أحدث الأخبار مع #داحس

سعورس
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- سعورس
الموقف الأدبي من الحرب والسلم
الوجود الواحد الموحَّد، الهادئ، السلمي، الأنيق، المُفعم بالسعادة، ليس أكثر من وهْمٍ في وهْم... ويَنطبق هذا على الوجود البشري، وعلى الوجود الكوني. والسِّلم في رأي الأدب، ليس أكثر من توازن القوى بين طرفين، فهو حالة مؤقتة، كما يثبت التاريخ، كل التاريخ. وما السِّلم الروماني Romana Pax سوى دعاية؛ فمعبد جانوس لم يُغلِق أبوابه على مدى ثمانية قرون، سوى بضعة أسابيع. وحالما يختلّ التوازن بين القوى تنشب الحرب، سواء من أجل امرأة، كما في حرب طروادة، أم سباق داحس والغبراء، أو بسبب مقتل أرشيدوق، أو بسبب ممرّ... والأعذار أكثر من أن تُحصى. وكما أنّ العواشب لا تَفرض سِلماً، واللّواحم لا توقِف حرباً، كذلك الأفراد والشعوب والأوطان، إمّا عواشب وإمّا لواحم. ولا فرق في الأدب بين حرب طرفاها من البشر، وبين حرب أحد طرفيها من البشر، والآخر مجهول، فهناك حرب أبدية مع الجهل والمرض، والظواهر الطبيعية المدمرة... بل هناك حرب مع الذات. وعلى هذا فالحرب بين الحضارات (سمّيت صراعاً أم صداماً أم اشتباكاتٍ، أم تبايُناً أم غير ذلك) لا تختلف عن الحرب بين فردين، سوى في أن الحضارة ذات عُمقٍ تاريخي مُتجذِّر، أكثر ممّا تحمله جينات الفرد من حفريّات ثقافيّة. لكن من يدري اليوم، بعد التطورات العلمية، ألا تكون جينات الفرد الواحد تعود إلى جدّنا الأول المستر نياندرتال!؟ لا نظن أن هناك أديباً أو فيلسوفاً أَعلن أننا نعيش في دار سلام، بل دائماً في دار حرب، حرب شاملة، حتى العواطف المتضاربة تتصارع في الذات الواحدة. وينطبق هذا على آراء هيراكليت وحتى كيرغيرد ونيتشه وهيدغر وسارتر... وأما الرواقية، فإنها تقر بذلك ولكنها ترى أن على المرء أن ينشد الحرية بالتعالي على كل ما يلم به، فحتى السجين بمجرد أن يؤمن أنه حر، يُصبح حراً. وما الحركة الصوفية سوى إقرار واضح أن الحياة حرب وصراع، فاعتزالها يجنّبنا مآسيها. ولو أمعنّا في جمهورية أفلاطون لرأينا أنها كلها مبنية لخدمة العسكر، فالمرأة مشاعة، ليس بمعنى أنها حرة أن تختار الرجل الذي تريد، بل بمعنى أن الدولة هي التي تختار لها الرجل المناسب الذي يستولدها أطفالاً أصحاء ببنية قوية، والدولة مسؤولة عنهم، ليكونوا جنوداً تملؤهم الحمية، وتدفعهم الشجاعة، وبذا يتحولون إلى جنود يضمنون السِّلم للجمهورية. أما الأدب فلا يجوز أن يكون حراً، بل عليه أن ينظم الأناشيد للعسكر، ويُدبّ الحمية من أجل الاستعداد الدائم للحرب... أما أشعار الغزل والحب والخمرة، والتعبير عن المعاناة، فمحظورة حظراً شديداً. ثم أنت لست حرّاً في هذه الجمهورية، حتى في اختيار العمل الذي تحب، بل الدولة توكل إليك العمل المناسب لشخصيتك، بعد اختبار هذه الشخصية وامتحانها بأسئلة وتدريبات خاصة... فيكون حظك كما تصنفك الدولة وفق التقسيم الثلاثي لنظرية أفلاطون: فكرية، غضبية، شهوية. ففي رأيه أن الحفاظ على الموجود في حال تأهب واستعداد خير ضمان للسلم الذي ستنعم به جمهوريته، ولا عمل للضعفاء سوى العمل الوضيع. هل نُذكركم بأن هيغل سمّوه «فيلسوف الحرب»؟ زعم أن الأمة لا يمكن أن تتوطد من دون أن تحارب، أن يكون لها عسكر يضمن لها السلم والأمن. وهل نذكركم بشوبنهور ونيتشه وباقي الفلاسفة الأدباء؟ وسنتجاهل آراء فرويد ويونغ وإدلر في التكوين النفساني المولِّد للعدوان والصراع والحروب، التي ستستمر ما لم تحلّ العقد النفسانية والكبت والقمع... لشيوع هذه الآراء في عصرنا. وثمة أدباء وصفوا حروباً أبدية في هذه الحياة. هل نذكركم بمسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس؟ تذكروا أبطال هذه المسرحيات فقط، وسترون أنها تعبير عن الحروب المريرة التي تقع في هذه الحياة: بروميثيوس، أنتيغوني، إفيجينيا، أورست... وفي العصر الحديث يكفي أن نذكر أن أوغست ستراندبرغ رأى أن الحرب الأبدية، هي بين الرجل والمرأة، كما في معظم مسرحياته أمثال «جوليا» و«الأب» وباقي المسرحيات. ويأتي يوجين يونسكو ليؤكد هذه الحرب الصامتة في مسرحيته «أميدية»، فبعد الزواج لا يدري الزوج كيف يخرج من هذه الورطة، حتى بعد وفاة زوجته، إلى درجة أنه لم يستطع أن يتخلص من الجثة (الكراهية الزوجية) التي تنمو يوماً بعد يوم، والمؤلف نفسه احتار في وضع نهاية مقبولة للمسرحية، إلى أن نصحه أحد المخرجين بأن يجعل نسراً يقتحم المنزل من النافذة ويطير بالجثة، فجعل المؤلف بطله يمسك بالجثة وينتهي معها، للتدليل أن الزواج حرب لا بد منها، بل تستمر حتى في الحياة الأخرى. سرد العلاقات أما الشعراء الرومانسيون فلم يجدوا السعادة إلا في الهرب من هذا المجتمع المريع، الذي لم يعد صالحاً للحياة، حتى وردزورث، وهو المجلّي في شعراء البحيرة، يقدم لنا أبلغ هذه الصور، فلوسي تعيش منزوية قرب ينبوعٍ في بقعة يانعة صغيرة، هَرَباً من المجتمع، والحاصدة الجميلة تصدح بنشيدٍ لا يفهم منه الشاعر كلمة، ومع ذلك استنتج من نغمتها الحزينة أنها تتذكر معركة لقومها اندحروا فيها. هل نأتي على ذكر الشعر الحديث، أو الرواية الحديثة؟ اقرأ أي أثر وانظر كم تضيق الحياة في هذه الآثار الأدبية فتخنق أبطالها. لن أدلك على روايات بلزاك «الملهاة البشرية» ولا على روايات إميل زولا، بل اقرأ رواية واحدة أقرب إلى عصرنا، وهي «تس سليلة دوربرفيل» لتوماس هاردي، الذي أتقن سرد العلاقات بين الشخصيات، بحيث يذكرنا بسوفوكليس ويوريبيدس، فكأن هذه العلاقات نوع من القدر المحتوم. خذْ أي ديوان من العصر الحديث، فلا تجد فيه إلا السخط والضجر والصراخ والعويل والتأفّف من هذه الحياة المرهقة التي تحاربنا من كل الجهات، فنشعر بالفساد حتى حين نتنشق الأنفاس من الهواء صباحا ومساء... إن الحديث يطول. بيان تأييد من التاريخ تَظهر الحروب كأن لها أسباباً متعددة. والواقع أنها تتغير بتغير الظروف الاجتماعية. فقد بدأت الحروب منذ أواخر العصر النيوليثي، وما زالت مستمرة حتى اليوم. لما ظهر الحصان والسيف والترس، ظهرت مع هذه الأدوات الأنظمة الكولونيالية، أو ما سميناه في لغتنا «الاستعمار»، ولما ظهر البارود في القرن الرابع عشر، واستخدمه الغرب من أجل الحرب، ظهر ما نطلق عليه اسم «الإمبريالية»، ولما ظهرت الذرة ظهرت معها الحرب الذرية... لكن الوضع يبقى هو عينه كما كان في العصر الحجري. ونظن أن الثورة الزراعية، وهي ما جاءت بالوبال على البشرية، افتتحت عهد الحروب المريعة، التي بدأت أول الأمر بين الصيادين والمزارعين، ثم تطورت وصارت أكثر شمولية... إلى أن وصلنا إلى عصر العولمة، حيث باتت الحرب غير مقتصرة على طرفين صغيرين، أو كبيرين، بل صارت تهدد البشرية برمتها. وكثرت دعوات السلم في كل مكان، ولكن من دون جدوى. وجدير أن نذكر تجربة الحزب الشيوعي الصيني، فقد أراد إسقاط نظام «شان كاي شك» بالتظاهرات في المُدن الكبرى، فمُني بهزيمة شديدة الوقع، إثر خسارته الكثير من أعضائه وجماهيره الذين صرعوا في التظاهرات. فلما استلم «ماو تسي تونغ» القيادة، قام بالمسيرة الكبرى، ووضع إستراتيجيّة الانقضاض على المدن وتطويقها من الريف. وفي الريف البعيد عن سلطة الدولة، أقام المعسكرات والتدريبات، وأعد ما صار يعرف في ما بعد ب «الجيش الأحمر»، وطرح شعار «السلطة تنبع من فوهة البندقية» فحصل على النصر في منتصف القرن العشرين. برقية تأييد من العِلم قبل هذا القرن لم يأبه العلماء لغدة التايموس (الزعترية) الموجودة في أعلى القفص الصدري، لأنها تظهر منذ الولادة، ويتوقف عليها تقريباً سن البلوغ. لكن العلماء اكتشفوا اليوم أنها غدة أساسية تسيطر على الخلايا «ت» وأيضاً «ب». وتبيَّن أنها قلعة عسكرية تأتيها الكريات البيضاء لتتدرب على أصول محاربة المعتدين. وبعد التدريب يجري فحص دقيق لكل كرية، بأن تقدم لها خلية عدوة، فإن لم تقتلها، أعدمت معها، وإن نجحت أرسلتها القيادة إلى المكان المناسب في الجهاز اللمفاوي (كما في جمهورية أفلاطون). بعض الخلايا في الجسد لا يجري عليها اختبار، وهي خلايا العينين والأظافر والشعر والخصيتين، فإذا صادف ودخلت كرية بيضاء إلى هذه الأماكن، قضت على العضو بالكامل، فلا الشعر ينبت من جديد، ولا الظفر يعرف النمو. ومن ضعف عنده الجهاز الحربي، يغدو عرضة لكل أنواع الأمراض. وهكذا، إن لم يكن للجماعة، من الأسرة حتى الأمة، «تايموس» يجهز الجنود لأي عدوان خارجي، فلا بد أن يعاني من نقص المناعة ويصبح ساحة مباحة لكل أنواع العدوان. وصفة فيلسوف العقل والأخلاق قدَّم كاط وصفة «طبية» بعنوان «مشروع للسلام الدائم»، وهو عبارة عن اقتراح بإنشاء «تايموس» عالمي يكون قوة رادعة لكل من يخرق القوانين العالمية التي تشرف عليها مؤسسة مسكونية، مسؤولة عن توطيد السلم بين الأمم ، بل أيضاً تشرف على القوانين الداخلية، إن كان فيها ما يحط من كرامة الإنسان. وقد أخذت الدول بهذه الوصفة، ولكن يبدو أنها لم تتبع تعاليم الواصف، فظهرت عصبة الأمم ، وفشلت، ثم ظهرت هيئة الأمم فكان فشلها أكبر. من دون «تايموس» لتمنيع الوطن والوجود البشري، بحسب وصفة كانط، من العبث الحديث عن السلم. لا شك أن هذا المشروع لن يعجب مالتوس، فالحرب في نظره ليست عدواناً، بل ضرورة، لأن تكاثر السكان أخطر من كل الحروب. *كاتب وناقد من سوريا * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.


الوطن
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الوطن
الموقف الأدبي من الحرب والسلم
ينظر الأدب إلى الحرب والسّلم بطريقة تختلف عن النظرة السياسية، أو مواقف القادة العسكريين من أيام صن تزو الصيني حتى كلوزفيتز الروسي. الأدب يرى أن الحرب في الحياة الإنسانية شاملة ومتسعة إلى أبعد مما يظنه قادة السياسة والعسكر. الأدب يرى الصراع والشقاق (والتمرُّد وخلاف الأمزجة والقتال والصدام والمناوشات، بل حتى مجرد ظهور طرفين متناقضين، سواء بسواء بين البشر، أو بين الظواهر الطبيعية) «جوهر الوجود». الوجود الواحد الموحَّد، الهادئ، السلمي، الأنيق، المُفعم بالسعادة، ليس أكثر من وهْمٍ في وهْم... ويَنطبق هذا على الوجود البشري، وعلى الوجود الكوني. والسِّلم في رأي الأدب، ليس أكثر من توازن القوى بين طرفين، فهو حالة مؤقتة، كما يثبت التاريخ، كل التاريخ. وما السِّلم الروماني Romana Pax سوى دعاية؛ فمعبد جانوس لم يُغلِق أبوابه على مدى ثمانية قرون، سوى بضعة أسابيع. وحالما يختلّ التوازن بين القوى تنشب الحرب، سواء من أجل امرأة، كما في حرب طروادة، أم سباق داحس والغبراء، أو بسبب مقتل أرشيدوق، أو بسبب ممرّ... والأعذار أكثر من أن تُحصى. وكما أنّ العواشب لا تَفرض سِلماً، واللّواحم لا توقِف حرباً، كذلك الأفراد والشعوب والأوطان، إمّا عواشب وإمّا لواحم. ولا فرق في الأدب بين حرب طرفاها من البشر، وبين حرب أحد طرفيها من البشر، والآخر مجهول، فهناك حرب أبدية مع الجهل والمرض، والظواهر الطبيعية المدمرة... بل هناك حرب مع الذات. وعلى هذا فالحرب بين الحضارات (سمّيت صراعاً أم صداماً أم اشتباكاتٍ، أم تبايُناً أم غير ذلك) لا تختلف عن الحرب بين فردين، سوى في أن الحضارة ذات عُمقٍ تاريخي مُتجذِّر، أكثر ممّا تحمله جينات الفرد من حفريّات ثقافيّة. لكن من يدري اليوم، بعد التطورات العلمية، ألا تكون جينات الفرد الواحد تعود إلى جدّنا الأول المستر نياندرتال!؟ لا نظن أن هناك أديباً أو فيلسوفاً أَعلن أننا نعيش في دار سلام، بل دائماً في دار حرب، حرب شاملة، حتى العواطف المتضاربة تتصارع في الذات الواحدة. وينطبق هذا على آراء هيراكليت وحتى كيرغيرد ونيتشه وهيدغر وسارتر... وأما الرواقية، فإنها تقر بذلك ولكنها ترى أن على المرء أن ينشد الحرية بالتعالي على كل ما يلم به، فحتى السجين بمجرد أن يؤمن أنه حر، يُصبح حراً. وما الحركة الصوفية سوى إقرار واضح أن الحياة حرب وصراع، فاعتزالها يجنّبنا مآسيها. ولو أمعنّا في جمهورية أفلاطون لرأينا أنها كلها مبنية لخدمة العسكر، فالمرأة مشاعة، ليس بمعنى أنها حرة أن تختار الرجل الذي تريد، بل بمعنى أن الدولة هي التي تختار لها الرجل المناسب الذي يستولدها أطفالاً أصحاء ببنية قوية، والدولة مسؤولة عنهم، ليكونوا جنوداً تملؤهم الحمية، وتدفعهم الشجاعة، وبذا يتحولون إلى جنود يضمنون السِّلم للجمهورية. أما الأدب فلا يجوز أن يكون حراً، بل عليه أن ينظم الأناشيد للعسكر، ويُدبّ الحمية من أجل الاستعداد الدائم للحرب... أما أشعار الغزل والحب والخمرة، والتعبير عن المعاناة، فمحظورة حظراً شديداً. ثم أنت لست حرّاً في هذه الجمهورية، حتى في اختيار العمل الذي تحب، بل الدولة توكل إليك العمل المناسب لشخصيتك، بعد اختبار هذه الشخصية وامتحانها بأسئلة وتدريبات خاصة... فيكون حظك كما تصنفك الدولة وفق التقسيم الثلاثي لنظرية أفلاطون: فكرية، غضبية، شهوية. ففي رأيه أن الحفاظ على الموجود في حال تأهب واستعداد خير ضمان للسلم الذي ستنعم به جمهوريته، ولا عمل للضعفاء سوى العمل الوضيع. هل نُذكركم بأن هيغل سمّوه «فيلسوف الحرب»؟ زعم أن الأمة لا يمكن أن تتوطد من دون أن تحارب، أن يكون لها عسكر يضمن لها السلم والأمن. وهل نذكركم بشوبنهور ونيتشه وباقي الفلاسفة الأدباء؟ وسنتجاهل آراء فرويد ويونغ وإدلر في التكوين النفساني المولِّد للعدوان والصراع والحروب، التي ستستمر ما لم تحلّ العقد النفسانية والكبت والقمع... لشيوع هذه الآراء في عصرنا. وثمة أدباء وصفوا حروباً أبدية في هذه الحياة. هل نذكركم بمسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس؟ تذكروا أبطال هذه المسرحيات فقط، وسترون أنها تعبير عن الحروب المريرة التي تقع في هذه الحياة: بروميثيوس، أنتيغوني، إفيجينيا، أورست... وفي العصر الحديث يكفي أن نذكر أن أوغست ستراندبرغ رأى أن الحرب الأبدية، هي بين الرجل والمرأة، كما في معظم مسرحياته أمثال «جوليا» و«الأب» وباقي المسرحيات. ويأتي يوجين يونسكو ليؤكد هذه الحرب الصامتة في مسرحيته «أميدية»، فبعد الزواج لا يدري الزوج كيف يخرج من هذه الورطة، حتى بعد وفاة زوجته، إلى درجة أنه لم يستطع أن يتخلص من الجثة (الكراهية الزوجية) التي تنمو يوماً بعد يوم، والمؤلف نفسه احتار في وضع نهاية مقبولة للمسرحية، إلى أن نصحه أحد المخرجين بأن يجعل نسراً يقتحم المنزل من النافذة ويطير بالجثة، فجعل المؤلف بطله يمسك بالجثة وينتهي معها، للتدليل أن الزواج حرب لا بد منها، بل تستمر حتى في الحياة الأخرى. سرد العلاقات أما الشعراء الرومانسيون فلم يجدوا السعادة إلا في الهرب من هذا المجتمع المريع، الذي لم يعد صالحاً للحياة، حتى وردزورث، وهو المجلّي في شعراء البحيرة، يقدم لنا أبلغ هذه الصور، فلوسي تعيش منزوية قرب ينبوعٍ في بقعة يانعة صغيرة، هَرَباً من المجتمع، والحاصدة الجميلة تصدح بنشيدٍ لا يفهم منه الشاعر كلمة، ومع ذلك استنتج من نغمتها الحزينة أنها تتذكر معركة لقومها اندحروا فيها. هل نأتي على ذكر الشعر الحديث، أو الرواية الحديثة؟ اقرأ أي أثر وانظر كم تضيق الحياة في هذه الآثار الأدبية فتخنق أبطالها. لن أدلك على روايات بلزاك «الملهاة البشرية» ولا على روايات إميل زولا، بل اقرأ رواية واحدة أقرب إلى عصرنا، وهي «تس سليلة دوربرفيل» لتوماس هاردي، الذي أتقن سرد العلاقات بين الشخصيات، بحيث يذكرنا بسوفوكليس ويوريبيدس، فكأن هذه العلاقات نوع من القدر المحتوم. خذْ أي ديوان من العصر الحديث، فلا تجد فيه إلا السخط والضجر والصراخ والعويل والتأفّف من هذه الحياة المرهقة التي تحاربنا من كل الجهات، فنشعر بالفساد حتى حين نتنشق الأنفاس من الهواء صباحا ومساء... إن الحديث يطول. بيان تأييد من التاريخ تَظهر الحروب كأن لها أسباباً متعددة. والواقع أنها تتغير بتغير الظروف الاجتماعية. فقد بدأت الحروب منذ أواخر العصر النيوليثي، وما زالت مستمرة حتى اليوم. لما ظهر الحصان والسيف والترس، ظهرت مع هذه الأدوات الأنظمة الكولونيالية، أو ما سميناه في لغتنا «الاستعمار»، ولما ظهر البارود في القرن الرابع عشر، واستخدمه الغرب من أجل الحرب، ظهر ما نطلق عليه اسم «الإمبريالية»، ولما ظهرت الذرة ظهرت معها الحرب الذرية... لكن الوضع يبقى هو عينه كما كان في العصر الحجري. ونظن أن الثورة الزراعية، وهي ما جاءت بالوبال على البشرية، افتتحت عهد الحروب المريعة، التي بدأت أول الأمر بين الصيادين والمزارعين، ثم تطورت وصارت أكثر شمولية... إلى أن وصلنا إلى عصر العولمة، حيث باتت الحرب غير مقتصرة على طرفين صغيرين، أو كبيرين، بل صارت تهدد البشرية برمتها. وكثرت دعوات السلم في كل مكان، ولكن من دون جدوى. وجدير أن نذكر تجربة الحزب الشيوعي الصيني، فقد أراد إسقاط نظام «شان كاي شك» بالتظاهرات في المُدن الكبرى، فمُني بهزيمة شديدة الوقع، إثر خسارته الكثير من أعضائه وجماهيره الذين صرعوا في التظاهرات. فلما استلم «ماو تسي تونغ» القيادة، قام بالمسيرة الكبرى، ووضع إستراتيجيّة الانقضاض على المدن وتطويقها من الريف. وفي الريف البعيد عن سلطة الدولة، أقام المعسكرات والتدريبات، وأعد ما صار يعرف في ما بعد بـ «الجيش الأحمر»، وطرح شعار «السلطة تنبع من فوهة البندقية» فحصل على النصر في منتصف القرن العشرين. برقية تأييد من العِلم قبل هذا القرن لم يأبه العلماء لغدة التايموس (الزعترية) الموجودة في أعلى القفص الصدري، لأنها تظهر منذ الولادة، ويتوقف عليها تقريباً سن البلوغ. لكن العلماء اكتشفوا اليوم أنها غدة أساسية تسيطر على الخلايا «ت» وأيضاً «ب». وتبيَّن أنها قلعة عسكرية تأتيها الكريات البيضاء لتتدرب على أصول محاربة المعتدين. وبعد التدريب يجري فحص دقيق لكل كرية، بأن تقدم لها خلية عدوة، فإن لم تقتلها، أعدمت معها، وإن نجحت أرسلتها القيادة إلى المكان المناسب في الجهاز اللمفاوي (كما في جمهورية أفلاطون). بعض الخلايا في الجسد لا يجري عليها اختبار، وهي خلايا العينين والأظافر والشعر والخصيتين، فإذا صادف ودخلت كرية بيضاء إلى هذه الأماكن، قضت على العضو بالكامل، فلا الشعر ينبت من جديد، ولا الظفر يعرف النمو. ومن ضعف عنده الجهاز الحربي، يغدو عرضة لكل أنواع الأمراض. وهكذا، إن لم يكن للجماعة، من الأسرة حتى الأمة، «تايموس» يجهز الجنود لأي عدوان خارجي، فلا بد أن يعاني من نقص المناعة ويصبح ساحة مباحة لكل أنواع العدوان. وصفة فيلسوف العقل والأخلاق قدَّم كاط وصفة «طبية» بعنوان «مشروع للسلام الدائم»، وهو عبارة عن اقتراح بإنشاء «تايموس» عالمي يكون قوة رادعة لكل من يخرق القوانين العالمية التي تشرف عليها مؤسسة مسكونية، مسؤولة عن توطيد السلم بين الأمم، بل أيضاً تشرف على القوانين الداخلية، إن كان فيها ما يحط من كرامة الإنسان. وقد أخذت الدول بهذه الوصفة، ولكن يبدو أنها لم تتبع تعاليم الواصف، فظهرت عصبة الأمم، وفشلت، ثم ظهرت هيئة الأمم فكان فشلها أكبر. من دون «تايموس» لتمنيع الوطن والوجود البشري، بحسب وصفة كانط، من العبث الحديث عن السلم. لا شك أن هذا المشروع لن يعجب مالتوس، فالحرب في نظره ليست عدواناً، بل ضرورة، لأن تكاثر السكان أخطر من كل الحروب. *كاتب وناقد من سوريا * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.


الديار
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الديار
مُفاوضات ينبغي ألّا تفشل
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب الحديث لم يعد عن "التوازن العسكري" بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح. الآن التوازن التكنولوجي، وحتى التوازن ما بعد التكنولوجي. من هنا أي حرب ضد "اسرائيل"، أي أي حرب ضد أميركا، هي حرب عبثية، وتأتي بنتائج أبوكاليبتية. شهدنا صورة مصغرة عن ذلك في لبنان، وان كان "الاسرائيليون" قد اعترفوا بالأداء الأسطوري للمقاتلين على الأرض في ظروف مستحيلة، أكثر من أن تكون مستحيلة... الهوة التكنولوجية هائلة. الأوروبيون أنفسهم يتحدثون عن هذه الهوة بين ضفتي الأطلسي. يعترفون الآن أنهم سيكونون عراة أمام الدببة القطبية "اذا سقط المعطف عن الكتف"، حتى ولو دعا الرئيس ايمانويل ماكرون، بنبرة بونابرتية، الى انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف الأطلسي، الذي لا يعني شيئاً من دون أميركا. هكذا لا تستطيع القارة العجوز الا البقاء في الحرملك الأميركي. صحيح لم تعد هناك بريجيت باردو، ولا اليزابت تايلور، ولا مونيكا بيللوتشي. هذا لم يمنع "النيوزويك" من وصفها بـ"القارة الفاتنة". من يزور باريس كمن يزور بلاط لويس الرابع عشر. ليست فقط الابنة الكبرى للكنيسة، الابنة الكبرى للتاريخ. من يزور واشنطن يشعر كما لو أن المدينة في صراع مع التاريخ. دين أتشيسون وصف "لحظة هيروشيما" باللحظة التي بدأت معها حقبة ما بعد التاريخ. في وادي السيليكون يتحدثون عن حقبة ما بعد الزمن. الايرانيون يدركون ذلك. ليسوا مثل العرب الذين ما زالوا داخل ذلك الغبار، الذي أحدثته حرب داحس والغبراء. في ساعة الخطر كلهم، الموالون والمعارضون، ايرانيون. ولقد كان واضحاً أن ثمة نتائج مضيئة للحصار الذي فرض عليهم ولعقود. تشغيل الأدمغة والامكانات الداخلية بأقصى طاقتها، ما نتج منه الدخول، ولو برؤوس الأصابع، الى الزمن التكنولوجي. 80 % من المنظومات الدفاعية الايرانية صناعة محلية. لكننا نقترب أكثر فاكثر من الزمن ما بعد التكنولوجي، وهذا يقتضي التعاون مع البلدان المتطورة، والافلات من السلاسل الحالية، بالتوصل الى اتفاق مع الولايات المتحدة، الأمر الذي بات ممكناً جداً، بانعكاساته المثيرة على المعادلات الاقليمية، وحتى على المعادلات الدولية. يفترض أن نتوقف هنا عند بعض المقالات لمعلقين اميركيين مقربين من "اللوبي اليهودي"، والتي تكشف عن النيات الحقيقية لنتنياهو. الهدف ليس فقط تفكيك البرنامج النووي الايراني، وانما تفكيك النظام الايديولوجي في ايران، وتشتيت العلماء النوويين، أو تصفيتهم بطريقة أو بأخرى، كون هؤلاء أكثر خطورة على مستبقل الدولة العبرية، من أي كميات من اليورانيوم المنضّد أو من أجهزة النبذ المركزي. مثلما تؤدي الهوة التكنولوجية الى الهوة الاستراتيجية، تؤدي ايضاً الى الهوة الديبلوماسية. في الحالة الراهنة، يبدو التوازن المثير بين "الغرفة الأميركية" و "الغرفة الايرانية"، أي بين صانعي السجاد وصانعي البوينغ، حتى وان كان واضحاً أن الايديولوجيا مهما كانت راسخة في الصدور، لا يمكن أن تكون بتأثير التكنواوجيا الراسخة في الرؤوس. من هنا رأي الكثيرين في ايران من أن البلاد بحاجة الى ما بين 10 و20 عاماً لتثبيت أقدامها في القرن. لا نتصور، بالرغم من استراتيجية التهويل التي ينتهجها نتنياهو، أن بامكانه شن حرب بمفرده ضد ايران، أو أن يستدرج أميركا الى الحرب. هذه مسألة بالغة الحساسية وبالغة الخطورة، بالنسبة الى البنية الفلسفية للاستراتيجية الأميركية. ايهود باراك، رئيس الوزراء السابق، يحذر من أي خطوة يمكن تفسسيرها كعصيان "اسرائيلي" ضد الولايات المتحدة، بعدما بات معروفاً مدى التداخل العضوي بين الجانبين. بالطبع هناك نقاط ضعف كثيرة في الوجود الأميركي في الشرق الأوسط (الجنرال أنتوني زيني سبق وقال مثلما "اسرائيل" هي نقطة قوة أميركية هي نقطة ضعف). أيضاً هناك أخطاء كثيرة، على رأسها محاولات وقف الزمن في منطقة قال هيرودوت من 2500 عام، انها تقع على خط الزلازل. آرنولد توينبي، فيلسوف التاريخ البريطاني، رأى أنها "ترعرعت على أكتاف الآلهة". أي قوة في هذه الحال يمكن لها احتواؤها؟ هذا بعدما كان المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي قد قال بوجود نوع من البعد الالهي في لعبة الزمن في الشرق الشرق الأوسط. ولكن ألا يلاحظ الكثيرون أن الولايات المتحدة نسخة بشرية عن القضاء والقدر؟ قبل أن يغوص المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في دهاليز الفلسفة، من خلال "الرقص العبثي داخل اللغة"، كان يرى في أميركا صورة عن الكوميديا الالهية لدانتي "هنا الجحيم الأميركي يتسع لنا جميعاً". انتظارنا على صفيح ساخن لنتائج المفاوضات الأميركية ـ الايرانية. تفاؤل لافت في وسائل الاعلام الأميركية، والى حد التساؤل عن طبيعة "ذلك الزلزال في الشرق الأوسط". كلام أيضاً على "المعجزة الديبلوماسية". هذه مفاوضات ينبغي ألاّ تفشل. صحيح أن الأخطبوط "اليهودي" يلعب داخل الرؤوس الكبيرة. لكن دونالد ترامب يقول أنا الرأس الوحيد في قمة الهرم. اذا ارتفع الدخان الأبيض من مسقط، عليكم أن تعرفوا أن بدر البوسيعيدي هو "كيسنجر العرب"، وأن تتذكروا أنه سليل سلطنة زنجبار. ما أدراكم ما تعنيه سلطنة زنجبار!!


الاتحاد
٣١-٠٣-٢٠٢٥
- ترفيه
- الاتحاد
ديوان العرب
ديوان العرب أسعدني كثيراً احتفاء مركز أبوظبي للغة العربية بـ «يوم الشعر العالمي»، فانتهزت هذه الفرصة للكتابة عن الشعر وأهميته في حياة العرب منذ القدم، وهذا أمر يتناسب مع أجواء العيد، فلعلنا نروّح قليلاً عن نفوسنا. ويأتي هذا الاحتفال ليؤكد مواصلة أبوظبي دورها عاصمةً للريادة ليس فقط لكونها تتطلع نحو المستقبل، وتحرص على امتلاك أدواته وتقنياته الحديثة، وإنما لأنها تعمل على ترسيخ الهوية والاعتزاز بالتراث بما يحمله من قيم أصيلة انطلاقاً من الشعار الملهم الذي قاله حكيمنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه: (من ليس له ماضٍ لا مستقبل له). والشعر ليس مجرد فن أدبي، وإنما هو سجل تاريخي واجتماعي حفظ تراث العرب قبل ظهور الكتابة والتدوين المنظم. فقد كان وسيلة أساسية لتوثيق لغتهم وأمجادهم، وحروبهم، وقيمهم، وعاداتهم، وحتى أنسابهم، ولهذا لم يكن غريباً أن يوصف بأنه «ديوان العرب»، لكونه أرشيفاً حيّاً يعكس حياة العرب في مختلف العصور. من خلاله، يمكن فهم طبيعة الحياة والناس، بما في ذلك الصفات التي كانت تُمدح مثل الكرم والشجاعة، والصفات التي كانت تُذم مثل الجبن والبخل. كما نقل لنا الشعر بدقة تفاصيل ما يجري من أحداث كبرى، وحمل في أبياته خلاصة التجارب الإنسانية، كما عبّر عن المعتقدات والأخلاق، وكان مصدر إلهام وحكمة. ولهذا ولغيره من الأسباب، بات للشعر مكانة خاصة لدى أبناء لغة الضاد، وهو الذي لا يزال يتمتع بسحره وقدرته على التأثير في النفوس وإلهاب المشاعر. ومن ثم لم يكن غريباً أن يصفه المؤرخون بأنه «ديوان العرب». وعبر مختلف العصور، كانت للشعر حمولاته العاطفية، الثقافية، التاريخية، والاجتماعية التي من خلالها يظل الشعر قوة مؤثرة تشكّل الوجدان، وتنقل التراث من جيل إلى آخر، وتؤرخ للأحداث الكبرى التي صنعت تاريخنا كعرب. ومن أبرز الأمثلة على ذلك حرب داحس والغبراء التي كان زهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد أبرع من تناولها برأيي، وكذلك حرب البسوس التي أرّخ لها الزير سالم والمهلهل بن ربيعة وعمرو بن كلثوم الذي قال: إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ * تخرّ له الجبابرُ ساجدينا أما في مجال الغزل، فقد برع العرب في تصوير معاناتهم مع الحب والمحبوب، فكانت قصائدهم لوحات شعرية رائعة. ومن أروع ما قاله امرؤ القيس في الحب: رجل وما استسلمْتُ قَبلُ لفارسٍ * مالي أمام عيونها مستسلِمُ أأعودُ منتصِراً بكل معاركي * وأمام عَيْنيها البريئة أُهْزَمُ أنا شاعرٌ ما أسعفتْه حروفه * الحبُّ من لغة المشاعر أعظمُ كما عبر قيس بن الملوح، مجنون ليلى، عن عذابه قائلاً: مَتى يَشتَفي مِنكَ الفُؤادُ المُعَذَّبُ * وَسَهمُ المَنايا مِن وِصالِكِ أَقرَبُ فَبُعدٌ وَوَجدٌ وَاِشتِياقٌ وَرَجفَةٌ* فَلا أَنتِ تُدنيني وَلا أَنا أَقرَبُ ومن الشعر الحديث، نجد شاعر الإمارات الكبير مانع سعيد العتيبة يقول: أتظنُّ أنك في هواك مخيَّرُ * وإذا أردتَ تغيُّراً تتغيرُ؟ كلا ففي طبع الهوى يا سائلي* حُبُّ الحبيبِ على المحبِّ مقدر وأختم بأبيات لي، قلتُ فيها: الحب مثل الغيم يجعل صحاري * قلوب البشر غيثه بساتين خضرا يا كم صقور أمست ضحايا الحباري * فيه وسبت كم فارس عيون عذرا وطالما كان دور الشعر كبيراً، فمن الطبيعي أن يحظى الشعراء بمكانة عالية في المجتمع، وهم الذين كانوا وما يزالون يقدمون أجمل إبداعاتهم في قوالب شكلية مختلفة، وبروح عالية تحملنا كقراء إلى عوالم بعيدة تتجاوز حدود المكان الذي نعيش فيه، والزمان الذي ننتمي إليه.