أحدث الأخبار مع #دارنوبف


Independent عربية
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- أعمال
- Independent عربية
قصة العولمة في علبة حذاء
في يوم ربيعي من عام 1989 رست سفينة حاويات في ميناء نيويورك قادمة من ميناء إيمشيفن الصناعي الهولندي. كانت السفينة "بيبي ريزوليوشن" تابعة لشركة شحن عريقة في ليفربول أسسها أحد تجار العبيد قبل 200 عام، ففي حين كان للشركة المالكة تاريخ طويل كانت السفينة بلا لبس نتاج أواخر القرن الـ20. هكذا يكتب المؤرخ إيان كوميكاوا من مركز التاريخ والاقتصاد بجامعة هارفرد الأميركية في كتابه الصادر حديثاً عن دار نوبف الأميركية في قرابة 300 صفحة بعنوان "السفينة الخاوية: قصة الاقتصاد العالمي في بارجة واحدة". ولا أحسب عنواناً فرعياً يظلم كتابه مثل هذا الظلم فـ"قصة الاقتصاد العالمي" تنذر بقراءة جافة لكتاب يبدو أبعد ما يكون عن الجفاف، وكلمة "البارجة" قد تخدع القارئ فيتصور أنه بصدد القراءة عن سفينة عسكرية، في حين أن حياة الجندية ليست إلا حلقة عابرة في حياة عريضة عاشتها هذه السفينة. في مقدمته للكتاب، يصف كوميكاوا السفينة بأنها "متعددة الألسن... صنعت في السويد، لمالك بريطاني، وأدارها طاقم دولي. وفي العقد الأول لتشغيلها، سجلت في أربعة بلاد. وعندما رست في نيويورك، كانت مدرجة في البهاماس وإن لم تمس مياهها الإقليمية. فشأن سفن حاويات أخرى، لم تكن 'بيبي ريزوليوشن' كائناً ينتمي إلى بلد واحد بقدر ما كانت ابنة النظام الاقتصادي العالمي كله". "غير أن 'بيبي ريزوليوشن' سفينة حاويات غير عادية، لأنها بلا محرك، إذ قطرتها من أوروبا إلى نيويورك سفينة أخرى، ولأنها لم تحمل قط الحاويات بهدف تفريغها، بل ولم تحتو قط أي بضائع. إنما كانت دائماً سفينة إقامة، أو هي بحسب أوصاف ملاكها 'سفينة فندقية' أو 'مقابلة للساحل' أو 'عائمة'. وعلى رغم ما تستدعيه هذه التصنيفات من إيحاءات بالراحة، بل وبالرفاهية، فلا يغير هذا من حقيقة أن السفينة البالغ طولها 94 متراً والمسطحة القاع والمقامة من خمسة طوابق معدنية قابلة للتعديل والمصممة لاستضافة البشر لا البضائع والمقامة قمرتها ومطابخها وأماكن التجمع وقاعات الترفيه فيها من حاويات فولاذية، قد جيء بها إلى نيويورك لتقوم حرفياً بمهمة 'الاحتواء'، لأن إدارة الإصلاح في المدينة الأميركية استأجرت 'بيبي ريزوليوشن' لتحولها إلى سجن". حكت إدنا كوران قصة ميلاد الكتاب في تقرير بصحيفة "بلومبيرغ" نشرته في التاسع من مايو (أيار) الجاري، فقالت إن كوميكاوا "انجذب إلى الموضوع من خلال عمل زوجته المحامية الجنائية التي نبهته عام 2020 إلى وجود سجن في سفينة بمدينة نيويورك، وإلى أن تلك السفينة واجهة لسفينة أخرى كانت تحوي السجناء ذات يوم في نهر إيست، فكان هذا حافزاً للمؤرخ إلى التعمق في ماضيها. وكانت جائحة كورونا آنذاك قد أغلقت كثيراً من مسارات البحث المعهودة، فمضى كوميكاوا يعمل من خلال تطبيق 'زووم'، قبل أن يتنقل في العالم سعياً إلى ربط أجزاء قصة السفينة التي تجمعت له على مدى ثلاثة أعوام. فعلم أن رحلة السفينة عبر عقود قد شملت بحري البلطيق والشمال وجنوب الأطلسي والكاريبي ونهري أمس وإيست والقنال الإنجليزي ونهر التايمز وخليجي والفيس وغينيا في ناميبيا". وتنقل إدنا كوران عن كوميكاوا قوله "ما كدت أعثر على السفينة حتى رأيت فيها كنزاً كاملاً من القصص التي تتماس مع كثير للغاية من جوانب الاقتصاد الحديث وعالم الاقتصاد الجديد المنقول إلى خارج الدول الوطنية". تفصل كوران ذلك التماس بين التاريخ الشخصي للسفينة وتاريخ الاقتصاد العالمي بقولها إن قضية تراجع التصنيع على سبيل المثال "سيطرت على أعوام السفينة الأولى، إذ أغلقت أحواض تصنيع السفن أبوابها بتحول إنتاج السفن من البلاد الغربية إلى آسيا، فتحولت القاعة التي أقيمت فيها السفينة إلى ناد للرقص في التسعينيات، ثم أصبحت بعد ذلك سوبرماركت براقا، بينما تحول رصيف بحري قريب منها إلى جزء من مجمع سكني راق، وأصبحت ورشة المحركات القديمة قاعة للأثاث الراقي يصل سعر الأريكة فيها إلى 7 آلاف دولار". تعكس هذه التحولات كما توضح كوران تراجع التصنيع الثقيل في كثير من البلاد الغربية الثرية أمام الاقتصاد الخدمي والاستهلاكي، مما وسع الفجوة بين العمال الذين تخلفوا عن الركب وبين الذين ازدهرت أحوالهم في ظل الاقتصاد الجديد. ومثلما تلقي أعوام السفينة الأولى الضوء على قضية تراجع التصنيع، فإن كوميكاوا يستخلص دروساً أخرى من الأعوام التي قضتها السفينة في بحار أخرى حيث عملت السفينة سكناً موقتاً لعمال خط تجميع السيارات التابع لأحد مصانع "فولكس فاغن" و"فيما يخفف العالم تدريجاً اعتماده على طاقة الهيدروكربونات ويبدأ النظر إلى طاقات بديلة، فإن ذلك المصنع الذي رست السفينة قربه لتكون سكناً لعماله في أواخر ثمانينيات القرن الماضي تحول الآن إلى إنتاج السيارات الكهربائية، في حين أن حوض بناء السفن القريب منه قد أشهر إفلاسه في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي". والحق أن رصد تطورات الاقتصاد العالمي يبدو بأثر من "السفينة الخاوية" أمراً يسيراً، من خلال رصد أي شيء ملموس في حياتنا، وهذا في ما يبدو هدف أساس للكتاب توضحه جينيفر سالاي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تستهل سالاي استعراضها في صحيفة "نيويورك تايمز" المنشور في السابع من مايو الجاري بالإشارة إلى أن سفن الحاويات تصمم تصميماً عملياً سقيماً، فهي منصات معدنية عملاقة يظل انتقالها من ميناء إلى ميناء أمراً مسلماً به إلى أن تجنح على صخور كارثة ما، كأن تقع جائحة كالتي شهدناها قبل أعوام فيهتم المواطن العادي بالميناء الذي أقبلت منه سفينة معينة، أو كأن تفرض رسوم جمركية مفاجئة كالتي فرضها دونالد ترمب أخيراً فـ"تصبح المواقع الدقيقة لسفن الحاويات مسألة فاتنة للغاية، فعلى مدى الأسبوعين الماضيين ظل مستعملو مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون خرائط متجددة لحركة البضائع وكأنهم يتابعون تقدم إعصار". تكتب سالاي عن غرض كوميكاوا من كتابه إذ تنقل عنه قوله إن "المعهود هو أن يظل البعد المادي للعولمة مختفياً في الخلفية"، فالعولمة في الغالب تظهر في لغة مجردة، لكن كوميكاوا وجد سبيلاً لإظهار واقعية عمليات الاقتصاد العالمي المجردة بـ"أن ربطها بشيء ملموس" هو السفينة بيبي ريزوليوشن. يكتب كوميكاوا في مقدمته أن الغالب على لغة العولمة والتحول الاقتصادي هو التجريد، والنزوع إلى توسيع الأسواق ورفع القيود و"الأمولة" بتحويل السلع المادية إلى أدوات مالية غير ملموسة. و"من بين آثار النطاق العريض من السياسات والأجندات التي غالباً ما توصف جميعاً بالنيوليبرالية أن شهدنا في الولايات المتحدة وغرب أوروبا إخراج وظائف التصنيع التقليدية إلى الخارج مع دعم نمو القطاع المالي. وتنطوي عملية 'الأمولة' في ذاتها على التجريد، والسفينة التي يرصد هذا الكتاب قصتها تنتمي إلى هذا العالم، فهي تكتسب معناها من الخواء والحيز القابل للملء". ويقول "لقد قالت كبيرة مفتشي السجون البريطانية السابقة آن أويرز إن السفينة حاوية في المقام الأول، يتغير معناها وتتحدد وظيفتها بحسب ما أو من تحويه... وقابلية السفينة للامتلاء بأي شيء هي التي أتاحت تحول معانيها... وبهذا فإن خواءها هو سمتها المميزة". ويمضي كوميكاوا فيقول إن السفينة "أداة مالية مجردة، استعملت لضمان سندات شركات دولية، وهي أيضاً أداة قانونية مجردة فكانت موضع نزاع في قضايا تحكيم في لندن وجزر فيرجن البريطانية، وموضوع قضية مهمة في القانون التجاري الإنجليزي. وقد أقيمت في الأساس نتيجة ابتكار في قانون البحار الدولي، وكانت في أول الأمر وسيلة للتحايل على قوانين الضرائب النرويجية. وكان تسجيلها وملكيتها يعتمدان على معاهدات دولية أخرى وقوانين ضريبية وطنية. وبصفتها سجناً ومكاناً للعمال أصبحت السفينة مسرحاً لسن أنواع أخرى من القوانين. فأصبحت بذلك موقعاً للقوى المجردة التي غيرت عالمنا على مدى الأعوام الـ40 الماضية". تكتب سالاي أن كوميكاوا "يمنحنا نظرة من عين بارجة لما شهدته بطلة قصته على مدى تحولت فيه السفينة إلى شريك سلبي، وجوهري في الوقت نفسه في عالم سريع التغير". "والكتاب ـ إلى جانب كتب أخرى من قبيل 'الكوكب الخفي' لأتوسا أراكسيا أبراهاميان و'شروخ الرأسمالية' لكوين سلوبوديان ـ يقدم تفاصيل مساعي الأثرياء إلى نقل ثرواتهم إلى الخارج هرباً من قيود السيادة الوطنية". ولأن الكتاب يصر أن مفاهيم العولمة وعملياتها المجردة إنما تقوم دائماً على أصول في الواقع المادي فإن كوميكاوا "يرى كتابه دليلاً للتحولات العالمية الكبرى وتجسدها وتجذرها الدائمين في أشياء ملموسة بل وقائمة في أحيان كثيرة على عنف مادي". ولا يتجلى ارتباط السفينة بالعنف في استعمالها فقط مأوى للجيش البريطاني في المحيط الأطلسي، بل إن العنف ملاصق لها منذ بواكير وجودها. "فبناء السفن مهنة خطرة. ويصف كوميكاوا أن فينبودا السويدية العاملة في تصنيع السفن منذ أواسط القرن الـ19 كانت لا تزال تعاني حوادث بيئة العمل حينما أقامت السفينة، فكان العمال يتعرضون للأسبستوس وطلاء الرصاص، وشاع فيهم فقدان السمع، وكثيراً ما أجريت عمليات لانتزاع شظايا الصلب من عيونهم". "تسلمت شركة نرويجية السفينة لتعمل في البداية في بحر الشمال. وهناك، بدأت تجني الأرباح من العمل في حقول النفط أو نقل بقايا السفن الحربية الألمانية المستخرجة من باطن الأرض، لكن الغرض الحقيقي منها تمثل في منح مستثمريها النرويجيين وسيلة قانونية للتهرب من دفع الضرائب، فيمكن القول إن قيمة السفينة بوصفها أداة مالية مجردة فاقت قيمتها بوصفها سفينة ملموسة". "يتتبع كوميكاوا السفينة عبر مختلف أسمائها وتجسداتها. عام 1982 غزا المجلس العسكري الأرجنتيني جزر فوكلاند البريطانية فأُرسلت السفينة ـ وقد أعيد تسجيلها في المملكة المتحدة وتعميدها باسم إسبيريا الآمنة ـ إلى جنوب الأطلسي ليقيم فيها جنود بريطانيون. ولم تكن المملكة المتحدة هي التي اشترتها، وإنما شركة شحن خاصة اسمها 'بيبي لاين'. فقد أبرمت حكومة مارغريت تاتشر المحافظة 'صفقة عسيرة' بين 'العولمة والقومية' بحسب ما يقول كوميكاوا، فصارت تروج الخصخصة بإحدى يديها، وبالأخرى 'تلوح برايات الوطنية'". "وتمضي السفينة لتصبح لاعباً صامتاً في ظاهرة تنامي عدد السجناء في الولايات المتحدة بوصفها سجن (بيير 36) العائم في منهاتن. ولما حان وقت أعادت فيه شركة 'بيبي لاين' تسجيل السفينة لتحمل علم البهاماس، طرح مالك الشركة البريطاني ديريك بيبي 'إعادة التسجيل وتغيير علم السفينة' باعتباره 'ضرورة اقتصادية'، إذ كان رفع 'علم ملائم' لبلد مثل البهاماس أو ليبيريا يمنح المستثمرين الأثرياء ميزة انخفاض الضرائب وتساهل القوانين. ووصف بيبي ذلك بقوله 'إنه كان أمراً مؤسفاً، ولكن لا بد ألا نسمح لمشاعرنا بالسيطرة على أعمالنا'". يكتب كوميكاوا أن "السفينة التي يحكي هذا الكتاب حكايتها عاشت حياة عريضة، واحتوت حياة كثر أيضاً. فقد تفتقر في ذاتها إلى الجاذبية، بل هي على حد وصف أحد أوائل ملاكها 'أشبه بعلبة حذاء عملاق'. وقد لا يوحي تصنيفها الفني ـ بوصفها 'طافية مصمتة' ـ بأكثر من الضخامة والصمت. ولكن لها على رغم جمودها وسكونها الظاهرين قصة تمثل نافذة على التغيرات الدينامية العميقة التي عصفت بالاقتصاد العالمي وصاغته على مدى الأعوام الـ40 الماضية". فقد تعرضت السفينة "لتحولات اقتصادية مترابطة عميقة من قبيل نمو الاقتصاد الكربوني والعولمة و'الأمولة' والسجن الجماعي. وفي ثنايا ذلك، كانت هي نفسها مسرحاً تدور فيه رحى تلك التحولات الكاسحة. فقد أقيمت السفينة لخدمة صناعة الطاقة العالمية المتعددة الجنسيات، وعملت في جنوب الأطلسي لصرف الأنظار عن انتشار البطالة بسبب سياسات مارغريت تاتشر، ثم انتقلت على عجل إلى نيويورك للإسهام في معالجة مشكلة تضخم عدد السجناء الناجمة أصلاً عن ارتفاع البطالة وتقلص الخدمات العامة في أعوام حكم رونالد ريغان، وفي ثنايا ذلك كله كانت السفينة مملوكة ومسجلة المرة تلو المرة في ملاذات ضريبية آمنة". وعلى رغم العولمة والتحول الاقتصادي اللذين تجسد السفينة قصتهما وتوضح أكثر جوانبهما فإن السفينة نفسها "كانت ولا تزال في الجوهر شيئاً ملموساً. والطبيعي أن يبقى بعد العولمة المادي في الخلفية، غير ملحوظ نسبياً. ويستوجب الأمر كارثة ـ من قبيل انهيار مادي كالذي وقع لحاوية إيفر غرين العملاقة في قناة السويس عام 2021 أو الحصار الروسي لموانئ الغلاف الأوكرانية في البحر الأسود ـ لإلقاء ضوء على البنية الأساسية المادية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي". "وإذاً، تظل السفينة تذكرة لنا بأن كل التحولات الاقتصادية تقوم على عمليات مادية. وتظل قصتها تلقي الضوء على الآثار الشديدة الواقعية والمادية لتحولات الاقتصاد العالمي طوال أكثر من أربعة عقود. وهذه الآثار فوضوية، وأبعد ما تكون عن مراكز التسوق المتلألئة، وبنايات المكاتب الإدارية الزجاجية، والمواقع الإلكترونية الأنيقة. وعلى رغم خفائها في الغالب عن أنظار العامة، فهذه الآثار المادية أساسية للعمليات التي غيرت عالمنا وحياتنا". ولو أن لدى أحد فضولاً لمعرفة مكان "بيبي ريزوليوشن" الآن وحالها، فهي لم تعد تحمل اسمها هذا أصلاً، إنما هي الآن (جاكسون 27)، وقد تقاعدت من الخدمة بعد انهيار سعر النفط في منتصف العقد الماضي، وآخر موقع معروف لها هو قبالة ساحل نيجيريا عام 2023، حيث ظل طاقم هندي منسياً عليها طوال تسعة أشهر من دون رواتب أو رقابة أو عمل. ومع هذا، فقد لا يكون هذا هو الفصل الأخير في حياة السفينة، إذ يقول كوميكاوا إنها "بتعديل طفيف، تتحول من ثكنة إلى سجن، ومن فندق إلى سكن لعمال النفط، فلعل دوراً آخر للسفينة لم يظهر بعد". العنوان: EMPTY VESSEL: The Story of the Global Economy in One Barge تأليف: Ian Kumekawa الناشر: Knopf


الشرق السعودية
٢٧-٠٢-٢٠٢٥
- ترفيه
- الشرق السعودية
مزيج الحرية والحظ.. وصفة بيل جيتس للنجاح
يجمع كتاب مذكرات طفولة بيل جيتس (Source Code: My Beginnings) الذي نشرته دار "نوبف" في 4 فبراير، بين المنفعة ومسرّة النظر إلى المراحل الأولى من ولادة عبقرية واثقة، تتحلى بالنباهة والانضباط والتوثب والتأهب، وأجمل ما في الأمر أن البوابة التي كانت مفتوحة قيد أنملة تتيح لمحات من ذلك العالم، باتت اليوم مُشرعة. لا يقف الكتاب عند هذا، بل يتجاوزه بأسلوب سلس وفضولي يوحي للقارئ بثقة فيه، مستكشفاً بيل جيتس: الأسباب الخفية التي صاغت شخصيته الفريدة، فهو ليس فقط أول من غزا العالم من قامات التقنية، بل ربما أصبح في مرحلة لاحقة من حياته أفضلهم. نشأة في وسط محترم يميل أمثال جيتس إلى كتابة (أو تكليف الآخرين بكتابة) سير ذاتية تستعرض حياتهم بأكملها، فتجدهم يروون أفضل ما لديهم من قصص، ويُصفّون حساباتهم مع الآخرين، ولكن هذا هو الكتاب الأول من ثلاثية يُزمع نشرها، ولا يتناول سوى مرحلة واحدة من حياة جيتس، تبدأ من طفولته المبكرة حتى 1978، حين قاد رائد الأعمال بسن 23 عاماً 12 موظفاً في "مايكروسوفت" من ألبوكيركي إلى مسقط رأسه في سياتل. لكن كتب المذكرات الأميركية الأيقونية الحديثة التي تتناول مراحل الطفولة، سواء الأدبية منها، أو الأكثر مبيعاً من كتب فرانك كونروي إلى ماري كار وتارا ويستفير، غالباً ما تسلط الضوء على طفولة جامحة تحت رعاية بالغين طائشين لا يستحقون قدراً عالياً من احترام، وإن غاية تلك المذكرات سرد كيفية النجاة من طفولة كهذه والتمكن من الكتابة عنها لاحقاً.. لقد قالت الروائية فرجينيا وولف: "لا نستحضر الماضي إلا حين يكون الحاضر هادئاً كجريان نهر عميق". على النقيض من ذلك، كان الوسط الذي نشأ فيه جيتس محترماً جداً وصحياً، لدرجة أنه كان العنصر الفوضوي الوحيد فيه. تطرق كتاب (Source Code) إلى قدرٍ قليلٍ من أحداثٍ عنيفة، كان منها وفاة أحد زملاء جيتس في المدرسة في حادث تسلّق، واستفزاز جيتس لوالده؛ فسكب عليه كوب ماء إلى جانب تصرفات طائشة، مثل أن جيتس جرَّب عقار "إل إس دي" والحشيش، لكنه فضّل على ذلك مشروبات "شيرلي تيمبل" و"تانغ" غير الكحولية، ويخلو الكتاب من مغامرات عاطفية تذكر، باستثناء إشارة عابرة إلى دعوة جيتس لفتاة كان معجباً بها لحفل تخرجه، ورفضها طلبه. من حيث إنه كتاب من 300 صفحة ما يزال دون سلسلة تكمل ما يرويه، فإنه يبدو مشروعاً غريباً وممتعاً في آن معاً، فلا يرجح أن يكون كثير من القراء متلهفين لمعرفة كيف كان جيتس في سنته المدرسية الثالثة. الفضل للعائلة مع ذلك، لهذا الكتاب جاذبية خاصة. صحيح أن إدراكنا بأن النتيجة النهائية ستكون شركة عامة تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار يساهم في جذب اهتمامنا، لكن حتى هذه الميزة لا تفي هذه المذكرات حقها. يستعير الكتاب مصطلح المبرمجين: "الكود المصدري" (Source Code) كتعبيرٍ مجازي عن الأسس التي بنى عليها جيتس نجاحه، كما يبدو أنه إشارة إلى أسلوب مستمد من تفضيلات جيتس في البرمجة؛ إذ يعتمد على أكواد "فعّالة وبسيطة" كانت ضرورية في عصر الكمبيوترات محدودة القدرات في العصر الذي يتناوله الكتاب. يُظهر هذا الأسلوب الجمالي جيتس وكأنما يسرد الأحداث تسلسلاً، فيحاول تقييم نقاط قوته وضعفه وحدوده بشفافية، وتراه يتقبل أنه صاحب فكر شامل ليس متخصصاً بالضرورة في مجال محدد، يشابه ما يشيد به نيت سيلفر في كتابه الجديد، واكتشف بعدها خلال دراسته في هارفارد أن طالباً مثلَه، رغم براعته الفذَّة في الرياضيات، لا يتمتع بموهبة الإلهام اللازمة لتحقيق اكتشافات جوهرية في هذا المجال. يترك جيتس للقارئ أن يعزو مواهبه -مثل قدرته على الاكتفاء بقسط قليل جداً من النوم، وقناعته منذ الطفولة بأن لكل شيء إجابة، بالإضافة إلى تفكيره المنطقي وقدرته على التركيز لفترات طويلة- إلى والديه وأجداده، وخاصة جدته البارعة في لعب الورق، وأيضاً إلى الحظ الذي أتاح له استخدام كمبيوتر قبل معظم المراهقين في العالم. هامش من الحرية في الطفولة يصحبنا جيتس بمساعدة من روب جوث في الكتابة والبحث، في رحلة عبر أربعة من مراحل نشأته. بدأت بطفولة فوضوية اختلف فيها عن الآخرين، فكان يتعمَّق في التفكير، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماماً "طقوس الحياة اليومية والمدرسية، كالكتابة بخط اليد والفنون والرياضة"، ثم انتقل إلى مرحلة أصعب، بدأت مبكراً حين كان في التاسعة، حين تحوَّل، كما وصفه والده، إلى "راشدٍ بين ليلة وضحاها.. مولع بالجدل، قوي الحجج الفكرية، وأحياناً غير لطيف". بدأت المرحلة الثالثة في سنته المدرسية الثامنة، فقد دخل الطموح حياته، بإلهام من صديقه الراحل كينت إيفانز، وتعامل مع كمبيوتر لأول مرة، أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فكانت نسخة تجريبية من جيتس كمدير تنفيذي، يدير عملاً تجارياً وهو ما يزال طالباً في الثانوية ثم في جامعة هارفارد، ليتحول إلى منافس وزميل وقائد شرس مهووس بالحفاظ على التفوق المبكر لـ"مايكروسوفت"، الذي تحقق بفضل مصادفات. إذاً، كيف أصبح أحد أنجح رجالات عصرنا؟ يعود ذلك جزئياً لأن له والدين محبّين قدما نموذجاً يُحتذى به، ولكن من يقرأ الكتاب لا يجدهما في معظم فصوله يمارسان كثيراً من التربية المباشرة. يمكن جمع قراءة (Source Code) مع كتاب "الجيل المرتبك" (The Anxious Generation) لجوناثان هايدت، بل إن جيتس نفسه تحدث عن حسن حظه؛ لأنه نشأ في جيل أكثر جموحاً مقارنةً بالتربية المفرطة التي يمارسها الأهل اليوم، وكان والداه ناجحين منشغلين كل في مجاله، لا سيما والدته، التي كانت استثناءً لافتاً بين نساء جيلها، كما كانت طموحاتهما لمستقبله كبيرة. مع بلوغه سنته الدراسية الرابعة في مدرسة رسمية مكتظة، كان جيتس "يمضي أياماً، دون أن ينطق بكلمة، ولا يغادر غرفته إلا لتناول الطعام، أو الذهاب إلى المدرسة". سئم والداه من تجاهله وإهاناته لهما، فاستعانا بطبيب نفسي اعترف له الصبي قائلاً: "أنا في حربٍ مع أهلي". نصح الطبيب ذويه بالاستسلام؛ لأنه سينتصر في نهاية المطاف، وقد أخذا بنصيحته. في مراهقته، كان جيتس يذهب في رحلات تنزه في الجبال تمتد لأسبوع مع أصدقائه دون إشراف، بل إنه في إحدى المرات تسلل من المنزل في جنح الظلام، واستقل حافلةً ليمضي ليلته في مختبر كمبيوتر. سلسلة صدف كل هذه العوامل كان من شأنها أن تقود إلى النجاح في مجالات شتى، إلا أن نجاحه الاستثنائي في عالم البرمجيات ما كان ليتحقق لولا سلسلة مذهلة من الصدف والفرص بدأت في 1968، وهذا مكمن التشويق في الكتاب. ما يزال جيتس يتعجب من أن مدرسته الثانوية الخاصة "ليكسايد" في سياتل كان يمكنها أن تتصل بكمبيوتر في كاليفورنيا عبر مبرقة كاتبة- آلة تشبه الآلة الكاتبة، وفي جانبها قرص هاتف دوّار- بفضل فكرة عابرة خطرت لمدرّس رياضيات، و"لم يكن أحد يعرف كيف يستخدمها". كان ذلك في وقت لم تكن فيه المنازل، أو المدارس الثانوية تملك شيئاً يشبه ذلك. سرعان ما فتحت تلك الصدفة أبواب الفرص أمامه. في البداية، سمحت شركة لتأجير الوقت على الكمبيوتر كانت على شفير الإخفاق لجيتس وأصدقائه من "ليكسايد"، ومنهم بول ألين، باستخدام حاسوب مركزي لاكتشاف أخطاء البرمجيات. ثم أطلقت "ليكسايد" مشروعاً طموحاً لأتمتة جداول الصفوف كافة، ما تطلب من الطلاب والمعلمين أن يعملوا لليال لإنجازه. بعد ذلك، طرأت حاجة ماسة لمبرمجين لدى إدارة كهرباء بونفيل- الوكالة الاتحادية المسؤولة عن توزيع الكهرباء في معظم مناطق الشمال الغربي المطل على المحيط الهادئ- لإكمال مشروع حاسوبي تخطى نفقاته المخصصة وتجاوز الأمد المحدد لإتمامه، وكان يهدف لموازنة إمدادات الكهرباء مع الطلب عليها. حصل جيتس، الذي كان في سنته الأخيرة في الثانوية، على إذن بالتغيب لمدة شهرين للانتقال إلى فانكوفر بولاية واشنطن، على بُعد 280 كيلومتراً من منزله، ليعمل لدى "بونفيل" إلى جانب بول ألين، الذي حصل بدوره على إجازة من الجامعة. في 1975، بينما كان جيتس يدرس في هارفارد، وقع بول ألين على مقال عن شركة "إم آي تي إس" (MITS) في ألبوكيركي التي ابتكرت أول مجموعة حواسيب منزلية. كان الجهاز بدائياً، ونموذج العمل بسيطاً، ميزته الوحيدة الحصول على خصومات كبيرة على معالجات" إنتل". أدرك ألين وجيتس أن هذه الأجهزة عديمة الفائدة عملياً، بما أن أحداً لم يكن قد طور برامج إلكترونية لها. ومن هنا نشأت "مايكروسوفت"، الشركة التي قادت ثورة أجهزة الكمبيوتر الشخصية. انتقال نحو الأعمال الخيرية ظلّ عالم التقنية لفترة طويلة يعتبر البرمجة فكرةً ثانويةً، فقد كان الجميع قادراً عليها لكنهم لم يبادروا إلى تنفيذها. هكذا، أصبح جيتس وفريقه أول من يخصص أكواداً جعلت أجهزة الكمبيوتر، التي كانت تزداد قوة وانتشاراً، مفيدةً فعلياً. كلّ هذه تفاصيل ممتعة تستحضر المفارقات والمعضلات التي يواجهها المبتكرون، والتي ظلَّت تعيد رسم ملامح عالمنا على مدى خمسة عقود خلت. (يستشهد جيتس بمقالة من مجلة "بيزنس ويك" من عام 1976 عن شركة "إم آي تي إس"، وهي من أوائل المقالات في الصحافة العامة التي تناولت الكمبيوترات الصغيرة، وقد احتفى ذلك التقرير بشركة تكاد تنهار، وهو حال مألوف. في هذا الجزء من الكتاب، يستعيد جيتس رجل الكمبيوتر ذكرياته كصبي الكمبيوتر، وهي اللبنة الأساسية التي صنعت بيل جيتس المدير التنفيذي، والرائد في مجال البرمجيات، والمبادر الأول الذي أبقى "مايكروسوفت" في الصدارة لخمسة وعشرين عاماً، قبل أن ينقل الشعلة إلى ستيف بالمر قبل ربع قرن. في الوقت نفسه، تقدم هذه المذكرات تفسيراً لربع القرن الأخير من حياة بيل جيتس، الذي كان له أن يعيش أحد أكبر التحولات المفصلية في دور حياتي لإنسان في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وقد حدث ذلك في حالة جيمي كارتر. لكن سجل جيتس لا يخلو من عيوب. تحول جيتس من رجل أعمال سريع الانفعال، ومتهم بالاحتكار إلى متبرع خيري ملهم للعطاء، ومحارب للملاريا، وكاتب يحتفي بالكتب والأفكار، إذ أن كتابه (How to Avoid a Climate Disaster) من أبرز ما جاء في مجال محاربة تغير المناخ. أضف إلى ذلك أنه مواطن دمث رحيم. وهذا مسار يختلف تماماً عمّا يسلكه جيف بيزوس أو إيلون ماسك. تبني قيم الوالدين يقدم كتاب (Source Code) سبباً ضمنياً لكل ذلك. كانت التقنية مجرد متنفس له إبان شبابه، وليست مصدر إلهام بحد ذاتها. في معرض سياتل العالمي لعام 1962، كان ألين مفتوناً بجناح "آي بي إم"، بينما يتذكر جيتس الفطائر البلجيكية وركوب أفعوانية "وايلد ماوس". أدمن ألين الخيال العلمي، وبينما كان جيتس يقرأ هذا النوع من الأدب، كان مهتماً أيضاً بالتاريخ والنزهات الخلوية. دمج ستيف جوبز ورفاقه من متابعي (Whole Earth Catalog) ثقافة الستينيات المضادة مع قوة التقنية. أما جيتس فغاب عن مقابلته في معهد ماساتشوستس للتقنية من أجل لعب الفلبر. واختار هارفارد لما توفره من تنوع في الدورات الدراسية. كتب جيتس في طلبه للالتحاق بهارفارد أن العمل في مجال الكمبيوتر "كان فرصة رائعة للاستمتاع وكسب بعض المال وتعلم الكثير، لكنني لا أنوي الاستمرار في التركيز على هذا المجال. حالياً، أنا مهتم أكثر بالأعمال أو القانون". كان والدا جيتس وأصدقاؤهما يعملون في مجالي الأعمال والقانون، ولو جزئياً. كتب جيتس: "إذا بدا والداي مثاليين وملتزمين بالعطاء والتبرع... فهذا لأنهما كذلك حقاً. كانا يقضيان وقتاً طويلاً في التخطيط والاجتماعات والاتصالات وتنظيم الحملات، وكل ما يحتاجه المجتمع". يُعتبر كتاب (Source Code) من نواحٍ كثيرة بمثابة رسالة شكر إلى والديه لتقديمهما مثالاً للقيم التي تبناها جيتس لاحقاً، وتحية أيضاً لتلك القيم نفسها المتعلقة بالديمقراطية على نطاق ضيق، وبناء المجتمع، والفخر المجتمعي المتجذر في التاريخ والمكان. أعتقد أن كتابة الجزأين التاليين ستكون مهمة أصعب على جيتس، إذ سيضطر للدفاع عن مزيد من الأحداث التي كان جزءاً منها كما سيكون عليه حماية مزيد من المشاعر. لكن (Source Code) ينجح في طرح نفسه كمقدمة طويلة مبهجة. ربما لأنه على عكس ما يوحي به في أول وهلة، ليس بعيداً عن مذكرات الطفولة الأيقونية الأميركية الأخرى. إن أفضل فصوله هي التي تتناول مراحل مشاكسة الأطفال حين ندعهم لشأنهم. وتتدفق حيويته من تطلعنا الوطني العنيد إلى التفرد، ولا يكمن جوهره فيما نفعله، بل في الخير الذي نستطيع أن نبلغه. هذا المحتوى من "اقتصاد الشرق" مع "بلومبرغ"


الاقتصادية
٢٤-٠٢-٢٠٢٥
- ترفيه
- الاقتصادية
مزيج الحرية والحظ وصفة بيل غيتس للنجاح
يجمع كتاب مذكرات طفولة بيل غيتس (Source Code: My Beginnings) الذي نشرته دار "نوبف" في 4 فبراير، بين المنفعة ومسرّة النظر إلى المراحل الأولى من ولادة عبقرية واثقة تتحلى بالنباهة والانضباط والتوثب والتأهب. أجمل ما في الأمر أن البوابة التي كانت مفتوحة قيد أنملة تتيح لمحات من ذلك العالم، باتت اليوم مُشرعة. لا يقف الكتاب عند هذا، بل يتجاوزه بأسلوب سلس وفضولي يوحي للقارئ بثقة فيه، مستكشفاً بيل غيتس: الأسباب الخفية التي صاغت شخصيته الفريدة، فهو ليس فقط أول من غزا العالم من قامات التقنية، بل ربما أصبح في مرحلة لاحقة من حياته أفضلهم. نشأة في وسط محترم يميل أمثال غيتس إلى كتابة (أو تكليف الآخرين بكتابة) سير ذاتية تستعرض حياتهم بأكملها، فتجدهم يروون أفضل ما لديهم من قصص ويُصفون حساباتهم مع الآخرين. لكن هذا هو الكتاب الأول من ثلاثية يُزمع نشرها، ولا يتناول سوى مرحلة واحدة من حياة غيتس، تبدأ من طفولته المبكرة حتى 1978، حين قاد رائد الأعمال بسن 23 عاماً 12 موظفاً في "مايكروسوفت" من ألبوكيركي إلى مسقط رأسه في سياتل. لكن كتب المذكرات الأميركية الأيقونية الحديثة التي تتناول مراحل الطفولة، سواء الأدبية منها أو الأكثر مبيعاً من كتب فرانك كونروي إلى ماري كار وتارا ويستفير، غالباً ما تسلط الضوء على طفولة جامحة تحت رعاية بالغين طائشين لا يستحقون قدراً عالياً من احترام. إن غاية تلك المذكرات سرد كيفية النجاة من طفولة كهذه والتمكن من الكتابة عنها لاحقاً. لقد قالت الروائية فرجينيا وولف: "لا نستحضر الماضي إلا حين يكون الحاضر هادئاً كجريان نهر عميق". على النقيض من ذلك، كان الوسط الذي نشأ فيه غيتس محترماً جداً وصحياً، لدرجة أنه كان العنصر الفوضوي الوحيد فيه. تطرق كتاب (Source Code) إلى قدر قليل من أحداث عنيفة، كان منها وفاة أحد زملاء غيتس في المدرسة في حادث تسلّق، واستفزاز غيتس لوالده فسكب عليه كوب ماء. إلى جانب تصرفات طائشة، مثل أن غيتس جرب عقار "إل إس دي" والحشيش، لكنه فضّل على ذلك مشروبات "شيرلي تيمبل" و"تانغ" غير الكحولية. ويخلو الكتاب من مغامرات عاطفية تذكر، باستثناء إشارة عابرة إلى دعوة غيتس لفتاة كان معجباً بها لحفل تخرجه، ورفضها طلبه. من حيث إنه كتاب من 300 صفحة ما يزال دون سلسلة تكمل ما يرويه، فإنه يبدو مشروعاً غريباً وممتعاً في آن معاً، فلا يرجح أن يكون كثير من القراء متلهفين لمعرفة كيف كان غيتس في سنته المدرسية الثالثة. الفضل للعائلة مع ذلك، لهذا الكتاب جاذبية خاصة. صحيح أن إدراكنا بأن النتيجة النهائية ستكون شركة عامة تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار يساهم في جذب اهتمامنا، لكن حتى هذه الميزة لا تفي هذه المذكرات حقها. يستعير الكتاب مصطلح المبرمجين: "الكود المصدري" (Source Code) كتعبير مجازي عن الأسس التي بنى عليها غيتس نجاحه. كما يبدو أنه إشارة إلى أسلوب مستمد من تفضيلات غيتس في البرمجة، إذ يعتمد على أكواد "فعّالة وبسيطة" كانت ضرورية في عصر الكمبيوترات محدودة القدرات في العصر الذي يتناوله الكتاب. يظهر هذا الأسلوب الجمالي غيتس وكأنما يسرد الأحداث تسلسلاً، فيحاول تقييم نقاط قوته وضعفه وحدوده بشفافية. وتراه يتقبل أنه صاحب فكر شامل ليس متخصصاً بالضرورة في مجال محدد، يشابه ما يشيد به نيت سيلفر في كتابه الجديد. اكتشف بعدها خلال دراسته في هارفرد أن طالباً مثلَه، رغم براعته الفذة في الرياضيات، لا يتمتع بموهبة الإلهام اللازمة لتحقيق اكتشافات جوهرية في هذا المجال. يترك غيتس للقارئ أن يعزو مواهبه -مثل قدرته على الاكتفاء بقسط قليل جداً من النوم، وقناعته منذ الطفولة بأن لكل شيء إجابة، بالإضافة إلى تفكيره المنطقي وقدرته على التركيز لفترات طويلة- إلى والديه وأجداده، وخاصة جدته البارعة في لعب الورق، وأيضاً إلى الحظ الذي أتاح له استخدام كمبيوتر قبل معظم المراهقين في العالم. هامش من الحرية في الطفولة يصحبنا غيتس بمساعدة من روب غوث في الكتابة والبحث، في رحلة عبر أربعة من مراحل نشأته. بدأت بطفولة فوضوية اختلف فيها عن الآخرين، فكان يتعمق في التفكير، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماماً "طقوس الحياة اليومية والمدرسية، كالكتابة بخط اليد والفنون والرياضة". ثم انتقل إلى مرحلة أصعب، بدأت مبكراً حين كان في التاسعة، حين تحول، كما وصفه والده، إلى "راشد بين ليلة وضحاها... مولع بالجدل، قوي الحجج الفكرية، وأحياناً غير لطيف". بدأت المرحلة الثالثة في سنته المدرسية الثامنة، فقد دخل الطموح حياته، بإلهام من صديقه الراحل كينت إيفانز، وتعامل مع كمبيوتر لأول مرة. أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فكانت نسخة تجريبية من غيتس كمدير تنفيذي، يدير عملاً تجارياً وهو ما يزال طالباً في الثانوية ثم في جامعة هارفرد، ليتحول إلى منافس وزميل وقائد شرس مهووس بالحفاظ على التفوق المبكر لـ"مايكروسوفت"، الذي تحقق بفضل مصادفات. إذاً، كيف أصبح أحد أنجح رجالات عصرنا؟ يعود ذلك جزئياً لأن له والدين محبّين قدما نموذجاً يُحتذى به، ولكن من يقرأ الكتاب لا يجدهما في معظم فصوله يمارسان كثيراً من التربية المباشرة. يمكن جمع قراءة (Source Code) مع كتاب "الجيل المرتبك" (The Anxious Generation) لجوناثان هايدت، بل إن غيتس نفسه تحدث عن حسن حظه لأنه نشأ في جيل أكثر جموحاً مقارنةً بالتربية المفرطة التي يمارسها الأهل اليوم. كان والداه ناجحين منشغلين كل في مجاله، لا سيما والدته، التي كانت استثناءً لافتاً بين نساء جيلها، كما كانت طموحاتهما لمستقبله كبيرة. مع بلوغه سنته الدراسية الرابعة في مدرسة رسمية مكتظة، كان غيتس "يمضي أياماً دون أن ينطق بكلمة، ولا يغادر غرفته إلا لتناول الطعام أو الذهاب إلى المدرسة". سئم والداه من تجاهله وإهاناته لهما، فاستعانا بطبيب نفسي اعترف له الصبي قائلاً: "أنا في حرب مع أهلي". نصح الطبيب ذويه بالاستسلام لأنه سينتصر في نهاية المطاف، وقد أخذا بنصيحته. في مراهقته، كان غيتس يذهب في رحلات تنزه في الجبال تمتد لأسبوع مع أصدقائه دون إشراف، بل إنه في إحدى المرات تسلل من المنزل في جنح الظلام واستقل حافلةً ليمضي ليلته في مختبر كمبيوتر. سلسلة صدف كل هذه العوامل كان من شأنها أن تقود إلى النجاح في مجالات شتى، إلا أن نجاحه الاستثنائي في عالم البرمجيات ما كان ليتحقق لولا سلسلة مذهلة من الصدف والفرص بدأت في 1968. وهذا مكمن التشويق في الكتاب. ما يزال غيتس يتعجب من أن مدرسته الثانوية الخاصة "ليكسايد" في سياتل كان يمكنها أن تتصل بكمبيوتر في كاليفورنيا عبر مبرقة كاتبة —آلة تشبه الآلة الكاتبة وفي جانبها قرص هاتف دوّار بفضل فكرة عابرة خطرت لمدرّس رياضيات، و"لم يكن أحد يعرف كيف يستخدمها". كان ذلك في وقت لم تكن فيه المنازل أو المدارس الثانوية تملك شيئاً يشبه ذلك. سرعان ما فتحت تلك الصدفة أبواب الفرص أمامه. في البداية، سمحت شركة لتأجير الوقت على الكمبيوتر كانت على شفير الإخفاق لغيتس وأصدقائه من "ليكسايد"، ومنهم بول ألين، باستخدام حاسوب مركزي لاكتشاف أخطاء البرمجيات. ثم أطلقت "ليكسايد" مشروعاً طموحاً لأتمتة جداول كافة الصفوف، ما تطلب من الطلاب والمعلمين أن يعملوا لليال لإنجازه. بعد ذلك، طرأت حاجة ماسة لمبرمجين لدى إدارة كهرباء بونفيل—الوكالة الاتحادية المسؤولة عن توزيع الكهرباء في معظم مناطق الشمال الغربي المطل على المحيط الهادئ لإكمال مشروع حاسوبي تخطى نفقاته المخصصة ووتجاوز الأمد المحدد لإتمامه، وكان يهدف لموازنة إمدادات الكهرباء مع الطلب عليها. حصل غيتس، الذي كان في سنته الأخيرة في الثانوية، على إذن بالتغيب لمدة شهرين للانتقال إلى فانكوفر بولاية واشنطن، على بُعد 280 كيلومتراً من منزله، ليعمل لدى "بونفيل" إلى جانب بول ألين، الذي حصل بدوره على إجازة من الجامعة. في 1975، بينما كان غيتس يدرس في هارفرد، وقع بول ألين على مقال عن شركة "إم أي تي إس" (MITS) في ألبوكيركي التي ابتكرت أول مجموعة حواسيب منزلية. كان الجهاز بدائياً، ونموذج العمل بسيط، ميزته الوحيدة الحصول على خصومات كبيرة على معالجات" إنتل". أدرك ألين وغيتس أن هذه الأجهزة عديمة الفائدة عملياً، بما أن أحداً لم يكن قد طور برامج إلكترونية لها. ومن هنا نشأت "مايكروسوفت"، الشركة التي قادت ثورة أجهزة الكمبيوتر الشخصية. انتقال نحو الأعمال الخيرية ظلّ عالم التقنية لفترة طويلة يعتبر البرمجة فكرةً ثانويةً، فقد كان الجميع قادراً عليها لكنهم لم يبادروا إلى تنفيذها. هكذا، أصبح غيتس وفريقه أول من يخصص أكواداً جعلت أجهزة الكمبيوتر، التي كانت تزداد قوة وانتشاراً، مفيدةً فعلياً. كلّ هذه تفاصيل ممتعة تستحضر المفارقات والمعضلات التي يواجهها المبتكرون، والتي ظلت تعيد رسم ملامح عالمنا على مدى خمسة عقود خلت. (يستشهد غيتس بمقالة من مجلة "بزنيسويك" من عام 1976 عن شركة "إم أي تي إس"، وهي من أوائل المقالات في الصحافة العامة التي تناولت الكمبيوترات الصغيرة، وقد احتفى ذلك التقرير بشركة تكاد تنهار، وهو حال مألوف. في هذا الجزء من الكتاب، يستعيد غيتس رجل الكمبيوتر ذكرياته كصبي الكمبيوتر، وهي اللبنة الأساسية التي صنعت بيل غيتس المدير التنفيذي والرائد في مجال البرمجيات والمبادر الأول الذي أبقى "مايكروسوفت" في الصدارة لخمسة وعشرين عاماً، قبل أن ينقل الشعلة إلى ستيف بالمر قبل ربع قرن. في الوقت نفسه، تقدم هذه المذكرات تفسيراً لربع القرن الأخير من حياة بيل غيتس، الذي كان له أن يعيش أحد أكبر التحولات المفصلية في دور حياتي لإنسان في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وقد حدث ذلك في حالة جيمي كارتر. لكن سجل غيتس لا يخلو من عيوب. تحول غيتس من رجل أعمال سريع الانفعال ومتهم بالاحتكار إلى متبرع خيري ملهم للعطاء ومحارب للملاريا وكاتب يحتفي بالكتب والأفكار، إذ أن كتابه (How to Avoid a Climate Disaster) من أبرز ما جاء في مجال محاربة تغير المناخ. أضف إلى ذلك أنه مواطن دمث رحيم. وهذا مسار يختلف تماماً عمّا يسلكه جيف بيزوس أو إيلون ماسك. تبني قيم الوالدين يقدم كتاب (Source Code) سبباً ضمنياً لكل ذلك. كانت التقنية مجرد متنفس له إبان شبابه، وليست مصدر إلهام بحد ذاتها. في معرض سياتل العالمي لعام 1962، كان ألين مفتوناً بجناح "آي بي إم"، بينما يتذكر غيتس الفطائر البلجيكية وركوب أفعوانية "وايلد ماوس". أدمن ألين الخيال العلمي، وبينما كان غيتس يقرأ هذا النوع من الأدب، كان مهتماً أيضاً بالتاريخ والنزهات الخلوية. دمج ستيف جوبز ورفاقه من متابعي (Whole Earth Catalog) ثقافة الستينيات المضادة مع قوة التقنية. أما غيتس فغاب عن مقابلته في معهد ماساتشوستس للتقنية من أجل لعب الفلبر. واختار هارفرد لما توفره من تنوع في الدورات الدراسية. كتب غيتس في طلبه للالتحاق بهارفرد أن العمل في مجال الكمبيوتر "كان فرصة رائعة للاستمتاع وكسب بعض المال وتعلم الكثير، لكنني لا أنوي الاستمرار في التركيز على هذا المجال. حالياً، أنا مهتم أكثر بالأعمال أو القانون". كان والدا غيتس وأصدقاؤهما يعملون في مجالي الأعمال والقانون، ولو جزئياً. كتب غيتس: "إذا بدا والداي مثاليين وملتزمين بالعطاء والتبرع... فهذا لأنهما كذلك حقاً. كانا يقضيان وقتاً طويلاً في التخطيط والاجتماعات والاتصالات وتنظيم الحملات وكل ما يحتاجه المجتمع". يُعتبر كتاب (Source Code) من نواحٍ كثيرة بمثابة رسالة شكر إلى والديه لتقديمهما مثالاً للقيم التي تبناها غيتس لاحقاً، وتحية أيضاً لتلك القيم نفسها المتعلقة بالديمقراطية على نطاق ضيق وبناء المجتمع والفخر المجتمعي المتجذر في التاريخ والمكان. أعتقد أن كتابة الجزئين التاليين ستكون مهمة أصعب على غيتس، إذ سيضطر للدفاع عن مزيد من الأحداث التي كان جزءاً منها كما سيكون عليه حماية مزيد من المشاعر. لكن (Source Code) ينجح في طرح نفسه كمقدمة طويلة مبهجة. ربما لأنه على عكس ما يوحي به في أول وهلة، ليس بعيداً عن مذكرات الطفولة الأيقونية الأميركية الأخرى. إن أفضل فصوله هي التي تتناول مراحل مشاكسة الأطفال حين ندعهم لشأنهم. وتتدفق حيويته من تطلعنا الوطني العنيد إلى التفرد، ولا يكمن جوهره فيما نفعله، بل في الخير الذي نستطيع أن نبلغه.


أخبار مصر
٢٤-٠٢-٢٠٢٥
- ترفيه
- أخبار مصر
مزيج الحرية والحظ وصفة بيل غيتس للنجاح
يجمع كتاب مذكرات طفولة بيل غيتس (Source Code: My Beginnings) الذي نشرته دار 'نوبف' في 4 فبراير، بين المنفعة ومسرّة النظر إلى المراحل الأولى من ولادة عبقرية واثقة تتحلى بالنباهة والانضباط والتوثب والتأهب. أجمل ما في الأمر أن البوابة التي كانت مفتوحة قيد أنملة تتيح لمحات من ذلك العالم، باتت اليوم مُشرعة.لا يقف الكتاب عند هذا، بل يتجاوزه بأسلوب سلس وفضولي يوحي للقارئ بثقة فيه، مستكشفاً بيل غيتس: الأسباب الخفية التي صاغت شخصيته الفريدة، فهو ليس فقط أول من غزا العالم من قامات التقنية، بل ربما أصبح في مرحلة لاحقة من حياته أفضلهم. To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video نشأة في وسط محترميميل أمثال غيتس إلى كتابة (أو تكليف الآخرين بكتابة) سير ذاتية تستعرض حياتهم بأكملها، فتجدهم يروون أفضل ما لديهم من قصص ويُصفون حساباتهم مع الآخرين. لكن هذا هو الكتاب الأول من ثلاثية يُزمع نشرها، ولا يتناول سوى مرحلة واحدة من حياة غيتس، تبدأ من طفولته المبكرة حتى 1978، حين قاد رائد الأعمال بسن 23 عاماً 12 موظفاً في 'مايكروسوفت' من ألبوكيركي إلى مسقط رأسه في سياتل.لكن كتب المذكرات الأميركية الأيقونية الحديثة التي تتناول مراحل الطفولة، سواء الأدبية منها أو الأكثر مبيعاً من كتب فرانك كونروي إلى ماري كار وتارا ويستفير، غالباً ما تسلط الضوء على طفولة جامحة تحت رعاية بالغين طائشين لا يستحقون قدراً عالياً من احترام. إن غاية تلك المذكرات سرد كيفية النجاة من طفولة كهذه والتمكن من الكتابة عنها لاحقاً. لقد قالت الروائية فرجينيا وولف: 'لا نستحضر الماضي إلا حين يكون الحاضر هادئاً كجريان نهر عميق'.على النقيض من ذلك، كان الوسط الذي نشأ فيه غيتس محترماً جداً وصحياً، لدرجة أنه كان العنصر الفوضوي الوحيد فيه.تطرق كتاب (Source Code) إلى قدر قليل من أحداث عنيفة، كان منها وفاة أحد زملاء غيتس في المدرسة في حادث تسلّق، واستفزاز غيتس لوالده فسكب عليه كوب ماء. إلى جانب تصرفات طائشة، مثل أن غيتس جرب عقار 'إل إس دي' والحشيش، لكنه فضّل على ذلك مشروبات 'شيرلي تيمبل' و'تانغ' غير الكحولية. ويخلو الكتاب من مغامرات عاطفية تذكر، باستثناء إشارة عابرة إلى دعوة غيتس لفتاة كان معجباً بها لحفل تخرجه، ورفضها طلبه.من حيث إنه كتاب من 300 صفحة ما يزال دون سلسلة تكمل ما يرويه، فإنه يبدو مشروعاً غريباً وممتعاً في آن معاً، فلا يرجح أن يكون كثير من القراء متلهفين لمعرفة كيف كان غيتس في سنته المدرسية الثالثة.الفضل للعائلةمع ذلك، لهذا الكتاب جاذبية خاصة. صحيح أن إدراكنا بأن النتيجة النهائية ستكون شركة عامة تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار يساهم في جذب اهتمامنا، لكن حتى هذه الميزة لا تفي هذه المذكرات حقها.يستعير الكتاب مصطلح المبرمجين: 'الكود المصدري' (Source Code) كتعبير مجازي عن الأسس التي بنى عليها غيتس نجاحه. كما يبدو أنه إشارة إلى أسلوب مستمد من تفضيلات غيتس في البرمجة، إذ يعتمد على أكواد 'فعّالة وبسيطة' كانت ضرورية في عصر الكمبيوترات محدودة القدرات في العصر الذي يتناوله الكتاب.يظهر هذا الأسلوب الجمالي غيتس وكأنما يسرد الأحداث تسلسلاً، فيحاول تقييم نقاط قوته وضعفه وحدوده بشفافية. وتراه يتقبل أنه صاحب فكر شامل ليس متخصصاً بالضرورة في مجال محدد، يشابه ما يشيد به نيت سيلفر في كتابه الجديد. اكتشف بعدها خلال دراسته في هارفرد أن طالباً مثلَه، رغم براعته الفذة في الرياضيات، لا يتمتع بموهبة الإلهام اللازمة لتحقيق اكتشافات جوهرية في هذا المجال.يترك غيتس للقارئ أن يعزو مواهبه -مثل قدرته على الاكتفاء بقسط قليل جداً من النوم، وقناعته منذ الطفولة بأن لكل شيء إجابة، بالإضافة إلى تفكيره المنطقي وقدرته على التركيز لفترات طويلة- إلى والديه وأجداده، وخاصة جدته البارعة في لعب الورق، وأيضاً إلى الحظ الذي أتاح له استخدام كمبيوتر قبل معظم المراهقين في العالم.هامش من الحرية في الطفولةيصحبنا غيتس بمساعدة من روب غوث في الكتابة والبحث، في رحلة عبر أربعة من مراحل نشأته. بدأت بطفولة فوضوية اختلف فيها عن الآخرين، فكان يتعمق في التفكير، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماماً 'طقوس الحياة اليومية والمدرسية، كالكتابة بخط اليد والفنون والرياضة'. ثم انتقل إلى مرحلة أصعب، بدأت مبكراً حين كان في التاسعة، حين تحول، كما وصفه والده، إلى 'راشد بين ليلة وضحاها… مولع بالجدل، قوي الحجج الفكرية، وأحياناً غير لطيف'.بدأت المرحلة الثالثة في سنته المدرسية الثامنة، فقد دخل الطموح حياته، بإلهام من صديقه الراحل كينت إيفانز، وتعامل مع كمبيوتر لأول مرة. أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فكانت نسخة تجريبية من غيتس كمدير تنفيذي، يدير عملاً تجارياً وهو ما يزال طالباً في الثانوية ثم في جامعة هارفرد، ليتحول إلى منافس وزميل وقائد شرس مهووس بالحفاظ على التفوق المبكر لـ'مايكروسوفت'، الذي تحقق بفضل مصادفات.إذاً، كيف أصبح أحد أنجح رجالات عصرنا؟ يعود ذلك جزئياً لأن له والدين محبّين قدما نموذجاً يُحتذى به، ولكن من يقرأ الكتاب لا يجدهما في معظم فصوله يمارسان كثيراً من التربية المباشرة. يمكن جمع قراءة (Source Code) مع كتاب 'الجيل المرتبك' (The Anxious Generation) لجوناثان هايدت، بل إن غيتس نفسه تحدث عن حسن حظه لأنه نشأ في جيل أكثر جموحاً مقارنةً بالتربية المفرطة التي يمارسها الأهل اليوم. كان والداه ناجحين منشغلين كل في مجاله، لا سيما والدته، التي كانت استثناءً لافتاً بين نساء جيلها، كما كانت طموحاتهما لمستقبله كبيرة.مع بلوغه سنته الدراسية الرابعة في مدرسة رسمية مكتظة، كان غيتس 'يمضي أياماً دون أن ينطق بكلمة، ولا يغادر غرفته إلا لتناول الطعام أو الذهاب إلى المدرسة'. سئم والداه من تجاهله وإهاناته لهما، فاستعانا بطبيب نفسي اعترف له الصبي قائلاً: 'أنا في حرب مع أهلي'. نصح الطبيب ذويه بالاستسلام لأنه سينتصر في نهاية المطاف، وقد أخذا بنصيحته.في مراهقته، كان غيتس يذهب في رحلات تنزه في الجبال تمتد لأسبوع مع أصدقائه دون إشراف، بل إنه في إحدى المرات تسلل من المنزل…..لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر 'إقرأ على الموقع الرسمي' أدناه