أحدث الأخبار مع #دعوةالحق


LE12
٣١-٠٣-٢٠٢٥
- ترفيه
- LE12
إسلام مغربي.. الإسلام يهدف بمعتنقيه للحياة الجامعة بين قوة الروح والمادة (الحلقة 30)
حفلت نصوص الإسلام وتعاليمه بالدعوة إلى مواجهة الحياة والاهتمام بها على دعائم مهذبة مشروعة وحث على الاستمتاع بها إجابة لداعي الفطرة والطبيعة التي لا بد أن تسير سيرها المتزن. وكان اهتمامه بها مدعاة لتأسيس الحياة نفسها. تقديم عبد الرزاق المراكشي : عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية '… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. حفلت نصوص الإسلام وتعاليمه بالدعوة إلى مواجهة الحياة والاهتمام بها على دعائم مهذبة مشروعة وحث على الاستمتاع بها إجابة لداعي الفطرة والطبيعة التي لا بد أن تسير سيرها المتزن. وكان اهتمامه بها مدعاة لتأسيس الحياة نفسها. فقد أباح الإسلام التمنع بالعمليات والتجمّل بوسائل الزينة في حدود القصد والاعتدال، وحارب الرهبانية والتبتل والانصراف عن متع الحياة الطيبة، فالإسلام في اهتمامه بالحياة يقف بها موقفا وسطا يدعو إليه وينفر من الجنوح إلى أحد الطرفين اللذين يكتنفان هذا الحد الوسط . فقد دعا الإسلام إلى الروحية المهدية ونهى عن طرفيها التبتل والتكالب على المادة . ولا تغسل في شـيء من الأمر واقتصـد كـلا طرفي قصـد الأمـور ذميـــم فالتبتل وما إليه من رهبانية وانصرف عن الحياة هو في الحقيقة موقف عداء وبغض للحياة. فقد اتجه بعض الناس إلى تنمية روحه فقط، مائلا إلى التبتل والعبادة والتحذير من الدنيا وتنفير الناس من موارد الخير فيها، ودعا إلى الصوم الدائم والزهد في متع الجسد، كأنما يريد أن يسجن الناس في كهف مظلم حتى يفارقوا الحياة. هذه الرهبانية نهى عنها الإسلام في قوله تعالى من سورة الحديد 'ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها '. ففي هذه الرهبانية والعزوف عن الدنيا تعطيل قوى التفكير والإدارة والعمل في الإنسان وترك قوى الكون وأسراره ومنافعه مهملة معطلة سخرها الله للإنسان : ' قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين امنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة'، كما جاء في سورة الأعراف، وقال تعالى في سورة النحل: 'والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون '. وروى من أنس بن مالك إنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها -أي عدوها قليلة- فقالوا: وأين صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال ثلاث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء إليهم رسول الله فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني '. والتكالب على المادة والتغالي في حب الحياة هو الطرف الآخر الذي نهى عنه الإسلام كذلك، فقد أُشرب كثير من الناس حب المال إلى درجة العبادة والتاليه، وصرفوا قواهم إلى الحصول عليه بأي طريق ولو كان غير مشروع حبا في الطغيان والتفاخر والتكاثر، فأغرقوا في المادية العمياء حتى صاروا عبيد لها. يقول الكتاب: 'ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون '. وقد ضرب الله تعالى لذلك الأمثال -ومن ذلك ما قصه في شأن صاحب الجنتين اللتين افتخر بهما عما صاحبه وكانت عاقبته قول جلت قدرته: 'وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها '. ومنه قصة قارون ونهايته: 'فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين '. وهكذا يكون التكالب على الحياة شرا ينهى عنه الدين، لأنه تسلط فردي ومغالاة في حب الدنيا ولا يلبث أن ينتهي بالكوارث: 'من كان يريد الحياة وزينتها نُوفّ عليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحيط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون '. فالإسلام يحارب الروحية البحت لأنها انصراف عن الحياة ويحارب المادية البحت لأنها عبادة للحياة وفناء فيها، ويدعو إلى المادية المهذبة القائمة على التوازن بين حاجات الجسم وحاجات الروح، فإن السعادة الحق في استكمال حظَّي الجسم والروح معا، ولكن في الحد الوسط يقول الله سبحانه: 'ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين '. وقد تعددت أساليب القرآن في الدعوة إلى الحياة بقوة والسيطرة عليها، وبالنظر في خلق السماوات والأرض والتأمل في أسرار الكون وقوى المادة، وإن الله سخّر هذا العالم للإنسان ودعاه إلى استنباط الثروة من مكانه. يقول الله تعالى في سورة النحل : ' والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تربعون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم فيه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك للآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرا لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسوها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون '. فالحياة موضوع جوهري من موضوعات القرآن الأساسية التي اهتمّ فيها بالحياة ومواردها ومصادر الثروة فيها، فقد تناولت هذه الآيات الكريمة بعض تلك الموارد المهمة على أنها من نعم الله على العباد تدعوهم إلى الإيمان بقدرته وعجيب صنعه والاعتراف بوحدانيته . بدأت الآيات بذكر الأنعام الحاملة في مدلولها -الإبل والبقر والغنم إذ هي خيار المال- ورأس الثروة، ومنبع البركة والنساء، واستخدم في الحديث عنها أسلوب الخطاب للتوجه مباشرة إلى المخاطَبين- فبيّن سبحانه أنه خلق لكم هذه الأنواع من الماشية تتخذون جلودها وأوبارها وشعرها وأصوافها ملابس تدفئكم وتدفع عنكم عادية البرد وقسوة الطبيعة، وتجنون ثمارا طيبة من نسلها ولبنها وعظمها وروثها، وتعتمدون عليها في حرث الأرض والحصول على الحب والثمار، وتأكلون لحومها الشهية التي تبني الأجسام، وتقرّ عيونكم بمنظرها الجميل، فتجد فيها النفوس راحة ومتعة واطمئنانا وتذوقا للجمال حين تختال أمامكم في مشيها غادية ورائحة تطلب المرعى أو تسعى إلى ورود الماء. كما أن منها ركائب لحملكم وتحمل أثقالكم في السلم وتركضون عليها في الكر والفر وقت الحرب، وهي الإبل، وخلق لكم دوابّ للحمل والركوب واتخاذ مظاهر الزينة والسلطان، وهي الخيل والبغال والحمير، إنها عدّتكم في الأسفار وسلاحكم المندفع في مواقع القتال، ومتعة كبرى لنفوسكم في حلبة السباق، ويخلق لكم وراء ذلك ما لا تعلمون من وسائل الحمل والركوب والقتال، كالسيارات والطائرات والبواخر والقطارات . يقول سبحانه في سورة يس: 'وخلقنا لهم من مثله ما يركبون'، فتأمل دقة التعبير بالمثلية في الآية. تلك هي دلائل قدرته. ومن تفضيله عليكم أن تكفل ببيان أقوم الطرق للهداية على يد أنبيائه ورسله حتى لا تحيدوا عن الطريق المستقيم ومنكم من هو جائر ومائل عنها . ومن موارد الحياة لكم -أنزل الماء من السحاب المكون بقوانين ثابتة، فجرى أنهارا ووديانا على ظاهر الأرض، أو امتصته ثم تفجر منها عيونا تفيض بالماء العذب 'وأنزلنا من السما ماء يقدر فأسكناه في الأرض'، فتشربون وتسقون دوابكم وتروون زروعكم وتركبون الفلك في الأنهار الجارية، إن في ذلك تنبيها لكم لكي تعملوا الفكر وتدفقوا النظر في عظمة الله . ومن الموارد لكم الأفلاك وحركاتها وما ينشأ عنها من الليل والنهار، ودوران الفصول والأعوام لترتيب مصالحكم وتنظيم معاشكم، إن في عالم الكواكب وتسخير الطبيعة لدعوة إلى العقل أن يسترسل وراءها ويبحث في طواعرها ومكنوناتها . أما عالم الأرض وما نخرجه بطونها وأعماقها من حيوان ونبات ومعادن متباينة الألوان والإشكال فذلك مبسوط أمامكم مستقر بين أيديكم يدل في جلاء على قدرة البديع ويدعوكم إلى الإسماع بالحياة التي خلقت لكم . وسخّر لكم البحار وعالمها العجيب وما لمحيطاتها من قوة جبارة وهيبة آسرة، إذ هي من أعجب ملك الله في الأرض، منها تستخرجون السمك الطري الطازج وتلتقطون اللؤلؤ والمرجان وما إليهما من الجواهر النادرة، وفيها لكم زينة وحلية ومنافع، وتجري بكم فيها السفن الضخمة، وهي البواخر، عابرة المحيطات تطوف بكم في عالم البحار، فتكتشفون الآفاق وجوانب الأرض، ويصبح العالم في قبضة أيديكم في التجارة والرحلة والحروب، ولتبتغوا وراء ذلك من فضله منافع أخرى كثيرة، كقوى الماء في استنباط الكهرباء وتجفيف الملح، وإقامة الحضارات المختلفة على شواطئ البحار. ولعلكم بهذه الموارد الحافلة تتوجهون بالشكر إلى الله على ما أنعم وتفضّل، منصرفين في الظرف نفسها عن التبتل والرهبنة اللذين يأباهما الشرع وتنفر من مساوئهما الطبيعة البشرية المخلوقة لنحيى حياة عملية قوامها القوة والمتعة في حدود 'لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة'.


LE12
٢٩-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. كلمة حول الدعوة والإرشاد (الحلقة 28)
من طبيعة الحركة المشلولة أنها لا تملك القدرة على أن تبحث عن أسباب الفشل لأنها اصطلحت معه من أول وهلة، وتستمر في خداع وتضليل نفسها بأنها تسعى إلى هدف ويسلمها عنادها الأرعن إلى هوة الهزيمة المردية. تقديم عبد الرزاق المراكشي: عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية '… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق '. سبق أن كتبت على صفحات هذه المجلة الغراء مقالا تناولت فيه طبيعة الحركة وفلسفتها محللا إياها إلى ثلاثة أنواع: حية، وميتة، ومشلولة . من طبيعة الحركة المشلولة أنها لا تملك القدرة على أن تبحث عن أسباب الفشل لأنها اصطلحت معه من أول وهلة، وتستمر في خداع وتضليل نفسها بأنها تسعى إلى هدف ويسلمها عنادها الأرعن إلى هوة الهزيمة المردية، ولهذا فخطورة هذا النوع من الحركة أن لها وجودا وحيّزا، ولكنها لا تنطوي على حاسة معرفة الأخطاء التي ترتكبها ومدى علاقتها هي نفسها بالوسائل المستخدمة للوصول إلى الغاية، والتحقق من سلامة تلك الغاية وتمحيص إمكانيات نجاحها . ومن سمات هذه الحركة أيضا أنها تسرع إلى 'قول' الغاية دون أن تفكر في الوسائل الطبيعية المؤدية إليها، ولهذا تظل دائرة في الفراغ الواسع، وتصبح الغاية منعزلة عن كل نشاط ومجردة عن الواقع، تعيش في عالم الخيال . وهذه الحركة تسود الشعوب التي لا تعرف طريقتها، فتكثر فيها الحركة المشلولة، وتمر السنون دون الوصول على نتائج ايجابية، مع تبذير في الأموال والمجهودات وإنهاك للقوى، ما يؤدي إلى إشاعة اليأس والملل اللذين ينشأ عنهما الانطواء والاستهتار والتمرد . والوعظ والإرشاد، كما يدل اللفظ على معناه، رسالة خطيرة تطلع بمَهمّة تثقيفية في مختلف المجالات الاجتماعية، وتقصد تقويمَ الأخلاق والأجواء النفسية والروحية وإصلاح العادات والتقاليد وتوثيق عرى العلاقات الفردية والاجتماعية وتوجيه الطاقات المؤمنة نحو الإنتاج والتقدم ومناقشة الأفكار الطارئة على الفكرة الإسلامية ومحاربة كل ما يمس العقيدة والسلوك الإسلامي . وتملك حركة الوعظ والإرشاد وسائل مهمة لأداء رسالتها، وأهمها المسجد والإذاعة، كما أن لها ظروفا مساعدة، كالاستعدادات الروحية للاستماع والعمل، وأن الكلمة في المسجد لتفعل أضعافا مضاعفا مما تفعله في الشارع . وإن من واجبنا في المغرب الجديد تحويل هذه الحركة من 'وظيفة' إلى رسالة، ومن طبيعة الرسالة أن تكون لها أهداف سامية محددة ومدروسة، ويجب أن ترتبط بوسائل فعّالة تمليها الدراسة الدقيقة والبحث الجدي . إن حركة التبشير المسيحي تسير على أسس من العلم والدراسة، فكل مشكلة يوليها المبشرون عناية فائقة جبارة من الدرس والتمحيص ويدرسون المناطق المُستهدَفة لتبشيرهم دراسة اجتماعية ونفسية وجغرافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية، وعلى ضوء هذه الدراسة يبتكرون الوسائل الفعالة في إنجاح دعوتهم وتبليغها إلى النفوس ويعقدون المؤتمرات في نهاية كل مرحلة لدراسة النتائج التي حصلوا عليها ولمعرفة الأخطار واقتراح الحلول. والمطلع على نشاط المبشرين وما يكتبون يدرك مدى قيمة هذه الحركة التي تقاوم الإسلام، ويعرف الاستعداد الهائل الذي اتخذته للقضاء على ما أبقته عصور الانحطاط من الإسلام في العالم. ولقد أتيح لي أن أشاهد بنفسي النشاط التبشيري في البلاد العربية: إنه مزعج وجبار ويبعث الصديق والعدو على الإعجاب والتقدير لتلك المجهودات: فالجامعة الأمريكية ببيروت قد أدت رسالة 'جليلة' لفائدة التبشير والاستعمار -وما زالت تؤدي هذه الرسالة- زيادة على ما قامت به الجامعة اليسوعية والمدارس التبشيرية الأخرى، والأب زويمر ولامانس وتومسون وغيرهم مشهرون في هذا الميدان. كما أن الحركة الاستشراقية ساهمت بنصيب وافر في تدعيم الحركة التبشيرية ومدها بالقوة والحيوية . وقد يدفع الغرور بعضها إلى القول إن التبشير قد فشل، ولكن نظرة سريعة إلى الدول الإفريقية وإلى مكانة المسحيين السود فيها كافية للإقناع بأن الفاشلين هو نحن، وبأن المعلومات التي نلتقطها من حين إلى آخر من الذين يزورون إفريقيا السوداء لتبعتنا على الانزعاج والحسرة، وبأن ما نشاهده من اضطرابات اجتماعية وسياسية وفكرية في البلاد العربية والإسلامية ليست سوى نتيجة للمجهودات الجبارة التي يقوم بها المبشرون منذ نصف قرن أو أزيد في تلك البلاد . فهل رجال الوعظ والإرشاد عند ما أدركوا فداحة المسؤولية الملقاة على عاتقهم في هذا العالم الجديد أعدّوا العدة لمواجهة الظواهر الجديدة التي تهدد تراثنا الروحي والديني. وقد أفلحت بالفعل وأوجدت لنا نخبة مؤمنة برسالة الحضارة الغربية التي 'ستطهر' مجتمعنا من رواسبه القديمة التي تختلف عن 'الدين '… إن نظرة عامة إلى حالة الوعظ والإرشاد عندنا تخبرنا بالخبر اليقين بأننا نسعى إلى غير غاية ونتحرك لغير فائدة ونستهدف السراب، ولنأخذ على ذلك مثالا من المسجد : كنا أيام الاستعمار نشكو من الخطباء والخطبة، وكان يقال لنا إن الاستعمار هو المسؤول، إنه يخاف من ذوي الألسن الفصيحة ومن الخطب الرائعة، ولذلك فإنه يفرض على المصلين من يشجعهم على النوم ويغمض عليهم المعنى ويبتعد بهم عن الاهتمام بمشاكلهم الحيوية، وكنا نصدق ذلك… واليوم لا نريد أن يكون الخطباء صورة للمنظر القديم وخطبا كالجثث لا روح فيها.. لأنها لم تكتب أو تلق استجابة لحاجة ماسة، إنها تكتب أو تنقل لتلقى فقط قياما بوظيفة 'الإمام' التقليدية دون دراسة للوسط الذي ستلقى فيه الخطبة والظروف المحيطة به، والأحداث التي يهتم بها المجتمع، والمشاكل الجديدة التي تشغل فكر الشباب واهتمامهم، ما ينتج عنه عدم تحديد في الوسائل والإطار الذي يمكن أن يساعده في التأثير. وهكذا يبتعد بالخطبة عن اهتمام المصلحين لأنها بعيدة عن مشاكلهم الحيوية. وقد لا يملك البعض منها إلا كلمات يظهر فيها التكلف المحجوج والصنعة الحريرية، تُقرَأ بلهجة هي أبعد عن قواعد الخطابة وأبرأ مما تتطلبه خطبة تستهدف إصلاح المجتمع . إن تحسين أسلوب الدعوة والإرشاد يجب أن يقترن بتشجيع الشباب والنساء على غشيان المساجد، إقبالهم وتجاوبهم مع الخطبة، وإن مسؤولية الوعظ والإرشاد خطيرة جدا، خصوصا في هذا العصر الذي تسوده أفكار تحمل قيما خاصة ونظرات فلسفية للحياة، وهي تمتاز بخصوبتها وقوتها ونفوذها وقدرتها على استهواء الشباب لأنها تخاطب نفوسهم الثائرة وتستجيب لكثير من آمالهم وخيالاتهم. وقد تزود أصحابها بطرق رائعة وأساليب ماكرة لأنهم يعتمدون على العلم والفن لا على الصدف والزمن، لذلك نرى بعض المذاهب تنتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، وبالأخص في أوساط الشباب . ونحن اليوم في مفترق الطرق: إما أن تكون لنا القدرة على بعث مقومات دينينا في النفوس ومعالم حضارتنا في الحياة ونتسلح بكل ما يحقق لنا هذه الغاية، وإما أن نظل كما نحن: كميات سلبية تتجاذبها القوى الغريبة عنها دون أن يكون لها ما يفرض وجودها كأمة لها رسالة . إن العدد الذي يحارب الإسلام يتمثل في أمم ومذاهب وطوائف وأديان، وهو يتحصن -على تعداده- بأسلحة فكرية فتاكة وله من القدرة والمرونة والتقنية ما يضمن له أن يبلغ شأوا بعيدا في تزييف عقائدنا وتاريخينا وتلوين نظرتنا وحضارتنا وشلّ أفكارنا وحيويتنا. ولكن أخطر من العدو الانهيار الداخلي في القيادة الفكرية والروحية، لهذا فإن تطهير القيادة من الأدعياء والمنتقمين، ثم معرفة ما للعدو من قدرة وإمكانيات وتحديد مكامن ضعفنا التي تتسرب منها الأفكار الهدامة لكياننا لَهي الخطوة الأولى التي يجب أن نرتكز على أساسها وننطلق في أضوائها وتحت إرشادها . إن أي كيان يضطلع بمَهمّة الدفاع عن الإسلام والترغيب في تعاليمه، دون أن تكون لديه الحيوية والقدرة على تحقيق لتلك الأهداف، ومع ذلك يستمر في الحركة والعمل الدائب، يندرج تحت ما نسميه 'الحركة المشلولة' التي تعطي النتائج الهزيلة مع بذل أقصى جهد وتبذير كثير من الإمكانيات والطاقات . إن الدعوة إلى الإسلام في القرن العشرين بجب أن تصطبغ بصبغة هذا القرن وتستعمل وسائله الفعّالة، لذلك نود أن يكون للمغرب جهاز للوعظ والإرشاد له قيمته في المغرب وإفريقيا السوداء، التي تتغلغل فيها الدعوات التبشيرية المختلفة، والتي يبلغ عدد المبشرين فيها نحو ربع مليون، حسب ما أوردته إحدى المجلات التبشيرية . ونرى أنه يجب أن تتوفر في هذا الجهاز الشروط الكفيلة بتحقيق الأهداف الإسلامية، ونحن هنا نقدم بعض الشروط : 1 – أن يكون القائمون على شؤون هذا الجهاز مؤمنين حق الإيمان برسالة الإسلام وعلماء أفذاذا في الفكرة الإسلامية، ولهم اطلاع واسع على الثقافات العالمية والتيارات الفكرية المختلفة؛ 2 – أن يدرس هؤلاء الوسط المغربي دراسة شاملة لنواحي الحياة المغربية حتى يحددوا المشاكل الاجتماعية والأزمات الفكرية والنفسية.. وعلى ضوء ذلك يبتدعون العلاج والوسائل؛ 3 – أن يكون المرشد في هذا المجال مختصّا له ثقافة وإيمان ومقدرة تجعله أهلا للقيام بهذه المهمة؛ 4 – أن يكون لهذا الجهاز مؤتمر على مستوى إقليمي كل ثلاثة أشهر وعلى مستوى عامّ من كل سنة تناقش فيه النتائج والوسائل والأفكار ونقط الضعف في الحركة ويرسم السياسة العامة للدعوة والإرشاد. كما يجب أن يكون لديه مفتش دقيق ومخلص على المرشدين والوعاظ؛ 5 – أن يؤسس معهد خاص للوعاظ والدعاة ويختار لهم أساتذة على أسس الكفاءة، وتكون لهذا المعهد مجلة تبحث في شؤون الدعوة الإسلامية وتبثّ أفكارها بواسطتها وتصدرها باللغات العربية والفرنسية الانجليزية وتوزع في أنحاء إفريقيا. كما يجب أن يكون المعهد مجهزا بكل الوسائل التي تحقق إخراج الداعية الماهر، المؤمن الصالح والمبشر المقتدر ومن أهم هذه الوسائل : أ- حيوية المواد الدراسية، كعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والمذاهب الفكرية ودراسة الأديان والحضارات العالمية والخطابة والتصوف، والعادات والتقاليد لمكان الدعوة والجغرافية والتاريخ؛ ب- اللغات الأجنبية الحية واللغات الإفريقية؛ ج- أساتذة مقتدرون ومؤمنون؛ د- زيادة على العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه… إلخ.؛ هـ- إحاطة الطالب بجو ديني وتربيته على أسس الشعور بمسؤولية الدعوة، ليضمن لنا ذلك إيجاد الداعية المخلص لا الموظف المرتزق . ويجب علينا أن نشجع إخواننا الأفارقة على الانخراط في هذا المعهد وتزويدهم بجميع وسائل الدعوة ليرجعوا إلى بلدهم يخدمونه من الداخل . وبعد، ألم يحن للمغرب أن يسلك سبيل ماضيه المشرق وأن يشرع في تأدية رسالته الحضارية في الداخل وفي إفريقيا ليثبت له وجودا كامة لها رسالة حضارية في هذا العالم، الذي أصبحت السيادة فيه للفكرة والأمكنة المحفوظة بها هذه النسخ؟! واقترحت اللجنة أن يراعى في اختيار الكتب التي تحقق أن تكون الأولية فيها المخطوطات التي لم يسبق نشرها أو نشرت غير محققة، ثم الكتب التي نشرت محققة في نطاق محدود أو يتعذر تداولها في العالم العربي لقيود مالية أو نحوها، ثم الكتب التي نفدت طبعاتها. وعند توافر كتب متعددة في موضوع واحد تكون الأولية للكتب الأصلية في الفن أو الجامعة فيه. ويستوفي البحث عن جميع الأصول المخطوطة والمطبوعة إن كانت تمثل أصلا للكتاب المزمع نشره . هذه هي أهم مشروعات صون التراث وإحيائه، فما مدى النجاح الذي حققته أو ينتظر منها أن تحققه؟ الواقع أنه بالرغم من الجهود الضخمة التي يبذلها معهد المخطوطات في النطاق العربي الواسع والمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون في نطاقه المحلي الضيق، فإنني أخشى ألا تكون النتائج مرضية على الوجه المطلوب. فعدم تنسيق العمل بين معهد المخطوطات والهيئات العلمية الموجودة في البلاد العربية تنسيقا يوحد الخطة ويوفر الجهد، وعدم إشراك البلاد العربية إشراكا فعالا في الأعمال العلمية. وعدم توفر الروح العلمي اللازم لهذه الأعمال.. كل هذه العيوب تجعل المشروع -أي مشروع- كيفما كانت ضخامة الجهود التي تبذل لتحقيقه، عاجزا عن حمل عبء حماية التراث العربي وإحيائه على مستوى عربي كبير. فالأسف شديد أن النزاعات المحلية والأهواء الخاصة لا تزال مسيطرة على العقول. وحتى لا يًظَنَّ بي ميل من هذا النوع أرى أن أوضح كلامي بمثالين ملموسين : الأول أن الكتب التي اقترح مشروع المكتبة العربية تحقيقها -وتعد بالعشرات- أسندت جميعها إلى عدد مُحدّد من المحققين المصريين بالرغم من أن جزءا منها يهمّ بلادا عربية أخرى قد يتوفر من الكفاءات ما لا يتوفر لغيرها؛ الثاني أني حين اطلعت على مشروع المكتبة العربية ووجدت ضمن قوائمه رحلة العبدري المغربية اتصلت بالمسؤولين وأطلعتهم على اهتمامي بهذه الرحلة التي أنوي تقديمها أطروحة تكميلية لدكتوراة الدولة الفرنسية، فاقتنعوا بضرورة إسناد تحقيقها إلي ليس بصفتي مهتما بها فحسب، وإنما بصفتي مغربيا كذلك. ولكني فوجئت بعد ذلك حين أخبرني مسؤول كبير بأن اللجنة المختصة لا توافق على نشر هذه الرحلة لما فيها من نقذ لاذع لمصر وللمصريين . وإذن فلا سبيل إلى حماية التراث وإحيائه غير قيام كل دولة عربية بوضع تخطيط خاص لمعرفة تراثها المكتبي وصيانته وتحقيقه ونشره، ثم إجراء تنسيق على نطاق عربي واسع للتعرف على ما في كل قطر من مخطوطات وتبادل النسخ المصورة منها وتوحيد قواعد التحقيق أو التقريب بينها على الأقل . ونظرا إلى ما هي عليه حالة التراث في كل أركان الوطن العربي، ونظرا إلى ما تتطلب حمايته في كل أركان الوطن العربي، ونظرا إلى ما يتطلب حمايته من تخطيط وتنظيم، فإني أرى أن تمر العلمية بالمراحل الآتية : أولا: إنشاء هيئة علمية عليا لحماية التراث وإحيائه تكون مَهمّتها الإشراف والتنظيم؛ ثانيا: تكوين لجنة فنية متفرعة من هذه الهيئة لوضع قواعد تحقيق المخطوطات؛ ثالثا: إنشاء معهد أو شعبة دراسية في كلية الآداب للتخصص في فن تنظيم المكتبات وصيانة المخطوطات؛ رابعا: حصر المخطوطات، وتحتاج إلى بحث في كتب الفهارس والبرامج وغيرها من المؤلفات التي تعني بذكر الكتب والتعريف بها؛ خامسا: جمعها، وينبغي أن يكون شاملا مستقصيا لكل المخطوطات، لا فرق بين التافه منها والمهم. ويقتضي بادئ ذي بدء أن تمنع الدولة خروج أي مخطوط وأن يعلن أصحاب المكتبات الخاصة ما لديهم من مخطوطات يكون للدولة حق تصويرها واقتناء النادر منها مقابل تعويض يرضي أصحابها؛ سادسا: فهرستا وتنظيمها؛ سابعا: تحقيقها على أسس من الدرس والبحث لاستخلاص المعاني الكامنة التي تربط قديمها بالحديث؛ ثامنا: نشرها، وهي مرحلة ختامية تقتضي أن تعنى الدولة بنشر الكتب المتعلقة بها على أن تكلف هيئة التنسيق -وليكن معهد المخطوطات- بنشر المعاجم والكتب الضخمة التي تحتاج إلى وسائل وإمكانيات كبيرة .


LE12
٢٧-٠٣-٢٠٢٥
- صحة
- LE12
إسلام مغربي.. نحو إنشاء جيل إسلامي جديد (الحلقة 26)
من الأمراض التي تفشت في البلاد الإسلامية وأعقبت نتائج سيئة في تطورها، مرض الازدواج في التفكير والعقلية ونشوء جيلين في آن واحد مختلفين أشد الاختلاف يسير كل منهما في اتجاه ويجران المجتمع الإسلامي في اتجاهين متعارضين فتتعطل القوة وتبطل الحركة. تقديم عبد الرزاق المراكشي: عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية'… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه'.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. من الأمراض التي تفشت في البلاد الإسلامية وأعقبت نتائج سيئة في تطورها، مرض الازدواج في التفكير والعقلية ونشوء جيلين في آن واحد مختلفين أشد الاختلاف يسير كل منهما في اتجاه ويجران المجتمع الإسلامي في اتجاهين متعارضين فتتعطل القوة وتبطل الحركة. أما الجيل الأول فهو الذي تثقف بثقافة العصر المنصرم فقرأ متونا في النحو والبلاغة والفقه والتوحيد والأصول وضعت وألفت لأبناء عصر غير هذا العصر، سواء في أمثلتها وشواهدها، أو في تبويبها وترتيبها، أو في إنشاء عبارتها وأسلوبها، ثم اقتصر على ذلك وربما زاد عليها قراءة بعض شروحها وحواشيها ولم يعرف غيرها حتى من المعارف والثقافة التي كان يعرفها المثقفون من أبناء العصور الإسلامية الأولى أيام ازدهار الحضارة الإسلامية يوم كانوا يقرأون مع الفقه والتوحيد والتفسير والحديث الحساب والجبر والهندسة والفلك والطب والكيمياء وغيرها من العلوم التي ترى عظمة الله في الكون وفضله على الإنسان بنعمة العقل الذي أتاه الله إياه، وما آتاه من السمع والبصر المؤدى إلى العلم كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله 'والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون'. والغالب في أبناء هذا الجيل في أكثر البلاد الإسلامية الاقتصار على الفقه والتوحيد دون التوسع في دراسة السنة والاطلاع على الحديث، وما يتبع ذلك من اطلاع على منافع الفقه وأصوله ومصادره، وما تولد من ذلك من آراء فقهية مستقاة من الكتاب والسنة مما يوسع أفق التفكير، ودون الاطلاع كذلك على كتاب الله وإمعان النظر في آياته سواء أكانت في الدعوة إلى التوحيد والنظر في آيات الله في الكون والخليقة، أم كانت في الآداب والأخلاق أم كانت في بيان التشريع والأحكام، لقد اقتصرت الدراسة في العصر الماضي في أكثر البلاد الإسلامية على دراسة فقهية على مذهب واحد، مما أدى إلى اعتقاد بعض الناس انحصار الإسلام في هذا المذهب وذلك الرأي. وأما الجيل الآخر فقد أخذ بثقافة العصر واقتبس عمله من هذه الثقافة المنقولة عن أوروبا سواء أكان أخذه لها مباشرة أو عن طريق غير مباشرة، ولا شك أن من المفيد بل من الضروري الاطلاع على ثقافة العصر ولا سيما في النواحي العلمية الخالصة التي تكشف أسرار الكون وآيات الله فيه، وتمكن الإنسان من تسخيره لمنفعته وتؤدي إلى عمارة الأرض واستخراج خيراتها والترفيه عن الإنسان، ولكن هذا الجيل يغلب عليه أن يجهل الثقافة الإسلامية الأصيلة وما تتضمنه من قيم خلقية واتجاهات إنسانية وتشريعات راقية، وما بنيت عليه من عقيدة قويمة ومفاهيم صحيحة وشعور بالمسؤولية، ولا يعرف من التاريخ الإسلامي إلا قليلا. وقد يعرفه مشوها محرفا، وقد يصل إليه عن طريق المستشرقين أو المؤلفين العربيين وأصحاب الأغراض والأهواء. لقد سارت البلاد الإسلامية منذ أكثر من قرن على أساس تكوين هاتين العقليتين وإنشاء هذين النوعين أو الجيلين وجعلت لكل منهما طريقا لتكوينه، فالجيل الأول يتكون في مدارس قديمة في نمطها وأسلوبها، والثاني يتكون في مدارس حديثة أنشئت على غرار المدارس الأوروبية واقتبست منها برامجها ومناهجها، ثم كانت محاولات إصلاحية ولكن على أساس الإبقاء على هذا الازدواج وإدخال بعض الإصلاحات على النوع الأول، وهكذا كانت مثلا في مصر المدارس الدينية الأزهرية من ابتدائية وثانوية وعالية، ولم يكن الإصلاح فيها إلا بتقسيمها إلى سنوات وصفوف أو فصول ورسم أنظمة لها من حيث المناهج والامتحانات والشهادات وإدخال مقدار ضئيل من علوم العصر وهو في منهاج هذه المدارس كالرقعة النابية في الثوب تختلف عنه لونا ونسيجا. ثم تختلف طريق الجيلين في الحياة ومكانة كل منهما ومهمته في المجتمع، أما الجيل الأول فللوعظ والإرشاد والخطابة والإفتاء والتدريس الديني وما إلى ذلك بحيث يتكون منهم فئة أطلق عليها اسم مبتدع غريب (رجال الدين)، وأما الجيل الثاني فيتكون منه موظفو الدولة ورؤساء دوائرها والاختصاصيون في كل فن من فنون الإدارة أو العمل. لقد كان لهذه الخطة آثار سيئة جدا في الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بسبب هذا الازدواج في التفكير وهذا التعدد في العقلية، وكان بين الطرفين حذر متبادل وجفاء ان لم يظهر في الظاهر فإن آثاره موجودة. والطريق القويمة في تكوين الحياة الإسلامية والأسلوب الطبيعي السليم هو في التوحيد والانسجام، فالحياة واحدة ولو تعددت جوانبها، والإسلام نفسه يقوم على فكرة التوحيد في كل شيء، توحيد الله، وتوحيد الإنسانية، وتوحيد الطبقات، وإقامة مجتمع موحد منسجم، ولذلك كان من واجب البلاد التي تقيم اليوم أسس نهضتها أن لا تسلك طريق الازدواج، وعلى البلاد التي اجتازت نهضتها مرحلة كبيرة وإقامتها على هذا الازدواج أن تتحرر منه وأن تضع أسسا جديدة لنهضتها. يجب أن يكون في جميع البلاد الإسلامية تعليم ابتدائي موحد يقوم على مفاهيم إسلامية في جميع ودرس الأشياء مبنيا على أساس غرس الإيمان بالله الخالق في قلب الطفل وعقله، كما يكون درس الدين مواده ودروسه، فيكون تلقين المعلومات الطبيعية وسيلة أيضا لبعث همته في الحياة ويعتني في هذه المرحلة بتعليم القرآن وتعويد التلاميذ على الشعائر والعادات الإسلامية، ويكون التعليم الثانوي في المرحلة الثانية تعليما متنوعا من تعليم عام ومهني، تجاري أو زراعي أو صناعي أو نسوي مصطبغا بالصبغة الإسلامية في جميع نواحيه وتكثر فيه مادة الثقافة الإسلامية من عقيدة وتوحيد وتفسير وحديث وفقه وسيرة وتاريخ، وتكون مواردها الفكرية كالفلسفة وعلم الاجتماع قائمة على أساس الإسلام، ونظرية إلى الحياة والوجود والإنسان والكون والحضارة، بحيث يخرج الطالب مشربا بروحه في تفكيره وسلوكه، وأما التعليم العالي أي الجامعي فينبغي كذلك أن يكون موحدا فلا يكون هنالك معاهد مدنية، ومعاهد دينية وإنما تكون معاهد إسلامية متنوعة الاختصاص من الطب والهندسة إلى اللغة والشريعة، ويكون تدريس الإسلام ونظامه جزءا من كل فرع من هذه الفروع بحيث لا تخلو كلية من الكليات كالطب والهندسة والزراعة من ثقافة إسلامية ودينية، لأنها تخرج الطبيب المسلم والمهندس المسلم والأديب المسلم، وليس هذا غريبا في هذا العصر فإن البلاد الشيوعية والبلاد الكاثوليكية تسلك هذه الخطة فتعلم البلاد الشيوعية في جامعاتها العقيدة والفلسفة الشيوعية في جميع فروعها بطريقة إلزامية، كما تعلم الجامعات الكاثوليكية الدين في جميع كلياتها وفي جميع سنواتها. هذه هي الطريقة التي تخرج لنا جيلا جديدا قويا مسلحا بالثقافة والعلم والدين والخلق، جيلا موحدا منسجما يتصرف في الحياة بطريقة واحدة ويفكر تفكيرا واحدا، ويحل المشكلات التي يصادفها بطريقة واحدة، يستمد عناصرها من الإسلام ومبادئه ويتكون جيل متفقه في دينه فلا يكون هناك رجال دنيا لا يعرفون من أمر الدين شيئا، ورجال دين لا يعرفون من أمر الدنيا شيئا، يتكون جيل إسلامي يشترك على تنوع اختصاصه وتعدد خبرته ومهنته في قسط مشترك من فهم الإسلام، ويشترك في الجهاد في هذه الحياة لتحقيق أهداف الإسلام التي هي أهداف إنسانية تحقق سعادة الإنسانية بترقيتها ماديا وخلقيا وروحيا يوصلها بالكون وآفاقه من جهة، وبالله الخالق من جهة أخرى. وقد تكون هذه العملية صعبة أو يكون دون تحقيقها عقبات ولكنها أساسية وضرورية لبعث الإسلام من جديد ووقوفه قويا صامدا أمام الأنظمة والعقائد الأخرى وفي ذلك رضاء الله سبحانه وخير الإنسانية وسلامها.


LE12
٢٠-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. أثر الكلمة الطيبة (الحلقة 19)
قال تعالى وهو أصدق القائلين: 'قلنا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12 عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم '… اخترنا لكم في ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات المغربية التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة المغربية منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام… (آية قرآنية) و'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. بهذه الموعظة الأولى، وهذه الكلمات الساميات، والآيات الرائعات، خاطب الله سبحانه الأصول البشرية عندما أهبطهم من السماء، وأسكنهم هذه الأرض، وجعلها لهم مستقرا ومستودعا. وكما جعل سبحانه الشمس والقمر دائبتين وسخرهما لإمداد العالم بالنور والضياء والحياة كذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لإمداد العالم والخلق بالضياء والنور والحياة . فما خلت أمة من رسول، ولا جماعة من نبي، من لدن أبي البشر آدم إلى المبعوث بآخر هدايات السماء مولانا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . كل ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ولله الحجة البالغة. ومن الواضح الجلي: أن أولى وظائف هؤلاء المختارين لهداية الخلق: الوعظ والإرشاد، ودلالة الناس على ربهم، وإدخال الإيمان في قلوبهم، وتركيز الطاعة في جوارحهم، سالكين في ذلك سبيل الحكمة: من لسان عذب، وكلمة طيبة، ودعوة بالحسنى، وأسوة حسنة . ومن حكمة الله سبحانه أن هذه القلوب، وإن قست، فكانت كالحجارة أو أشد قسوة إلا أن الكلمة البليغة، والموعظة الجميلة، تجعله ينقلب رقة، ويسيل لطفا، ويطفو حنانا. كتلك الأرض الجامدة الهامدة، المغبرة الكالحة، فإذا واكبها الغيث وأمطرها السحاب ونزلت عليها رحمة الله، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وأصبحت جنة للناظرين . ولما كان سيدنا محمد عليه السلام آخر الأنبياء، ولا نبي بعده أمر علماء هذه الأمة بوراثته وجعلهم كالأنبياء، في واجب الإبلاغ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة سوق الوعظ وبث صنف الهداية والإرشاد وربطهم بخالقهم سبحانه. والآيات في هذا الموضوع كثيرة، والأحاديث أكثر من أن تحصى . ولقد كان المسلمون في خير يوم كانوا يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر. وكانوا في عزة يوم أن كان عالمهم يرشد جاهلهم، وكبيرهم يأخذ بيد صغيرهم. وكانوا خير أمة أخرجت للناس، لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وكانوا أمنع الأمم جانبا، يوم عرفوا سر قوله تبارك وتعالى: 'واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة'. ولهذا كانت عناية سلف هذه الأمة بهذه الناحية عظيمة، وعظيمة جدا . ومن اليوم الذي أغفل فيه المسلمون، هذا الأمر الخطير، تداعى بنيانه، وذهب ريحهم، وعلا واستبد بكرام الناس أسافلهم، وذهب ريحهم، وأصبحوا غثاء كغثاء السيل . وإذا كان الناس في حاجة إلى الوعظ والإرشاد، فهم في هذا الزمان أشد حاجة وأمس ضرورة وذلك لكثرة المذاهب المضللة والسبل المعوجة والأهواء الجامحة ولما استحدث شياطين الإنس من مغريات ومفاسد وشباك ومراصد . ولقد أصبحت الدعاية اليوم فنا من الفنون القائمة بذاتها، وعلما بدرس كبقية العلوم. وأصبحت الرسائل والصحف، والمجلات والإذاعات ودور السينما ودور التمثيل، بعضا من وسائل الدعاية الحديثة، في هذا الزمان . ولقد ترتب على إهمال قيمة الوعظ والإرشاد في بعض البلاد الإسلامية أن أصبحت ميدانا لغزو المبشرين، والدعاة المضللين من شيوعية وغيرها. كما حصلت فجوة هائلة بين الآباء وأبنائهم وبناتهم. وأصبح البون شاسعا بين الدين وبين الجيل الصاعد بالإضافة إلى انتشار الرذيلة وفشو الإلحاد والاستهتار بالمثل والمبادئ العليا. وأصبح المتدينون أغرابا أو شبه أغراب في البلاد الإسلامية . وأعتقد جازما أن إصلاح الجيل وإيقاف هذا التيار وإعادة الدين إلى شبابه ونضارته يتوقف إلى حد بعيد على العناية بالوعظ والإرشاد . وذلك بإيجاد طائفة مزودة بالثقافة الصحيحة من شرقية وغربية، فاهمة لروح العصر مزودة بسلاح الزمن، ومعارف العصر الحاضر… والله الموفق . وصية عقبة بن نافع لبنيه لما خرج عقبة بأصحابه وبكثير من أهل القيروان إلى المغرب دعا بأولاده فقال لهم إني بعت نفسي من الله ولا أدري ما يقضي علي في سفري ثم قال يا بني إني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها إياكم أن تمتلئ صدوركم شعرا وتتركوا القرءان، املأوا صدوركم من كتاب الله فإنه دليل على الله وخذوا من كلام العرب ما تهذبون به ألسنتكم ويدلكم على مكارم الأخلاق ثم انتهوا عما وراءه. وأوصيكم أن لا تداينوا ولو لبستكم العباء، فإن الدين ذل بالنهار وهم بالليل فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم وتبقى لكم الحرمة مع الناس ما بقيتم. ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين يحملونكم دين الله ويفرقون بينكم وبين الله ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والحيطة فإنه أسلم لكم ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ثم قال اللهم تقبل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي من دار كرامتي عندك ثم سار لا يدافعه أحدا.


LE12
١٣-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. العرش المغربي والدعوة الإسلامية (الحلقة 12 دعوة الحق)
إن ميلاد عرش مغربي، ودولة مغرية كانا مقرونين بتبني مؤسس العرش المغربي و تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12 عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم '… اخترنا لكم في ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات المغربية التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة المغربية منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام… (آية قرآنية) و'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '. يقودنا رشيد الدرقاوي في مقالته 'الإسلام وحقوق الإنسان' في عالم الديانة الإسلامية، التي عدّها الأقدرَ على تحقيق أماني الناس والأضمنَ لسعادتهم، إذ الدعوة إلى إله واحد دون ما سواه، وهو ما دعا إليه رسول الإنسانية عليه السلام بأمر من الله ووحيه، دعوة دائمة كفيلة بخير النّظم والقوانين التي تُسعد الناس. وقد تناول الكاتب الموضوع بإسهاب، ما علنا ندرجه في حلقتين . ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. إن ميلاد عرش مغربي، ودولة مغرية كانا مقرونين بتبني مؤسس العرش المغربي والدول المغربية للدعوة الإسلامية، وحمل راية الإسلام، والذود عن مبادئه، ونشر تعاليمه، ولم تقم دولة في المغرب –منذ افتح الإسلامي- إلا بقدر تحمسها لمبادئه وصيانتها لتعاليمه والذود عن حوزته وحرصها على أخلاقه وشمائله. ولم تسقط دولة كذلك من دولة إلا بقدر برودها في الذود عن مبادئه، وخذلانها لتعاليمه، وأخلاقه، وحوزته . وكل صفحة من صفحات تاريخ المغرب الإسلامي ورجالاته تحمل مثلا ناطقا بذلك، ابتداء من مؤسس الدولة المغربية مولانا إدريس الأكبر، إلى يومنا هذا. فجميع ملوكنا العظام الذين يعتز بهم تاريخ المغرب تجد فيهم صلابة في الدين، وحرصا شديدا على نشره وشد عضده، والغيرة على حرماته، وعلى العكس تجد أن من أفل نجمه منهم لم يؤت إلا من تهاونه في أمر من أمور الدين، أو من عدم نجدته وقدرته على الدفاع عن حوزة الدين أما في الداخل أو في الخارج . وقضية أخرى لا أظن من قبيل المصادفات كذلك، وهي أنه كلما اشتد حماس ملوكنا للدعوة الإسلامية، والذود عن حوزة الإسلام، اتسعت رقعة التراب المغربي شرقا وجنوبا وشمالا، وكلما خسا ذلك الحماس، وبردت جذوة النخوة الإسلامية طويت الرقعة، وتقلص ظل الراية المغربية، بل أكثر من ذلك تنقص البلاد من أطرافها وتنام في عقر دارها . لم يفتح علي في علم النجوم حتى أعلم هل طالع الدولة المغربية رصد على ذلك يوم تأسيسها؟ ولكن تسلسل الأحداث التاريخية تكاد تنطق بذلك ! سواء آمنا به أم لم نؤمن، وسواء كان ذلك صحيحا أم غير صحيح، فالمهم عندي هو الخروج بعبرة من أحداث تاريخنا تكون لنهضتنا الجديدة نبراسا تستنير به في طريقها الطويل، المحفوف بالمخاطر والأشواك، وبالإمكانيات الواسعة والإرهاصات المنعشة . لا مجال للالتباس -على كل حال- فإما أننا نريد أن نكون دولة قوية محترمة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معاني القوة والاحترام. أو لا نريد ذلك؟ ولا أظن أن مواطنا واحدا لا يريد للمغرب القوة والاحترام ! وقضية أخرى لابد من الاتفاق عليها حتى تصبح من المسلمات، وهي أن أية شخصية، وأية دولة تكتسب من القوة والاحترام بقدر ما تكتسب من غايات ومبادئ سامية تبشر بها وتنافح من أجلها . والمغرب يحكم موقعه، نقطة انفصال، أو نقطة اتصال –كما يحلو للبعض أن يسميها- بين الشرق والغرب، ومفتاح الصحراء والشعوب الإفريقية السوداء في هذا الركن من العالم. بين الشرق المسلم والصحراء وإفريقية المسلمة، أو المستعدة لفتح قلبها للإسلام، وبين دول المغرب المسيحية، المتعصبة، والموتورة، التي حاولت طيلة ثلاثة عشر قرنا القضاء على شعلة الإسلام التي للمغرب ضلع مهم في حملها إلى إفريقيا وأوروبا. حاولت ذلك بالقوة، وبالحروب الاجماعية، ثم هي في العصر الحاضر تحاول بوسائل أخرى فكرية وفلسفية، وبث مذاهب هدامة، وتشجيع الميوعة والانهيار الخلقي فينا وضرب نطاق الحصار الاقتصادي قصد إضعاف، أو استغلال إمكانياتنا، وذلك بتنظيم أسواق، لهم منافعها وعليا أوزارها، ثم هي في ذات الوقت الذي تقوم فيه بهذا الدور الإجرامي لخنق إمكانياتنا المادية وبث الشك والسخرية من قيمنا وديانتنا وأخلاقنا بكل الوسائل التي ذكرت والتي لم تذكر، في هذا الوقت بالذات تحاول أن ترثنا في إفريقيا لا من حيث الاستغلال المادي فحسب، ولكن من حيث نشر الديانة المسيحية بين أهاليها الذين لم يعتنقوا أية ديانة بعد، بل ويحاولون حتى مع من بلغتهم دعوة الإسلام، أن ينسلخوا من ديانتهم الأولى ويلتحقوا بالركب المسيحي الزاحف . فالبعثات المسيحية في كل قطر من أقطار افريقيا، بل في كل بلدة ومدشر، من كل جنس، ومن كل مذهب من مذهب المسيحية، والإعانات والوسائل تتدفق عليها من كل حدب وصوب، والمدارس تقام في كل بلد من بلدان أوروبا وأميركا لتخريج مبشرين أكفاء، لهم جميع المؤهلات التي تضمن لهم النجاح في مهمتهم الخطيرة. أما عن الوسائل فحدث ولا حرج، فلم تعد وسائل الوعظ والإرشاد بكافية في هذا العصر، بل تستعمل المدرسة، والنشرات، والعلاج، والإسعاف، وتوزيع الأدوية بالمجان، وكل وسائل البر والإحسان، زيادة على خفض الجناح والشفقة والرحمة التي يربى عليها الآباء المسيحيون، والتي تخدع كثيرا من البسطاء . إذا علمنا هذا، بقي أن نعلم شيئا آخر، وهو أننا دولة صغيرة، إمكانياتنا المادية محصورة، وعدد سكاننا قليل وقليل جدا بالنسبة للشعوب الكبيرة فالقوة والاحترام اللذان ننشدهما لا يأتيانا من القوة المادية، على الأقل في الظروف المستقبلة، ولكنهما سوف يسعيان إلينا متى شمرنا على سواعدنا، وحملنا من جديد مشعل الدعوة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والمبادئ الإسلامية إلى ربوع افريقيا، تتميما لرسالة أجدادنا، وقياما بواجبنا الديني نحو إخوان لهم كل الاستعداد للانسجام معنا ووضع اليد في اليد لدرء الغزو الأجنبي المادي والروحي. برهنوا على ذلك في الماضي. وما يزالون يبرهنون عليه حتى اليوم، أو قل هم أشد برهنة عليه اليوم. وأخيرا من أجل تحصين أنفسنا قبل كل شيء ! فالمرء قوي بأخيه كما قيل . وقبل أن أختم حديثي لابد لي من أن أنبه إلى لأنه لا يمكننا أن نؤدي هذه الرسالة الخطيرة إلا إذا أصلحنا من حالنا وذلك أولا وقبل كل شيء باقتلاع رواسب الاستعمار من عقولنا وقلوبنا. ونبذ كل ما بث من ريب حول مقوماتنا وأخلاقنا وديننا، وتحصين أنفسنا ضد الميوعة والاستهتار والانحلال. حتى نكون جيلا قوي الشكيمة، مؤمنا بدينه، متحمسا لأداء رسالته السماوية، التي كانت سبب سؤدد قومه في جميع عصوره الذهبية . وبعد فهذه كلمة أوحى لي بها موضوع ذكرى عيد العرش المجيد، وأنا أستعرض شريط هذا العرش الجبار، الذي استعصى تقويضه على كافة الدول التي حاولت بكل الوسائل الشريفة والدينية جعل حد لحياته؛ فلم أجد له سندا في تحصين نفسه ضد العواصف والزوابع هذا النور الذي جاء به خير البشرية ورسول الإسلام الأكرم سيدنا محمد عليه وعلى آله أزكى الصلاة والسلام ولا شك في أن وارث هذا العرش جلالة محمد الخامس، وهو من نعرف غيرة على دينه، وتصلبا في الدفاع عن حوزته وحرماته، سيرسم الخطط، ويلهب الحماس ويعبئ الهمم حتى يقوم هذا العرش بكل التزاماته نحو هذا الدين الذي قرر ضرورة وجوده، وظل سنده الأقوى في هذا البلد الأمين، لكي يتابع حمل المشعل المنير في ربوع القارة الإفريقية المتطلعة دائما بكامل اللهفة والشوق لكل ما يصدر من المغرب من إشراق ونور .