أحدث الأخبار مع #تلغرافعبداللطيفالوراري


إيطاليا تلغراف
منذ 13 ساعات
- سياسة
- إيطاليا تلغراف
الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع
إيطاليا تلغراف نشر في 13 يونيو 2025 الساعة 21 و 34 دقيقة إيطاليا تلغراف عبداللطيف الوراري كاتب مغربي يُثار في هذه الأيام نقاشٌ واسعٌ تَمدّد في كل الاتجاهات، بحقّ وغير حق، ووصل إلى قبة البرلمان، حول واقع الجامعة المغربية وأوضاعها الراهنة، وذلك بعد فضيحة «بيع الماسترات»، أو «الجنس مقابل النقاط». ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُثار فيها مثل هذا النقاش، فقد كان يستجدّ غير ما مرّة في ضوء تبدلات عميقة مست أطر الفكر والثقافة، أو القيم داخل المجتمع. غير أن درجة الحدّة التي يُطرح بها اليوم أخذت تطرح أكثر من علامة استفهام، على نحو بات يستهدف فكرة الجامعة نفسها وأعرافها وأخلاقيّاتها. وكان الأكاديمي سعيد بنكراد قد دقّ ناقوس الخطر في سيرته الفكرية «وتحملني حيرتي وظنوني»، عندما وقف – بما يشبه شهادةً حيّةً من الداخل – على واقع اختلالات الجامعة ودواليب عملها التدبيري والبيداغوجي، التي تهمّ معايير التدريس، وأحوال البحث العلمي، والتأهيل الجامعي، والترقية ومؤسسة الشعبة، ومدى جودة كلّ ذلك وملاءمته لفضاء الجامعة وإشعاعها المعرفي. فخلال سنوات تدريسه، رأى أن كلية الآداب «أصبحت مسرحاً لصراعات هامشية بلا أفق ولا غاية، سياسية أو علمية، وفقد الكثيرون البوصلة واختلط اليسار باليمين وتحالف الانتهازيون والوصوليون»، وفي المقابل ما زال ثمة من يقاوم بشدة «تيار التردي والضحالة» ويعتبر عمله «مهمة من أجل الإشعاع الحضاري، لا وظيفة تُدرّ دخلاً قارّاً». بيد أنّ هذا النقاش يبقى طبيعيّا، لأنه يرتبط بالأزمة في مجموع صورها العامة التي تمس بنيات الدولة والمجتمع والثقافة، ويدعو إلى ضرورة مواجهتها بقوة وصبر، قبل استفحالها بدرجة مزمنة. من الواجب حماية المؤسسات وإصلاح ما عطب منها حتى تقوم بأداء المهمة التي أنيطت بها، كما لا يمكن أن يترتب على «فساد سلوك» أفراد والتغطية عليه، تشويهُ سمعة مؤسسة وطنية مثل الجامعة، والطعن في مصداقيّتها ورسالتها الحضارية. ولذلك ينبغي أن تُوجَّه دعاوى الإصلاح الجامعي في مسارها الصحيح، وليس في سياقات قد تخدم أجندات معينة، أو يُزجّ بها في صراعات سياسية تستهدف إِرْثَ الجامعة وإسهامها التاريخي والمعرفي، منذ تأسيسها في الخمسينيات من القرن العشرين، ضمن ما أنتجته ـ ولا تزال- من إنجازات علمية وبراءات اختراع وأبحاث أكاديمية وكتابات علمية وأدبية فوق العدّ، لعلماء ومفكرين ودارسين تفانوا في عملهم وأسهموا بحيويّةٍ ونكران ذات في تطوير الفكر والأدب المغربيين، وما أشاعوه من قيم التجديد والتنوير داخل الفضاء العربي والإسلامي المعاصر. فما زالت الجامعة المغربية رغم التحديات الجسام التي تواجهها، مشتلا للعطاء والإبداع، وما زالت تعبر عن حيوية الفكر والتزامه بترسيخ المعرفة والابتكار، لخدمة المسار التنموي الذي يسلكه المغرب؛ ففي العام الماضي على سبيل المثال، أصدرت الجامعات 18447 منشوراً علميّاً محكماً ومصنفاً في قاعدة (Scopus)، وسجلت نحو مئة وسبعين براءة اختراع في حقول معرفية متنوعة، وشاركت من خلال باحثيها في أكثر من مئتي مشروع بحثي دولي، بما في ذلك مشاريع رائدة في الذكاء الاصطناعي وعلوم الذرة والفضاء وغيرها. من أجل تعقيل النقاش والرفع من قيمته ومجاله التداولي، التقت «القدس العربي» بعض الأساتذة الباحثين، وطرحت عليهم هذه الأسئلة: كيف تنظر إلى ما يُثار اليوم حول «فساد» الجامعة المغربية؟ أليس في الأمر تعميم أعمى ومُخلّ، لا ينصف تاريخ هذه الجامعة منذ تأسيسها؟ في المقابل، أليست الجامعة في حاجة إلى إصلاح حقيقي يستجيب لمقاصده الملحة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التدبيرية؟ هل بالفعل أصبحت كلية الآداب في مرمى «نيران» التنزيل البيداغوجي، الذي يبخس مستقبلها، حيث يتمّ الفصل المجحف بين علومها وعلوم أكثر نفعا ومردودية، وعلى نحو يُشيع ضربا من «الخطاب التيئيسي» بين مُرْتاديها؟ محمد الحيرش (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان): دفاعا عن فكرة الجامعة ما من شك في أنّ الرصد الموضوعي لبعض المشاكل التي تشكو منها الجامعة المغربية يتطلب التحلي بقدر غير قليل من الحيطة، حتى لا ننزلق نحو ما من شأنه أن يُسوِّغَ إقبار فكرة الجامعة، ويقذف بها إلى مستقبل غامض لن تظهر مخاطرُه على الأجيال، إلا بعد فوات الأوان. فعلا، تخترق جامعتَنا معضلاتٌ بنيوية ذات طبيعة إدارية وبيداغوجية وعلمية مثلها في ذلك مثل عديد من الجامعات العربية، أو العالمية. وهذه المعضلات كما هو معروف لدى المتتبعين ليست طارئة أو وليدة اليوم؛ إنها تضرب بجذورها في أحقاب سابقة اقترنت باللحظات الأولى لتأسيس الجامعة المغربية في نهاية الخمسينيات، وما رافق ذلك من تدافع سياسي في بلادنا بعد الاستقلال، حول المسألة التعليمية بوجه عام وحول الأهداف والمهام التي ينبغي أن تُسنَد إلى الجامعة بوجه خاص. وهو السياق الذي يرجع بنا إلى ظهير 1975 بوصفه أهم إطار قانوني منظم للتعليم العالي بعد عقدين من الاستقلال، حيث اختصر هذا الظهير مهام الجامعة وحصرها في تكوين الموارد البشرية التي تحتاجها الدولة لتغطية الخصاص الإداري والوظيفي في جملة من قطاعاتها، وأهمل البحث العلمي ولم يوله اهتماما واضحا، سواء في جوانبه المتصلة بالبنيات المادية، أو في جوانبه المتصلة بالقوانين والتشريعات المنظمة. والحقيقة التي ينبغي أن نستحضرها في هذا الخصوص أن البحث العلمي الذي أنجزه الأساتذة الرواد في مؤسساتنا الجامعية، بمختلف تخصصاتها، كان عملا تطوعيا خالصا انخرطوا فيه إلى جانب التكوين والتدريس بتضحية وتفانٍ، وزاولوه بنكران ذات خارج أي تحفيزات، وفي غيبة أي تشريعات. ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، فإن الأساتذة الباحثين في مجالس شعبهم، أو عبر مُمثِّليهم في مجالس المؤسسات والجامعات، أو في ندواتهم ومؤتمراتهم النقابية، لم يتوقفوا عن التنبيه إلى المعضلات المتعددة التي يواجهونها عن كثب في عملهم اليومي. غير أن ما كانوا يلمسونه حينئذ هو غياب الإرادة السياسية الواضحة التي تتفاعل مع مطالبهم الداعية إلى الارتقاء بالجامعة إلى ما يجعلها مُنتِجة للأفكار، ومُسهِمة بفعالية في تنمية البلاد والعباد، وفي تعميم قيم العقل والحرية والإبداع. بعد ذلك، من المنصف القول إنه تلاحقت بدءا من أواخر التسعينيات مجموعة من القوانين التي كان من مقاصدها إصلاح الجامعة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التسييرية. لكن المثير في الأمر أن هذه القوانين، التي عُدَّت وقتئذ بمثابة مرحلة انتقالية مهمة في مسلسل تطوير الجامعة المغربية، سرعان ما اختُزِلت مقاصدُها عند تطبيقها إلى صيغ تقنية ضيقة، فأفقدها ذلك روحَها واستُبعدت منها البواعثُ التحديثية التي استحكمت في تشريعها. ولئن كانت هنالك أسبابٌ أدّتْ إلى العدول بهذه القوانين إلى غير مقاصدها الأصلية كعدم اقتناع بعض المسؤولين في الحكومات المتعاقبة بفكرة الجامعة، كما هو متعارف عليها في المجتمعات المتقدمة، والترويج لجامعة بتخصصات تقنية ومهنية فحسب، والميل إلى تعيين بعض المسؤولين الذين لم تكن لهم الكفاءة التدبيرية الكافية، فإن جزءا من هذه الأسباب يتحمل مسؤوليتَه أيضا نحن الأساتذة، خصوصا أولئك الذين سارعوا إلى تولي مسؤولية الإشراف على مسالك تكوينية في الإجازة الأساسية أو المهنية، أو في سلك الماجستير والدكتوراه، وهم يفتقرون عمليا إلى الخبرة التربوية والعلمية التي تسمح لهم ذاتيا بتقدير جسامة المهام الملقاة على عاتقهم. وقد ترتب على هذا ما ترتب من مشاكل صارت معلومة لدى الخاص والعام حتى أصبحنا نجد من يشير إلى بعض من يتولى تسيير شعبة أو مسلك من المسالك التكوينية، وهو حديث العهد بالجامعة لم يمضِ على تعيينه بها أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات. ولنا أن نتصور نوع الأداء التسييري وقيمة المردود العام التربوي والعلمي لمسؤول على مسلك يفتقر إلى الخبرة اللازمة في التعليم العالي، بل ينعدم لديه حِسُّ الانتماء إلى الجامعة، بما هي فضاء عمومي تضبطه معايير عقلانية، وتُوجِّهُه قيم وأخلاقيات واضحة. لكن مع كل المعضلات والمشاكل التي أضحى تشخيصها متاحا ومتداولا، فإن كل منظور مقل لإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، لا ينطلق من الإيمان بفكرة الجامعة، ومن الاقتناع بحاجة مجتمعنا الحيوية إليها لن يكون سوى منظورٍ تِقنيٍّ يعمق المشاكل ولا يحلها، بل إن ما تتطلبه جامعتُنا للوفاء بأدوارها في تنمية المجتمع وتحديثه هو جعلها أولويةً في البرامج السياسية الوطنية، والانفتاح الجدي – تبعا لذلك – على آراء جميع الفاعلين الأساسيين أساتذةً وطلبةً وإداريين، والتفاعل الصادق مع تطلعاتهم واقتراحاتهم. لكل هذا ينبغي في اعتقادي الاحتراسُ من «الخطاب التيئيسي»، الذي يُعمِّمُ على جامعاتنا أحكاما ذاتية غير مُنْصِفة، ويسهم في الإتيان على الأخضر واليابس كما يقال. فما زالت الحياةُ تدب في أوصال جامعتنا، وما زال رموزُها وأساتذُتها من المؤسسين وممن جاؤوا بعدهم يحظون بالتقدير والاعتبار لما أسدوه للفكر المغربي والعربي، ولما أبدعوه من أعمال جليلة تمثل شجرة الأنساب المعرفية الأصيلة التي يستظل بها كل مُنتَسِبٍ إلى الجامعة من الأجيال اللاحقة. فما علينا إلا أن نُفَعِّلَ ذاكرتَنا البعيدة والقريبة لنستعيد ما تواتر في جامعتنا منذ التأسيس إلى الآن من منجزات وإنتاجات علمية رائدة. إذ سيبدو لنا أن الأسماء الأكثر حضورا وفاعلية في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من مجالات فلسفية وأدبية ونقدية هي، أسماء من جامعات مغربية. كما أن ما أنجزه الجامعيون المغاربة الرواد وتلامذتهم من مختلف الأجيال في مجال الفلسفة واللسانيات والسميائيات والتداوليات والسرديات والبلاغة وتحليل الخطاب، أو في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية، أو في الترجمة والدراسات الثقافية والنقدية، كل ما أنجزوه في هذه المجالات وغيرها يحظى بالتقدير والتنويه من قبل مؤسسات عربية ودولية. ونعتقد أن هذه المناعة التي اكتسبتها الجامعة المغربية، عبر عقود لن تؤثر فيها نوازل أخلاقية معزولة ومحدودة، بل ستزداد قوة إذا ما توافرت الإرادات الحسنة لتطوير إصلاح جامعي شامل يُعمِّقَ المكتسبات، ويُقوِّمَ الاختلالات، ويفتحَ منافذ الأمل أمام الأجيال اللاحقة، أيْ أمام المستقبل. مزوار الإدريسي (مدرسة فهد للترجمة، طنجة): من يستهدف الجامعة؟ لنتفق على أن الفسادَ هو تجلٍّ لإخلالٍ بأمانة مُهمّة تكون قد أُنيطتْ بإدارة، أو جهاز، أو فرد، وأنه ظاهرة غيْرُ غريبةٍ عن الدُّول والمجتمعات والمؤسسات، لأن جرائمَه لا تفتأ وسائل الإعلام تواكِبُها وتترصَّدها، والشرطةُ تُحقِّق فيها وتُلاحق مُقترفيها، والقضاءُ يُحاكمها، ولا تكف جمعيات حماية المال العام والمؤسساتِ والقوانينِ والحقوقِ عن التنديد بها، وهو ما أدى في كثير من الدول إلى استقالة بعض من مسؤوليها الكبار، أو إلى معاقبتهم بالسجن، أو بصيغ أخرى، إلخ؛ لذلك، ليس غريبا أن تَتسرّب هذه الآفة إلى الجامعة المغربية، فهي مؤسسة كباقي قطاعات الدولة المغربية، يُسيِّرها أفراد هم عُرضة لأشكال عديدة من الإغراءات. لكنّ المدهش بخصوص الوقائع الأخيرة، التي شهدتها الجامعة المغربية، والتي سيَبُتُّ فيها القضاء المغربي، بعد الانتهاء من التحقيق فيها، هو هذا الإفراط في تهويلها، ما يُثير الكثير من الشكوك بخصوص الغاية من ذلك. ولا أستبعد أن تكون هذه الحملة الشرسة مبيَّـتة، لأنها أصبحت تَستهدف الطعن في مصداقية الجامعة العمومية المغربية، التي نعرف أن أساتذتها وطُلابها يُعدّون سُفراءَ أجلاءَ لعطائها خارجَ الوطن، ذلك أن الوقائع تَشهَد على أنهم ذوو كفاءة عالية، وغالبا ما تحتفظ بهم الجامعات الغربية لديها، لكي يُسهموا في تطويرها معرفيا وعلميا، ولا داعي لذِكر بعضٍ من أسماء هؤلاء. ولا يخفى أن التحريض الممنهج في بعض المنابر الإعلامية على الجامعة المغربية العمومية، والترويجَ لخطابٍ تيئيسيّ بخصوصها، قد تكون يد المستثمرين المضاربين في التعليم العالي وراءه، ذلك أنه بَعد نجاحِ تجربةِ استثمارهم في التعليم الخصوصي الابتدائي والثانوي، وتمكُّنهم من الاستفادة من دعم الدولة ضريبيا، ومن أُطرِها التي تَشتغل في التعليم العمومي الابتدائي والثانوي، قد اغتنموا فرصة هذا «الفساد» الجامعي الأخير، الذي توصَّلوا به لتحقيق مكاسِبَ أخرى لشركاتهم الاستثمارية. وواضح أن الجامعة المغربية، التي أنجبت مُفكِّرين وعلماء ذائعي الصيت، قد حافظت على استقلالية قرارها دوما، في التكوين والتأطير والبحث والتسيير والتدبير، هي الآن يُراد لها ـ في فضائح الفساد التي اندلعت في أكثر من جامعة مؤخَّرا، وتحت ذرائع الإصلاح وإعادة الهيكلة والتنزيل البيداغوجي وغيرها ـ أن تَخضع لمصالح ولتوجيهاتٍ ظرفية، لتُصبح شبيهة بالتعليم الابتدائي والثانوي، وفي هذا تناقض صريح مع روح التكوين والبحث الجامعيّيْن، اللذين تُسيَّر بهما الجامعات في الدُّول الغربية التي تحظى باستقلالية كليَّةٍ في اتخاذ قراراتها، وفي بناء مشاريعها بعَقْدها شراكات مع شركات ومؤسسات وطنية ودولية تُموِّل بها ذاتَها. إن ضمان استقلالية الجامعة يمنحها سُلطة الحَدِّ من أيّ تدخُّل خارجي في شؤونها، والذي من تجلِّياته ذلك الخطاب الذي يُبخِّس من شأن العلوم الإنسانية، في أفق الاستغناء عن كليات الآداب، بدعوى أنها تُنتِج العاطلين، أي أنها تمثّل عبئا على الدولة، وهذا خطاب يُراد بها باطل، ولا يَصدُر إلا عن عقلية استثمارية مهووسة بالتجارة والأعمال والربح السريع، فالغرب الذي يَضرب به المثل هؤلاء هو نفسُه يُحافظ على كليات الآداب والعلوم الإنسانية، على اعتبار أن الجانب الفكري والفني أساسي في بناء المجتمع المتوازن. فريد أمعضشو (مركز تكوين مفتشي التعليم، الرباط): مشتل الكفاءات ومُحرِّك دواليب التنمية كثر الكلام، مؤخَّرا، عن الجامعة المغربية على نحوٍ غير مُنْصِف مع الأسف! على خلفية سلوكيات وممارسات معزولة، ترتبط بأفراد بعينهم، وجّهَتْهُم أهدافٌ وغاياتٌ محددة، ولكنْ جرى أحيانًا تعميمُ ذلك ظلما وافتراءً على الجامعة المذكورة، وكأن هذه الأخيرة لم تحْمِل، على امتداد عقود، مشعل العلم والأدب والفن، ولم تكن منارة مُشِعّة امتدت أصداؤها بعيدا، وحازت فيضا من الاعتراف والتقدير شرقا وغربا، وهو ما عكسته تلك الجوائز الرفيعة، التي حصدها مفكرون ونقاد ومبدعون، هُمْ خرّيجو الجامعة المغربية طبعا! هذا، دون أن نتحدث عن القرويين، التي يعُدُّها كثيرون أقدم الجامعات في العالم، والتي ما زالت مستمرة في تقديم خدماتها العلمية لطلاب المعرفة الشرعية على الخصوص؛ فمنذ أنْ تأسست في فاس، في القرون الأولى، استقطبت طلابا ومشايخ وأعلاما من كل الأصقاع، تُحرّكهم جميعا الرغبة في النّهَل من مَعِين عِلْم شيوخ القرويين وأساتذتها، في حقول معرفية شتى، بما فيها العلوم التجريبية والطبيعية؛ بحيث يذكُرون أن القرويين أولُ جامعة في العالم تمنح إجازة في الطب. وقد واصلت الجامعة المغربية العصرية، منذ انطلاقتها في الخمسينيات، نَشْرَ رسالة العلم والثقافة والتنوير، وإشاعة المبادئ وقيم العمل والتسامح والعيش المشترك، ورَفْد مختلِف القطاعات بما تحتاجه من خبرات وطاقات وكفاءات؛ سعيا إلى تنمية البلد، والرقي به على نحو شمولي. لذا، ظلت محلّ تقدير عبر مسارها كله، داخليا وخارجيا. إن الإقرار بهذه المكانة الاعتبارية المستحقّة، يجب أن لا يَحْجُبَ عنا ما تعرفه، من حين لآخر، من مظاهر انزياح وانفلات، تتعارض مع ما ذكرناه، تطفو على السطح في شكل فساد باختلاف أشكاله، أو تجاوزات وخروقات غير مقبولة، ولكنها تظل – لحُسْن الحظ – محدودة ومعزولة، لا يمْكِنها أن تشكّل ذريعة لأحدٍ ليطعن في تاريخ الجامعة المغربية، ويحُطّ من مقامها العالي، ويُسيء إلى سُمْعتها الثابتة، ويُسَفِّه جهود أُطُرها والفاعلين فيها؛ فهذه الجامعة ما زالت تحتفظ بشيء من بريقها وألْقها، في محيطها الإقليمي على الأقل، وما زال أساتذتها يبصمون على حضور لافت في كثير من المحافل العلمية والأدبية، وما زال خِرِّيجُوها يحْظَوْن بالاحترام داخليا وخارجيا. ثم إن الفساد المُشار إليه، الذي لا يُقاس عليه طبعا، لا تكاد تسلم منه جامعة، وإنْ كان ذلك يختلف من مؤسسة إلى أخرى كمّا وكيفا؛ بحيث إنه يكثر في جامعات العالم المتخلف، ويتخذ صورا وأبعادا أخطر، على حين يقلّ – إلى أقصى درجة ممكنة – في دول العالم المتقدم. ولرُبّما كانت كليات الآداب والحقوق هي المَعْنِية أكثر بِـتُهَم الفساد والاختلال وسوء التدبير، كما قد يبدو من مقدار الشكايات المرفوعة ضدها، أو ضد المُنْتَمين إليها، أمام أجهزة العدالة، وهو ما يجعل أطرافا تفتح أفواهَها، بين الفينة والأخرى، مُطالِبةً بإعادة النظر في هذه المؤسسات؛ بالنظر إلى ضعف مردوديتها، وعدم تلاؤم مُخْرَجاتها مع سوق الشغل – في نظرها، مُتناسِيةً أن تلك الكليات طالما زَوَّدَت الدولة بما تحتاجه من أطر في مجالات حيوية عدّة، وطالما شكلت دِرْعا واقيا؛ من حيث الإسهامُ في الأمن الداخلي روحيّا وفكريّا واجتماعيّا وقضائيّا، وفي المسلسل التنموي للبلد بلا شكّ. السابق اجتماع حول عملية إعادة تكوين القطيع الوطني للماشية التالي استغلوا العرس الإعلامي السوري قبل أُفوله!


إيطاليا تلغراف
٢٩-٠٣-٢٠٢٥
- ترفيه
- إيطاليا تلغراف
الشعري والنثري… الناقد المغربي رشيد يحياوي يعيد رسم الحدود
نشر في 29 مارس 2025 الساعة 11 و 06 دقيقة إيطاليا تلغراف عبداللطيف الوراري كاتب مغربي التباس الحدود كان النوع الأدبي إلى وقت قريب «مُؤسَّسة» بتعبير تزفيتان تودوروف، بحيث كان له وضع المؤسسة التي تستند إلى تراتبية متواضع عليها، إذ كان يفيد في تصنيف الأعمال الأدبية وإعادة تجميعها، وفق معايير مُحدَّدة. لكن هذ الواقع صار من الماضي، بعد أن حدثت داخل معمار الممارسة الأدبية خروقات لا يستهان بها، مسّتْ نقاء النوع الأدبي واستقلاليته، بقدر ما استتبعت تحطيما جذريّا للترسيمات الفاصلة بين هذا النوع وذاك، على نحو أعاد النظر في نظرية الأنواع الأدبية ومقولاتها وتراتُبيّتها المعهودة. من هنا، كان تشويش الحدود بين الشعري والنثري أحد وجوه الحداثة في الآداب العالمية، في أوروبا وأمريكا وروسيا، وفي المجال العربي تحت تأثير المثاقفة والترجمة. فمن خلال التقاطع بين ما هو شعري وما هو نثري أو سردي، صارت البنيات، سرديّة كانت أم شعريّة، تتحوّل إلى مجالٍ مفتوحٍ قابلٍ لاستيعاب التنوُّع أو الحوار الأجناسي على صعد الثيمات واللُّغة والبناء، وإيقاع الذات عبر الكتابة، ومن ثمّة لم يعد ممكنا الحديث عن الرواية باعتبارها نثرا وحسب، أو القصيدة باعتبارها شعرا خالصا، وقس على ذلك. وهذا ما عبّر عنه رومان ياكبسون في قوله ذائع الصيت: «ما الشعر؟ ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعرا، إلا أنّ تعيين ما ليس شعرا ليس، اليوم، بالأمر السهل». مشروع تأصيلي في كتابه «الشعري والنثري في الأدب العربي الحديث»، يُقرّ الناقد المغربي رشيد يحياوي، بأنّ الحدود بين الشعري والنثري أصبحت ملتبسة أكثر من أي وقت مضى، وأن العديد من نصوصنا يسير إما على الحد الفاصل بين الشعري والنثري، أو يعبر مُراوِحا بين الطرفين. يرتبط الكتاب بمشروع تأصيلي بدأه الناقد في أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، وظهرت بواكيره في «مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية» و«الشعرية العربية» (1991)، وفي «شعرية النوع الأدبي» (1994)، ثم تطوَّر المشروع من مقاصده الأصلية، التي اهتمت بالمبدأ الأنواعي في التراث العربي، على ضوء نظرية الأنواع الأدبية، إلى الاهتمام بواقع الممارسة الأدبية الحديثة، التي نزعت نحو التفرد عن البنيات الأنواعية السائدة، وبلبلت معمارها الكتابي المتعارف عليه، كما تجلى في كتابيه «قصيدة النثر العربية أو خطاب الأرض المحروقة» (2008)، و»في أنواعية الشعر» (2014). وفي هذا السياق، بحث ثنائية الشعري والنثري في علاقتهما بالخطاب، ومفاهيم قصيدة النثر ومقترحاتها النصية، وأنواعية الشعر، وسؤال الكتابة العابرة للأنواع، في أعمال بعض الأدباء المُجدّدين مثل أمين صالح وأمجد ناصر وغيرهما. فالناقد، عبر مسار هذا المشروع، يسعى لبناء تلقٍّ أنواعي ذي منحى تبالغي، يهدف إلى التمييز بين الأشكال التي تختارها الكتابة وتؤسس من خلالها أنواعها الشعرية والنثرية، أو تنفتح على ذلك ضمن حوامل رقمية يتزايد الاهتمام بها والتجديد فيها. بناء على هذا الاعتبار، يسعى الناقد إلى تفكيك العلاقة بين الشعري والنثري، ولاسيما حين يكون الشعر مُسْهما في بناء بلاغية النص في السرد النثري. وهذا الرهان النقدي لن يتحقق إلا بتجاوز المستوى الأنواعي الكلاسيكي، المتمثل في المقارنة بين الشعر والنثر، أي ضمن القسمة الثنائية المتعارف عليها، إلى استشكال العلاقة بينهما في ضوء منجز الأنواع الجديدة، التي أخذت تخترق هذه القسمة نفسها، وفي طليعتها قصيدة النثر، ولكن خارج الاهتمام بالنماذج التي قد تمثل حدودا مفترضة للتباعد بينهما. فكان الإشكال الذي يُوجّه أطروحة الكتاب، هو كيف نتلقى نصوصا لا تعلن عن نوعها؟ هل نشغل آليات التنويع، بأن ندرجها ضمن خانات أنواعية معروفة؟ أم نقترح لها خانات جديدة؟ وإذا تمّ ذلك، فعلى أيّ بناء أو نسق مفاهيمي؟ في حدود هذ الأسئلة المطروحة التي يرسمها الكتاب، يتناول رشيد يحياوي نظرية الأنواع في المجال الغربي (أرسطو، أفلاطون، أوستن وارين، تزفيتان تودوروف، جيرار جينيت، جان ماري شيفر)، التي تراوحت بين كونها معيارية وأخلاقية، تعنى برسم الحدود بين الأنواع، ووصفية في المقام الأول داخل النظرية الحديثة. وفي المجال العربي، يرى أن شعرية أرسطو لم يخلف دخولها إلى الثقافة العربية أي منجز يُذكر في ما يتعلق بإعادة تفسير الأنواع اليونانية. بيد أن الشعر بوصفه نمطا جامعا للأنواع، أو قابلا للنمذجة الشكلية، كان يقع في دائرة اهتمام الأنواعية الشعرية العربية القديمة (الفارابي، ابن وهب..). ثم تجدد المسألة الأنواعية في النقد العربي الحديث عبر ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الخمسينيات المتأثرة بنقد البلاغة العربية القديم، ومرحلة وسيطة يمثّلها نقاد سعوا لتأسيس نظريات أدبية حديثة، استنادا إلى منجز الثقافة الغربية (محمد مندور، محمد غنيمي هلال، عز الدين إسماعيل..)، ثُمّ مرحلة حديثة شغلت جهازا مفاهيميّا، أكثر وعيا بالمسألة الأنواعية (عبد الفتاح كيليطو، محمد بنيس..). يناقش الناقد اتجاهات «المسألة الأنواعية» عند هؤلاء النقاد المحدثين، من منظور أبستيمولوجي (غياب المرجعية، عدم انسجام المبدأ التصنيفي، ارتباك المفاهيم..)، ويقترح مداخل جديدة ومختلفة لدراسة أنواعية الشعر؛ مثل حرية الشعر عند أحمد زكي أبي شادي، والغنائية في الشعر العربي الحديث، ولن يتمّ ذلك إلا من خلال مساءلة النسق الأنواعي الداخلي للشعر في ذاته بوصفه خطابا قابلا للنمذجة الأنواعية. «الشعري».. بأيّ صفة؟ ثمّة مسارٌ تاريخي يضع الشعري مقابل النثري، ابتداء من أرسطو الذي قام منهجه على المقارنة بين الأنواع الشعرية، لبيان مكونات شكلها ومقاصدها ومحتواها، فلم يكن مُرْغما على جعل النثري معيارا يتمُّ بالعودة إليه لتحديد بلاغية الشعر. وسوف تتكرّس هذه التفرقة بين الشعري والنثري، على أساس الكمّ والواقعية داخل النقد الغربي، وحتى في النقد العربي الحديث نفسه، كما عند عباس محمود العقاد وطه حسين ومحمد مندور ومن والاهم، بل أصبحت في صلب الصعوبات التي على قصيدة النثر وتجارب النصوص العابرة للأنواع أن تواجهها، لتقنع القراء بالمحتمل الشعري «النثري». لهذا، يكون من الأولى هو معرفة السؤال المتعلق بما هو شعري وبما هو نثري، الذي ينبغي أن يتقوّم على أساس مستوى المنجز التعبيري تحديدا، وليس على المستوى المفاهيمي المجرد الذي حكم علينا بـ»الحلقة المفرغة»، ولاسيما في نقاشنا حول قصيدة النثر: أين يبتدئ فيها كل من الشعري والنثري، وأين ينتهيان؟ فالتمييز سواء بين الشعري والنثري، وترتيبا عليه بين مختلف أشكال الأدب وممارساته، لا يتمّ إلا إذا حدث وعي بالظواهر، بدل التخبُّط في حلقات مفرغة تستهلك الجهد والتفكير بلا طائل. وفي مقدّمته أن يجري التفكير في وضع «الشعري» داخل القصيدة، ووضعه خارجها، كما في الرواية والقصة وفي النثر البليغ إجمالا. فهو حين يندمج بخطاب نوع غير معدود بأنه شعر، يكون قد انفصل عن القصيدة حاضنته الأم. وقد تتزايد درجة التجريد لنقل «الشعري» إلى ما ليس بملفوظ، كما في اللوحة التشكيلية والموسيقى والفيلم، بل قد يحدث من باب الادعاء الاستعاري وَسْم الشعري خارج الملفوظ بكونه قصيدة. صحيحٌ أن التوظيف الشعري في السرود النثرية داخل القصة والرواية العربيتين، ولاسيما تلك التي نُشرت عقب النكسة، قد ردم الهوّة بين ما هو نثري وشعري إلى حدّ كبير. وفي السرود غير التخييلية (اليوميات، المذكرات والسير الذاتية) وظف الكتاب الشِّعر. وصحيحٌ أن هذا التوظيف «الأنواعي» أخذ ينتعش في النصوص الحديثة ذات المنزع التجديدي للغة السرد النثري المنفتحة على الشعر، بل ذهبت إلى حدّ إلغاء التعيين الأنواعي، وخلخلة جهاز التلقي، كما في كتابات إدوارد الخراط وسليم بركات وأمين صالح. كما استطاعت قصيدة النثر بدورها أن تستفيد من هذا التوظيف وتبرز فيه. غير أنّ تلقّي هذا النتاج ما زال – مع ذلك- يخضع للتصور الكلاسيكي التقاطبي الذي يرى الإبداع اللغوي مُنْقسما بين شعر ونثر، ولم يحدث بعدُ انعطافا في طرائق فهم الأدب الجديد وتذوقه وتأويله. يأتي المسعى النقدي الأبرز للكتاب، في أنه ينقل مشكلات هذا الأدب وقراءته ليس بوصفها «ترفا نقديّا»، بقدر ما يرتفع بها إلى درجة أن تصبح مَطْلبا أبستمولوجيّا يحرص على بناء المفهوم وتجديد النظر فيه، وإلا ازدادت غربة الأدب ولا جدواه بقدر ما أنّ دائرة تلقّيه وتأثيره في الناس أخذت تضيق بشكل مزمن. الشعري والنثري… الناقد المغربي رشيد يحياوي يعيد رسم الحدودعبداللطيف الوراري