logo
الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع

الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع

إيطاليا تلغرافمنذ 7 ساعات

إيطاليا تلغراف نشر في 13 يونيو 2025 الساعة 21 و 34 دقيقة
إيطاليا تلغراف
عبداللطيف الوراري
كاتب مغربي
يُثار في هذه الأيام نقاشٌ واسعٌ تَمدّد في كل الاتجاهات، بحقّ وغير حق، ووصل إلى قبة البرلمان، حول واقع الجامعة المغربية وأوضاعها الراهنة، وذلك بعد فضيحة «بيع الماسترات»، أو «الجنس مقابل النقاط». ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُثار فيها مثل هذا النقاش، فقد كان يستجدّ غير ما مرّة في ضوء تبدلات عميقة مست أطر الفكر والثقافة، أو القيم داخل المجتمع. غير أن درجة الحدّة التي يُطرح بها اليوم أخذت تطرح أكثر من علامة استفهام، على نحو بات يستهدف فكرة الجامعة نفسها وأعرافها وأخلاقيّاتها. وكان الأكاديمي سعيد بنكراد قد دقّ ناقوس الخطر في سيرته الفكرية «وتحملني حيرتي وظنوني»، عندما وقف – بما يشبه شهادةً حيّةً من الداخل – على واقع اختلالات الجامعة ودواليب عملها التدبيري والبيداغوجي، التي تهمّ معايير التدريس، وأحوال البحث العلمي، والتأهيل الجامعي، والترقية ومؤسسة الشعبة، ومدى جودة كلّ ذلك وملاءمته لفضاء الجامعة وإشعاعها المعرفي.
فخلال سنوات تدريسه، رأى أن كلية الآداب «أصبحت مسرحاً لصراعات هامشية بلا أفق ولا غاية، سياسية أو علمية، وفقد الكثيرون البوصلة واختلط اليسار باليمين وتحالف الانتهازيون والوصوليون»، وفي المقابل ما زال ثمة من يقاوم بشدة «تيار التردي والضحالة» ويعتبر عمله «مهمة من أجل الإشعاع الحضاري، لا وظيفة تُدرّ دخلاً قارّاً».
بيد أنّ هذا النقاش يبقى طبيعيّا، لأنه يرتبط بالأزمة في مجموع صورها العامة التي تمس بنيات الدولة والمجتمع والثقافة، ويدعو إلى ضرورة مواجهتها بقوة وصبر، قبل استفحالها بدرجة مزمنة. من الواجب حماية المؤسسات وإصلاح ما عطب منها حتى تقوم بأداء المهمة التي أنيطت بها، كما لا يمكن أن يترتب على «فساد سلوك» أفراد والتغطية عليه، تشويهُ سمعة مؤسسة وطنية مثل الجامعة، والطعن في مصداقيّتها ورسالتها الحضارية. ولذلك ينبغي أن تُوجَّه دعاوى الإصلاح الجامعي في مسارها الصحيح، وليس في سياقات قد تخدم أجندات معينة، أو يُزجّ بها في صراعات سياسية تستهدف إِرْثَ الجامعة وإسهامها التاريخي والمعرفي، منذ تأسيسها في الخمسينيات من القرن العشرين، ضمن ما أنتجته ـ ولا تزال- من إنجازات علمية وبراءات اختراع وأبحاث أكاديمية وكتابات علمية وأدبية فوق العدّ، لعلماء ومفكرين ودارسين تفانوا في عملهم وأسهموا بحيويّةٍ ونكران ذات في تطوير الفكر والأدب المغربيين، وما أشاعوه من قيم التجديد والتنوير داخل الفضاء العربي والإسلامي المعاصر. فما زالت الجامعة المغربية رغم التحديات الجسام التي تواجهها، مشتلا للعطاء والإبداع، وما زالت تعبر عن حيوية الفكر والتزامه بترسيخ المعرفة والابتكار، لخدمة المسار التنموي الذي يسلكه المغرب؛ ففي العام الماضي على سبيل المثال، أصدرت الجامعات 18447 منشوراً علميّاً محكماً ومصنفاً في قاعدة (Scopus)، وسجلت نحو مئة وسبعين براءة اختراع في حقول معرفية متنوعة، وشاركت من خلال باحثيها في أكثر من مئتي مشروع بحثي دولي، بما في ذلك مشاريع رائدة في الذكاء الاصطناعي وعلوم الذرة والفضاء وغيرها.
من أجل تعقيل النقاش والرفع من قيمته ومجاله التداولي، التقت «القدس العربي» بعض الأساتذة الباحثين، وطرحت عليهم هذه الأسئلة: كيف تنظر إلى ما يُثار اليوم حول «فساد» الجامعة المغربية؟ أليس في الأمر تعميم أعمى ومُخلّ، لا ينصف تاريخ هذه الجامعة منذ تأسيسها؟ في المقابل، أليست الجامعة في حاجة إلى إصلاح حقيقي يستجيب لمقاصده الملحة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التدبيرية؟ هل بالفعل أصبحت كلية الآداب في مرمى «نيران» التنزيل البيداغوجي، الذي يبخس مستقبلها، حيث يتمّ الفصل المجحف بين علومها وعلوم أكثر نفعا ومردودية، وعلى نحو يُشيع ضربا من «الخطاب التيئيسي» بين مُرْتاديها؟
محمد الحيرش (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان): دفاعا عن فكرة الجامعة
ما من شك في أنّ الرصد الموضوعي لبعض المشاكل التي تشكو منها الجامعة المغربية يتطلب التحلي بقدر غير قليل من الحيطة، حتى لا ننزلق نحو ما من شأنه أن يُسوِّغَ إقبار فكرة الجامعة، ويقذف بها إلى مستقبل غامض لن تظهر مخاطرُه على الأجيال، إلا بعد فوات الأوان. فعلا، تخترق جامعتَنا معضلاتٌ بنيوية ذات طبيعة إدارية وبيداغوجية وعلمية مثلها في ذلك مثل عديد من الجامعات العربية، أو العالمية. وهذه المعضلات كما هو معروف لدى المتتبعين ليست طارئة أو وليدة اليوم؛ إنها تضرب بجذورها في أحقاب سابقة اقترنت باللحظات الأولى لتأسيس الجامعة المغربية في نهاية الخمسينيات، وما رافق ذلك من تدافع سياسي في بلادنا بعد الاستقلال، حول المسألة التعليمية بوجه عام وحول الأهداف والمهام التي ينبغي أن تُسنَد إلى الجامعة بوجه خاص. وهو السياق الذي يرجع بنا إلى ظهير 1975 بوصفه أهم إطار قانوني منظم للتعليم العالي بعد عقدين من الاستقلال، حيث اختصر هذا الظهير مهام الجامعة وحصرها في تكوين الموارد البشرية التي تحتاجها الدولة لتغطية الخصاص الإداري والوظيفي في جملة من قطاعاتها، وأهمل البحث العلمي ولم يوله اهتماما واضحا، سواء في جوانبه المتصلة بالبنيات المادية، أو في جوانبه المتصلة بالقوانين والتشريعات المنظمة.
والحقيقة التي ينبغي أن نستحضرها في هذا الخصوص أن البحث العلمي الذي أنجزه الأساتذة الرواد في مؤسساتنا الجامعية، بمختلف تخصصاتها، كان عملا تطوعيا خالصا انخرطوا فيه إلى جانب التكوين والتدريس بتضحية وتفانٍ، وزاولوه بنكران ذات خارج أي تحفيزات، وفي غيبة أي تشريعات. ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، فإن الأساتذة الباحثين في مجالس شعبهم، أو عبر مُمثِّليهم في مجالس المؤسسات والجامعات، أو في ندواتهم ومؤتمراتهم النقابية، لم يتوقفوا عن التنبيه إلى المعضلات المتعددة التي يواجهونها عن كثب في عملهم اليومي. غير أن ما كانوا يلمسونه حينئذ هو غياب الإرادة السياسية الواضحة التي تتفاعل مع مطالبهم الداعية إلى الارتقاء بالجامعة إلى ما يجعلها مُنتِجة للأفكار، ومُسهِمة بفعالية في تنمية البلاد والعباد، وفي تعميم قيم العقل والحرية والإبداع.
بعد ذلك، من المنصف القول إنه تلاحقت بدءا من أواخر التسعينيات مجموعة من القوانين التي كان من مقاصدها إصلاح الجامعة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التسييرية. لكن المثير في الأمر أن هذه القوانين، التي عُدَّت وقتئذ بمثابة مرحلة انتقالية مهمة في مسلسل تطوير الجامعة المغربية، سرعان ما اختُزِلت مقاصدُها عند تطبيقها إلى صيغ تقنية ضيقة، فأفقدها ذلك روحَها واستُبعدت منها البواعثُ التحديثية التي استحكمت في تشريعها.
ولئن كانت هنالك أسبابٌ أدّتْ إلى العدول بهذه القوانين إلى غير مقاصدها الأصلية كعدم اقتناع بعض المسؤولين في الحكومات المتعاقبة بفكرة الجامعة، كما هو متعارف عليها في المجتمعات المتقدمة، والترويج لجامعة بتخصصات تقنية ومهنية فحسب، والميل إلى تعيين بعض المسؤولين الذين لم تكن لهم الكفاءة التدبيرية الكافية، فإن جزءا من هذه الأسباب يتحمل مسؤوليتَه أيضا نحن الأساتذة، خصوصا أولئك الذين سارعوا إلى تولي مسؤولية الإشراف على مسالك تكوينية في الإجازة الأساسية أو المهنية، أو في سلك الماجستير والدكتوراه، وهم يفتقرون عمليا إلى الخبرة التربوية والعلمية التي تسمح لهم ذاتيا بتقدير جسامة المهام الملقاة على عاتقهم. وقد ترتب على هذا ما ترتب من مشاكل صارت معلومة لدى الخاص والعام حتى أصبحنا نجد من يشير إلى بعض من يتولى تسيير شعبة أو مسلك من المسالك التكوينية، وهو حديث العهد بالجامعة لم يمضِ على تعيينه بها أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات. ولنا أن نتصور نوع الأداء التسييري وقيمة المردود العام التربوي والعلمي لمسؤول على مسلك يفتقر إلى الخبرة اللازمة في التعليم العالي، بل ينعدم لديه حِسُّ الانتماء إلى الجامعة، بما هي فضاء عمومي تضبطه معايير عقلانية، وتُوجِّهُه قيم وأخلاقيات واضحة.
لكن مع كل المعضلات والمشاكل التي أضحى تشخيصها متاحا ومتداولا، فإن كل منظور مقل لإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، لا ينطلق من الإيمان بفكرة الجامعة، ومن الاقتناع بحاجة مجتمعنا الحيوية إليها لن يكون سوى منظورٍ تِقنيٍّ يعمق المشاكل ولا يحلها، بل إن ما تتطلبه جامعتُنا للوفاء بأدوارها في تنمية المجتمع وتحديثه هو جعلها أولويةً في البرامج السياسية الوطنية، والانفتاح الجدي – تبعا لذلك – على آراء جميع الفاعلين الأساسيين أساتذةً وطلبةً وإداريين، والتفاعل الصادق مع تطلعاتهم واقتراحاتهم.
لكل هذا ينبغي في اعتقادي الاحتراسُ من «الخطاب التيئيسي»، الذي يُعمِّمُ على جامعاتنا أحكاما ذاتية غير مُنْصِفة، ويسهم في الإتيان على الأخضر واليابس كما يقال. فما زالت الحياةُ تدب في أوصال جامعتنا، وما زال رموزُها وأساتذُتها من المؤسسين وممن جاؤوا بعدهم يحظون بالتقدير والاعتبار لما أسدوه للفكر المغربي والعربي، ولما أبدعوه من أعمال جليلة تمثل شجرة الأنساب المعرفية الأصيلة التي يستظل بها كل مُنتَسِبٍ إلى الجامعة من الأجيال اللاحقة. فما علينا إلا أن نُفَعِّلَ ذاكرتَنا البعيدة والقريبة لنستعيد ما تواتر في جامعتنا منذ التأسيس إلى الآن من منجزات وإنتاجات علمية رائدة. إذ سيبدو لنا أن الأسماء الأكثر حضورا وفاعلية في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من مجالات فلسفية وأدبية ونقدية هي، أسماء من جامعات مغربية. كما أن ما أنجزه الجامعيون المغاربة الرواد وتلامذتهم من مختلف الأجيال في مجال الفلسفة واللسانيات والسميائيات والتداوليات والسرديات والبلاغة وتحليل الخطاب، أو في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية، أو في الترجمة والدراسات الثقافية والنقدية، كل ما أنجزوه في هذه المجالات وغيرها يحظى بالتقدير والتنويه من قبل مؤسسات عربية ودولية.
ونعتقد أن هذه المناعة التي اكتسبتها الجامعة المغربية، عبر عقود لن تؤثر فيها نوازل أخلاقية معزولة ومحدودة، بل ستزداد قوة إذا ما توافرت الإرادات الحسنة لتطوير إصلاح جامعي شامل يُعمِّقَ المكتسبات، ويُقوِّمَ الاختلالات، ويفتحَ منافذ الأمل أمام الأجيال اللاحقة، أيْ أمام المستقبل.
مزوار الإدريسي (مدرسة فهد للترجمة، طنجة): من يستهدف الجامعة؟
لنتفق على أن الفسادَ هو تجلٍّ لإخلالٍ بأمانة مُهمّة تكون قد أُنيطتْ بإدارة، أو جهاز، أو فرد، وأنه ظاهرة غيْرُ غريبةٍ عن الدُّول والمجتمعات والمؤسسات، لأن جرائمَه لا تفتأ وسائل الإعلام تواكِبُها وتترصَّدها، والشرطةُ تُحقِّق فيها وتُلاحق مُقترفيها، والقضاءُ يُحاكمها، ولا تكف جمعيات حماية المال العام والمؤسساتِ والقوانينِ والحقوقِ عن التنديد بها، وهو ما أدى في كثير من الدول إلى استقالة بعض من مسؤوليها الكبار، أو إلى معاقبتهم بالسجن، أو بصيغ أخرى، إلخ؛ لذلك، ليس غريبا أن تَتسرّب هذه الآفة إلى الجامعة المغربية، فهي مؤسسة كباقي قطاعات الدولة المغربية، يُسيِّرها أفراد هم عُرضة لأشكال عديدة من الإغراءات.
لكنّ المدهش بخصوص الوقائع الأخيرة، التي شهدتها الجامعة المغربية، والتي سيَبُتُّ فيها القضاء المغربي، بعد الانتهاء من التحقيق فيها، هو هذا الإفراط في تهويلها، ما يُثير الكثير من الشكوك بخصوص الغاية من ذلك. ولا أستبعد أن تكون هذه الحملة الشرسة مبيَّـتة، لأنها أصبحت تَستهدف الطعن في مصداقية الجامعة العمومية المغربية، التي نعرف أن أساتذتها وطُلابها يُعدّون سُفراءَ أجلاءَ لعطائها خارجَ الوطن، ذلك أن الوقائع تَشهَد على أنهم ذوو كفاءة عالية، وغالبا ما تحتفظ بهم الجامعات الغربية لديها، لكي يُسهموا في تطويرها معرفيا وعلميا، ولا داعي لذِكر بعضٍ من أسماء هؤلاء.
ولا يخفى أن التحريض الممنهج في بعض المنابر الإعلامية على الجامعة المغربية العمومية، والترويجَ لخطابٍ تيئيسيّ بخصوصها، قد تكون يد المستثمرين المضاربين في التعليم العالي وراءه، ذلك أنه بَعد نجاحِ تجربةِ استثمارهم في التعليم الخصوصي الابتدائي والثانوي، وتمكُّنهم من الاستفادة من دعم الدولة ضريبيا، ومن أُطرِها التي تَشتغل في التعليم العمومي الابتدائي والثانوي، قد اغتنموا فرصة هذا «الفساد» الجامعي الأخير، الذي توصَّلوا به لتحقيق مكاسِبَ أخرى لشركاتهم الاستثمارية. وواضح أن الجامعة المغربية، التي أنجبت مُفكِّرين وعلماء ذائعي الصيت، قد حافظت على استقلالية قرارها دوما، في التكوين والتأطير والبحث والتسيير والتدبير، هي الآن يُراد لها ـ في فضائح الفساد التي اندلعت في أكثر من جامعة مؤخَّرا، وتحت ذرائع الإصلاح وإعادة الهيكلة والتنزيل البيداغوجي وغيرها ـ أن تَخضع لمصالح ولتوجيهاتٍ ظرفية، لتُصبح شبيهة بالتعليم الابتدائي والثانوي، وفي هذا تناقض صريح مع روح التكوين والبحث الجامعيّيْن، اللذين تُسيَّر بهما الجامعات في الدُّول الغربية التي تحظى باستقلالية كليَّةٍ في اتخاذ قراراتها، وفي بناء مشاريعها بعَقْدها شراكات مع شركات ومؤسسات وطنية ودولية تُموِّل بها ذاتَها.
إن ضمان استقلالية الجامعة يمنحها سُلطة الحَدِّ من أيّ تدخُّل خارجي في شؤونها، والذي من تجلِّياته ذلك الخطاب الذي يُبخِّس من شأن العلوم الإنسانية، في أفق الاستغناء عن كليات الآداب، بدعوى أنها تُنتِج العاطلين، أي أنها تمثّل عبئا على الدولة، وهذا خطاب يُراد بها باطل، ولا يَصدُر إلا عن عقلية استثمارية مهووسة بالتجارة والأعمال والربح السريع، فالغرب الذي يَضرب به المثل هؤلاء هو نفسُه يُحافظ على كليات الآداب والعلوم الإنسانية، على اعتبار أن الجانب الفكري والفني أساسي في بناء المجتمع المتوازن.
فريد أمعضشو (مركز تكوين مفتشي التعليم، الرباط): مشتل الكفاءات ومُحرِّك دواليب التنمية
كثر الكلام، مؤخَّرا، عن الجامعة المغربية على نحوٍ غير مُنْصِف مع الأسف! على خلفية سلوكيات وممارسات معزولة، ترتبط بأفراد بعينهم، وجّهَتْهُم أهدافٌ وغاياتٌ محددة، ولكنْ جرى أحيانًا تعميمُ ذلك ظلما وافتراءً على الجامعة المذكورة، وكأن هذه الأخيرة لم تحْمِل، على امتداد عقود، مشعل العلم والأدب والفن، ولم تكن منارة مُشِعّة امتدت أصداؤها بعيدا، وحازت فيضا من الاعتراف والتقدير شرقا وغربا، وهو ما عكسته تلك الجوائز الرفيعة، التي حصدها مفكرون ونقاد ومبدعون، هُمْ خرّيجو الجامعة المغربية طبعا! هذا، دون أن نتحدث عن القرويين، التي يعُدُّها كثيرون أقدم الجامعات في العالم، والتي ما زالت مستمرة في تقديم خدماتها العلمية لطلاب المعرفة الشرعية على الخصوص؛ فمنذ أنْ تأسست في فاس، في القرون الأولى، استقطبت طلابا ومشايخ وأعلاما من كل الأصقاع، تُحرّكهم جميعا الرغبة في النّهَل من مَعِين عِلْم شيوخ القرويين وأساتذتها، في حقول معرفية شتى، بما فيها العلوم التجريبية والطبيعية؛ بحيث يذكُرون أن القرويين أولُ جامعة في العالم تمنح إجازة في الطب. وقد واصلت الجامعة المغربية العصرية، منذ انطلاقتها في الخمسينيات، نَشْرَ رسالة العلم والثقافة والتنوير، وإشاعة المبادئ وقيم العمل والتسامح والعيش المشترك، ورَفْد مختلِف القطاعات بما تحتاجه من خبرات وطاقات وكفاءات؛ سعيا إلى تنمية البلد، والرقي به على نحو شمولي. لذا، ظلت محلّ تقدير عبر مسارها كله، داخليا وخارجيا.
إن الإقرار بهذه المكانة الاعتبارية المستحقّة، يجب أن لا يَحْجُبَ عنا ما تعرفه، من حين لآخر، من مظاهر انزياح وانفلات، تتعارض مع ما ذكرناه، تطفو على السطح في شكل فساد باختلاف أشكاله، أو تجاوزات وخروقات غير مقبولة، ولكنها تظل – لحُسْن الحظ – محدودة ومعزولة، لا يمْكِنها أن تشكّل ذريعة لأحدٍ ليطعن في تاريخ الجامعة المغربية، ويحُطّ من مقامها العالي، ويُسيء إلى سُمْعتها الثابتة، ويُسَفِّه جهود أُطُرها والفاعلين فيها؛ فهذه الجامعة ما زالت تحتفظ بشيء من بريقها وألْقها، في محيطها الإقليمي على الأقل، وما زال أساتذتها يبصمون على حضور لافت في كثير من المحافل العلمية والأدبية، وما زال خِرِّيجُوها يحْظَوْن بالاحترام داخليا وخارجيا. ثم إن الفساد المُشار إليه، الذي لا يُقاس عليه طبعا، لا تكاد تسلم منه جامعة، وإنْ كان ذلك يختلف من مؤسسة إلى أخرى كمّا وكيفا؛ بحيث إنه يكثر في جامعات العالم المتخلف، ويتخذ صورا وأبعادا أخطر، على حين يقلّ – إلى أقصى درجة ممكنة – في دول العالم المتقدم.
ولرُبّما كانت كليات الآداب والحقوق هي المَعْنِية أكثر بِـتُهَم الفساد والاختلال وسوء التدبير، كما قد يبدو من مقدار الشكايات المرفوعة ضدها، أو ضد المُنْتَمين إليها، أمام أجهزة العدالة، وهو ما يجعل أطرافا تفتح أفواهَها، بين الفينة والأخرى، مُطالِبةً بإعادة النظر في هذه المؤسسات؛ بالنظر إلى ضعف مردوديتها، وعدم تلاؤم مُخْرَجاتها مع سوق الشغل – في نظرها، مُتناسِيةً أن تلك الكليات طالما زَوَّدَت الدولة بما تحتاجه من أطر في مجالات حيوية عدّة، وطالما شكلت دِرْعا واقيا؛ من حيث الإسهامُ في الأمن الداخلي روحيّا وفكريّا واجتماعيّا وقضائيّا، وفي المسلسل التنموي للبلد بلا شكّ.
السابق
اجتماع حول عملية إعادة تكوين القطيع الوطني للماشية
التالي
استغلوا العرس الإعلامي السوري قبل أُفوله!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع
الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 7 ساعات

  • إيطاليا تلغراف

الجامعة المغربية … بين رسالتها الحضارية وشبح التسليع

إيطاليا تلغراف نشر في 13 يونيو 2025 الساعة 21 و 34 دقيقة إيطاليا تلغراف عبداللطيف الوراري كاتب مغربي يُثار في هذه الأيام نقاشٌ واسعٌ تَمدّد في كل الاتجاهات، بحقّ وغير حق، ووصل إلى قبة البرلمان، حول واقع الجامعة المغربية وأوضاعها الراهنة، وذلك بعد فضيحة «بيع الماسترات»، أو «الجنس مقابل النقاط». ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُثار فيها مثل هذا النقاش، فقد كان يستجدّ غير ما مرّة في ضوء تبدلات عميقة مست أطر الفكر والثقافة، أو القيم داخل المجتمع. غير أن درجة الحدّة التي يُطرح بها اليوم أخذت تطرح أكثر من علامة استفهام، على نحو بات يستهدف فكرة الجامعة نفسها وأعرافها وأخلاقيّاتها. وكان الأكاديمي سعيد بنكراد قد دقّ ناقوس الخطر في سيرته الفكرية «وتحملني حيرتي وظنوني»، عندما وقف – بما يشبه شهادةً حيّةً من الداخل – على واقع اختلالات الجامعة ودواليب عملها التدبيري والبيداغوجي، التي تهمّ معايير التدريس، وأحوال البحث العلمي، والتأهيل الجامعي، والترقية ومؤسسة الشعبة، ومدى جودة كلّ ذلك وملاءمته لفضاء الجامعة وإشعاعها المعرفي. فخلال سنوات تدريسه، رأى أن كلية الآداب «أصبحت مسرحاً لصراعات هامشية بلا أفق ولا غاية، سياسية أو علمية، وفقد الكثيرون البوصلة واختلط اليسار باليمين وتحالف الانتهازيون والوصوليون»، وفي المقابل ما زال ثمة من يقاوم بشدة «تيار التردي والضحالة» ويعتبر عمله «مهمة من أجل الإشعاع الحضاري، لا وظيفة تُدرّ دخلاً قارّاً». بيد أنّ هذا النقاش يبقى طبيعيّا، لأنه يرتبط بالأزمة في مجموع صورها العامة التي تمس بنيات الدولة والمجتمع والثقافة، ويدعو إلى ضرورة مواجهتها بقوة وصبر، قبل استفحالها بدرجة مزمنة. من الواجب حماية المؤسسات وإصلاح ما عطب منها حتى تقوم بأداء المهمة التي أنيطت بها، كما لا يمكن أن يترتب على «فساد سلوك» أفراد والتغطية عليه، تشويهُ سمعة مؤسسة وطنية مثل الجامعة، والطعن في مصداقيّتها ورسالتها الحضارية. ولذلك ينبغي أن تُوجَّه دعاوى الإصلاح الجامعي في مسارها الصحيح، وليس في سياقات قد تخدم أجندات معينة، أو يُزجّ بها في صراعات سياسية تستهدف إِرْثَ الجامعة وإسهامها التاريخي والمعرفي، منذ تأسيسها في الخمسينيات من القرن العشرين، ضمن ما أنتجته ـ ولا تزال- من إنجازات علمية وبراءات اختراع وأبحاث أكاديمية وكتابات علمية وأدبية فوق العدّ، لعلماء ومفكرين ودارسين تفانوا في عملهم وأسهموا بحيويّةٍ ونكران ذات في تطوير الفكر والأدب المغربيين، وما أشاعوه من قيم التجديد والتنوير داخل الفضاء العربي والإسلامي المعاصر. فما زالت الجامعة المغربية رغم التحديات الجسام التي تواجهها، مشتلا للعطاء والإبداع، وما زالت تعبر عن حيوية الفكر والتزامه بترسيخ المعرفة والابتكار، لخدمة المسار التنموي الذي يسلكه المغرب؛ ففي العام الماضي على سبيل المثال، أصدرت الجامعات 18447 منشوراً علميّاً محكماً ومصنفاً في قاعدة (Scopus)، وسجلت نحو مئة وسبعين براءة اختراع في حقول معرفية متنوعة، وشاركت من خلال باحثيها في أكثر من مئتي مشروع بحثي دولي، بما في ذلك مشاريع رائدة في الذكاء الاصطناعي وعلوم الذرة والفضاء وغيرها. من أجل تعقيل النقاش والرفع من قيمته ومجاله التداولي، التقت «القدس العربي» بعض الأساتذة الباحثين، وطرحت عليهم هذه الأسئلة: كيف تنظر إلى ما يُثار اليوم حول «فساد» الجامعة المغربية؟ أليس في الأمر تعميم أعمى ومُخلّ، لا ينصف تاريخ هذه الجامعة منذ تأسيسها؟ في المقابل، أليست الجامعة في حاجة إلى إصلاح حقيقي يستجيب لمقاصده الملحة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التدبيرية؟ هل بالفعل أصبحت كلية الآداب في مرمى «نيران» التنزيل البيداغوجي، الذي يبخس مستقبلها، حيث يتمّ الفصل المجحف بين علومها وعلوم أكثر نفعا ومردودية، وعلى نحو يُشيع ضربا من «الخطاب التيئيسي» بين مُرْتاديها؟ محمد الحيرش (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان): دفاعا عن فكرة الجامعة ما من شك في أنّ الرصد الموضوعي لبعض المشاكل التي تشكو منها الجامعة المغربية يتطلب التحلي بقدر غير قليل من الحيطة، حتى لا ننزلق نحو ما من شأنه أن يُسوِّغَ إقبار فكرة الجامعة، ويقذف بها إلى مستقبل غامض لن تظهر مخاطرُه على الأجيال، إلا بعد فوات الأوان. فعلا، تخترق جامعتَنا معضلاتٌ بنيوية ذات طبيعة إدارية وبيداغوجية وعلمية مثلها في ذلك مثل عديد من الجامعات العربية، أو العالمية. وهذه المعضلات كما هو معروف لدى المتتبعين ليست طارئة أو وليدة اليوم؛ إنها تضرب بجذورها في أحقاب سابقة اقترنت باللحظات الأولى لتأسيس الجامعة المغربية في نهاية الخمسينيات، وما رافق ذلك من تدافع سياسي في بلادنا بعد الاستقلال، حول المسألة التعليمية بوجه عام وحول الأهداف والمهام التي ينبغي أن تُسنَد إلى الجامعة بوجه خاص. وهو السياق الذي يرجع بنا إلى ظهير 1975 بوصفه أهم إطار قانوني منظم للتعليم العالي بعد عقدين من الاستقلال، حيث اختصر هذا الظهير مهام الجامعة وحصرها في تكوين الموارد البشرية التي تحتاجها الدولة لتغطية الخصاص الإداري والوظيفي في جملة من قطاعاتها، وأهمل البحث العلمي ولم يوله اهتماما واضحا، سواء في جوانبه المتصلة بالبنيات المادية، أو في جوانبه المتصلة بالقوانين والتشريعات المنظمة. والحقيقة التي ينبغي أن نستحضرها في هذا الخصوص أن البحث العلمي الذي أنجزه الأساتذة الرواد في مؤسساتنا الجامعية، بمختلف تخصصاتها، كان عملا تطوعيا خالصا انخرطوا فيه إلى جانب التكوين والتدريس بتضحية وتفانٍ، وزاولوه بنكران ذات خارج أي تحفيزات، وفي غيبة أي تشريعات. ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، فإن الأساتذة الباحثين في مجالس شعبهم، أو عبر مُمثِّليهم في مجالس المؤسسات والجامعات، أو في ندواتهم ومؤتمراتهم النقابية، لم يتوقفوا عن التنبيه إلى المعضلات المتعددة التي يواجهونها عن كثب في عملهم اليومي. غير أن ما كانوا يلمسونه حينئذ هو غياب الإرادة السياسية الواضحة التي تتفاعل مع مطالبهم الداعية إلى الارتقاء بالجامعة إلى ما يجعلها مُنتِجة للأفكار، ومُسهِمة بفعالية في تنمية البلاد والعباد، وفي تعميم قيم العقل والحرية والإبداع. بعد ذلك، من المنصف القول إنه تلاحقت بدءا من أواخر التسعينيات مجموعة من القوانين التي كان من مقاصدها إصلاح الجامعة على الصعيد التربوي والعلمي، وعلى صعيد الهياكل التسييرية. لكن المثير في الأمر أن هذه القوانين، التي عُدَّت وقتئذ بمثابة مرحلة انتقالية مهمة في مسلسل تطوير الجامعة المغربية، سرعان ما اختُزِلت مقاصدُها عند تطبيقها إلى صيغ تقنية ضيقة، فأفقدها ذلك روحَها واستُبعدت منها البواعثُ التحديثية التي استحكمت في تشريعها. ولئن كانت هنالك أسبابٌ أدّتْ إلى العدول بهذه القوانين إلى غير مقاصدها الأصلية كعدم اقتناع بعض المسؤولين في الحكومات المتعاقبة بفكرة الجامعة، كما هو متعارف عليها في المجتمعات المتقدمة، والترويج لجامعة بتخصصات تقنية ومهنية فحسب، والميل إلى تعيين بعض المسؤولين الذين لم تكن لهم الكفاءة التدبيرية الكافية، فإن جزءا من هذه الأسباب يتحمل مسؤوليتَه أيضا نحن الأساتذة، خصوصا أولئك الذين سارعوا إلى تولي مسؤولية الإشراف على مسالك تكوينية في الإجازة الأساسية أو المهنية، أو في سلك الماجستير والدكتوراه، وهم يفتقرون عمليا إلى الخبرة التربوية والعلمية التي تسمح لهم ذاتيا بتقدير جسامة المهام الملقاة على عاتقهم. وقد ترتب على هذا ما ترتب من مشاكل صارت معلومة لدى الخاص والعام حتى أصبحنا نجد من يشير إلى بعض من يتولى تسيير شعبة أو مسلك من المسالك التكوينية، وهو حديث العهد بالجامعة لم يمضِ على تعيينه بها أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات. ولنا أن نتصور نوع الأداء التسييري وقيمة المردود العام التربوي والعلمي لمسؤول على مسلك يفتقر إلى الخبرة اللازمة في التعليم العالي، بل ينعدم لديه حِسُّ الانتماء إلى الجامعة، بما هي فضاء عمومي تضبطه معايير عقلانية، وتُوجِّهُه قيم وأخلاقيات واضحة. لكن مع كل المعضلات والمشاكل التي أضحى تشخيصها متاحا ومتداولا، فإن كل منظور مقل لإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، لا ينطلق من الإيمان بفكرة الجامعة، ومن الاقتناع بحاجة مجتمعنا الحيوية إليها لن يكون سوى منظورٍ تِقنيٍّ يعمق المشاكل ولا يحلها، بل إن ما تتطلبه جامعتُنا للوفاء بأدوارها في تنمية المجتمع وتحديثه هو جعلها أولويةً في البرامج السياسية الوطنية، والانفتاح الجدي – تبعا لذلك – على آراء جميع الفاعلين الأساسيين أساتذةً وطلبةً وإداريين، والتفاعل الصادق مع تطلعاتهم واقتراحاتهم. لكل هذا ينبغي في اعتقادي الاحتراسُ من «الخطاب التيئيسي»، الذي يُعمِّمُ على جامعاتنا أحكاما ذاتية غير مُنْصِفة، ويسهم في الإتيان على الأخضر واليابس كما يقال. فما زالت الحياةُ تدب في أوصال جامعتنا، وما زال رموزُها وأساتذُتها من المؤسسين وممن جاؤوا بعدهم يحظون بالتقدير والاعتبار لما أسدوه للفكر المغربي والعربي، ولما أبدعوه من أعمال جليلة تمثل شجرة الأنساب المعرفية الأصيلة التي يستظل بها كل مُنتَسِبٍ إلى الجامعة من الأجيال اللاحقة. فما علينا إلا أن نُفَعِّلَ ذاكرتَنا البعيدة والقريبة لنستعيد ما تواتر في جامعتنا منذ التأسيس إلى الآن من منجزات وإنتاجات علمية رائدة. إذ سيبدو لنا أن الأسماء الأكثر حضورا وفاعلية في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من مجالات فلسفية وأدبية ونقدية هي، أسماء من جامعات مغربية. كما أن ما أنجزه الجامعيون المغاربة الرواد وتلامذتهم من مختلف الأجيال في مجال الفلسفة واللسانيات والسميائيات والتداوليات والسرديات والبلاغة وتحليل الخطاب، أو في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية، أو في الترجمة والدراسات الثقافية والنقدية، كل ما أنجزوه في هذه المجالات وغيرها يحظى بالتقدير والتنويه من قبل مؤسسات عربية ودولية. ونعتقد أن هذه المناعة التي اكتسبتها الجامعة المغربية، عبر عقود لن تؤثر فيها نوازل أخلاقية معزولة ومحدودة، بل ستزداد قوة إذا ما توافرت الإرادات الحسنة لتطوير إصلاح جامعي شامل يُعمِّقَ المكتسبات، ويُقوِّمَ الاختلالات، ويفتحَ منافذ الأمل أمام الأجيال اللاحقة، أيْ أمام المستقبل. مزوار الإدريسي (مدرسة فهد للترجمة، طنجة): من يستهدف الجامعة؟ لنتفق على أن الفسادَ هو تجلٍّ لإخلالٍ بأمانة مُهمّة تكون قد أُنيطتْ بإدارة، أو جهاز، أو فرد، وأنه ظاهرة غيْرُ غريبةٍ عن الدُّول والمجتمعات والمؤسسات، لأن جرائمَه لا تفتأ وسائل الإعلام تواكِبُها وتترصَّدها، والشرطةُ تُحقِّق فيها وتُلاحق مُقترفيها، والقضاءُ يُحاكمها، ولا تكف جمعيات حماية المال العام والمؤسساتِ والقوانينِ والحقوقِ عن التنديد بها، وهو ما أدى في كثير من الدول إلى استقالة بعض من مسؤوليها الكبار، أو إلى معاقبتهم بالسجن، أو بصيغ أخرى، إلخ؛ لذلك، ليس غريبا أن تَتسرّب هذه الآفة إلى الجامعة المغربية، فهي مؤسسة كباقي قطاعات الدولة المغربية، يُسيِّرها أفراد هم عُرضة لأشكال عديدة من الإغراءات. لكنّ المدهش بخصوص الوقائع الأخيرة، التي شهدتها الجامعة المغربية، والتي سيَبُتُّ فيها القضاء المغربي، بعد الانتهاء من التحقيق فيها، هو هذا الإفراط في تهويلها، ما يُثير الكثير من الشكوك بخصوص الغاية من ذلك. ولا أستبعد أن تكون هذه الحملة الشرسة مبيَّـتة، لأنها أصبحت تَستهدف الطعن في مصداقية الجامعة العمومية المغربية، التي نعرف أن أساتذتها وطُلابها يُعدّون سُفراءَ أجلاءَ لعطائها خارجَ الوطن، ذلك أن الوقائع تَشهَد على أنهم ذوو كفاءة عالية، وغالبا ما تحتفظ بهم الجامعات الغربية لديها، لكي يُسهموا في تطويرها معرفيا وعلميا، ولا داعي لذِكر بعضٍ من أسماء هؤلاء. ولا يخفى أن التحريض الممنهج في بعض المنابر الإعلامية على الجامعة المغربية العمومية، والترويجَ لخطابٍ تيئيسيّ بخصوصها، قد تكون يد المستثمرين المضاربين في التعليم العالي وراءه، ذلك أنه بَعد نجاحِ تجربةِ استثمارهم في التعليم الخصوصي الابتدائي والثانوي، وتمكُّنهم من الاستفادة من دعم الدولة ضريبيا، ومن أُطرِها التي تَشتغل في التعليم العمومي الابتدائي والثانوي، قد اغتنموا فرصة هذا «الفساد» الجامعي الأخير، الذي توصَّلوا به لتحقيق مكاسِبَ أخرى لشركاتهم الاستثمارية. وواضح أن الجامعة المغربية، التي أنجبت مُفكِّرين وعلماء ذائعي الصيت، قد حافظت على استقلالية قرارها دوما، في التكوين والتأطير والبحث والتسيير والتدبير، هي الآن يُراد لها ـ في فضائح الفساد التي اندلعت في أكثر من جامعة مؤخَّرا، وتحت ذرائع الإصلاح وإعادة الهيكلة والتنزيل البيداغوجي وغيرها ـ أن تَخضع لمصالح ولتوجيهاتٍ ظرفية، لتُصبح شبيهة بالتعليم الابتدائي والثانوي، وفي هذا تناقض صريح مع روح التكوين والبحث الجامعيّيْن، اللذين تُسيَّر بهما الجامعات في الدُّول الغربية التي تحظى باستقلالية كليَّةٍ في اتخاذ قراراتها، وفي بناء مشاريعها بعَقْدها شراكات مع شركات ومؤسسات وطنية ودولية تُموِّل بها ذاتَها. إن ضمان استقلالية الجامعة يمنحها سُلطة الحَدِّ من أيّ تدخُّل خارجي في شؤونها، والذي من تجلِّياته ذلك الخطاب الذي يُبخِّس من شأن العلوم الإنسانية، في أفق الاستغناء عن كليات الآداب، بدعوى أنها تُنتِج العاطلين، أي أنها تمثّل عبئا على الدولة، وهذا خطاب يُراد بها باطل، ولا يَصدُر إلا عن عقلية استثمارية مهووسة بالتجارة والأعمال والربح السريع، فالغرب الذي يَضرب به المثل هؤلاء هو نفسُه يُحافظ على كليات الآداب والعلوم الإنسانية، على اعتبار أن الجانب الفكري والفني أساسي في بناء المجتمع المتوازن. فريد أمعضشو (مركز تكوين مفتشي التعليم، الرباط): مشتل الكفاءات ومُحرِّك دواليب التنمية كثر الكلام، مؤخَّرا، عن الجامعة المغربية على نحوٍ غير مُنْصِف مع الأسف! على خلفية سلوكيات وممارسات معزولة، ترتبط بأفراد بعينهم، وجّهَتْهُم أهدافٌ وغاياتٌ محددة، ولكنْ جرى أحيانًا تعميمُ ذلك ظلما وافتراءً على الجامعة المذكورة، وكأن هذه الأخيرة لم تحْمِل، على امتداد عقود، مشعل العلم والأدب والفن، ولم تكن منارة مُشِعّة امتدت أصداؤها بعيدا، وحازت فيضا من الاعتراف والتقدير شرقا وغربا، وهو ما عكسته تلك الجوائز الرفيعة، التي حصدها مفكرون ونقاد ومبدعون، هُمْ خرّيجو الجامعة المغربية طبعا! هذا، دون أن نتحدث عن القرويين، التي يعُدُّها كثيرون أقدم الجامعات في العالم، والتي ما زالت مستمرة في تقديم خدماتها العلمية لطلاب المعرفة الشرعية على الخصوص؛ فمنذ أنْ تأسست في فاس، في القرون الأولى، استقطبت طلابا ومشايخ وأعلاما من كل الأصقاع، تُحرّكهم جميعا الرغبة في النّهَل من مَعِين عِلْم شيوخ القرويين وأساتذتها، في حقول معرفية شتى، بما فيها العلوم التجريبية والطبيعية؛ بحيث يذكُرون أن القرويين أولُ جامعة في العالم تمنح إجازة في الطب. وقد واصلت الجامعة المغربية العصرية، منذ انطلاقتها في الخمسينيات، نَشْرَ رسالة العلم والثقافة والتنوير، وإشاعة المبادئ وقيم العمل والتسامح والعيش المشترك، ورَفْد مختلِف القطاعات بما تحتاجه من خبرات وطاقات وكفاءات؛ سعيا إلى تنمية البلد، والرقي به على نحو شمولي. لذا، ظلت محلّ تقدير عبر مسارها كله، داخليا وخارجيا. إن الإقرار بهذه المكانة الاعتبارية المستحقّة، يجب أن لا يَحْجُبَ عنا ما تعرفه، من حين لآخر، من مظاهر انزياح وانفلات، تتعارض مع ما ذكرناه، تطفو على السطح في شكل فساد باختلاف أشكاله، أو تجاوزات وخروقات غير مقبولة، ولكنها تظل – لحُسْن الحظ – محدودة ومعزولة، لا يمْكِنها أن تشكّل ذريعة لأحدٍ ليطعن في تاريخ الجامعة المغربية، ويحُطّ من مقامها العالي، ويُسيء إلى سُمْعتها الثابتة، ويُسَفِّه جهود أُطُرها والفاعلين فيها؛ فهذه الجامعة ما زالت تحتفظ بشيء من بريقها وألْقها، في محيطها الإقليمي على الأقل، وما زال أساتذتها يبصمون على حضور لافت في كثير من المحافل العلمية والأدبية، وما زال خِرِّيجُوها يحْظَوْن بالاحترام داخليا وخارجيا. ثم إن الفساد المُشار إليه، الذي لا يُقاس عليه طبعا، لا تكاد تسلم منه جامعة، وإنْ كان ذلك يختلف من مؤسسة إلى أخرى كمّا وكيفا؛ بحيث إنه يكثر في جامعات العالم المتخلف، ويتخذ صورا وأبعادا أخطر، على حين يقلّ – إلى أقصى درجة ممكنة – في دول العالم المتقدم. ولرُبّما كانت كليات الآداب والحقوق هي المَعْنِية أكثر بِـتُهَم الفساد والاختلال وسوء التدبير، كما قد يبدو من مقدار الشكايات المرفوعة ضدها، أو ضد المُنْتَمين إليها، أمام أجهزة العدالة، وهو ما يجعل أطرافا تفتح أفواهَها، بين الفينة والأخرى، مُطالِبةً بإعادة النظر في هذه المؤسسات؛ بالنظر إلى ضعف مردوديتها، وعدم تلاؤم مُخْرَجاتها مع سوق الشغل – في نظرها، مُتناسِيةً أن تلك الكليات طالما زَوَّدَت الدولة بما تحتاجه من أطر في مجالات حيوية عدّة، وطالما شكلت دِرْعا واقيا؛ من حيث الإسهامُ في الأمن الداخلي روحيّا وفكريّا واجتماعيّا وقضائيّا، وفي المسلسل التنموي للبلد بلا شكّ. السابق اجتماع حول عملية إعادة تكوين القطيع الوطني للماشية التالي استغلوا العرس الإعلامي السوري قبل أُفوله!

الجامعة المغربية.. صمود في وجه التحديات والاستهدافات
الجامعة المغربية.. صمود في وجه التحديات والاستهدافات

حدث كم

time٢٧-٠٥-٢٠٢٥

  • حدث كم

الجامعة المغربية.. صمود في وجه التحديات والاستهدافات

+ د ياسين زغلول : في خضم الجدل الذي أثارته قضية 'بيع الشواهد الجامعية'، أجد نفسي، بصفتي رئيس جامعة مغربية، مدعوا للتأمل في هذا الأمر بعين المنطق والمسؤولية. إن الجامعة المغربية، باعتبارها مؤسسة عريقة شاهدة على أجيال الباحثين وصانعي السياسات العمومية في بلادنا، كانت ولا تزال منارة للعلم والمعرفة، وهي اليوم تواجه، بلا شك، تحديات لا يمكن إنكارها، لكنها في الوقت ذاته تظل صلبة في مواجهة محاولات التشويه أو الاستهداف. إنني أسعى، من خلال هذا المقال، ليس الدفاع عن الجامعة المغربية فقط، بل التأكيد على أن مثل هذه الحالات المثيرة للجدل، إن صحت بلسان القضاء باعتباره الفيصل، فهي في النهاية، تبقى استثناءات شاذة لا تعكس بأي حال من الأحوال جوهر هذه المؤسسة العريقة. يجب التأكيد في البداية، أن 'المتهم بريء حتى تثبت إدانته'. هذا المبدأ ليس مجرد شعار، بل هو ركيزة أساس تحمي العدالة وتحفظ كرامة الأفراد. القضية التي أثيرت مؤخرا لا تزال تحت التحقيق، ومن واجبنا جميعاً أن نثق في القضاء المغربي ليأخذ مجراه، بعيداً عن التسرع في إصدار الأحكام أو التشهير. لقد أثبت القضاء المغربي في مناسبات عدة نزاهته في التعامل مع قضايا مماثلة، حيث تمت تبرئة العديد من الأساتذة في جامعات مغربية مختلفة من تهم وجهت إليهم، بل وحكمت بتعويضات لصالحهم وبوجوب رد الاعتبار، مما يدعونا جميعاً إلى التحلي بالثقة في مؤسسات البلاد. إن محاولات تشويه سمعة الجامعة المغربية، سواء من خلال قضية بيع الشواهد الجامعية أو غيرها مثل قضايا سابقة قد أثيرت كـ'الجنس مقابل النقط'، غالباً ما تأتي في سياقات قد تخدم أجندات معينة. فالجامعة المغربية، كمؤسسة وطنية، قد تتعرض أحياناً لاستهداف من جهات مختلفة، أو تقحم في صراعات سياسية لا علاقة لها بجوهر رسالتها الأكاديمية. لكن يجب أن ندرك جميعاً أن الفساد، إن وجد، هو سلوك فردي يتعلق بأشخاص، وليس سمة تميز مؤسسة بأكملها. إن الجامعة المغربية، رغم التحديات التي تواجهها، أهمها محدودية إمكانياتها، تظل رمزاً للتميز والإبداع. وبلغة الأرقام التي تعكس هذا التميز، نجد أنه في العام الجامعي الماضي فقط، تخرج من الجامعة المغربية 4334 دكتوراً، وتم تسجيل 45214 طالب باحث في سلك الدكتوراه، فيما أصدرت الجامعات المغربية 18447 منشوراً علمياً محكماً ومصنفاً في قاعدة Scopus. كما سجلت، خلال الموسم ذاته، 171 براءة اختراع في حقول معرفية متنوعة، وشاركت الجامعة عبر باحثيها، في أكثر من 200 مشروع بحثي دولي في الموسم الحالي 2025-2024، بما في ذلك مشاريع رائدة في الذكاء الاصطناعي. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل شهادة على التزام الجامعة المغربية بتعزيز المعرفة والابتكار. أماً على صعيد التصنيفات الدولية، فقد احتلت الجامعة المغربية مراكز متقدمة وبشكل متواصل، حيث دخلت جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء تصنيف شنغهاي لأفضل 1000 جامعة عالمياً في 2024، واحتل المغرب المركز 66 في المؤشر العالمي للابتكار للعام نفسه. في السياق ذاته، حققت جامعة محمد الأول بوجدة إنجازا مميزا بوضعها في المركز الأول على المستوى الوطني والمرتبة 21 على صعيد القارة الإفريقية، في تصنيف حديث صادر عن 'مؤشر نيتشر' المتعلق بإنتاج الأبحاث عالية الجودة. وعلى الصعيد العالمي، احتلت جامعة محمد الأول المرتبة 2117 من أصل قرابة 8400 مؤسسة تعليمية وجامعية شملها التصنيف. أود أن أذكّر في هذا الإطار، أن هذه الإنجازات تحققت رغم الإمكانيات المحدودة للجامعة المغربية مقارنة بالدول المتقدمة، مما يبرز قدرة الجامعة المغربية على المنافسة عالمياً. ولا يمكننا أن ننسى أن مليون و41 ألف طالب يدرسون في جامعاتنا، بينهم 27100 طالب دولي، وأن خريجي الجامعة المغربية يتولون حاليا مناصب قيادية في دول أوروبية وأمريكية وغيرها، والعديد من الطلبة قد شرفوا جامعتهم المغربية بنيل العديد من الجوائز في أقوى المباريات والمنافسات الدولية والقارية. في ختام هذا المقال، أوجه دعوة صادقة إلى المدونين، ووسائل الإعلام، وفعاليات المجتمع المدني، والمواطنين بشكل عام لدعم الجامعة المغربية وإبراز إنجازاتها، بدلاً من التركيز على حالات فردية قد تكون استثنائية. فلنعمل جميعاً على حماية هذه المؤسسة وتعزيز دورها كمحرك للتنمية والتقدم، بعيداً عن التشويه أو التعميم. الجامعة المغربية تستحق منا الثقة والدعم، لأنها صوت العقل ومشتل الحكمة والمعرفة وقاطرة التطور والتنمية في مجتمعنا. + رئيس جامعة محمد الأول وجدة

حفل تنصيب الدكتور أحمد العلالي عميدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة
حفل تنصيب الدكتور أحمد العلالي عميدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة

حدث كم

time٢٩-٠٣-٢٠٢٥

  • حدث كم

حفل تنصيب الدكتور أحمد العلالي عميدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة

-محمد الشرادي-: بحضور الدكتور بوشتى المومني رئيس جامعة عبد المالك السعدي، وشخصيات أخرى مهمة، احتضنت رحاب رئاسة جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، يوم الخميس 27 مارس 2025، حفل تنصيب الدكتور أحمد العلالي عميدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة، خلفا للدكتور توفيق السعيد، بعد مصادقة مجلس الحكومة المنعقد يوم الخميس 13 مارس 2025، على تعيينه في المنصب الجديد. تعيين الدكتور أحمد العلالي يأتي في إطار السياسة التي تنهجها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، الهادفة إلى تعزيز الحكامة الجامعية، تحسين جودة التكوين الأكاديمي، دعم البحث العلمي والابتكار، الرفع من تنافسية التعليم العالي المغربي على الصعيدين الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة للمملكة المغربية. الدكتور أحمد العلالي يعتبر واحدا من الكفاءات والطاقات البشرية الوطنية، التي تشكل ركيزة أساسية لدينامية الإصلاح والتحديث التي يشهدها القطاع، والذي يساهم في تحقيق أهداف استراتيجية الوزارة، الرامية إلى جعل الجامعة المغربية فضاء للتميز العلمي، ومختبرا لإنتاج المعرفة، وحاضنة للمواهب والابتكارات التي تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المملكة المغربية منذ تربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش أسلافه الميامين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store