منذ يوم واحد
المؤسسات العلمية في عالم المتغيرات
في عالم يشهد تسارعاً معرفياً غير مسبوق، وتداخلاً متزايداً بين العلوم والواقع المجتمعي، لم تعد المؤسسات العلمية مجرّد مراكز للبحث، بل أصبحت ركيزة أساسية في تشكيل السياسات العامة، خصوصاً في مجالات تمسّ صحة الإنسان والبيئة والتقنيات الحيوية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تعزيز مفهوم حيادية المؤسسة العلمية، بوصفه أساساً لضمان جودة المعرفة وصحتها، بعيداً عن أي تأثيرات قد تحدّ من استقلالها أو دقتها.
استقلال المؤسسة العلمية لا يعني عزلها عن الحياة العامة أو الانفصال عن احتياجات المجتمع، بل يعني تمكينها من أداء مهامها استناداً إلى منهجية دقيقة، وبيانات موثوقة، ومراجعات علمية متكاملة، دون تأثر بعوامل خارجية لا تستند إلى المنطق العلمي أو التقييم الموضوعي. ويقوم هذا الاستقلال على توازن دقيق: احترام دور المؤسسات العلمية في تقديم المعرفة، مقابل التزامها بالشفافية والمراجعة والتواصل المسؤول.
ومع تطور الأطر التنظيمية للمؤسسات العلمية حول العالم، تظهر أحياناً تحديات مرتبطة بتشكيل اللجان الاستشارية، أو بترتيب الأولويات البحثية، أو بإدارة النقاشات الداخلية حول قضايا صحية وعلمية معقدة. ويرتكز أثر هذه التحديات في أنها تؤثر على ثقة المجتمع في التوصيات التي تصدر عن تلك الجهات، كما تؤثر على قدرة المؤسسات على التفاعل مع المستجدات الطارئة بكفاءة ووضوح.
وقد شهدت بعض النماذج الحديثة إعادة تشكيل لجان علمية متخصصة، تزامنت معها تغييرات في الملفات المطروحة للنقاش أو طبيعة القضايا التي تحظى بالأولوية. ورغم أن إعادة التقييم المؤسسي تُعدّ جزءاً طبيعياً من دورة العمل العلمي، إلا أن المعيار الأهم يظل هو الحفاظ على اتساق المنهج العلمي ووضوح الرسالة وحياد المعايير.
إن المؤسسات العلمية - من خلال بنيتها المعرفية ورصيدها المهني - تُعد من أهم أدوات المجتمعات في مواجهة التحديات، خصوصاً في أوقات الأزمات الصحية أو البيئية. وعندما تتوفر لها مساحة مستقلة للتقييم والمراجعة، فإنها تُسهم في تعزيز ثقة الجمهور، وصياغة سياسات تستند إلى أدلة، وتقديم خيارات فعالة لصنّاع القرار.
كما أظهرت الخبرات السابقة - لا سيما خلال جائحة كوفيد - 19، أن فعالية المؤسسات العلمية لا تعتمد فقط على دقة ما تُنتجه من بيانات، بل أيضاً على قدرتها على التواصل بوضوح، وشرح المنهجيات، وتفسير الفرق بين التوصية العلمية والنقاش المجتمعي. وفي غياب هذا التوازن، قد يظهر لبس أو تراجع في الثقة، حتى عندما تكون المعطيات العلمية راسخة.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن تُصمَّم نظم الحوكمة العلمية بحيث تضمن استقلال المعرفة، دون أن تنفصل عن مسؤولياتها المجتمعية، وأن تبقى قادرة على التفاعل مع السياقات المتغيرة دون أن تفقد منهجيتها. ويشمل ذلك ضمان تمثيل متنوع للكفاءات، وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة، وتوفير بيئة داعمة للبحث الحر والنقاش البنّاء.
وفي ظل أزمات متلاحقة، من الأوبئة المتجددة إلى التغيرات المناخية والتهديدات البيئية، لم تعد استقلالية المؤسسات العلمية ترفاً تنظيميًّا، بل أصبحت ضرورة وجودية وأخلاقية. فالعلم الذي لا يُحمى من ضغوط التحيّزات والاعتبارات المؤقتة، يفقد قدرته على تنوير المجتمعات بقرارات رشيدة ومسؤولة. ومن هنا، فإن السؤال الذي يجب أن يبقى حيًّا في أذهاننا هو: من يحرُس الحارس؟ وكيف نُبقي على هذا الحارس يقظاً، حراً، ونزيهاً في آن معاً؟