#أحدث الأخبار مع #دارعناوينبوكس،المصري اليوم٠٢-٠٤-٢٠٢٥ترفيهالمصري اليومالروائى اليمنى الغربى عمران يكتب: «رسائل مشفرة» تنتصر للعقل وقيم الجمال الإنسانىأسعد بقراءة جديدة للروائى والأديب المصرى أحمد عبده، وذلك لما تمنحنى أعماله السردية من متعة وتشويق، فقد درج عبده على تجديد أدواته من عمل إلى آخر، إضافة إلى جدة مضامينه، إذ إنه يعالج قضاياه من زوايا مختلفة، فيهدينا جرعة من التساؤلات، الدافعة للبحث عن إجابات لها. ومؤخرًا أهدانى آخر إصداراته «رسائل مشفرة» مجموعة ضمت ١٢ قصة فى ١٤٠ صفحة، صادرة عن دار عناوين بوكس، القاهرة، ٢٠٢٤. أحمد عبده - صورة أرشيفية غلاف صورة لغراب يتقدم مشهدًا قاتمًا، بلون الأسود وشىء من لمعة الأزرق، وخلفه قمر مدور بلون كريمى فاتح، ما جعل الغراب بارزًا؛ وما لذلك الطير الجميل من دلالات ورمزية للشؤم فى الوعى الشعبى، كما أن ذلك الكائن قد غلف صورته السواد، ثم خلفية للوحة بلون كرتونى، ليثير كل ذلك شيئًا من الإبهام المحبب. أما عن العناوين القصصية فأبدأ بداية بالعنوان الرئيسى «رسائل مشفرة» هذا العنوان لم يستعره الكاتب من أحد عناوين قصصه، وقد وفق فى اختياره ليكون جامعًا لكل قصص المجموعة، إذ إن القارئ سيدرك أثناء قراءته، بأن كل نص يمثل رسالة مشفرة، ولمعرفتى بسعة ثقافة الأستاذ أحمد، فإنه يوظف معرفته، بداية بتحميل نصوصه بقضايا مختلفة تهم المجتمع المصرى، سواء فى أعماله القصصية أو الروائية، أو غيرها، فتلك الرؤى الإنسانية التى تؤثث قصص مجموعته، وتشير إلى انتصاره للعقل، أمام الغيبيات التى عادة ما يستخدمها رجال الدين السياسى لتجهيل وتجنيد أفراد المجتمع، وخاصة الشباب. فالروائى أحمد عبده تجاوز تأثيرات العرقية والمفاهيم المغلوطة للدين، داعيًا قارئه إلى مشاركته ما تحمله أعماله من رسائل مشفرة ضمنها تلك القصص، وما العنوان إلى باب يصلنا بعوالم متضادة ومتصارعة، ليست بغرض إصلاح المجتمع أو الرقى به، بل للسيطرة على قدراته الروحية والمادية. كثيرًا ما يشدنى غلاف أى عمل إبداعى، فإذا ما زرنا مكتبة، نبدأ باستعراض تلك الأعمال على الرفوف المختلفة، وخاصة العناوين، كونها فخًا لقارئ محتمل. وإذا ما انتقلنا إلى العناوين الداخلية، مثل: أقراص مدمجة، رؤيا الكاهن، رؤوس الشياطين، مزرعة الشيخ، محكمة تفتيش، جرعة من الداتورة، فلسفة البنطلون المقطع، متحف آثار، الله والمرأة، ثم ثلاثة عناوين تشترك فى ثلاث مفردات، وهى: «معالجة جانبية للفتنة»، وأضيف له «من اليمين» والثانى نفس العنوان وأضيف له «من الشمال» والأخير أضيف له «من الداخل». تلك العناوين تبدو فى ظاهرها مباشرة، وطويلة، إذ إنها أتت بأكثر من مفردة، حيث يصل بعضها إلى خمس مفردات، ولم يأتِ حتى ولا عنوان بمفردة واحدة، غير أن بعضها قد حمل بعض الإبهام والغموض، مثل: الله والمرأة، أقراص مدمجة، إلا أن جميعها عبرت عن مضامين قصص المجموعة. وكما عودنا الكاتب فى أعماله السابقة، المزج بين الهم الاجتماعى والسياسى، نجده فى قصصه هذه يسلط الضوء على صراعات المجتمع، سواء على مستوى الأسرة، أو بين المجتمع والسلطة، أو صراع الفرد مع ذاته فى عصر معقد ومتشابك «هل باطنك سيغادر أفكارك وهواجسك، وأنت بين فكيهم؟ أنت تملك ذلك، كما تملك تحريك أصابعك، واحتمال آخر، ربما تنتصر فيه أفكارك وهواجسك معك، كما تتصرف حركة الجفنين، هل تملك ثباتهما، على أى وضع، لبعض الدقائق دون أن تتململ؟ أو حتى لبعض الثوانى!». يتناولها الكاتب وإن برمزية لافتة، ويترك كل قارئ فهم واستيعاب المضامين حسب وعيه ومستوى ثقافته، مركزًا على بث القيم الإنسانية والفكر التنويرى، من خلال تعرية طواغيت الدين السياسى، الذين يعتمدون فى بث سمومهم، على تدنى التعليم، خاصة بين سكان هوامش المدن، والمجتمعات الريفية «جرأة غير معتادة من الرجل المجادل، وبلبلة متشابكة حدثت فى عقول الناس من كلام الخطيب، وخوفهم من ضياع صلاتهم، وفرحهم بالكلام عن ذلك الذى يتنزه عند منابع النيل فى الجنة، ويضاجع الحوريات، والأمل الذى يساور كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الرجل...» وهكذا دومًا ما يدغدغون غرائز الإنسان، وما ينتظره من حور وأنهر خمر. عند قراءة قصص «رسائل مشفرة» تحضرنى ما تعيشه بعض مجتمعاتنا العربية، وما صنع بهم الفكر الدينى الذى يتبناه دعاة دأبوا على استغلال الجهل المتفشى وفساد الأنظمة والأوضاع المعيشية المتردية، فى: لبنان، العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، ودول أخرى... تلك الجماعات التى سيطرت من خلال عناصرها على عقول شرائح بأكملها، مجندة لهم متسلطة من خلالهم، معتمدة على الدعم الخارجى، الذى له مصالحه فى تمزيق مجمعاتنا. قصص تثير التساؤلات، دافعة بالقارئ إلى التفكير حول احتمالات لأجوبة عدة، وتلك قمة المتعة والمشاركة، وأكبر سؤال لماذا نحن فى أدنى سلم التحضر، وإلى متى نظل؟! سلط الكاتب فى العديد من قصصه الضوء على ذلك الصراع الأزلى بين العلم والدين، وخاصة الثلاث القصص الأخيرة من المجموعة «معالجة جانبية للفتنة... من اليمين» والقصتين الأخيرتين حيث استدعى قصة يوسف والزُليخا من القرآن الكريم، ليعالجها من عدة زوايا، مازجًا بين شخصيات من الحياة المعاصرة وشخصيات سورة يوسف، وقد غاص إلى أعماق شخصياته، ذكورًا وإناثًا، ليظهر لنا أن الفتنة مسألة نسبية، وأن الرجل أكثر من المرأة حسية. تنوع السارد من قصة إلى أخرى، بل إنه تنوع بداخل القصة الواحدة فى بعضها، ما أعطى مرونة وشغف متابعة القراءة، فمثلًا سارد قصة أقراص مدمجة، سردها الكاتب بضمير متكلم، وكذلك رؤيا الكاهن، غير أنه اختار السارد العليم فى قصة رؤوس الشياطين، وكذلك قصة مزرعة الشيح. ليعود لضمير المتكلم فى قصة محكمة تفتيش، وغيرها؛ وهكذا نجده يغير من قصة إلى أخرى من خلال الحوارات وتداخل الأحداث، لتتبادل شخصيات القصص حكى تجاربها فيما بينها، وبذلك شكلت ضمائر متداخلة فى سرد جزيئات من تلك القصص، مصورة للصراع القائم بين الأفكار والرغبات فى كثير من قصص المجموعة. ومن ناحية أخرى نجد تماهى الحدث، لصالح سيطرة الوصف، باستعارة إحدى خصائص المسرح تارة، ألا وهى المشهدية «حيث يمر عليهما الشرطى فى القطار، يطلب هوية كل منهما، لحظة تبليم وتسهيم تقع عليهما معًا، تلفت ناظرى الشرطى للبقع المقطعة على فخذ الفتاة، فيتفحص جيدًا، ويدقق فى أوسعها مساحة، يتمتم بشفتيه كأنه يقرأ أو يتهجى قراءة شىء فى فخذها، أو يعد مسام جلدها، ثم ينظر للبقع المقطعة على فخذ الشاب، يتفحص جيدًا ويدقق فى أوسعها مساحة، يتمتم بشفتيه كأنه يقرأ...» وأخرى ما يشبه اللقطات السينمائية، ليجد القارئ نفسه كإحدى الشخصيات المشاركة، يسمع ويرى ويستنبط الدلالات ويستشف ما توحى إليه تلك العبارات، وأساليب الترميز. كما نقف على استدعاء شخصيات أسطورية، وحكايات من الموروث، لمعالجة قضايا إنسانية معاصرة، مستخدمًا الخيال فى إيجاد اللامعقول «ثم يواصل الملاك قائلًا للرجل: تغمض عينيك ثم تضع يدك على كتف إحداهن، فتكون هى من اخترتها، ومن اخترتها فكأنك اخترتهن جميعًا، لا غيره ولا غضب. فأغمض الرجل عينيه يا أحباب الله، ووضع يده على ملمس الحرير، راح يمازحها ويلاطفها ويقدم لنفسه معها، ثم انخرط فى مضاجعتها...» الكاتب يمزج هنا بين الغيبيات فى تخييل فانتازى، وما يستخدمه فقهاء التضليل، وهكذا نجده يمزج بين المعقول واللامعقول لإيصال الفكرة، فى قصص المجموعة، كما فى العديد من أعماله السردية حين يأتى بشخصيات لها قدرات خارقة وأشكال غرائبية. تلك الجمل الأولى التى تشد القارئ فى بعض القصص مثل: «ليل القرية كطرحة أمى يوم جنازتى ...» من قصة «أقراص مدمجة» ومن قصة رؤوس الشياطين «مخابئ ودهاليز تحت الأرض، لكنها بالنسبة لهن كغرف فى فندق كريستال أربيل! من عاش فى الظلام يحتضن الشمعة، ومن عاش فى العراء يستظل بظله ...» ومن قصة بعنوان محكمة تفتيش «خيرت بين الحياة والموت، فاخترت نفسك، أن تظل تمارس ذاتك وقناعاتك، فلويت عنقها إلى أن يدخل السيف فى غمده ...» تلك الجمل التى تغرى القارئ بغموضها وتجعله يواصل الاكتشاف جملة بعد أخرى حتى النهاية، ضمن خليط من المعقول واللامعقول، فى الوقت الذى لا تبوح بمضمون القصة، بل تدعو القارئ إلى التحلى بالصبر، وإعمال العقل ليصنع لنفسه معنى ومدلولًا، باحثًا عن أجوبة تقنعه، وعن تفاسير لأسلوب الترميز، ونبضات الإيحاء التى أمعن الكاتب فى اتباعها كلعبة بينه وبين قارئه. ينسج الكاتب النهايات على غير ما يتوقعه القارئ لمعظم قصص المجموعة ونقتطع هنا من الجمل الخاتمة للتدليل «وفجأة! يقف على عتبة الباب ضخم الرأس ضخم الجسد... قرد! راح يبحلق فيهن، يدور بنظراته عليهن بطريقة نصف دائرة كأنه يبحث عمن شتمته أو ضربته بالأمس!.. وهن يكتمن وجعهن وغيظهن ...». تلك الجمل من قصة بعنوان «معالجة جانبية للفتنة...من الشمال». ومن نهاية قصة أخرى بعنوان محكمة تفتيش «أما ما جاء به مترجم حركات الشفتين فى الصلاة، ناقل منمنمات الخاطر، وهو ما لا يمكن غفرانه لك، فهو ألف باء الصلاة، من أنك- وعلى طول الركعات الأربع- كنت تقول فى مكان الفاتحة كلامًا مما يقال فى معابد الهنود، وتقول فى الركوع كلامًا مما يقال فى كنيس اليهود، وفى السجود كلامًا بما يردد فى كنائس النصارى!» وهكذا يلبس الأستاذ أحمد كل فكرة ثوبها المناسب والمشوق، بدءًا من أول جملة وحتى الجملة الخاتمة. ضمت المجموعة قصصًا كتبت بين أعوام ٢٠٢١ و٢٠٢٢ و٢٠٢٣، وهى قصص تجددت فيها أساليب الأديب أحمد عبده، حيث تمكن من الاحتفاظ بكل فكرة حتى اكتمال صياغتها ورضاه عنها؛ ليخرج لنا ١٢ قصة بمعدل ٤ قصص... متأنيًا فى إخراج تحفه الفنية المتميزة.
المصري اليوم٠٢-٠٤-٢٠٢٥ترفيهالمصري اليومالروائى اليمنى الغربى عمران يكتب: «رسائل مشفرة» تنتصر للعقل وقيم الجمال الإنسانىأسعد بقراءة جديدة للروائى والأديب المصرى أحمد عبده، وذلك لما تمنحنى أعماله السردية من متعة وتشويق، فقد درج عبده على تجديد أدواته من عمل إلى آخر، إضافة إلى جدة مضامينه، إذ إنه يعالج قضاياه من زوايا مختلفة، فيهدينا جرعة من التساؤلات، الدافعة للبحث عن إجابات لها. ومؤخرًا أهدانى آخر إصداراته «رسائل مشفرة» مجموعة ضمت ١٢ قصة فى ١٤٠ صفحة، صادرة عن دار عناوين بوكس، القاهرة، ٢٠٢٤. أحمد عبده - صورة أرشيفية غلاف صورة لغراب يتقدم مشهدًا قاتمًا، بلون الأسود وشىء من لمعة الأزرق، وخلفه قمر مدور بلون كريمى فاتح، ما جعل الغراب بارزًا؛ وما لذلك الطير الجميل من دلالات ورمزية للشؤم فى الوعى الشعبى، كما أن ذلك الكائن قد غلف صورته السواد، ثم خلفية للوحة بلون كرتونى، ليثير كل ذلك شيئًا من الإبهام المحبب. أما عن العناوين القصصية فأبدأ بداية بالعنوان الرئيسى «رسائل مشفرة» هذا العنوان لم يستعره الكاتب من أحد عناوين قصصه، وقد وفق فى اختياره ليكون جامعًا لكل قصص المجموعة، إذ إن القارئ سيدرك أثناء قراءته، بأن كل نص يمثل رسالة مشفرة، ولمعرفتى بسعة ثقافة الأستاذ أحمد، فإنه يوظف معرفته، بداية بتحميل نصوصه بقضايا مختلفة تهم المجتمع المصرى، سواء فى أعماله القصصية أو الروائية، أو غيرها، فتلك الرؤى الإنسانية التى تؤثث قصص مجموعته، وتشير إلى انتصاره للعقل، أمام الغيبيات التى عادة ما يستخدمها رجال الدين السياسى لتجهيل وتجنيد أفراد المجتمع، وخاصة الشباب. فالروائى أحمد عبده تجاوز تأثيرات العرقية والمفاهيم المغلوطة للدين، داعيًا قارئه إلى مشاركته ما تحمله أعماله من رسائل مشفرة ضمنها تلك القصص، وما العنوان إلى باب يصلنا بعوالم متضادة ومتصارعة، ليست بغرض إصلاح المجتمع أو الرقى به، بل للسيطرة على قدراته الروحية والمادية. كثيرًا ما يشدنى غلاف أى عمل إبداعى، فإذا ما زرنا مكتبة، نبدأ باستعراض تلك الأعمال على الرفوف المختلفة، وخاصة العناوين، كونها فخًا لقارئ محتمل. وإذا ما انتقلنا إلى العناوين الداخلية، مثل: أقراص مدمجة، رؤيا الكاهن، رؤوس الشياطين، مزرعة الشيخ، محكمة تفتيش، جرعة من الداتورة، فلسفة البنطلون المقطع، متحف آثار، الله والمرأة، ثم ثلاثة عناوين تشترك فى ثلاث مفردات، وهى: «معالجة جانبية للفتنة»، وأضيف له «من اليمين» والثانى نفس العنوان وأضيف له «من الشمال» والأخير أضيف له «من الداخل». تلك العناوين تبدو فى ظاهرها مباشرة، وطويلة، إذ إنها أتت بأكثر من مفردة، حيث يصل بعضها إلى خمس مفردات، ولم يأتِ حتى ولا عنوان بمفردة واحدة، غير أن بعضها قد حمل بعض الإبهام والغموض، مثل: الله والمرأة، أقراص مدمجة، إلا أن جميعها عبرت عن مضامين قصص المجموعة. وكما عودنا الكاتب فى أعماله السابقة، المزج بين الهم الاجتماعى والسياسى، نجده فى قصصه هذه يسلط الضوء على صراعات المجتمع، سواء على مستوى الأسرة، أو بين المجتمع والسلطة، أو صراع الفرد مع ذاته فى عصر معقد ومتشابك «هل باطنك سيغادر أفكارك وهواجسك، وأنت بين فكيهم؟ أنت تملك ذلك، كما تملك تحريك أصابعك، واحتمال آخر، ربما تنتصر فيه أفكارك وهواجسك معك، كما تتصرف حركة الجفنين، هل تملك ثباتهما، على أى وضع، لبعض الدقائق دون أن تتململ؟ أو حتى لبعض الثوانى!». يتناولها الكاتب وإن برمزية لافتة، ويترك كل قارئ فهم واستيعاب المضامين حسب وعيه ومستوى ثقافته، مركزًا على بث القيم الإنسانية والفكر التنويرى، من خلال تعرية طواغيت الدين السياسى، الذين يعتمدون فى بث سمومهم، على تدنى التعليم، خاصة بين سكان هوامش المدن، والمجتمعات الريفية «جرأة غير معتادة من الرجل المجادل، وبلبلة متشابكة حدثت فى عقول الناس من كلام الخطيب، وخوفهم من ضياع صلاتهم، وفرحهم بالكلام عن ذلك الذى يتنزه عند منابع النيل فى الجنة، ويضاجع الحوريات، والأمل الذى يساور كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الرجل...» وهكذا دومًا ما يدغدغون غرائز الإنسان، وما ينتظره من حور وأنهر خمر. عند قراءة قصص «رسائل مشفرة» تحضرنى ما تعيشه بعض مجتمعاتنا العربية، وما صنع بهم الفكر الدينى الذى يتبناه دعاة دأبوا على استغلال الجهل المتفشى وفساد الأنظمة والأوضاع المعيشية المتردية، فى: لبنان، العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، ودول أخرى... تلك الجماعات التى سيطرت من خلال عناصرها على عقول شرائح بأكملها، مجندة لهم متسلطة من خلالهم، معتمدة على الدعم الخارجى، الذى له مصالحه فى تمزيق مجمعاتنا. قصص تثير التساؤلات، دافعة بالقارئ إلى التفكير حول احتمالات لأجوبة عدة، وتلك قمة المتعة والمشاركة، وأكبر سؤال لماذا نحن فى أدنى سلم التحضر، وإلى متى نظل؟! سلط الكاتب فى العديد من قصصه الضوء على ذلك الصراع الأزلى بين العلم والدين، وخاصة الثلاث القصص الأخيرة من المجموعة «معالجة جانبية للفتنة... من اليمين» والقصتين الأخيرتين حيث استدعى قصة يوسف والزُليخا من القرآن الكريم، ليعالجها من عدة زوايا، مازجًا بين شخصيات من الحياة المعاصرة وشخصيات سورة يوسف، وقد غاص إلى أعماق شخصياته، ذكورًا وإناثًا، ليظهر لنا أن الفتنة مسألة نسبية، وأن الرجل أكثر من المرأة حسية. تنوع السارد من قصة إلى أخرى، بل إنه تنوع بداخل القصة الواحدة فى بعضها، ما أعطى مرونة وشغف متابعة القراءة، فمثلًا سارد قصة أقراص مدمجة، سردها الكاتب بضمير متكلم، وكذلك رؤيا الكاهن، غير أنه اختار السارد العليم فى قصة رؤوس الشياطين، وكذلك قصة مزرعة الشيح. ليعود لضمير المتكلم فى قصة محكمة تفتيش، وغيرها؛ وهكذا نجده يغير من قصة إلى أخرى من خلال الحوارات وتداخل الأحداث، لتتبادل شخصيات القصص حكى تجاربها فيما بينها، وبذلك شكلت ضمائر متداخلة فى سرد جزيئات من تلك القصص، مصورة للصراع القائم بين الأفكار والرغبات فى كثير من قصص المجموعة. ومن ناحية أخرى نجد تماهى الحدث، لصالح سيطرة الوصف، باستعارة إحدى خصائص المسرح تارة، ألا وهى المشهدية «حيث يمر عليهما الشرطى فى القطار، يطلب هوية كل منهما، لحظة تبليم وتسهيم تقع عليهما معًا، تلفت ناظرى الشرطى للبقع المقطعة على فخذ الفتاة، فيتفحص جيدًا، ويدقق فى أوسعها مساحة، يتمتم بشفتيه كأنه يقرأ أو يتهجى قراءة شىء فى فخذها، أو يعد مسام جلدها، ثم ينظر للبقع المقطعة على فخذ الشاب، يتفحص جيدًا ويدقق فى أوسعها مساحة، يتمتم بشفتيه كأنه يقرأ...» وأخرى ما يشبه اللقطات السينمائية، ليجد القارئ نفسه كإحدى الشخصيات المشاركة، يسمع ويرى ويستنبط الدلالات ويستشف ما توحى إليه تلك العبارات، وأساليب الترميز. كما نقف على استدعاء شخصيات أسطورية، وحكايات من الموروث، لمعالجة قضايا إنسانية معاصرة، مستخدمًا الخيال فى إيجاد اللامعقول «ثم يواصل الملاك قائلًا للرجل: تغمض عينيك ثم تضع يدك على كتف إحداهن، فتكون هى من اخترتها، ومن اخترتها فكأنك اخترتهن جميعًا، لا غيره ولا غضب. فأغمض الرجل عينيه يا أحباب الله، ووضع يده على ملمس الحرير، راح يمازحها ويلاطفها ويقدم لنفسه معها، ثم انخرط فى مضاجعتها...» الكاتب يمزج هنا بين الغيبيات فى تخييل فانتازى، وما يستخدمه فقهاء التضليل، وهكذا نجده يمزج بين المعقول واللامعقول لإيصال الفكرة، فى قصص المجموعة، كما فى العديد من أعماله السردية حين يأتى بشخصيات لها قدرات خارقة وأشكال غرائبية. تلك الجمل الأولى التى تشد القارئ فى بعض القصص مثل: «ليل القرية كطرحة أمى يوم جنازتى ...» من قصة «أقراص مدمجة» ومن قصة رؤوس الشياطين «مخابئ ودهاليز تحت الأرض، لكنها بالنسبة لهن كغرف فى فندق كريستال أربيل! من عاش فى الظلام يحتضن الشمعة، ومن عاش فى العراء يستظل بظله ...» ومن قصة بعنوان محكمة تفتيش «خيرت بين الحياة والموت، فاخترت نفسك، أن تظل تمارس ذاتك وقناعاتك، فلويت عنقها إلى أن يدخل السيف فى غمده ...» تلك الجمل التى تغرى القارئ بغموضها وتجعله يواصل الاكتشاف جملة بعد أخرى حتى النهاية، ضمن خليط من المعقول واللامعقول، فى الوقت الذى لا تبوح بمضمون القصة، بل تدعو القارئ إلى التحلى بالصبر، وإعمال العقل ليصنع لنفسه معنى ومدلولًا، باحثًا عن أجوبة تقنعه، وعن تفاسير لأسلوب الترميز، ونبضات الإيحاء التى أمعن الكاتب فى اتباعها كلعبة بينه وبين قارئه. ينسج الكاتب النهايات على غير ما يتوقعه القارئ لمعظم قصص المجموعة ونقتطع هنا من الجمل الخاتمة للتدليل «وفجأة! يقف على عتبة الباب ضخم الرأس ضخم الجسد... قرد! راح يبحلق فيهن، يدور بنظراته عليهن بطريقة نصف دائرة كأنه يبحث عمن شتمته أو ضربته بالأمس!.. وهن يكتمن وجعهن وغيظهن ...». تلك الجمل من قصة بعنوان «معالجة جانبية للفتنة...من الشمال». ومن نهاية قصة أخرى بعنوان محكمة تفتيش «أما ما جاء به مترجم حركات الشفتين فى الصلاة، ناقل منمنمات الخاطر، وهو ما لا يمكن غفرانه لك، فهو ألف باء الصلاة، من أنك- وعلى طول الركعات الأربع- كنت تقول فى مكان الفاتحة كلامًا مما يقال فى معابد الهنود، وتقول فى الركوع كلامًا مما يقال فى كنيس اليهود، وفى السجود كلامًا بما يردد فى كنائس النصارى!» وهكذا يلبس الأستاذ أحمد كل فكرة ثوبها المناسب والمشوق، بدءًا من أول جملة وحتى الجملة الخاتمة. ضمت المجموعة قصصًا كتبت بين أعوام ٢٠٢١ و٢٠٢٢ و٢٠٢٣، وهى قصص تجددت فيها أساليب الأديب أحمد عبده، حيث تمكن من الاحتفاظ بكل فكرة حتى اكتمال صياغتها ورضاه عنها؛ ليخرج لنا ١٢ قصة بمعدل ٤ قصص... متأنيًا فى إخراج تحفه الفنية المتميزة.