقط كيف يُقيَّم ويُفرَز.
في النظام الجديد، «انفجار المواد الدراسية» لن يأتي على شكل فوضى، بل كمشهد طبيعي لانهيار نظام فقد علّة وجوده. هذا الانفجار لا يعني إلغاء المحتوى، بل تحريره من سجن الفواصل الزمنية والجدران المنهجية ليخدم غاية أسمى، لا تُقاس فيها المعرفة بعدد الصفحات أو عدد الحصص، بل بمدى قدرتها على توليد المعنى، وإثارة التساؤل، وتحفيز التفكير.
في عصرٍ أصبحت فيه المعرفة نهرًا متدفقًا يعبر الحدود ويتجاوز الجدران، ما زالت كثير من المدارس تُصرّ على توزيعها في قوالب منفصلة: حصة للرياضيات، وأخرى للفن، وثالثة للتاريخ، ورابعة للتكنولوجيا. مناهج تُفكّك العالم إلى أجزاء متباعدة، وتُقدّم المحتوى كما لو أن الفهم لا يتحقّق إلا بفصل الأشياء عن بعضها. لكن العالم لم يعد يتجزّأ بهذه الطريقة، والذكاء الاصطناعي تحديدًا لا يعيش في هذا التقسيم؛ فهو ابن التداخل. لا يقرأ الرياضيات دون أن يستدعي الفن، ولا يُفسّر ظاهرة طبيعية دون أن يستحضر التاريخ أو يتخيّل مستقبلًا.
عندما تسأله، لا يُجيب بجملةٍ مغلقة، بل ينسج شبكة من المفاهيم، والصور، والروابط، والمقترحات العملية. فهو لا يتعامل مع المعرفة كخزائن منفصلة، بل كمجرةٍ من الأفكار المتفاعلة.
وهنا يكمن أساس التصادم الحالي بين مناهج تُصنّف المعرفة لتضبطها وتقيّدها، وبين ذكاءٍ صناعي يُحرّر المعرفة ويُعيد تشكيلها على نحوٍ متداخل.
فهو لا يفهم كيف يُنتظر من طالب أن ينمو في بيئة تعليمية تُلزمه بالإجابة داخل حدود مادة واحدة؟ وكيف لطفلٍ يُفكّر بطبيعته بطريقة استكشافية، أن يُجبر على تقطيع أسئلته وفق جدول الحصص؟
نعم، لقد بدأ العالم بالفعل بتجاوز جدران المواد الدراسية، بعدما أدرك أن تقسيم المعرفة إلى وحداتٍ منفصلة لم يعد يخدم عقل الطفل، ولا يُشبه طريقة تفكير الإنسان في القرن الحادي والعشرين.
ففي فنلندا مثلا، لم تعد الفيزياء أو الجغرافيا أو الفنون تُدرّس كمقرراتٍ منفصلة، بل تُدمج ضمن مشروعاتٍ متعددة التخصصات تتناول قضايا حقيقية من الواقع.
وفي كندا ونيوزيلندا، أصبح المنهج ينطلق من الظواهر أو الأسئلة الكبرى، لا من المواد، فتتداخل الرياضيات مع الفنون، والعلوم مع التاريخ، ضمن سياقٍ متكامل يُحفّز الفهم ويغذي الفضول.
هذه الدول لم تعد ترى في جدران المواد إلا عوائق ذهنية، وبدأت تُعيد تصميم تعليمها ليُشبه العقل البشري أكثر من أن يُشبه فهرس كتاب.
قرأت عام 2011 عن مفهوم «التعلّم بعمق» (Learning in Depth)، لأدرك حينها فاقِدي التعليمي الخاص. فهذا النوع من التعلّم هو التعلّم الحقيقي، ونعم، وجود الذكاء الاصطناعي له تأثيرٌ ضخم في تحقّق هذا المفهوم العميق، والذي أراه – دون مبالغة – أصل كل تعلّم حقيقي.
فهذا المفهوم لا يتعلق بكمية المعلومات التي يحفظها الطالب، بل بجودة العلاقة التي يبنيها مع المعرفة. في هذا النموذج، يتعمّق الطفل في موضوعٍ واحد على مدى سنوات، فيُصبح خبيرًا صغيرًا فيه. لا من باب التخصص المبكر، بل من باب إدراك كيف تُبنى المعرفة، وكيف تتصل الأشياء ببعضها البعض عبر الزمن.
إنه نوعٌ من التعلّم يجعل الطفل لا يقرأ فقط، بل يُلاحظ، ويُحلّل، ويتساءل، ويضيف شيئًا من نفسه لما تعلّمه، وهو يغوص في عالم اهتماماته، سامحًا له أن يُشكّل فهمًا متشابكًا لا يعترف بالحدود المعرفية.
مسؤوليتنا اليوم تكمن في تحضير طلابنا إلى عالم لا يمنحهم الأسئلة في ورقة، بل يرميها عليهم من كل زاوية. ولهذا، فإن تقديم أدوات الذكاء الاصطناعي للطلبة دون تحرير المناهج هو مجرد خداع تقني.
هو كأن تمنح الطفل تلسكوبا، ثم تأمره ألا يرى أبعد من نافذة الصف.
نحن بحاجة إلى إعادة تصوّر جذري للمناهج: في بنائها، وفي منطقها، وفي شكلها، كي نُصمّم تعلّما يُشبه الحياة نفسها: مترابطًا، فضوليًا، عابرًا للتصنيفات.
وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بالسؤال:
«كيف ندمج الذكاء الاصطناعي في المناهج؟»
بل بالسؤال الأعمق:
هل نملك منهجًا قادرًا على أن يتعلّم معه؟
وربما حينها،
لن يسألنا الطفل مجددًا:
«ليش لازم أتعلم هذا؟»
ويبقى السؤال:
إذا تخلّصنا من الحصص، وحرّرنا المحتوى، وتجاوزنا الجدران..
فأين سيكون الصف؟
أو بالأحرى،
هل ما زال الصف مكانًا… أم صار فكرة؟
بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية.. نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: «ماذا لو حمل الطالب غرفته الصفية في عقله؟»

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)
ماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)

الغد

timeمنذ 11 ساعات

  • الغد

ماذا لو انفجرت جدران المواد؟ (3)

ماسة الدلقموني تراجعت سلطة العلامة في المقال الأول، فخفت وطأة السباق نحو رقمٍ محدد، وانفتح الباب أمام التعلّم ليأخذ نفسه الأول بعيدًا عن الركض خلف المعدلات. وفي المقال الثاني، حين تنفّست المناهج، لم تعد مضطرة لتطويع المعرفة كي تتماشى مع اختبارٍ أو معدلٍ يُحدّد مصير المتعلّم. تحرّرت من القوالب، وبدأت تبحث عن معناها خارج إطار التقييم. اضافة اعلان ولا بدّ لهذه التغيّرات أن تُحدث تشققات في بنية النظام. فحين تتراجع السلطة، ويتنفس المنهج، تتزلزل الشرعية التي بُنيت عليها تقسيمات التعليم التقليدي. وهنا تبدأ المواد الدراسية بالتململ.. لا لأنها ضعيفة، بل لأنها كُتبت في زمن كان يفرض على المعرفة أن تُفهرس وتُغلق داخل جدران، زمنٍ لم يُراعِ كيف يتعلّم الطفل، ولا كيف يُبنى العقل، بل يُراعي فقط كيف يُقيَّم ويُفرَز. في النظام الجديد، «انفجار المواد الدراسية» لن يأتي على شكل فوضى، بل كمشهد طبيعي لانهيار نظام فقد علّة وجوده. هذا الانفجار لا يعني إلغاء المحتوى، بل تحريره من سجن الفواصل الزمنية والجدران المنهجية ليخدم غاية أسمى، لا تُقاس فيها المعرفة بعدد الصفحات أو عدد الحصص، بل بمدى قدرتها على توليد المعنى، وإثارة التساؤل، وتحفيز التفكير. في عصرٍ أصبحت فيه المعرفة نهرًا متدفقًا يعبر الحدود ويتجاوز الجدران، ما زالت كثير من المدارس تُصرّ على توزيعها في قوالب منفصلة: حصة للرياضيات، وأخرى للفن، وثالثة للتاريخ، ورابعة للتكنولوجيا. مناهج تُفكّك العالم إلى أجزاء متباعدة، وتُقدّم المحتوى كما لو أن الفهم لا يتحقّق إلا بفصل الأشياء عن بعضها. لكن العالم لم يعد يتجزّأ بهذه الطريقة، والذكاء الاصطناعي تحديدًا لا يعيش في هذا التقسيم؛ فهو ابن التداخل. لا يقرأ الرياضيات دون أن يستدعي الفن، ولا يُفسّر ظاهرة طبيعية دون أن يستحضر التاريخ أو يتخيّل مستقبلًا. عندما تسأله، لا يُجيب بجملةٍ مغلقة، بل ينسج شبكة من المفاهيم، والصور، والروابط، والمقترحات العملية. فهو لا يتعامل مع المعرفة كخزائن منفصلة، بل كمجرةٍ من الأفكار المتفاعلة. وهنا يكمن أساس التصادم الحالي بين مناهج تُصنّف المعرفة لتضبطها وتقيّدها، وبين ذكاءٍ صناعي يُحرّر المعرفة ويُعيد تشكيلها على نحوٍ متداخل. فهو لا يفهم كيف يُنتظر من طالب أن ينمو في بيئة تعليمية تُلزمه بالإجابة داخل حدود مادة واحدة؟ وكيف لطفلٍ يُفكّر بطبيعته بطريقة استكشافية، أن يُجبر على تقطيع أسئلته وفق جدول الحصص؟ نعم، لقد بدأ العالم بالفعل بتجاوز جدران المواد الدراسية، بعدما أدرك أن تقسيم المعرفة إلى وحداتٍ منفصلة لم يعد يخدم عقل الطفل، ولا يُشبه طريقة تفكير الإنسان في القرن الحادي والعشرين. ففي فنلندا مثلا، لم تعد الفيزياء أو الجغرافيا أو الفنون تُدرّس كمقرراتٍ منفصلة، بل تُدمج ضمن مشروعاتٍ متعددة التخصصات تتناول قضايا حقيقية من الواقع. وفي كندا ونيوزيلندا، أصبح المنهج ينطلق من الظواهر أو الأسئلة الكبرى، لا من المواد، فتتداخل الرياضيات مع الفنون، والعلوم مع التاريخ، ضمن سياقٍ متكامل يُحفّز الفهم ويغذي الفضول. هذه الدول لم تعد ترى في جدران المواد إلا عوائق ذهنية، وبدأت تُعيد تصميم تعليمها ليُشبه العقل البشري أكثر من أن يُشبه فهرس كتاب. قرأت عام 2011 عن مفهوم «التعلّم بعمق» (Learning in Depth)، لأدرك حينها فاقِدي التعليمي الخاص. فهذا النوع من التعلّم هو التعلّم الحقيقي، ونعم، وجود الذكاء الاصطناعي له تأثيرٌ ضخم في تحقّق هذا المفهوم العميق، والذي أراه – دون مبالغة – أصل كل تعلّم حقيقي. فهذا المفهوم لا يتعلق بكمية المعلومات التي يحفظها الطالب، بل بجودة العلاقة التي يبنيها مع المعرفة. في هذا النموذج، يتعمّق الطفل في موضوعٍ واحد على مدى سنوات، فيُصبح خبيرًا صغيرًا فيه. لا من باب التخصص المبكر، بل من باب إدراك كيف تُبنى المعرفة، وكيف تتصل الأشياء ببعضها البعض عبر الزمن. إنه نوعٌ من التعلّم يجعل الطفل لا يقرأ فقط، بل يُلاحظ، ويُحلّل، ويتساءل، ويضيف شيئًا من نفسه لما تعلّمه، وهو يغوص في عالم اهتماماته، سامحًا له أن يُشكّل فهمًا متشابكًا لا يعترف بالحدود المعرفية. مسؤوليتنا اليوم تكمن في تحضير طلابنا إلى عالم لا يمنحهم الأسئلة في ورقة، بل يرميها عليهم من كل زاوية. ولهذا، فإن تقديم أدوات الذكاء الاصطناعي للطلبة دون تحرير المناهج هو مجرد خداع تقني. هو كأن تمنح الطفل تلسكوبا، ثم تأمره ألا يرى أبعد من نافذة الصف. نحن بحاجة إلى إعادة تصوّر جذري للمناهج: في بنائها، وفي منطقها، وفي شكلها، كي نُصمّم تعلّما يُشبه الحياة نفسها: مترابطًا، فضوليًا، عابرًا للتصنيفات. وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بالسؤال: «كيف ندمج الذكاء الاصطناعي في المناهج؟» بل بالسؤال الأعمق: هل نملك منهجًا قادرًا على أن يتعلّم معه؟ وربما حينها، لن يسألنا الطفل مجددًا: «ليش لازم أتعلم هذا؟» ويبقى السؤال: إذا تخلّصنا من الحصص، وحرّرنا المحتوى، وتجاوزنا الجدران.. فأين سيكون الصف؟ أو بالأحرى، هل ما زال الصف مكانًا… أم صار فكرة؟ بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية.. نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: «ماذا لو حمل الطالب غرفته الصفية في عقله؟»

ماذا لو أصرت المناهج على بقائها كما هي؟(2)
ماذا لو أصرت المناهج على بقائها كما هي؟(2)

الغد

timeمنذ يوم واحد

  • الغد

ماذا لو أصرت المناهج على بقائها كما هي؟(2)

ماسة الدلقموني إن تحققت فرضية فقدان العلامة لبريستيجها وسطوتها على العملية التعليمية، فإننا قد نقف أمام لحظة فاصلة تعيد ترتيب العلاقة بين المتعلم والمعرفة، وتفتح الباب لسؤال جوهري: ما الذي يتعلّمه الطالب حقًا حين لا يكون هناك رقمٌ يحكم على معارفه؟ اضافة اعلان إن خسارة العلامة سلطتها لا تعني سقوط النظام، بل قد تكون بدايته الحقيقية. فالمنهج الذي لا يخاف من الفراغ الذي تركته العلامة، سيملؤه بالمعنى، بالنمو، وبإنسانية التعلم. ففي غياب العلامة كمؤشر نهائي، تخرج المناهج من قوقعة التلقين والسباق نحو الامتحان، وتدخل فضاء ما بعد العلامة لتتحرر من القيد العددي نحو العمق، وتُصمَّم لقياس النمو المعرفي والوجداني معًا، لا لإنزال حكم على الطالب بلغةٍ (80/100). في سيناريو اليوم، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي رفيقًا للبشرية، تقف المناهج في حيرة من أمرها. فمعركتها الحقيقية لم تعد بين التقليد والحداثة، بل بين الجمود والاستجابة، في عالم لا يتوقف احترامًا لبطء أحد، يمضي فيه الذكاء الاصطناعي في تعلّم ذاتي متسارع، فارضًا واقعًا جديدًا تُحدَّد فيه القيمة بالقدرة على التكيف. عندها تدرك المناهج أن التغيير لم يعد رفاهية، بل ضرورة وجودية. لكن هذا التغيير، هذه المرة، لن يأتي على شكل شعارات عابرة أو دروس عن 'الذكاء الاصطناعي' تُضاف في الهامش، بل يأتي ليعيد تشكيل فلسفة التعليم من الجذر. سيفرض على المناهج التحرر من الجمود، لتصبح كائنًا حيًا، يتنفس التغيير، ويتغذى على التجريب، ويتطور بالتغذية الراجعة. لا يُقاس بثباته، بل بمرونته. لا يكرّس السلطة المعرفية، ولا يُصمَّم ليملأ الوقت، بل ليصنع المعنى ويوجد البيئة لبناء الذات. منهج يُعيد للمتعلم مكانته، لا كمنفذ لتعليمات، بل كإنسان يُفكّر، يُجرّب، ويخطئ لينمو. لم يعد المنهج هو القائد الأوحد للعملية التعليمية. الذكاء الاصطناعي يعيد ترتيب العلاقة بين الطالب والمحتوى، فلا يعود المتعلم تابعًا لخطة مرسومة سلفًا، بل صانعًا لمسار تعلمه، بما يناسب احتياجاته وفضوله وسرعته الخاصة. يتحوّل المنهج من سلطة مغلقة إلى مرجع مرن، ومن خارطة صارمة إلى دعوة مفتوحة للاستكشاف. وهنا، لا يعود السؤال: 'ماذا سأُدرّس هذا الأسبوع؟'، بل: 'ما الذي يحتاجه هذا الطالب الآن؟' وفي ظل هذا التحول، يتلاشى مفهوم 'الكتاب المقرر' كما عرفناه. لن تكون هناك نسخة واحدة من الحقيقة تُقدَّم للجميع بالطريقة نفسها، بل محتوى متغير، ينبض بالحياة، ويتشكل لحظة بلحظة. الذكاء الاصطناعي سيوفر مصادر متجددة، متعددة الوسائط، تستجيب لمستوى الطالب، واهتماماته، وسياقاته الخاصة. المعرفة لن تعود شيئًا نلقّنه، بل تجربة يعيشها الطالب، ويعيد تشكيلها بلغته، وفضوله، ووعيه. نعم، من المخيف أن نعيش في زمن فقدان السيطرة، فالخوف ليس من الحداثة، بل من فقدان القبضة. التغيير الحقيقي لا يحتاج أدوات فحسب، بل يحتاج شجاعة ثقافية، ووعيًا فلسفيًا. ولذلك، ليس صعبًا لأنه تقني.. بل لأنه يهدّد بنية فكرية كاملة. لكن، ماذا لو أصرت المناهج على بقائها كما هي؟ حينها، لن يكون الذكاء الاصطناعي هو التهديد الحقيقي للتعليم، بل التعليم ذاته حين يرفض أن يتبنى التغيير، وأن يرى الواقع كما هو، وحين يصر على قياس قيمته بمدى ثباته في عصر التكيف. والمفارقة أن مناهج الأمس، التي كانت تسعى لتثبيت النظام، قد تُصبح غدًا ما يُهدّد بقاءه. فلنفترض أن العلامة تراجعت عن عرشها، فانفتح المنهج وتنفّس، متحررًا من سطوة الامتحانات بشكلها التقليدي، فهل يكون ذلك كافيًا لتحرير التعليم من أغلال الماضي، ما دام المتعلم ما يزال يُسأل: 'في أي حصة نحن الآن؟' بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية.. نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: «ماذا لو انفجرت جدران المواد؟»

التعليم.. من التلقين إلى التمكين
التعليم.. من التلقين إلى التمكين

رؤيا نيوز

timeمنذ 6 أيام

  • رؤيا نيوز

التعليم.. من التلقين إلى التمكين

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد رهان مستقبلي، بل تحوّل إلى واقع حتمي يتداخل مع أدق تفاصيل الحياة اليومية، وعلى رأسها المنظومة التعليمية ،فأدوات معرفية متقدمة مثل ChatGPT لم تأت فقط لتجيب عن الأسئلة، بل لتعيد تشكيل بنية التفكير نفسها، وتحرّر المعرفة من قوالبها التقليدية، وتفتح أمام المتعلّم آفاقًا لا تُحدّ بجدران الصفوف ولا تُقيّد بضيق المناهج. في الأردن، حيث ما زالت منظومة التعليم تواجه تحديات جسيمة – تتراوح بين محدودية الموارد، وتباطؤ تحديث المناهج، وضعف البنية الرقمية – يبرز الذكاء الاصطناعي ليس كتقنية مكمّلة، بل كنافذة وفرصة تاريخية لإعادة هندسة العملية التعليمية برمّتها. إنه ليس ترفًا رقميًا، بل ضرورة استراتيجية تمسّ جوهر التنمية البشرية. إن دخول أدوات الذكاء الاصطناعي إلى وعي الطلبة والمعلمين على حدٍ سواء، يمثّل لحظة تحول نوعي: من التعلم القائم على التلقين والتكرار، إلى نماذج تعليمية تعتمد على التحليل، والتفكير النقدي والتجريب، والابتكار. إنها انطلاقة جوهرية نحو الانتقال من الأساليب التقليدية العقيمة إلى بيئة معرفية متعددة المسارات، تُراعي الفروقات الفردية، وتُعزز استقلالية المتعلّم. هذه الأدوات تمنح الطالب قدرة غير مسبوقة للوصول إلى محتوى تفاعلي، فوري، متجدد، مرن يراعي الاختلاف بين الطلبة كل حسب مستوى فهمه واهتماماته. غير أن هذه الثورة المعرفية تطرح سؤالًا ملحًا: كيف يحافظ المعلم التقليدي على دوره التربوي وسط هذا التدفق الهائل من المعرفة؟ الجواب لا يكمن في مقاومة التغيير، بل في التكيّف الواعي معه، وتطوير الذات، والتحوّل من ناقل للمعرفة إلى موجّه ومسؤول عن تنمية التفكير النقدي والوعي الرقمي. في هذا السياق، يُصبح من غير الممكن إحداث تحول حقيقي دون دور مركزي وفعّال من قبل الحكومة، ووزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، ومجالس البحث العلمي. إذ يقع على عاتق هذه المؤسسات مسؤولية الانتقال من سياسة الاستجابة إلى سياسة المبادرة. ومن أبرز أدوارها المطلوبة: إعادة صياغة المناهج لتكون أكثر تفاعلية، وتدمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي والبرمجة والمهارات الرقمية منذ المراحل المبكرة. والعمل على تأهيل المعلمين وتدريبهم لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ليس كأدوات شرح، بل كمساحات تفاعلية للتعلم. ويجب تحفيز البحث العلمي وتوجيه رسائل الماجستير والدكتوراه نحو تطوير أدوات تعليمية ذكية تراعي اللغة العربية والخصوصية الثقافية للمجتمع. ان تعزيز التعاون مع شركات التكنولوجيا لتطوير منصات تعليمية ذكية، وتمويل مبادرات رقمية تعليمية تخدم القطاع، ورغم ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من وعود بزيادة العدالة التعليمية وتوسيع فرص التعلم، إلا أن التحدي الأكبر يظلّ في الإنسان نفسه: هل نُخرّج جيلًا من المستخدمين السلبيين لهذه الأدوات، أم نُنشئ مفكرين ناقدين، قادرين على تحليل ما يُقدّم لهم، وتمييز النافع من الضار، والمعلومة من الدعاية. هنا يبرز دور منظومة التربية لا كناقل معرفي، بل كمُشكّل للوعي والضمير العلمي، القادر على تمكين الجيل الرقمي من التعامل مع الذكاء الاصطناعي كامتداد لعقله، لا كبديل عنه. ان دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة مُلحة فالأردن ، بما يملكه من ثروة بشرية شابة، ومؤسسات أكاديمية راسخة، وقطاع تكنولوجي ناشئ، قادر ليس فقط على استيعاب هذه الثورة، بل على المساهمة في تطويعها وتعريبها وتصدير نماذج تعليمية متقدمة تتلاءم مع خصائصه المجتمعية. إن مستقبل التعليم لن يُبنى بالأدوات وحدها، بل بالإرادة السياسية، والرؤية المؤسسية، والإيمان بأن الاستثمار في عقل الإنسان، هو الاستثمار الأصدق في مستقبل الوطن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store