logo
ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها

ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها

الجزيرةمنذ 5 ساعات

تكشف الحوارات التي يتضمنها كتاب "أفريقيا المدهشة: حوارات مع كتاب أفارقة" الصادر حديثا عن دار العين للكاتب المغربي حسن الوزاني، عن الغنى الجمالي والفكري الذي تزخر به هذه القارة، رغم ما عاشته من تهميش وإقصاء طويلين، كما تفتح نوافذ على ذاكرة الألم المزروعة في جسد القارة وروحها، حيث يضم 23 حوارا مع كتاب من جغرافيات وثقافات مختلفة.
وينفتح العمل الجديد، كما يوحي عنوانه، على عدد من الأسماء الأدبية البارزة في القارة، في خطوة تعكس اهتمام الوزاني بإبراز التعدد الثقافي والإبداعي داخل الفضاء الأفريقي، بعيدا عن الصور النمطية المتداولة عنه، وهو التوجه الذي يشكل استمرارا لتجربة سابقة للكاتب المغربي في كتابه "يتلهون بالغيم" الصادر سنة 2018 عن منشورات المتوسط، حيث حاور شعراء من 17 بلدا غير عربي، كاشفا عن تجربة فريدة في الإنصات لصوت الآخر.
ويعتبر الكاتب الفلسطيني علي العامري في تقديمه لهذا الكتاب أن هذه الحوارات تضيء على القارة "الساحرة بشعوبها وثقافاتها وأحلامها وأحزانها وتراثها ولغاتها وجراحها وإبداعاتها المدهشة في كل الحقول" مضيفا أن هذا الكتاب الذي يعد إضافة للمكتبة العربية "يشكل دعوة لإعادة ترميم الجسور الثقافية بين العرب والأفارقة، واستكشاف الضوء المطمور في التاريخ والحاضر والمستقبل".
ومن بين الإشارات اللافتة في الكتاب، أن أفريقيا، رغم غناها الأدبي والثقافي، لا تزال بالنسبة لكثير من القراء العرب والعالميين قارة ثقافية مجهولة، غائبة عن دوائر التداول، ويكرس هذا الغياب ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، والتي تبقى نادرة إذا ما قورنت بثراء النتاج الأدبي في الضفتين، مما يفضي -حسب العامري- إلى خسارات ثقافية متبادلة.
وبالإضافة إلى واقع الأدب الأفريقي الذي يعاني من التهميش، تبين هذه الحوارات عمق التداخل الثقافي بين العرب والأفارقة، من خلال استكشاف حضور العربية والتراث العربي في أفريقيا، كما تسلط الضوء على مكانة القضية الفلسطينية في وعي عدد من أبرز الكتاب في القارة، باعتبارها رمزا للنضال ضد الظلم والاستعمار، وحافزا لتكريس التضامن الثقافي والإنساني عبر القارات.
أدب يواجه التهميش
سعى الوزاني، عبر الأسئلة التي طرحها في هذه الحوارات المطولة، إلى استكشاف الأدب الأفريقي من خلال إنصاته إلى تجارب متعددة داخل بلدان القارة، بما تحمله من خصوصيات لغوية وثقافية وتاريخية، وما تعكسه من هواجس وقلق وارتباط بالواقع والمجتمع.
ففي مدغشقر -مثلا- لا يخفي الكاتب جون لوك رهاريمننا خيبته وإحباطه من وضع الأدب في بلده، لأنه لا يزال يعيش حالة من الهشاشة والإقصاء، حيث إن القليل من الكتاب فقط ينجحون في نشر أعمالهم، بينما تظل نصوص كثيرة حبيسة الأدراج، وسط مشهد يصفه بمرارة قائلا "نحن مثل يراعات في فراغ كبير". ومع ذلك، فإن هذا الأدب، وإن بدا محدود الانتشار، يحمل في طياته ذاكرة عميقة ويقاوم بصمت في ظل الفساد السياسي وتدهور البيئة في الجزيرة.
وأما في الكونغو برازافيل (جمهورية الكونغو) فتأخذ التجربة الأدبية منحى مغايرا، حيث يرى الكاتب كايا مخيلي أن جزءا من الأدب هناك قطع مع مرحلة "الزنوجية" وتوجه نحو بناء هوية حديثة لا تظل أسيرة مآسي الماضي، مشيرا إلى أن أدب ما بعد الاستعمار -في نظره- ينصت لتحولات المجتمع، ويلامس آثار الثورات و"الانحرافات الأيديولوجية" مثلما يلامس تداعيات الاستبداد.
وحسب نفس الكاتب فقد تم بناء الأدب الكونغولي حول مفهوم "الأخوة" الذي يقوم على سهولة تداول المخطوطات بين الكتاب، سواء المكرسين منهم أم الشبان، وعلى سهولة التواصل بينهم وتبادل الرأي بعيدا عما وصفه بـ"لغة الخشب" بالإضافة إلى تميز هذا الأدب بروح السخرية التي تستعمل لتحويل الواقع إلى ما يمكن تحمله، وذلك كأسلوب مراوغة في وجه الرقابة، ووسيلة للحفاظ على حرية التعبير الفردي ضمن مصير جماعي مشترك.
وفي الغابون، يشير الكاتب إريك جويل بيكال إلى أن الأدب المكتوب تأخر في الظهور حتى ستينيات القرن الماضي، رغم قدم التقاليد الثقافية الشفهية، حيث نشرت الرواية الأولى "قصة طفل لقيط" عام 1971، ومنذ ذلك الحين أخذت الكتابة الغابونية تنمو بهدوء، مع اهتمام واضح بمواضيع الطقوس والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والمنفى والسياسة، غير أن هذه الحيوية الإبداعية تصطدم بغياب الدعم.
وإذا كان المشهد الأدبي في الكاميرون قد بدأ يتشكل في سياق استعماري معقد، كما يروي أديبها تيمبا بيما، فإن جذوره تمتد إلى ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي والبريطاني عام 1919، إذ تشير أعمال مبكرة مثل "نصوص ياوندي" (عام 1913) وكتاب "سانجان" لسلطان نجويا إلى أن النصوص الأولى هناك سبقت الاحتلال. غير أن القرن الحالي عرف تحولا نوعيا بفعل تراجع تكاليف النشر وظهور دور نشر محلية، وازدياد عدد الكتب المطبوعة، بل وتعدد أنواعها، حيث ظهرت رواية الجريمة والرواية الرومانسية. وبرزت جوائز أدبية ومهرجانات وورشات كتابة، مما أسهم في إيجاد دينامية جديدة بالمشهد الأدبي في هذا البلد.
وهذه الدينامية تؤكدها أيضا المواطنة دجايلي أمادو أمال التي تقترح تقسيم المشهد الأدبي الكاميروني إلى 3 لحظات: مرحلة استعمارية ذات نفس احتجاجي، ومرحلة ما بعد الاستعمار المثقلة بالثورة وانعكاساتها، ثم مرحلة الجيل الجديد الذي جاء محمولا على رياح الديمقراطية والتعددية السياسية والعولمة. وهو جيل نجح بعض أفراده في الوصول إلى أرقى الجوائز الأدبية الأفريقية والفرانكفونية "على الرغم من ضعف الجهات الفاعلة في سلسلة الكتب، وتأثر الإنتاج الداخلي بمجال تحريري متساهل وغير محمي بشكل جيد".
فلسطين جرح مشترك
في زمن الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم يفوت الوزاني فرصة طرح أسئلة تهم القضية الفلسطينية، فجاءت معظم الإجابات لتعكس أن فلسطين ليست مجرد قضية محلية أو عربية، وإنما قضية عالمية تمس جوهر القيم الإنسانية، وترتبط بمفاهيم العدل والرحمة والكرامة التي يفترض أن توحد البشر، بغض النظر عن العرق أو الدين.
ففي سياق إجابتها عن سؤال "ماذا تعني لك فلسطين؟" تقول الشاعرة الجنوب أفريقية سيندوي ماكونا إن "فلسطين انعكاس محزن لافتقارنا الجماعي لقيم الإنسانية التي يجب أن تستند إلى المحبة". وتؤكد الروائية -التي ولدت سنة 1942 وتقلدت عدة مناصب أممية قبل عودتها إلى بلادها عام 2003 للتفرغ للكتابة- أن الآلام المرعبة التي تعيشها فلسطين والأعداد الكبيرة من ضحايا النيران الإسرائيلية دليل على "فشلنا في العيش وفقا لقانون خالقنا" مضيفة أن لا وجود لدين يدعو للقتل الجماعي للأطفال والأبرياء والنساء والمسنين غير المسلحين.
وبدوره يعتبر مواطنها شابير بانوبهاي، وهو ينحدر من عائلة مسلمة، أن فلسطين "جرحنا المشترك" وأنها "المكان الذي ترتكب فيه الإبادة الجماعية بأشكالها الأكثر فظاعة" مؤكدا أن دور الكاتب في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية هو أن يكون "صوت من لا صوت لهم" وذلك بأن يسلط الضوء بشجاعة على الجرائم التي يرغب الظالمون في إخفائها، حرصا على "الحفاظ على الحقيقة للأجيال القادمة".
ويعيد الشاعر ناثان ترانترال أسباب ارتباط وتعاطف كتاب جنوب أفريقيا مع مآسي الفلسطينيين إلى أن البلد عانى هو الآخر من الفصل العنصري، تماما كما هو الشأن بالنسبة لفلسطين، مما يجعل المثقفين فيها أكثر حساسية تجاه مظاهر الظلم والاستعمار، وبالتالي يرون في فلسطين مرآة لمعاناة مشابهة عاشتها شعوبهم، مشيرا إلى أن وعيه السياسي والاجتماعي نشأ انطلاقا من محنة الشعب الفلسطيني.
ارتباط وثيق بالثقافة العربية
رغم ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، تظهر هذه الحوارات ارتباطا وثيقا بين عدد من الكتاب الأفارقة والثقافة العربية، إما انطلاقا من إجادة بعضهم القراءة بالعربية، أو عن طريق احتكاكهم بهذه الثقافة عبر الأدب المترجم أو المكتوب بالفرنسية عن طريق كتاب عرب، لدرجة أن الكاتب السنغالي أمادو لمين سال وصفها بأنها "المشعل الذي يضيء الكون" وذلك لأن "الشعر العربي يقول كل شيء".
ويعد شعب مدغشقر خليطا من الثقافات، ومن بينها يظهر التأثير العربي في بعض مناطقها الساحلية، حيث خلفت العائلات التي حلت في البلد ابتداء من القرن الـ11 إرثا ثقافيا ودينيا كبيرا. وبهذا الصدد يبرز الملغاشي جون لوك رهاريمننا كأحد الكتاب الذين لهم ارتباط وثيق بالأدب العربي، إذ قرأ أعمال أبو نواس وكثير من المؤلفين الجزائريين والمغاربة واللبنانيين المعاصرين ومنهم أمين معلوف والطاهر بن جلون ومحمد ديب ورشيد بوجدرة.
كما تظهر السنغالية نافيساتو ضيا ضيوف باعتبارها أحد الكتاب الأفارقة الذين كان للثقافة العربية أثر استثنائي على مسارهم الإبداعي، ويقدمها النقاد كدينامو الجيل الجديد بالأدب السنغالي. وهي تقول إن لها ارتباطا وثيقا بالموسيقى والسينما والكتاب والعمارة والخط العربي، مضيفة أن كتابات عمر الخيام كانت تشدها بالمراحل المبكرة من عمرها، وأنها تعتبر معلوف كاتبها المفضل.
ومن جهتها تعتبر الشاعرة كاثرين بودي، التي تنحدر من جزيرة لا ريونيون وتقيم بجزيرة موريشيوس، نفسها صديقة وفية للثقافة والأدب العربي، مشيرة إلى أن حلمها الكبير أن تترجم أعمالها الشعرية إلى العربية.
وإذا كانت صلة كثيرين بالثقافة العربية انطلقت من احتكاكهم بالأدب، فإن الكاميرونية دجايلي أمادو أمال -وهي أول كاتبة أفريقية تصل إلى نهائي جائزة غونكور الفرنسية- صرحت للوزاني بأنها انغمست في هذه الثقافة بفضل والدتها المصرية، وتعلمت العربية بالمدرسة الثانوية كلغة ثالثة، بل إن والدها الذي يدرس العربية اختار أن يسميها "أمال" تأثرا بأغنية أم كلثوم "أمل حياتي".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها
ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

ذاكرة الألم والإبداع في أدب "أفريقيا المدهشة" بعين كتّابها

تكشف الحوارات التي يتضمنها كتاب "أفريقيا المدهشة: حوارات مع كتاب أفارقة" الصادر حديثا عن دار العين للكاتب المغربي حسن الوزاني، عن الغنى الجمالي والفكري الذي تزخر به هذه القارة، رغم ما عاشته من تهميش وإقصاء طويلين، كما تفتح نوافذ على ذاكرة الألم المزروعة في جسد القارة وروحها، حيث يضم 23 حوارا مع كتاب من جغرافيات وثقافات مختلفة. وينفتح العمل الجديد، كما يوحي عنوانه، على عدد من الأسماء الأدبية البارزة في القارة، في خطوة تعكس اهتمام الوزاني بإبراز التعدد الثقافي والإبداعي داخل الفضاء الأفريقي، بعيدا عن الصور النمطية المتداولة عنه، وهو التوجه الذي يشكل استمرارا لتجربة سابقة للكاتب المغربي في كتابه "يتلهون بالغيم" الصادر سنة 2018 عن منشورات المتوسط، حيث حاور شعراء من 17 بلدا غير عربي، كاشفا عن تجربة فريدة في الإنصات لصوت الآخر. ويعتبر الكاتب الفلسطيني علي العامري في تقديمه لهذا الكتاب أن هذه الحوارات تضيء على القارة "الساحرة بشعوبها وثقافاتها وأحلامها وأحزانها وتراثها ولغاتها وجراحها وإبداعاتها المدهشة في كل الحقول" مضيفا أن هذا الكتاب الذي يعد إضافة للمكتبة العربية "يشكل دعوة لإعادة ترميم الجسور الثقافية بين العرب والأفارقة، واستكشاف الضوء المطمور في التاريخ والحاضر والمستقبل". ومن بين الإشارات اللافتة في الكتاب، أن أفريقيا، رغم غناها الأدبي والثقافي، لا تزال بالنسبة لكثير من القراء العرب والعالميين قارة ثقافية مجهولة، غائبة عن دوائر التداول، ويكرس هذا الغياب ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، والتي تبقى نادرة إذا ما قورنت بثراء النتاج الأدبي في الضفتين، مما يفضي -حسب العامري- إلى خسارات ثقافية متبادلة. وبالإضافة إلى واقع الأدب الأفريقي الذي يعاني من التهميش، تبين هذه الحوارات عمق التداخل الثقافي بين العرب والأفارقة، من خلال استكشاف حضور العربية والتراث العربي في أفريقيا، كما تسلط الضوء على مكانة القضية الفلسطينية في وعي عدد من أبرز الكتاب في القارة، باعتبارها رمزا للنضال ضد الظلم والاستعمار، وحافزا لتكريس التضامن الثقافي والإنساني عبر القارات. أدب يواجه التهميش سعى الوزاني، عبر الأسئلة التي طرحها في هذه الحوارات المطولة، إلى استكشاف الأدب الأفريقي من خلال إنصاته إلى تجارب متعددة داخل بلدان القارة، بما تحمله من خصوصيات لغوية وثقافية وتاريخية، وما تعكسه من هواجس وقلق وارتباط بالواقع والمجتمع. ففي مدغشقر -مثلا- لا يخفي الكاتب جون لوك رهاريمننا خيبته وإحباطه من وضع الأدب في بلده، لأنه لا يزال يعيش حالة من الهشاشة والإقصاء، حيث إن القليل من الكتاب فقط ينجحون في نشر أعمالهم، بينما تظل نصوص كثيرة حبيسة الأدراج، وسط مشهد يصفه بمرارة قائلا "نحن مثل يراعات في فراغ كبير". ومع ذلك، فإن هذا الأدب، وإن بدا محدود الانتشار، يحمل في طياته ذاكرة عميقة ويقاوم بصمت في ظل الفساد السياسي وتدهور البيئة في الجزيرة. وأما في الكونغو برازافيل (جمهورية الكونغو) فتأخذ التجربة الأدبية منحى مغايرا، حيث يرى الكاتب كايا مخيلي أن جزءا من الأدب هناك قطع مع مرحلة "الزنوجية" وتوجه نحو بناء هوية حديثة لا تظل أسيرة مآسي الماضي، مشيرا إلى أن أدب ما بعد الاستعمار -في نظره- ينصت لتحولات المجتمع، ويلامس آثار الثورات و"الانحرافات الأيديولوجية" مثلما يلامس تداعيات الاستبداد. وحسب نفس الكاتب فقد تم بناء الأدب الكونغولي حول مفهوم "الأخوة" الذي يقوم على سهولة تداول المخطوطات بين الكتاب، سواء المكرسين منهم أم الشبان، وعلى سهولة التواصل بينهم وتبادل الرأي بعيدا عما وصفه بـ"لغة الخشب" بالإضافة إلى تميز هذا الأدب بروح السخرية التي تستعمل لتحويل الواقع إلى ما يمكن تحمله، وذلك كأسلوب مراوغة في وجه الرقابة، ووسيلة للحفاظ على حرية التعبير الفردي ضمن مصير جماعي مشترك. وفي الغابون، يشير الكاتب إريك جويل بيكال إلى أن الأدب المكتوب تأخر في الظهور حتى ستينيات القرن الماضي، رغم قدم التقاليد الثقافية الشفهية، حيث نشرت الرواية الأولى "قصة طفل لقيط" عام 1971، ومنذ ذلك الحين أخذت الكتابة الغابونية تنمو بهدوء، مع اهتمام واضح بمواضيع الطقوس والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والمنفى والسياسة، غير أن هذه الحيوية الإبداعية تصطدم بغياب الدعم. وإذا كان المشهد الأدبي في الكاميرون قد بدأ يتشكل في سياق استعماري معقد، كما يروي أديبها تيمبا بيما، فإن جذوره تمتد إلى ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي والبريطاني عام 1919، إذ تشير أعمال مبكرة مثل "نصوص ياوندي" (عام 1913) وكتاب "سانجان" لسلطان نجويا إلى أن النصوص الأولى هناك سبقت الاحتلال. غير أن القرن الحالي عرف تحولا نوعيا بفعل تراجع تكاليف النشر وظهور دور نشر محلية، وازدياد عدد الكتب المطبوعة، بل وتعدد أنواعها، حيث ظهرت رواية الجريمة والرواية الرومانسية. وبرزت جوائز أدبية ومهرجانات وورشات كتابة، مما أسهم في إيجاد دينامية جديدة بالمشهد الأدبي في هذا البلد. وهذه الدينامية تؤكدها أيضا المواطنة دجايلي أمادو أمال التي تقترح تقسيم المشهد الأدبي الكاميروني إلى 3 لحظات: مرحلة استعمارية ذات نفس احتجاجي، ومرحلة ما بعد الاستعمار المثقلة بالثورة وانعكاساتها، ثم مرحلة الجيل الجديد الذي جاء محمولا على رياح الديمقراطية والتعددية السياسية والعولمة. وهو جيل نجح بعض أفراده في الوصول إلى أرقى الجوائز الأدبية الأفريقية والفرانكفونية "على الرغم من ضعف الجهات الفاعلة في سلسلة الكتب، وتأثر الإنتاج الداخلي بمجال تحريري متساهل وغير محمي بشكل جيد". فلسطين جرح مشترك في زمن الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم يفوت الوزاني فرصة طرح أسئلة تهم القضية الفلسطينية، فجاءت معظم الإجابات لتعكس أن فلسطين ليست مجرد قضية محلية أو عربية، وإنما قضية عالمية تمس جوهر القيم الإنسانية، وترتبط بمفاهيم العدل والرحمة والكرامة التي يفترض أن توحد البشر، بغض النظر عن العرق أو الدين. ففي سياق إجابتها عن سؤال "ماذا تعني لك فلسطين؟" تقول الشاعرة الجنوب أفريقية سيندوي ماكونا إن "فلسطين انعكاس محزن لافتقارنا الجماعي لقيم الإنسانية التي يجب أن تستند إلى المحبة". وتؤكد الروائية -التي ولدت سنة 1942 وتقلدت عدة مناصب أممية قبل عودتها إلى بلادها عام 2003 للتفرغ للكتابة- أن الآلام المرعبة التي تعيشها فلسطين والأعداد الكبيرة من ضحايا النيران الإسرائيلية دليل على "فشلنا في العيش وفقا لقانون خالقنا" مضيفة أن لا وجود لدين يدعو للقتل الجماعي للأطفال والأبرياء والنساء والمسنين غير المسلحين. وبدوره يعتبر مواطنها شابير بانوبهاي، وهو ينحدر من عائلة مسلمة، أن فلسطين "جرحنا المشترك" وأنها "المكان الذي ترتكب فيه الإبادة الجماعية بأشكالها الأكثر فظاعة" مؤكدا أن دور الكاتب في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية هو أن يكون "صوت من لا صوت لهم" وذلك بأن يسلط الضوء بشجاعة على الجرائم التي يرغب الظالمون في إخفائها، حرصا على "الحفاظ على الحقيقة للأجيال القادمة". ويعيد الشاعر ناثان ترانترال أسباب ارتباط وتعاطف كتاب جنوب أفريقيا مع مآسي الفلسطينيين إلى أن البلد عانى هو الآخر من الفصل العنصري، تماما كما هو الشأن بالنسبة لفلسطين، مما يجعل المثقفين فيها أكثر حساسية تجاه مظاهر الظلم والاستعمار، وبالتالي يرون في فلسطين مرآة لمعاناة مشابهة عاشتها شعوبهم، مشيرا إلى أن وعيه السياسي والاجتماعي نشأ انطلاقا من محنة الشعب الفلسطيني. ارتباط وثيق بالثقافة العربية رغم ضعف حركة الترجمة بين العربية واللغات الأفريقية، تظهر هذه الحوارات ارتباطا وثيقا بين عدد من الكتاب الأفارقة والثقافة العربية، إما انطلاقا من إجادة بعضهم القراءة بالعربية، أو عن طريق احتكاكهم بهذه الثقافة عبر الأدب المترجم أو المكتوب بالفرنسية عن طريق كتاب عرب، لدرجة أن الكاتب السنغالي أمادو لمين سال وصفها بأنها "المشعل الذي يضيء الكون" وذلك لأن "الشعر العربي يقول كل شيء". ويعد شعب مدغشقر خليطا من الثقافات، ومن بينها يظهر التأثير العربي في بعض مناطقها الساحلية، حيث خلفت العائلات التي حلت في البلد ابتداء من القرن الـ11 إرثا ثقافيا ودينيا كبيرا. وبهذا الصدد يبرز الملغاشي جون لوك رهاريمننا كأحد الكتاب الذين لهم ارتباط وثيق بالأدب العربي، إذ قرأ أعمال أبو نواس وكثير من المؤلفين الجزائريين والمغاربة واللبنانيين المعاصرين ومنهم أمين معلوف والطاهر بن جلون ومحمد ديب ورشيد بوجدرة. كما تظهر السنغالية نافيساتو ضيا ضيوف باعتبارها أحد الكتاب الأفارقة الذين كان للثقافة العربية أثر استثنائي على مسارهم الإبداعي، ويقدمها النقاد كدينامو الجيل الجديد بالأدب السنغالي. وهي تقول إن لها ارتباطا وثيقا بالموسيقى والسينما والكتاب والعمارة والخط العربي، مضيفة أن كتابات عمر الخيام كانت تشدها بالمراحل المبكرة من عمرها، وأنها تعتبر معلوف كاتبها المفضل. ومن جهتها تعتبر الشاعرة كاثرين بودي، التي تنحدر من جزيرة لا ريونيون وتقيم بجزيرة موريشيوس، نفسها صديقة وفية للثقافة والأدب العربي، مشيرة إلى أن حلمها الكبير أن تترجم أعمالها الشعرية إلى العربية. وإذا كانت صلة كثيرين بالثقافة العربية انطلقت من احتكاكهم بالأدب، فإن الكاميرونية دجايلي أمادو أمال -وهي أول كاتبة أفريقية تصل إلى نهائي جائزة غونكور الفرنسية- صرحت للوزاني بأنها انغمست في هذه الثقافة بفضل والدتها المصرية، وتعلمت العربية بالمدرسة الثانوية كلغة ثالثة، بل إن والدها الذي يدرس العربية اختار أن يسميها "أمال" تأثرا بأغنية أم كلثوم "أمل حياتي".

مهرجان موازين يحتفي بدورته العشرين بحضور فني عربي وعالمي مميز
مهرجان موازين يحتفي بدورته العشرين بحضور فني عربي وعالمي مميز

الجزيرة

timeمنذ 15 ساعات

  • الجزيرة

مهرجان موازين يحتفي بدورته العشرين بحضور فني عربي وعالمي مميز

انطلقت في العاصمة المغربية الرباط فعاليات الدورة الـ20 لمهرجان "موازين- إيقاعات العالم" الذي يقام بين 19 و28 يونيو/حزيران الجاري، وسط أجواء احتفالية مبهرة وحضور جماهيري كبير، وبمشاركة نخبة من أبرز نجوم الغناء العرب والعالميين. واستضاف مسرح محمد الخامس عروضا لفنانين بارزين، من بينهم النجم الأميركي ويل سميث والفنان العراقي كاظم الساهر، في حين تُختتم فعاليات المهرجان بأمسيتين غنائيتين تحيي إحداهما المطربة اللبنانية ماجدة الرومي والأخرى الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب، إلى جانب عروض فنية أخرى متنوعة. تضامن مع غزة وأعربت المطربة المصرية كارمن سليمان عن سعادتها بالمشاركة في افتتاح مهرجان فني، وذلك خلال مؤتمر صحفي أقيم على هامش الحفل، حيث أكدت تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني، قائلة "نتألم جميعا لما يحدث في غزة، ونتمنى انتهاء الأزمة قريبا". وخلال حفلها الذي أقيم على مسرح محمد الخامس أدت كارمن مجموعة من الأغاني المغربية، مشيرة إلى أنها اختارت هذه الأغاني احتراما للجمهور المغربي، وأنها تخطط لتقديم أعمال جديدة باللهجة المغربية خلال الفترة المقبلة. ويل سميث بالقفطان المغربي وشهد مسرح السويسي في العاصمة المغربية الرباط حضورا جماهيريا حاشدا خلال الحفل الذي أحياه الفنان الأميركي ويل سميث ضمن مشاركته الأولى في مهرجان "موازين- إيقاعات العالم". وافتتح سميث عرضه بأغنيته الشهيرة "نندمج مع الإيقاع" (Gettin' Jiggy Wit It)، ليواصل أداء مجموعة من أبرز أعماله، وسط تفاعل كبير من الجمهور الذي رافقه بالغناء والرقص. ولفت النجم الأميركي الأنظار بإطلالة مغربية تقليدية، حيث ارتدى قفطانا من تصميم فاطمة الزهراء الفيلالي الإدريسي اختاره من بين 5 تصاميم قدّمت له. وتميز القفطان بتطريزات مستوحاة من نقوش الزليج المغربي، مما أضفى على مظهره لمسة فنية تعكس عمق الهوية الثقافية للمغرب وروحه التراثية. وإلى جانب مشاركة الممثل والمطرب الأميركي شهدت الدورة الـ20 لموازين حضور عالمي بمشاركة "50 سنت" (50CENT)، وليل بيبي، وبيكي جي، ودي جي لوست فريكوينسيز، وفريق إيسبا الكورية، وفريق دي لا سول. حضور عربي شهد مهرجان موازين حضورا لافتا لنجوم الغناء العرب، حيث تألق عدد من الفنانين على مختلف المسارح. وأحيا الفنان العراقي كاظم الساهر حفله المنتظر على مسرح محمد الخامس، في حين قدمت اللبنانية ميريام فارس حفلها على مسرح النهضة. ومن مصر، شارك محمد حماقي، وتامر عاشور في أولى مشاركاته، إلى جانب روبي التي أضفت حضورا مميزا. وقدّم وائل جسار حفله على مسرح النهضة بأغانٍ شهيرة، منها "غريبة الناس" و"بتوحشيني"، معبرا في المؤتمر الصحفي عن قلقه من تراجع الذوق الفني وداعيا إلى فن يحمل قيمة. كذلك، أحيا راغب علامة حفلا جماهيريا، وشاركت من لبنان أيضا نانسي عجرم وزياد برجي وسط حضور كثيف. أما من المغرب فتألق نجم الراب سبعتون على منصة سلا، إلى جانب سليم كرافاطا، كما قدّم كل من حمزة الصنهاجي -الذي غنى "عائشة" تكريما لوالده سعيد الصنهاجي- وعادل المدكوري وحجيب عروضا شعبية لاقت تفاعلا واسعا. هولوغرام "حليم" وعلى مسرح محمد الخامس في الرباط أقيم حفل بتقنية الهولوغرام للفنان المصري الراحل عبد الحليم حافظ رغم الجدل الذي أثير بعد الإعلان عنه، واعتراض أسرته على إقامته دون التنسيق معها. وافتتح الحفل بأغنية "الماء والخضرة والوجه الحسن"، والتي كان عبد الحليم قد أداها خصيصا للملك الراحل الحسن الثاني، ثم تتابعت مجموعة من أشهر أغنياته، من بينها "أول مرة تحب يا قلبي"، و"بلاش عتاب"، و"أسمر يا أسمراني"، و"جبار"، و"بتلوموني ليه"، و"جانا الهوا"، و"حبك نار"، و"سواح". ورغم نجاح الحفل جماهيريا فإن عائلة عبد الحليم حافظ أعلنت نيتها مقاضاة إدارة مهرجان موازين لإقامة الحفل دون موافقتها، في حين أكدت الإدارة أن الاتفاق تم مع المنتج محسن جابر صاحب الحقوق الحصرية. كما أوضحت أن العرض اعتمد على تجسيد فني دون استخدام صور أو مقاطع أصلية، مما لا يتطلب موافقة الورثة قانونيا. ختام مصري لبناني وتختتم فعاليات الدورة الـ20 لـ"موازين- إيقاعات العالم" الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي بحفل فني كبير مساء السبت المقبل على المسرح الوطني محمد الخامس في الرباط، وفي اليوم نفسه تحيي الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب حفلا غنائيا على منصة النهضة بقيادة المايسترو مدحت خميس. وتعد مشاركة شيرين في ختام الدورة محطة في مسار عودتها إلى الساحة الفنية بعد فترة من التأجيلات والغياب.

الشاعر المغربي عبد القادر وساط: "كلمات مسهمة" في الطب والشعر والترجمة
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: "كلمات مسهمة" في الطب والشعر والترجمة

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

الشاعر المغربي عبد القادر وساط: "كلمات مسهمة" في الطب والشعر والترجمة

على مدى ثلاثة عقود تقريبا، استأنس القراء في المغرب باسم "أبو سلمى"، وهم يشتبكون ذهنيا مع "الكلمات المتقاطعة" و"الكلمات المسهمة" التي ينشرها على صفحات جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، خاصة عندما كانت الصحيفةَ الأكثر مقروئية وإشعاعا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وخلف كنية "أبو سلمى"، سيكتشف المتابعون هوية صاحب هذه الألغاز اللغوية والمعجمية، وهو عبد القادر وساط (مواليد عام 1958 بمدينة اليوسفية)، مبدع بأكثر من قبعة، ومترجم وخطاط وطبيب نفساني، أمضى أكثر من ثلاثة عقود في علاج المصابين بالأمراض العقلية، قبل أن يتفرغ نهائيا للكتابة والترجمة والرسم والقراءة. ظل عبد القادر وساط حاضرا في المشهد الثقافي والإعلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصفه الشاعر السوري أدونيس بأنه من أعمدة الحركة الشعرية في المغرب. خاض وساط في مجال القصة القصيرة، وترجم قصائد وقصصا لكتاب عالميين. وقبل ذلك، أثرى المكتبة العربية بموسوعة في الطب، وأشرف -إلى جانب كتاب ومبدعين مغاربة- على إصدار موسوعتين هامتين: الأولى للكبار، هي "المعارف الحديثة" (20 مجلدا)، والثانية للناشئة، هي "الصفوة" (سبعة أجزاء). من مؤلفاته أعمال قصصية، بينها: "عينان واسعتان"، و"النمر العاشب"، و"مستشفى مارثا"، وديوان شعر بعنوان "طبول من حجر"، وكتاب حواري مع "شيخ" القصة المغربية أحمد بوزفور بعنوان "الخيول لا تموت تحت السقف". في هذا الحوار، اخترنا أن يكون المبتدأ والخبر هو "الكلمات المسهمة"، التي تحولت إلى شبه طقس ثقافي وفكري لدى ملايين المغاربة، ومنصة لاستدراج المتلقي إلى أسرار اللغة والشعر وبطون المعاجم، وإلى عالم الفن والسياسة والأدب، بطريقة تجمع بين الطرافة والعمق والروح المرحة. من بوابة "الكلمات المسهمة"، يقودنا الشاعر وساط في هذه المقابلة إلى عالم المتنبي، والصمة القشيري، ونجيب محفوظ، وجبران خليل جبران، وموسوليني، وصوفيا لورين، وإدريس الشرايبي. كما يبحر بنا في معاني بعض الكلمات وأسرارها، قبل أن يخوض في موضوع يفرض نفسه على الجميع: ما معنى أن تكون كاتبا ومبدعا في زمن الذكاء الاصطناعي؟ أنت تتعامل يوميا مع الكلمات العربية منذ أزيد من 40 عاما، ما هي نظرتك الخاصة إلى هذه الكلمات؟ الكلمات كائنات حيّة، تنمو وتتغير معانيها باستمرار. سأعطي بعض الأمثلة لتوضيح ما أقصده. وصلتني ورقة مطبوعة قبل أيام من البنك، وهي تبدأ بعبارة: "أيها الزبون العزيز…" هذه العبارة جعلتني أفكر في المراحل المتعاقبة التي مرت بها كلمة "الزبون" على امتداد القرون، قبل أن تكتسب معناها الحالي. الزَّبْن عند القدماء هو الدَّفع، وهم يقولون: زبنتَ الناقة إذا ضربت بقائمتيها عند الحَلْب، والناقة الزَّبون هي التي تمنع صاحبها من حلبها، فهي تضربه كلما دنا منها. والحرب الزَّبون سُمّيت كذلك لأنها تزْبُنُ الناس، أي تصرمهم وتدفعهم، وهو المعنى الذي ذكره الشاعر العربي القديم أبو الغول الطهوي في مدح فرسان بواسل: فوارسُ لا يملّون المنايا إذا دارت رحى الحربِ الزَّبونِ ثمّة كلمات أخرى كثيرة يمكن أن نذكرها في هذا السياق، ومنها مثلا كلمة "النضال". فالمعنى الذي نعرفه اليوم لهذه الكلمة ليس هو ذلك الذي عناه الشاعر العربي القديم أبو حيّة النميري (توفي 180هـ/825م)، حين قال: ألا رُبّ يوم إذ رمتني رميتها ولكنّ عهدي بالنضال قديمُ فالنضال، في زمن أبي حيّة النميري كان يعني التباري في الرمي بالنبال. فانظر معي كيف تطورت هذه الكلمة حتى أخذت معناها المعروف في زمننا هذا، وهو المعنى الذي ترنّم به محمد عبد الوهاب في أغنيته الشهيرة، من كلمات حسين أحمد شوقي (ابن الشاعر أحمد شوقي): ولنتأمل كلمة "القطار"، وكيف تطورت هي أيضاً إلى أن اكتست معناها الحالي المعروف، فقد كانت هذه الكلمة تعني "المطر" عند القدماء، ومن ذلك قول الصمة القشيري: ألا يا حبّذا نفحات نجدٍ وريّا روضه غبّ القطارِ كما كان لكلمة "القطار" معنى آخر في ذلك الزمن البعيد، إذ كانت تدل على الإبل التي تتقدّم في صفٍّ منتظم، يتبع بعضها بعضاً، على نسق واحد. ومن هذا المعنى القديم استُمدّت تسمية القطار التي نعرفها اليوم، وهي تسمية موفقة غاية التوفيق، اهتدى إليها أشخاص نوابغ. أما كلمة "البهلول"، فقد كانت تعني في القديم السيّد الكريم، فصارت تعني في زمننا هذا "الغبي" أو "المهرّج". يُذكّرني حديثنا هذا عن تطور المعاني بحُلمٍ يلازمني منذ القديم، وهو أن يكون لدينا في العربية معجم خاص بتاريخ معاني الكلمات، بحيث نطّلع على المعاني المختلفة للكلمة منذ نشأتها حتى وقتنا هذا. لقد أنجز الفرنسيون عملا جبارا في هذا المضمار، ولا شيء يمنعنا مبدئيا من القيام بإنجاز مماثل. على أي أساس تختار الكلمة الأولى عند الشروع في إعداد شبكة الكلمات المسهمة؟ قد تكون كلمة سمعتها بشكل عابر في التلفزيون أو في المقهى أو في القطار، فبقيت عالقة بذهني. على سبيل المثال، سمعت كلمة "بلطجي" في حديث تلفزيوني مع أحد الفنانين، فدونتها ثم عملت على التأكد من تعريفها في المعجم: البلطجي: من يقوم بأعمال البلطجة، من اعتداء على الآخرين دون وجه حق، وارتكاب الأعمال المخالفة للقانون، كقطع الطريق على المارة، وإيذاء المواطنين، وإثارة الشغب، وغير ذلك. والآن، يكفي أن أضع كلمة "بلطجي" في الشبكة، في الاتجاه الأفقي، كي تنفتح أمامي إمكانات كثيرة لوضع الكلمات العمودية التي ترتبط بها وتنطلق منها. قد أختار مثلا كلمة "طوباوي"، انطلاقا من طاء "بلطجي"، أو كلمة "طابور"، أو كلمة "طعمية" (فول مسلوق يكبس ويقلى في الزيت). الحق أني أحب كثيرا كلمة "طعمية"، وإن كنت لم أذقها قط! أحبها انطلاقا من قراءتي لأحمد أمين، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وإدوار الخراط، وإبراهيم أصلان، وسعيد الكفراوي. يمكن أيضا اختيار علم من الأعلام يبدأ بحرف الطاء، مثل الشاعر الهندي طاغور، الذي يتردد اسمه كثيرا في شبكات الكلمات المتقاطعة في عالمنا العربي، رغم قلة الإقبال على أشعاره. وقد كان لنا في الثانوية أستاذ للعربية كثير الخروج عن المقررات الدراسية، إذ كان يحثنا باستمرار على اكتشاف كبار الشعراء والاطلاع على أشعارهم، وبفضله قرأت بعض قصائد طاغور. أما باء "بلطجي"، فقد تنطلق منها عموديا كلمات عديدة، مثل "بطريرك" (صاحب الرتبة العالية في الكنيسة)، أو "بطريق"، وهو رئيس الروم. وأذكر أني اكتشفت كلمة "بطريق" هذه للمرة الأولى، يوم قرأت هذا البيت الشعري القاسي للمتنبي، متحدثا عن النساء الروميات السبايا: ومن باء "بلطجي" أيضا، قد تنطلق كلمة "بلهارسيا"، ذلك المرض الطفيلي الذي يقتل آلاف الناس (من ضحاياه المرحوم عبد الحليم حافظ). ولست أنسى ذلك الفيلم الذي يؤدي فيه الراحل أحمد زكي دور فلاح مصاب بالبلهارسيا، يحاول أن يكسب بعض القروش من مرضه ذاك، فصار يتردد على كلية الطب كي يفحصه الطلبة، ويتدربوا على جس الكبد المتورمة وأخذ مقاساتها، مقابل بعض القروش. فلما مر الوقت، وتضخمت الكبد وصارت بادية للعيان، أعرض عنه الطلبة، ولم تعد لهم فائدة في فحصه، ففوجئوا به ذات يوم في بهو الكلية، يكشف بطنه المنتفخ، ويصرخ: بلهارسيا ببلاش! يا الله تعالوا! بلهارسيا ببلاش! ماذا عن أسماء الأعلام التي تؤثث الشبكة؟ هل يتم اختيارها مسبقا، أم أنها تفرض نفسها لأسباب تقنية؟ تأمّل معي هذه اللائحة من الأعلام، من بلدان عربية مختلفة، ومن حقول إبداعية وفنية متنوعة: عبد الحليم حافظ، عبد الكريم غلاب، بدر شاكر السياب، أحمد حسن الزيات، صادق جلال العظم، صلاح عبد الصبور، محمد عبد الوهاب، إدريس الشرايبي، توفيق يوسف عواد، إبراهيم الكوني، عبد الرحمن منيف. ليس هناك ما يجمع بين هذه الأسماء المختلفة في الظاهر، رغم أنها تنتمي كلها إلى عالم الفن والإبداع. القاسم الوحيد المشترك بينها هو أن كلا منها يتكون من 13 حرفا، وبالنسبة لي فإن هذا الأمر في غاية الأهمية، لأن الاسم المكون من 13 حرفا سوف يمتد أفقيا من أقصى الشبكة إلى أقصاها، وهو ما يساعد في إقامة شبكة ذات بنيان متين متراص. إن لائحة الأعلام "الثلاثة عشرية" (الذين تتكون أسماؤهم من 13 حرفا) طويلة جدا بطبيعة الحال، بل إنها غير محدودة، فإن أنت سألتني الآن عن أقربهم إلى نفسي وفكري ووجداني، فسأجيبك دون تردد: إدريس الشرايبي. اكتشفت هذا الروائي العبقري بطريقة طريفة حقا، تعود إلى 50 سنة خلت.. سأحكيها هنا بشيء من الإيجاز. كنت آنئذ تلميذا في السادسة عشرة من العمر، أقف مع مجموعة من التلاميذ في ساحة الثانوية، حين جاء صديق لي وأخبرني أن الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو قد مات.. كان ذلك في أبريل/نيسان 1974. اقترح عليّ ذلك الصديق أن نمضي لتعزية أستاذنا الفرنسي، مسيو لومبار، في وفاة رئيسهم. كان مسيو لومبار أستاذ اللغة الفرنسية، وهو باريسي في الثلاثين من العمر، وسيم جدا، ولطيف جدا، وذو أخلاق رفيعة، يؤدي مهمته بإخلاص لا مثيل له، وكنا نكنّ له محبة خالصة. تحمست كثيرا لفكرة التعزية.. كنا نعرف منزل الأستاذ لومبار، ففي مدينتنا الصغيرة، اليوسفية، يعرف الجميع منازل الجميع. أذكر أننا طرقنا بابه في ساعة المغيب.. كان يعيش وحده في ذلك المنزل، وكان جيرانه كلهم أساتذة فرنسيين يُدرسون مثله في الثانوية الوحيدة بالمدينة. أذكر أنه فوجئ حين فتح الباب ورآنا، وأنه زوى حاجبيه مستغربا، وأنه سألنا دون لفٍ عن سبب زيارتنا له.. أخبرناه أننا جئنا لتعزيته في وفاة الرئيس بومبيدو، فشرع في الضحك وقال لنا: "سأكون صريحا معكما، أنا لا يهمني إطلاقا جورج بومبيدو"! إثر ذلك دعانا إلى الدخول، فجلسنا في صالة صغيرة مليئة بالكتب، ومضى هو إلى المطبخ. كان هناك، فوق منضدة صغيرة كتاب "الأيام" لطه حسين مترجما إلى الفرنسية، مع مقدمة طويلة بقلم أندريه جيد. جاءنا مسيو لومبار بشاي بارد من الثلاجة، ورآني أتصفح كتاب "الأيام"، فقال: "هذا الكتاب تحفة أدبية.. تمنيت لو كنت أعرف العربية لأقرأه في الأصل". حدثنا الأستاذ طويلا عن أهمية القراءة، وسألنا إن كنا نعرف إدريس الشرايبي، فأجبناه بالنفي. قال مستغربا: "هذا واحد من أعظم كتاب العالم، وهو ابن بلدكم، ولا تعرفونه؟". وقبل أن نغادر مسكنه، أعطاني أنا رواية "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي، وأعطى صديقي رواية "التيوس" للكاتب نفسه. تلك كانت بداية رحلتي الطويلة مع إدريس الشرايبي.. قرأت "الماضي البسيط" بمتعة لا توصف، ثم اكتشفت تدريجيا أعماله الأخرى، وما زلت أعيد قراءتها بانتظام، وبإعجاب متجدد حتى يومنا هذا. لا أدري ما فعل الله بأستاذنا لومبار.. إذا كان لا يزال حيا، فيكون قد جاوز الثمانين، ولعله نسي كل شيء عن تلك الأمسية البعيدة، التي زاره فيها، في بيته، اثنان من تلامذته، يريدان تعزيته في وفاة الرئيس الفرنسي. أما أنا، فما زلت أتذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها الجميلة. خلال إعداد شبكة الكلمات المسهمة، أحتاج أيضا إلى أسماء تتكون من 14 حرفا، في الاتجاه العمودي. وقد تكونت لديّ، مع مرور السنوات، لائحة طويلة من "الأربعة عشرية"، أو من "العموديين"، إضافة إلى "الثلاثة عشرية" الأفقيين. لائحة "الأربعة عشرية" متنوعة هي أيضا، فيها الكتاب، والشعراء، والرسامون، والموسيقيون، وفيها حتى بعض الطغاة الدمويين، مثل بينيتو موسوليني. إنه اسم موسيقي حقا، مثل معظم الأسماء الإيطالية: بي/ني/تو/مو/سو/لي/ني.. أيُ عذوبة موسيقية تنبعث من هذا الاسم، وأيُ سهولة في النطق والكتابة! أليس هذا كافيا لإدراج هذا الطاغية بانتظام في شبكات الكلمات المسهمة؟ حتى عشيقة هذا الدكتاتور الفاشي تحمل اسما موسيقيا عذبا من 14 حرفا: كلاريتا بيتاتشي. لقد كانت تصغره بنحو 30 سنة، لكن اسمها كان مساويا لاسمه في عدد الحروف. وقد تم إعدام الدكتاتور الدموي وعشيقته الحسناء بالرصاص سنة 1945 قرب محطة للوقود، في قرية ذات اسم موسيقي: جولينو دي ميزيجيرا. علقت الجثتان جنبا إلى جنب، ورأساهما إلى أسفل. كان موسوليني في الثانية والستين من العمر، وكانت كلاريتا في الثالثة والثلاثين. هكذا انتهى زمن الفاشية في إيطاليا، وبقي الاسم الموسيقي للطاغية قابعا في كتب التاريخ، وفي المقررات الدراسية، وأرشيفات التلفزيون، مع ظهور عابر، بين حين وآخر، في شبكات الكلمات المتقاطعة والمسهمة. وفي زمننا هذا، تعيش في إيطاليا واحدة من حفيدات الطاغية، تدعى أليساندرا موسوليني (17 حرفا)، وهي طبيبة وممثلة سينمائية، وسياسية برلمانية، تنتمي إلى اليمين المتطرف، وتدعو إلى عودة الفاشية، مع إعجاب شديد بجدها الطاغية. أليساندرا موسوليني هذه، لها خالة شهيرة، هي الممثلة الإيطالية صوفيا لورين، وقد أبحت لنفسي، من باب التسلية، أن أبحث عن الاسم الكامل لصوفيا لورين، فوجدته هكذا: صوفيا كوستانزا بريجيدا ڤيلاني شيكولوني.. فيا الله على هذه الموسيقى الساحرة التي تنبعث من هذا الاسم الطويل! وما يجذبني شخصيا إلى هذه الممثلة الشهيرة، علاوة على جمالها الآسر وموهبتها السينمائية الكبيرة، أنها كانت من كبار مشجعي نادي نابولي لكرة القدم، في زمن النجوم الذين كنا نعجب بهم في شبابنا غاية الإعجاب: ماسيمو كريبا، وأنطونيو كاريكا (13 حرفا)، وسيلنيزي، ثم مارادونا. وقد انطفأ اليوم بريق نادي نابولي، مثلما اندثر جمال صوفيا لورين، ولم تبق منه بقية. ذلك أن حسن الوجوه حالٌ تحول، كما قال المتنبي في لاميته الشهيرة: زَوّدينا من حسن وجهك ما دام فحُسنُ الوجوه حالٌ تَحولُ وصِلينا نَصِلْكِ في هذه الدنيا فإنَّ المقامَ فيها قليلُ من بين الأسماء "الأربعة عشرية" ذات النبرة الموسيقية، نجد أيضا الروائي الإيطالي الشهير ألبيرتو مورافيا. أنا أحب إدراج اسمه في الشبكة لسهولة كتابته. إنه اسم تتتابع فيه الحروف الصحيحة وحروف العلة بانتظام عذب، ومع ذلك فإني لم أرتح يوما لروايات مورافيا. إعلان لقد كانت أول رواية قرأتها له هي "اللامبالون"، وفيها يقدم صورة قاتمة للبرجوازية الإيطالية في القرن العشرين. من شخوص هذه الرواية التي أتذكرها بوضوح، هناك كلارا التي تقرر القيام بعمل شنيع، فقط لكي تشعر أنها كائن حي! بعد ذلك، قرأت رواية "الامتثالي"، ولم أعجب بها أكثر من سابقتها. أما رواية "الملل" التي تحكي عن فنان تشكيلي يجتاز أزمة وجودية، فقد أصابتني بملل حقيقي! هذه الروايات قرأتها في مطلع شبابي، في ترجمات فرنسية جيدة، ضمن سلسلة "كتاب الجيب". كانت تلك السلسلة ذات طباعة جذابة، بأغلفة جميلة، وأوراق ملونة على الحواف، وكنا نحتفظ بها ونحافظ عليها بشغف، حتى حين لا يعجبنا محتواها، كما هو الشأن مع روايات ألبيرتو مورافيا. شبكات الكلمات المسهمة فيها أيضا مفردات وأسماء بحروف أقل من ذلك.. بأي طريقة تنتقيها؟ بطبيعة الحال، فالشبكة ليست حكرا على "الثلاثة عشرية" أو "الأربعة عشرية"، بل هي مفتوحة أيضا لأصحاب الحروف القليلة. وهناك، بالضرورة، أسماء تتكرر أكثر من غيرها، لهذا السبب أو ذاك. وقبل فترة، توصلت برسالة إلكترونية من أحد القراء، يعاتبني فيها بشيء من القسوة على الإكثار من اسم شويكار في الشبكة.. وأنا لا ألومه، لأنه يجهل علاقة أبناء جيلي بالممثلة المصرية شويكار. لقد كنا نرى فيها نموذجا للعذوبة والدلع والجمال، يضاف إلى ذلك ميلها الفطري إلى الدعابة والضحك، رغم أنها ترملت وهي في سن الثامنة عشرة، وبقيت تعيش مع طفلتها الوحيدة، إلى أن التقت بفؤاد المهندس، الذي سألها بروحه المرحة الأسطورية: "تتجوزيني يا بسكوتة؟"، فكانت تلك بداية حياة مشتركة، استمرت ربع قرن من الزمان. وعلى ذكر "البسكوتة"، فقد عربها المعجميون هكذا: بسكوتة، وهو تعريب يحمده صديقنا عارف حجاوي، لأنه يزيل التقاء الساكنين، وأنا أضم صوتي المتواضع إلى صوت الأستاذ حجاوي. لا شك أن خبرتك الطويلة في هذا المجال قد خلقت لديك فكرتك الخاصة عن معاجم اللغة العربية. ينبغي الإقرار بأن معاجمنا الحالية في حاجة إلى شيء من التنقيح، نظرا لاكتظاظها بالكلمات والمترادفات الرنانة، التي يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للأجيال الحديثة. ويمكنني، في هذا السياق، أن أذكر حادثة طريفة وقعت لأبي العلاء المعري، حين زار بغداد في كهولته، فقد دخل مجلس الشريف المرتضى، فعثر برجل، فغضب الرجل وقال: "من هذا الكلب؟" فأجابه المعري: "الكلب هو من لا يعرف سبعين اسما للكلب"! وقد بحث الإمام السيوطي عن هذه الأسماء السبعين للكلب -التي تباهى شيخ المعرة بمعرفتها- وتتبعها في كتب اللغة، فلم يجد منها سوى 60 اسما، جمعها في أرجوزة له بعنوان: "التبري من معرة المعري". مما يقوله السيوطي في أرجوزته، موردا أسماء الكلب: من ذلك: الباقعُ ثم الوازعُ والكلبُ والأبقعُ ثم الزارعُ والأعنقُ، الدِّرباسُ، والعَملَسُ والقُطربُ، الفُرنيُّ، ثم الفَلَحَسُ… لقد كان هذا النوع من التمرين اللغوي شيقا ونافعا في زمن المعري والسيوطي، لكن الأمور تغيرت كثيرا في زمننا هذا، وصار من الضروري أن ننظر إلى لغتنا من زاوية مختلفة، خصوصا أن هناك كلمات أجنبية كثيرة جدا، لا نجد لها مقابلا في لغتنا العربية، مما يشكل عائقا حقيقيا للناطقين بهذه اللغة الجميلة. ثمة كلمات كثيرة تتوارد على الذهن الآن، وسأختار منها واحدة فقط، هي "بيتريكور" الفرنسية (pétrichor)، التي تعني: "الرائحة المنبعثة من الأرض بعد سقوط المطر". الإنجليز أيضا يسمونها بنفس الاسم. ألسنا أولى من الفرنسيين والإنجليز بكلمة جميلة تؤدي هذا المعنى الجميل؟ خصوصا أن الشعر العربي مليء بالقصائد الرائعة عن "البتريكور". تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان: ورائحةُ الأرض غِبَّ عطاءِ المطرْ ونفحُ الشجرْ سأفقده حين تمضي غداً ككلّ جميلٍ وغالٍ لدينا يضيع، يضيع ولا شيء يبقى وفي الشعر العربي القديم، قصيدة خالدة تتحدث عن هذه الرائحة وعما تبعثه في النفس من مشاعر. إنها قصيدة الصمة القشيري، التي يقول فيها: ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ وريّا روضه غِبَّ القطارِ أي رائحة روضه بعد هطول المطر. هذا الشاعر، الذي عاش في القرن السادس الميلادي، نشأ في ديار بني قشير، غربي نجد، وقد أحب ابنة عمه، لكنه كان حبا يائسا. ثم إنه التحق بالجيش الذاهب لقتال الديلم، ولعله كان يدرك عندئذ أنه لن يعود أبدا إلى مرتع صباه، وقد مات بالفعل في طبرستان البعيدة في مطلع القرن الثامن الميلادي. لم يكن الصمة القشيري شاعرا مكثرا، لكن شعره جيد رائع، يكفي أن نذكر منه العينية الشهيرة: قِفا وَدِّعا نجدًا ومَن حلَّ بالحمى وقَلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا وفي هذه العينية نجد بيتيه الخالدين: وليست عشيّاتُ الحِمى برواجِعٍ إليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما حرامٌ على الأيّام أن نتجمّعا وهما بيتان تغنى بهما وديع الصافي، بصوته الجبلي الذي لا يضاهى. وكم كنت أتمنى أن أسمع هذا الفنان اللبناني العظيم يتغنى برائية الصمة القشيري: تمتّعْ من شميم عَرارِ نجدٍ فما بعد العشيّة من عَرارِ ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ وريّا روضه غِبَّ القطارِ وأهلك إذ يحلُّ الحيُّ نجدًا وأنتَ على زمانك غيرُ زارِ شهورٌ ينقضين وما شعرنا بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ إنها قصيدة رائعة حقا، وفيها أيضا معجم لغوي غني، وهذا أمر يحمده من كان مولعا باصطياد الكلمات مثلي، وباقتراحها لاحقا على القراء، مع التعاريف الملائمة: العرار: نبات طيب الرائحة. الريا: الرائحة العطرة. القطار: المطر. غير زار على الزمان: لا تذمه ولا تشكوه، لأنك لم تر منه ما يسوؤك. سرار الشهر: آخره، حين يستسر القمر، أي يخفى. الغريب أن الحبيبة التي تغنى بها هذا الشاعر كانت هي أيضا تسمى ريا، أي الرائحة الطيبة، فهل كان هذا اسمها الحقيقي، أم أن الشاعر هو الذي أطلقه عليها: حننتَ إلى ريّا ونفسُك باعدت مزارَك من ريّا وشِعباً كما معا إنه اسم جميل على أية حال. أما شاعرنا، الصمة القشيري، فمن المؤكد أن "الصمة" كان اسمه الحقيقي. وللصمة معان كثيرة في المعاجم، نذكر منها: الرجل الشجاع؛ الأسد؛ ذكر الحية؛ أنثى القنفذ؛ وكذلك سداد القنينة. تحرص على كتابة شبكاتك اليومية بخط اليد، ألا يمثل ذلك عناء إضافيا بالنسبة إليك؟ لعل ذلك يعود إلى علاقتي الحسية بالكلمات وبأشكالها الفنية. والحق أن ولعي بالخط العربي يعود إلى أيام الصبا والشباب الأول، ففي العشرين من عمري، وأنا طالب بكلية الطب، كنت "خطاطا عموميا". كانت المنحة الدراسية الزهيدة غير كافية لنفقات العيش، فكنت أستعين على الزمن بكتابة أسماء المحلات الشعبية، في حي الفرح، بالدار البيضاء: محلبة الأمل، حمام الشنقيطي، مجزرة الحرية، ميكانيكي الصداقة، خياط الأحباب، مقهى السعادة. كنت أكتري سلما من بائع العقاقير، ثم أصعد عليه وأشرع في العمل. كان بعض المارة يقفون قليلا للتفرج علي وأنا منهمك في الكتابة، وكان معظمهم يتفادون المرور بين السلم والحائط، إذ كانوا يتطيرون من ذلك. وهذه ظاهرة موجودة حتى في الدول الغربية، وقد استغلها شارلي شابلن بطريقة فنية رائعة، حين كانت الشرطة تقتاده إلى السجن، لكنه رفض مع ذلك أن يمر بين السلم والحائط! كان أصحاب المحلات الذين يطلبون خدماتي من الناس البسطاء، ولم يكن أحد منهم يحتج على رداءة خطوطي عند انتهائي منها. ولم تكن تلك الخطوط رديئة تماما في حقيقة الأمر، لكن المتمعن فيها يدرك فورا أنها ليست مكتوبة بيمين محترف، كما قال الشاعر المهجري إلياس قنصل عن بجعة البحيرة: منقارُها المسنونُ لؤلؤةٌ مثقوبةٌ بيمينِ محترفِ كانت قصيدة إلياس قنصل هذه منشورة بمجلة "العربي"، تلك المجلة التي كان لها دور الإنترنت في زمننا، ولا تزال قصائدها وقصصها وأغلفتها الجميلة عالقة بالذاكرة. أما المحلات التي زينتها بخطوطي، في حي الفرح، ثم في حي سباتة، فقد اندثرت اليوم ولم يبق منها أثر: دِمَنٌ تجرّمت بعد عهدِ أنيسها حُجُجٌ خلَونَ، حلالُها وحرامُها لكني بقيت على وفائي للخط العربي، بل إني اتخذت لي مدرّسا للخط في فترة من فترات حياتي. كان ذلك المدرس يزورني في بيتي مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، وقد تعلمت منه الكثير، وغاب عني الكثير. أنت كاتب وشاعر أيضا، ماذا يعني أن تكون شاعرا أو قاصا في زمن الذكاء الاصطناعي؟ هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب أدبا إنسانيا جديرا بهذا الاسم، في المستقبل القريب، أو حتى في المستقبل البعيد؟ لا أظن ذلك. سوف يسهم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد في التطور الطبي والتكنولوجي والعلمي، وسوف يمكنه تشخيص الأمراض بكيفية مبكرة، ومن إيجاد العلاج الناجع لهذه الأمراض، وسوف يكون له دور رئيس في الجراحة عن بعد. وباختصار، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة عظيمة في حياة البشر، في مختلف المجالات، بيد أنه سوف يؤدي، بالمقابل، إلى اختفاء آلاف المهن، سواء الفنية أو التقنية، ويتسبب في الكثير من المآسي العائلية. لي صديق صيدلي، لا حديث له هذه الأيام إلا عن الكوارث التي سيعاني منها البشر في هذا السياق. إن روبوت الذكاء الاصطناعي -يقول صديقي هذا- قد يغضب، وقد يستبد به الغضب إن هو تَعرض للاستفزاز، رغم أنه ليس مبرمجا على الغضب! وإذا غضبَ فقد يخرج عن السيطرة، ويرتكب ما لا تحمد عقباه، بل إنه قد يستولي على السلاح النووي ويشغل الرؤوس النووية! هذه هي النظرة الموغلة في التشاؤم لصديقي المذكور، وثمة الكثيرون ممن يقاسمونه هذه النظرة، ويشاطرونه هذا الخوف. والله وحده يعلم ماذا يخبئه المستقبل للبشرية من مفاجآت مؤلمة أو سارة، في هذا المجال. أما أن يكتب الذكاء الاصطناعي رواية عظيمة أو شعرا عظيما، فهذا -في رأيي المتواضع- ضرب من المستحيل. الإبداع الأدبي لا ينطلق من الفكر وحده أو من العقل وحده، بل ينطلق كذلك من القلب والوجدان، وليس للذكاء الاصطناعي قلب ولا وجدان! أتذكر مشهدا طريفا في مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي. لقد عمل والد قيس بنصيحة العراف، الذي نصحه بأن يذبح شاة وينزع قلبها، ثم يقدم شيئا من لحمها لابنه المجنون، أملا في شفائه. وفي ذلك يقول أحمد شوقي على لسان قيس: وشاةٍ بلا قلبٍ يداوونني بها وكيف يداوي القلبَ مَن مالَهُ قلبُ؟ حين تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يكتب لك قصة أو رواية، فإن كل ما يقوم به هو اللجوء إلى مخزونه الهائل من القصص والروايات، ليستمد منه نصا بلا لون ولا طعم ولا رائحة! فهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يأتي، على سبيل المثال، بمطلع روائي مثل ذلك الذي نقرأه في مستهل "ميرامار" لنجيب محفوظ: "الإسكندرية أخيرا.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع (…) ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي كالظن وكالمأمول، وإلا فعَليّ وعلى دنياي السلام"! وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي، وهو "عقل" خالص، بلا قلب ولا أحاسيس، أن يأتي بمقطع كهذا الذي نجده في بداية كتاب "النبي" لجبران خليل جبران: "وظل المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرا لذاته، يترقب عودة سفينته في مدينة أورفليس، اثنتي عشرة سنة، ليركبها عائدا إلى الجزيرة التي ولد فيها. وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول، شهر الحصاد، صعد إلى قنة أحد التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب، فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحا، فأغمض عينيه، ثم صلى في سكون نفسه". طبعا هو لا يستطيع، لأنه يفتقر إلى البعد الروحي الذي يميز الإنسان، حتى وإن كانت "ذاكرته" مشحونة بإبداعات بني الإنسان. ما لأبي حمزةَ لا يَأتينا غضبانَ ألاّ نلدَ البنينا تا الله ما ذلك في أيدينا بل نحن كالأرض لزارعينا ننبتُ ما قد زرعوه فينا وإنما نأخذ ما أُعطِينا وهذا ما ينطبق تحديدا على "إبداعات" الذكاء الاصطناعي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store