منذ 10 ساعات
ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها
تكشف الحوارات التي يتضمنها كتاب "أفريقيا المدهشة: حوارات مع كتاب أفارقة" الصادر حديثا عن دار العين للكاتب المغربي حسن الوزاني، عن الغنى الجمالي والفكري الذي تزخر به هذه القارة، رغم ما عاشته من تهميش وإقصاء طويلين، كما تفتح نوافذ على ذاكرة الألم المزروعة في جسد القارة وروحها، حيث يضم 23 حوارا مع كتاب من جغرافيات وثقافات مختلفة.
وينفتح العمل الجديد، كما يوحي عنوانه، على عدد من الأسماء الأدبية البارزة في القارة، في خطوة تعكس اهتمام الوزاني بإبراز التعدد الثقافي والإبداعي داخل الفضاء الأفريقي، بعيدا عن الصور النمطية المتداولة عنه، وهو التوجه الذي يشكل استمرارا لتجربة سابقة للكاتب المغربي في كتابه "يتلهون بالغيم" الصادر سنة 2018 عن منشورات المتوسط، حيث حاور شعراء من 17 بلدا غير عربي، كاشفا عن تجربة فريدة في الإنصات لصوت الآخر.
ويعتبر الكاتب الفلسطيني علي العامري في تقديمه لهذا الكتاب أن هذه الحوارات تضيء على القارة "الساحرة بشعوبها وثقافاتها وأحلامها وأحزانها وتراثها ولغاتها وجراحها وإبداعاتها المدهشة في كل الحقول" مضيفا أن هذا الكتاب الذي يعد إضافة للمكتبة العربية "يشكل دعوة لإعادة ترميم الجسور الثقافية بين العرب والأفارقة، واستكشاف الضوء المطمور في التاريخ والحاضر والمستقبل".
ومن بين الإشارات اللافتة في الكتاب، أن أفريقيا، رغم غناها الأدبي والثقافي، لا تزال بالنسبة لكثير من القراء العرب والعالميين قارة ثقافية مجهولة، غائبة عن دوائر التداول، ويكرس هذا الغياب ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، والتي تبقى نادرة إذا ما قورنت بثراء النتاج الأدبي في الضفتين، مما يفضي -حسب العامري- إلى خسارات ثقافية متبادلة.
وبالإضافة إلى واقع الأدب الأفريقي الذي يعاني من التهميش، تبين هذه الحوارات عمق التداخل الثقافي بين العرب والأفارقة، من خلال استكشاف حضور العربية والتراث العربي في أفريقيا، كما تسلط الضوء على مكانة القضية الفلسطينية في وعي عدد من أبرز الكتاب في القارة، باعتبارها رمزا للنضال ضد الظلم والاستعمار، وحافزا لتكريس التضامن الثقافي والإنساني عبر القارات.
أدب يواجه التهميش
سعى الوزاني، عبر الأسئلة التي طرحها في هذه الحوارات المطولة، إلى استكشاف الأدب الأفريقي من خلال إنصاته إلى تجارب متعددة داخل بلدان القارة، بما تحمله من خصوصيات لغوية وثقافية وتاريخية، وما تعكسه من هواجس وقلق وارتباط بالواقع والمجتمع.
ففي مدغشقر -مثلا- لا يخفي الكاتب جون لوك رهاريمننا خيبته وإحباطه من وضع الأدب في بلده، لأنه لا يزال يعيش حالة من الهشاشة والإقصاء، حيث إن القليل من الكتاب فقط ينجحون في نشر أعمالهم، بينما تظل نصوص كثيرة حبيسة الأدراج، وسط مشهد يصفه بمرارة قائلا "نحن مثل يراعات في فراغ كبير". ومع ذلك، فإن هذا الأدب، وإن بدا محدود الانتشار، يحمل في طياته ذاكرة عميقة ويقاوم بصمت في ظل الفساد السياسي وتدهور البيئة في الجزيرة.
وأما في الكونغو برازافيل (جمهورية الكونغو) فتأخذ التجربة الأدبية منحى مغايرا، حيث يرى الكاتب كايا مخيلي أن جزءا من الأدب هناك قطع مع مرحلة "الزنوجية" وتوجه نحو بناء هوية حديثة لا تظل أسيرة مآسي الماضي، مشيرا إلى أن أدب ما بعد الاستعمار -في نظره- ينصت لتحولات المجتمع، ويلامس آثار الثورات و"الانحرافات الأيديولوجية" مثلما يلامس تداعيات الاستبداد.
وحسب نفس الكاتب فقد تم بناء الأدب الكونغولي حول مفهوم "الأخوة" الذي يقوم على سهولة تداول المخطوطات بين الكتاب، سواء المكرسين منهم أم الشبان، وعلى سهولة التواصل بينهم وتبادل الرأي بعيدا عما وصفه بـ"لغة الخشب" بالإضافة إلى تميز هذا الأدب بروح السخرية التي تستعمل لتحويل الواقع إلى ما يمكن تحمله، وذلك كأسلوب مراوغة في وجه الرقابة، ووسيلة للحفاظ على حرية التعبير الفردي ضمن مصير جماعي مشترك.
وفي الغابون، يشير الكاتب إريك جويل بيكال إلى أن الأدب المكتوب تأخر في الظهور حتى ستينيات القرن الماضي، رغم قدم التقاليد الثقافية الشفهية، حيث نشرت الرواية الأولى "قصة طفل لقيط" عام 1971، ومنذ ذلك الحين أخذت الكتابة الغابونية تنمو بهدوء، مع اهتمام واضح بمواضيع الطقوس والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والمنفى والسياسة، غير أن هذه الحيوية الإبداعية تصطدم بغياب الدعم.
وإذا كان المشهد الأدبي في الكاميرون قد بدأ يتشكل في سياق استعماري معقد، كما يروي أديبها تيمبا بيما، فإن جذوره تمتد إلى ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي والبريطاني عام 1919، إذ تشير أعمال مبكرة مثل "نصوص ياوندي" (عام 1913) وكتاب "سانجان" لسلطان نجويا إلى أن النصوص الأولى هناك سبقت الاحتلال. غير أن القرن الحالي عرف تحولا نوعيا بفعل تراجع تكاليف النشر وظهور دور نشر محلية، وازدياد عدد الكتب المطبوعة، بل وتعدد أنواعها، حيث ظهرت رواية الجريمة والرواية الرومانسية. وبرزت جوائز أدبية ومهرجانات وورشات كتابة، مما أسهم في إيجاد دينامية جديدة بالمشهد الأدبي في هذا البلد.
وهذه الدينامية تؤكدها أيضا المواطنة دجايلي أمادو أمال التي تقترح تقسيم المشهد الأدبي الكاميروني إلى 3 لحظات: مرحلة استعمارية ذات نفس احتجاجي، ومرحلة ما بعد الاستعمار المثقلة بالثورة وانعكاساتها، ثم مرحلة الجيل الجديد الذي جاء محمولا على رياح الديمقراطية والتعددية السياسية والعولمة. وهو جيل نجح بعض أفراده في الوصول إلى أرقى الجوائز الأدبية الأفريقية والفرانكفونية "على الرغم من ضعف الجهات الفاعلة في سلسلة الكتب، وتأثر الإنتاج الداخلي بمجال تحريري متساهل وغير محمي بشكل جيد".
فلسطين جرح مشترك
في زمن الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم يفوت الوزاني فرصة طرح أسئلة تهم القضية الفلسطينية، فجاءت معظم الإجابات لتعكس أن فلسطين ليست مجرد قضية محلية أو عربية، وإنما قضية عالمية تمس جوهر القيم الإنسانية، وترتبط بمفاهيم العدل والرحمة والكرامة التي يفترض أن توحد البشر، بغض النظر عن العرق أو الدين.
ففي سياق إجابتها عن سؤال "ماذا تعني لك فلسطين؟" تقول الشاعرة الجنوب أفريقية سيندوي ماكونا إن "فلسطين انعكاس محزن لافتقارنا الجماعي لقيم الإنسانية التي يجب أن تستند إلى المحبة". وتؤكد الروائية -التي ولدت سنة 1942 وتقلدت عدة مناصب أممية قبل عودتها إلى بلادها عام 2003 للتفرغ للكتابة- أن الآلام المرعبة التي تعيشها فلسطين والأعداد الكبيرة من ضحايا النيران الإسرائيلية دليل على "فشلنا في العيش وفقا لقانون خالقنا" مضيفة أن لا وجود لدين يدعو للقتل الجماعي للأطفال والأبرياء والنساء والمسنين غير المسلحين.
وبدوره يعتبر مواطنها شابير بانوبهاي، وهو ينحدر من عائلة مسلمة، أن فلسطين "جرحنا المشترك" وأنها "المكان الذي ترتكب فيه الإبادة الجماعية بأشكالها الأكثر فظاعة" مؤكدا أن دور الكاتب في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية هو أن يكون "صوت من لا صوت لهم" وذلك بأن يسلط الضوء بشجاعة على الجرائم التي يرغب الظالمون في إخفائها، حرصا على "الحفاظ على الحقيقة للأجيال القادمة".
ويعيد الشاعر ناثان ترانترال أسباب ارتباط وتعاطف كتاب جنوب أفريقيا مع مآسي الفلسطينيين إلى أن البلد عانى هو الآخر من الفصل العنصري، تماما كما هو الشأن بالنسبة لفلسطين، مما يجعل المثقفين فيها أكثر حساسية تجاه مظاهر الظلم والاستعمار، وبالتالي يرون في فلسطين مرآة لمعاناة مشابهة عاشتها شعوبهم، مشيرا إلى أن وعيه السياسي والاجتماعي نشأ انطلاقا من محنة الشعب الفلسطيني.
ارتباط وثيق بالثقافة العربية
رغم ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، تظهر هذه الحوارات ارتباطا وثيقا بين عدد من الكتاب الأفارقة والثقافة العربية، إما انطلاقا من إجادة بعضهم القراءة بالعربية، أو عن طريق احتكاكهم بهذه الثقافة عبر الأدب المترجم أو المكتوب بالفرنسية عن طريق كتاب عرب، لدرجة أن الكاتب السنغالي أمادو لمين سال وصفها بأنها "المشعل الذي يضيء الكون" وذلك لأن "الشعر العربي يقول كل شيء".
ويعد شعب مدغشقر خليطا من الثقافات، ومن بينها يظهر التأثير العربي في بعض مناطقها الساحلية، حيث خلفت العائلات التي حلت في البلد ابتداء من القرن الـ11 إرثا ثقافيا ودينيا كبيرا. وبهذا الصدد يبرز الملغاشي جون لوك رهاريمننا كأحد الكتاب الذين لهم ارتباط وثيق بالأدب العربي، إذ قرأ أعمال أبو نواس وكثير من المؤلفين الجزائريين والمغاربة واللبنانيين المعاصرين ومنهم أمين معلوف والطاهر بن جلون ومحمد ديب ورشيد بوجدرة.
كما تظهر السنغالية نافيساتو ضيا ضيوف باعتبارها أحد الكتاب الأفارقة الذين كان للثقافة العربية أثر استثنائي على مسارهم الإبداعي، ويقدمها النقاد كدينامو الجيل الجديد بالأدب السنغالي. وهي تقول إن لها ارتباطا وثيقا بالموسيقى والسينما والكتاب والعمارة والخط العربي، مضيفة أن كتابات عمر الخيام كانت تشدها بالمراحل المبكرة من عمرها، وأنها تعتبر معلوف كاتبها المفضل.
ومن جهتها تعتبر الشاعرة كاثرين بودي، التي تنحدر من جزيرة لا ريونيون وتقيم بجزيرة موريشيوس، نفسها صديقة وفية للثقافة والأدب العربي، مشيرة إلى أن حلمها الكبير أن تترجم أعمالها الشعرية إلى العربية.
وإذا كانت صلة كثيرين بالثقافة العربية انطلقت من احتكاكهم بالأدب، فإن الكاميرونية دجايلي أمادو أمال -وهي أول كاتبة أفريقية تصل إلى نهائي جائزة غونكور الفرنسية- صرحت للوزاني بأنها انغمست في هذه الثقافة بفضل والدتها المصرية، وتعلمت العربية بالمدرسة الثانوية كلغة ثالثة، بل إن والدها الذي يدرس العربية اختار أن يسميها "أمال" تأثرا بأغنية أم كلثوم "أمل حياتي".