logo
#

أحدث الأخبار مع #رنافوروهار

شبح نهاية عصر الدولار يحوم في أفق النظام المالي العالمي
شبح نهاية عصر الدولار يحوم في أفق النظام المالي العالمي

البيان

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • أعمال
  • البيان

شبح نهاية عصر الدولار يحوم في أفق النظام المالي العالمي

رنا فوروهار في مقال سابق لي نُشر عام 2019، طرحت ما سميته «سيناريو يوم قيامة الدولار»، وهو تصور لتحول استراتيجي في هيكل العولمة الاقتصادية نحو نظام مالي عالمي يتجاوز اتفاقية بريتون وودز. ومثل هذا التحول سيؤثر سلباً في قيمة الدولار الأمريكي والأصول المرتبطة به، ما سيؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في عائدات السندات ودفع أسعار الذهب ومختلف العملات الأجنبية نحو مستويات قياسية جديدة. وها نحن أمام واقع المرحلة الجديدة، فبينما يتأرجح مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» تبعاً لتقلبات مزاج دونالد ترامب اليومية، فإن ملامح عصر جديد باتت واضحة للعيان. وعلى الرغم من أنني لم أكن بارعة يوماً في تحديد توقيت التحولات الكبرى في الأسواق فكوني نشأت في أسرة مهاجرة يجعلني أميل إلى تجنب المخاطر مبكراً، لذلك، أرى أن منظومة الاستثمار برمتها تشهد تحولاً عميقاً، وأن إعادة هيكلة المحافظ الاستثمارية بعيداً عن السوق الأمريكي أضحت ضرورة حتمية، بغض النظر عن مسار الحرب التجارية. وحتى لو كانت كامالا هاريس تولت مقاليد السلطة، لما تغير واقع أننا نعيش في عالم ما بعد «إجماع واشنطن» (وهو ما اعترفت به إدارة بايدن صراحةً)، كما أننا نسير - وإن بوتيرة أبطأ - نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، لم يعد فيه الدولار وأصوله يحتكران المشهد الاستثماري العالمي. قليلة هي قصص النجاح الاستثماري التي تدوم لأكثر من عقد، وبينما تربعت الولايات المتحدة على عرش الاقتصاد العالمي لفترة تتجاوز ذلك بكثير، إلا أن النموذج المالي المُفرط والمركّز والمثقل بالديون الذي دفعها إلى القمة قد استنفد طاقاته بصورة تتخطى شخص ترامب وتصرفاته المثيرة للجدل. وتبرز في هذا السياق عدة إشكاليات جوهرية، أولاها الاعتماد المفرط على النمو الاقتصادي المدفوع بتضخم قيمة الأصول، فقد تمحورت تقريباً جميع القرارات الاقتصادية الأمريكية الكبرى خلال العقود الخمسة الماضية حول دعم أسعار الأصول بدءاً من تحرير أسعار الفائدة أواخر السبعينيات، مروراً بشرعنة استرداد الشركات لأسهمها، وصولاً إلى الإعفاءات الضريبية لمكافآت الأداء المدفوعة بالأسهم التي أنتجت الثروات الورقية الهائلة في وادي السيليكون. يروّج ترامب ومستشاروه لفكرة أن المواطن العادي لا يأبه بتقلبات البورصة، لكن حقيقة أن نمو أسعار الأصول قد تجاوز بشكل صارخ نمو الدخل تكشف عن ارتهان متزايد للجميع بأسواق المال. كما أن انكشاف الأسر الأمريكية على الأسهم بلغ مستويات قياسية (حيث تمثل الأسهم وصناديق الاستثمار 26% من إجمالي أصول الأسر)، ما يعكس هشاشة متنامية أمام أي انهيار محتمل في الأسواق، سواء على مستوى الأفراد أو الاقتصاد برمته. وكشف المحلل لوك جرومن في عرض تقديمي نُشر في يناير أن «أسواق الأسهم باتت المحرك الرئيس لإيرادات الضرائب الفيدرالية الأمريكية» منذ عام 1995، محذراً من أنه «إذا تراجعت الأسهم بشدة واستمرت في انحدارها، فستدخل معدلات الإنفاق الاستهلاكي والناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في دوامة ركود، ما سيدفع العجز نحو مستويات أعلى»، وسيحدث ذلك في وقت حرج يظل فيه شبح التضخم قائماً وتتصاعد فيه علاوات المخاطر التي يطالب بها المستثمرون مقابل الأصول الأمريكية. وبغض النظر عن مسار الرسوم الجمركية، يجمع معظم المحللين على ترقب موجة تصحيحية أكبر لأسعار الأسهم الأمريكية، فالتقييمات الحالية لا تزال مبالغاً فيها مقارنة بنظيراتها العالمية، وقد صنف أحدث تقارير صندوق النقد الدولي حول الاستقرار المالي هذه الظاهرة كمصدر خطر كبير يهدد أسواق المال العالمية. ومن بواعث قلقي العميق حول الأسواق الأمريكية، الارتفاع الحاد في ديون القطاع الخاص ومستويات الرافعة المالية خلال السنوات الأخيرة، حيث شهد اقتراض الشركات من أسواق الائتمان الخاصة زيادة ضخمة، وخاصة من قبل شركات كانت تُصنف تقليدياً كشديدة الخطورة للحصول على التمويل المصرفي. وتحمل العديد من صناديق الائتمان الخاصة المانحة لهذه القروض تواريخ استحقاق محددة - فترات زمنية لن تستطيع بعدها تجديد القروض - ستحل بين الوقت الراهن وعام 2027. ويقول كوري فراير، المستشار السابق لهيئة الأوراق المالية والبورصات لشؤون الاستقرار المالي، المدير الحالي لحماية المستثمرين في اتحاد المستهلكين الأمريكي: «لو تزامن تدهور بيئة الأعمال مع استحقاق حزمة كبيرة من الائتمانات الخاصة، فقد نشهد موجة إفلاسات متعددة ومتزامنة». وقد تتجاوز تداعيات هذا السيناريو مجرد انهيار مصارف الظل لتطال القطاع المصرفي النظامي، الذي أصبح أكثر انكشافاً على الكيانات غير المصرفية مقارنة بوضعه عام 2008 حين اندلعت الأزمة المالية العالمية. وتتمثل النقطة الأخيرة في تسرب مخاطر إضافية إلى النظام المالي الأمريكي عبر العملات المشفرة، في وقت تتبنى فيه إدارة ترامب نهجاً متساهلاً تجاه الضوابط التنظيمية، مع تقليص ممنهج لكوادر هيئة الأوراق المالية والبورصات، وإضعاف متعمد لمكتب حماية المستهلك المالي. ومما يثير القلق أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يدعمان قانون «جينيوس»، الذي سيفتح الباب على مصراعيه لاستخدام العملات المشفرة في الاقتصاد الحقيقي، ما قد يفاقم المخاطر المحدقة التي سبق استعراضها. وكانت حكومة بايدن قد اضطرت بالفعل لتقديم دعم غير رسمي لمنصة العملات المشفرة «سيركل» (Circle) عندما انهار بنك «وادي السيليكون». ومن شأن التشريع الجديد، الذي اجتاز مؤخراً المراحل الأولية في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، أن يحفز دخول المزيد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى سوق العملات المشفرة، وهو قطاع يمتلك فيه كل من الرئيس ترامب ومستشاره المقرب إيلون ماسك مصالح شخصية واضحة. إنني لا أزعم هنا حتمية انهيار الاقتصاد الأمريكي بفعل أزمة سيولة ناجمة عن ديون الشركات أو العملات المشفرة، رغم أنني لن أستغرب إذا انبثقت الأزمة المالية القادمة من هذين القطاعين. بل إن ما أؤكده هو أنك لست بحاجة للإيمان بحرب تجارية وشيكة لتدرك أن أسواق الأصول الأمريكية أصبحت متزايدة المخاطر ولا تزال مقيّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية. وعندما نضيف لذلك أزمة الثقة التي صنعها ترامب، فإنني أرى أن «سيناريو يوم قيامة الدولار» الذي تحدثت عنه لا يزال هناك احتمال كبير لحدوثه.

أمريكا.. الاستقرار المفقود وتحولات القوة العظمى
أمريكا.. الاستقرار المفقود وتحولات القوة العظمى

البيان

time١٥-٠٤-٢٠٢٥

  • أعمال
  • البيان

أمريكا.. الاستقرار المفقود وتحولات القوة العظمى

رنا فوروهار عندما طرحت هذه الفكرة للمرة الأولى في أكتوبر الماضي أشرت إلى أن الأسواق الناشئة غالباً ما تتميز باقتصادات غير مؤكدة، وسياسات فاسدة، ومؤسسات ضعيفة للغاية، بحيث لا يمكنها إنفاذ المعايير الديمقراطية، والعنف، والاستقطاب الاجتماعي. لقد كانت الولايات المتحدة تتجه بسرعة في هذا الاتجاه منذ عام 2016، لأسباب نعرفها جيداً، على الرغم من أن أسعار الأصول ومعدلات الاقتراض لم تعكس ذلك بعد. بدلاً من ذلك رأينا بشكل متكرر ارتفاع الأسهم والعملة الأمريكية خلال فترات الضغط السياسي والاقتصادي بين عامي 2016 و2024، وذلك بفضل وضع الدولار كونه ملاذاً آمناً. ولا يبدو أن كل العوامل التي دعمت الشركات الأمريكية، من أسعار الفائدة المنخفضة إلى الهندسة المالية وصولاً إلى العولمة ذاتها، قد استنفدت تماماً، إذ بدت أسواق الأصول الأمريكية محصنة ضد فكرة سيناريو انهيار الدولار، الذي من شأنه أن يدفع العملة وأسعار الأصول نحو التراجع الحاد. لقد أنهى ترامب أخيراً «الاستثنائية»، التي تمتعت بها أمريكا، فأسلوبه القيادي المتقلب - الذي يشبه سائقاً ينتزع عجلة القيادة لإجبار السائق المقابل على الانحراف - يعرض الآن عملة بلاده وقيمة الأسهم للخطر، وهو ما يحدث دوماً في الاقتصادات الأخرى «غير الاستثنائية»، التي تشهد هذا القدر من الاضطراب. وقد أشار مارك روزنبرغ، مؤسس ورئيس قسم الأبحاث في شركة «جيوكوانت»، الأسبوع الماضي إلى أن «العلاقة السلبية بين المخاطر السياسية والدولار ومؤشر «إس آند بي 500» أصبحت تشبه ما نراه في الأسواق الناشئة». وهذا التطور ليس مفاجئاً، رغم أن الكثيرين في مجتمعي الأعمال والاستثمار تصرفوا كما لو أنه كذلك، حيث ركز العديد من الرؤساء التنفيذيين على احتمالات خفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية في فترة ترامب الثانية، متجاهلين حالة عدم الاستقرار الشاملة والتحول الجذري في النموذج الاقتصادي، الذي بشر به. أما سلوك ترامب الشخصي فلم يختلف كثيراً عن قادة الأسواق الناشئة: فهل هناك ما هو أكثر تماثلاً مع هذه الأسواق من زعيم يحيط نفسه بمساعدين تم اختيارهم على أساس ولائهم المطلق؟ فكلما ارتكزت القيادة على الشخصية زاد تحكم شخص واحد في النتائج الاقتصادية، بقدرته على المنح والمنع والإفلات من الحساب، وكلما ضعفت المؤسسات ارتفعت احتمالية إفلات هذا الحاكم من العقاب. وأضاف روزنبرغ أن انتخاب ترامب كان بمثابة نتاج توجهات مشابهة للأسواق الناشئة على مستوى الاستقرار الاجتماعي والمؤسسي الأمريكي، وهي توجهات تتنامى بوضوح منذ 2017. رغم ذلك استغرق الأمر التهديد بحرب اقتصادية على الحلفاء والخصوم على حد سواء، بطرق تركت حتى صانعي السياسات التابعين لترامب يكافحون لمواكبتها، لتغيير تصورات المخاطر المترتبة على هذه التوجهات، وبأساليب أربكت حتى فريق ترامب نفسه، فبينما كان ممثل التجارة الأمريكي «جيميسون جرير» يدافع بحماس أمام الكونغرس عن فرض تعريفات جمركية كان ترامب يقرر منح عشرات الدول مهلة إعفاء تمتد لتسعين يوماً، وهو ما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل ستؤخذ تصريحات أي مسؤول في إدارة ترامب على محمل الجد في أية مفاوضات مستقبلية؟ واللافت أن أسواق الأسهم تعاملت، حتى الأسبوع الماضي، وكأن ترامب يتحكم في زمام الفوضى التي أطلقها، فحين غرد بأنه «الوقت المثالي لشراء الأسهم»، قفزت المؤشرات استجابة لتلميحه، في نمط يحاكي سلوك الأسواق الناشئة تماماً، وهو ما يذكرنا بحادثة عام 2008 حين أدت تصريحات موجزة من بوتين ضد أحد أباطرة الفحم والصلب إلى تبخر 6 مليارات دولار من قيمة شركته في لحظات، وكذلك الحال في تركيا، حيث تتأرجح الليرة والأصول المالية صعوداً وهبوطاً مع كل خطاب لأردوغان، إلا أن سوق السندات أكثر حكمة، وقد حمل منذ فترة رسائل مغايرة عما تروج له سوق الأسهم، مفادها أن تكاليف الاقتراض لن تتراجع، وأن المخاطر السياسية باقية، فرغم انتعاش الأسهم بما عرف إعلامياً بـ«طفرة ترامب»، ظلت عوائد السندات مرتفعة، كما أن موجة بيع السندات، رغم كونها ملاذاً آمناً تقليدياً، خلال انهيار الأسهم الأسبوع الماضي تكشف حقيقة صادمة: إما أن المستثمرين مضطرون لتسييل استثماراتهم الآمنة لتغطية خسائر حادة في محافظهم، وإما أن الثقة بمستقبل أمريكا نفسها تلاشت. قد يتم تسجيل الأسبوع الماضي في التاريخ كبداية ملموسة وحقيقية لأفول ما يعرف بالاستثنائية الأمريكية، فقد صرح ستيفان بوجناه، الرئيس التنفيذي لبورصة «يورونكست»، لإذاعة فرانس إنتر قبل أيام قائلاً: «الخوف يسود الأجواء في كل مكان، فالولايات المتحدة باتت بلداً لا يمكن التعرف عليه، نحن نعيش في مرحلة انتقالية عميقة، هناك حالة من الحداد، لأن أمريكا التي عرفناها كقوة مهيمنة طالما تشابهت مع القيم والمؤسسات الأوروبية، أما اليوم فهي أقرب إلى نموذج الأسواق الناشئة». وأنا أرى أن هذا التحول سيستمر في حقبة ترامب، بغض النظر عن مصير التعريفات الجمركية، فحتى لو تراجعت الصين وسايرت مزاج الرئيس الأمريكي (وهو ما أستبعده)، أو حتى لو انتهى المطاف بتعديلات محدودة على النظام التجاري العالمي، فإن الضرر قد وقع بالفعل، فقد انهارت الثقة تماماً، ويسود القلق في أوساط المستثمرين والشركات على حد سواء، ما سينعكس بلا شك على السلوك الاقتصادي. وستظل نزوات ما يمكن وصفه بـ«رأسمالية كاليجولا» تلقي بظلالها على المشهد حتى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس (وشخصياً أنا أخطط للاحتفاظ بسيولة نقدية واستثمارات في الذهب حتى ذلك الحين)، إلا أن تداعيات هذه المرحلة ستمتد لفترة أطول بكثير، خاصة مع التخفيضات الضريبية التي ستدخل حيز التنفيذ خلال الأشهر المقبلة، والتي ستخلق وضعاً غير مستدام إطلاقاً للديون الأمريكية، فهل بات من المحتمل أن تتحول الولايات المتحدة إلى بؤرة لأزمة ديون عالمية على غرار أزمات الأسواق الناشئة؟ حقيقة كنت سأستبعد هذا السيناريو في الماضي، أما اليوم فلم أعد أستبعده.

تحولات جذرية في الاقتصاد العالمي والتجارة تتجاوز التعريفات
تحولات جذرية في الاقتصاد العالمي والتجارة تتجاوز التعريفات

البيان

time١٨-٠٢-٢٠٢٥

  • أعمال
  • البيان

تحولات جذرية في الاقتصاد العالمي والتجارة تتجاوز التعريفات

رنا فوروهار يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة، وهو ما يزعزع استقرار الأسواق المالية، ويثير حفيظة الدول الصديقة والمنافسة على حد سواء، لكن من المهم تذكر أن العديد من التغييرات، التي نشهدها اليوم في مجال التجارة العالمية وشبكات التوريد والإنتاج العالمية بدأت منذ فترة طويلة، وليست مرتبطة بشكل مباشر بسياسات الرئيس الأمريكي، والأهم من ذلك أن الاتجاهات الكبرى في الاقتصاد العالمي قد تختلف تماماً عما نتوقعه. ولنأخذ مثالاً على ذلك ما يعرف بـ«الإنتاج القريب»، وهو توجه يقضي بنقل عمليات الإنتاج إلى دول قريبة جغرافياً، ونلاحظ هذا التوجه بوضوح في أمريكا الشمالية. حيث أدت العلاقات التجارية المتنامية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا خلال السنوات الأخيرة إلى تقليل اعتمادها على الصين (وهذا ما يجعلنا نتساءل عن سبب رغبة الرئيس ترامب في تعطيل هذه العلاقة الناجحة)، لكن الصورة العالمية مختلفة تماماً. فوفقاً لدراسة حديثة أجراها معهد ماكينزي العالمي فإن متوسط المسافة الجغرافية للتجارة العالمية قد ازداد خلال السنوات العشر الماضية بمعدل 10 كيلو مترات سنوياً، حتى وصل متوسط المسافة التي يقطعها دولار واحد من التجارية العالمية إلى حوالي 5200 كيلومتر. ويعود السبب في ذلك إلى أن استراتيجية نقل الإنتاج إلى دول صديقة - وهي توجه للشركات لنقل إنتاجها إلى دول حليفة سياسياً - لا تعني بالضرورة النقل إلى دول قريبة جغرافياً. فمثلاً بينما نقلت الولايات المتحدة جزءاً من سلاسل توريدها إلى المكسيك المجاورة، فقد نقلت جزءاً آخر إلى فيتنام البعيدة. وفي أوروبا نرى تحولاً من الاعتماد على الطاقة الروسية إلى استيراد الطاقة من الولايات المتحدة البعيدة - ولو مؤقتاً. وفي الوقت نفسه تعمل دول مثل البرازيل والهند ودول رابطة آسيان على إقامة تحالفات تجارية جديدة حول العالم، ورغم أن تقليل الانبعاثات الكربونية يستلزم تقصير سلاسل الإمداد – لا سيما أن قطاع النقل والخدمات اللوجستية هو ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة بعد الصين – فإن التجارة العالمية تتوسع جغرافياً أكثر من أي وقت مضى. على الجانب الآخر تتشكل تكتلات تجارية جديدة، وإن كان ذلك على أساس جيوسياسي وليس جغرافياً، فقد كشفت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في مايو الماضي عن ظهور ثلاث كتل تجارية رئيسية متوافقة سياسياً: الأولى تدور في فلك الولايات المتحدة وتضم أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، والثانية تميل للصين وتشمل روسيا وبيلاروسيا وسوريا وإريتريا، أما الثالثة فتضم دولاً تتبنى سياسة الحياد مثل الهند ودول الآسيان، وغيرها من دول «الجنوب العالمي»، وهي دول تحاول الموازنة في علاقاتها مع القوى الكبرى. وشهد حجم التجارة بين الدول غير المتوافقة سياسياً تراجعاً بنسبة 7% بين عامي 2017 و2024، بحسب معهد ماكينزي العالمي، ورغم أن التعريفات الجمركية والحروب التجارية لعبت دوراً في هذا التراجع، إلا أن السبب الرئيسي يعود إلى الصدمة، التي أحدثها اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 2022. ورغم أن هذا التراجع يبدو أقل حدة من حالة التفكك التجاري، التي شهدها العالم إبان الحرب الباردة، إلا أن تأثيره الاقتصادي أكبر بكثير، حيث كانت التجارة العالمية في السلع تشكل 16% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي آنذاك، بينما تمثل اليوم 45% منه. وتقول جيتا غوبيناث، النائب الأول لمدير صندوق النقد الدولي، إن الدول داخل الكتل التجارية كانت تسعى للتكامل فيما بينها خلال الحرب الباردة، بينما نراها اليوم تميل للانغلاق على نفسها. ونرى هذا بوضوح في سلوك الولايات المتحدة، التي تهدد بفرض تعريفات جمركية على الدول نفسها، التي عززت علاقاتها الاقتصادية معها خلال السنوات السبع الماضية. ولفهم طبيعة التغيرات الاقتصادية في أي دولة علينا تحليل كل قطاع صناعي على حدة، فعلى سبيل المثال قد يعتقد البعض أن الزيادة الكبيرة في واردات الولايات المتحدة من معدات النقل المكسيكية تعني انخفاضاً في الواردات من الصين، لكنها في الواقع تعكس تراجعاً في التجارة مع كندا. وبالمثل فرغم انخفاض حجم التجارة المباشرة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن قيمة الواردات الأمريكية المعتمدة على الصين لم تتراجع بشكل كبير. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المنتجات الصينية تمر الآن عبر دول وسيطة قبل وصولها إلى السوق الأمريكية، وكما هو معتاد في عالم التجارة العالمي فإن تتبع الواقع الحقيقي للتدفقات التجارية مهمة بالغة التعقيد. وفي ظل هذا الواقع الجديد تتبنى الشركات استراتيجيات مختلفة للتكيف، فبدلاً من الانحياز لكتلة تجارية واحدة بدأت معظم الشركات في التحول إلى نموذج أعمال جديد يتضمن تكاليف إضافية، لكنه يتيح لها العمل في الكتل الثلاث، كما تبحث عن طرق لتقليل المخاطر الجيوسياسية في عملية تطوير المنتجات. فمثلاً تتجه شركة يونيليفر العالمية إلى تقليل درجة تخصيص منتجاتها للأسواق المختلفة، وتفضل بدلاً من ذلك الاعتماد على مواصفات قياسية موحدة، مما يتيح لها نقل منتجاتها بسرعة من سوق إلى آخر عندما تتغير الظروف السياسية. وتتجه العديد من الشركات إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمواقع المحتملة للاضطرابات التجارية، وأتمتة خطط العمل المعقدة لسلاسل التوريد. وعلى سبيل المثال طورت شركة شنايدر إلكتريك الفرنسية نظاماً برمجياً متطوراً، أطلقت عليه اسم «برج المراقبة»، يقوم بمراقبة شبكة الموردين متعددة المستويات بأكملها، ويمكنه إعادة توجيه الطلبات فوراً إلى أجزاء مختلفة من الشبكة إذا كانت هناك شركة أو دولة قادرة على تلبيتها. ورغم أن التعريفات الجمركية، التي يفرضها ترامب، وما قد يقابلها من تدابير مضادة، ستؤثر حتماً على شكل التجارة في السنوات القليلة المقبلة - حيث نرى بالفعل مسارعة من جانب العديد من الشركات الدولية للامتثال، وزيادة طاقتها الإنتاجية في الولايات المتحدة - إلا أن هناك تحولات أكبر ستستمر في التأثير على المشهد العالمي حتى بعد رحيل الإدارة الحالية. وفي هذا السياق أعلنت الصين مؤخراً عن توجه لتسريع خططها الخاصة بفك الارتباط التكنولوجي، وهي خطط بدأتها في عام 2015، أي قبل انتخاب ترامب، وتوقع تقرير حديث صادر عن مجموعة بوسطن للاستشارات أن تنكمش التجارة الثنائية بين الغرب والصين بمقدار 221 مليار دولار بحلول عام 2033، بانخفاض نسبته 1.2%. وفي رأيي فإن العالم يبالغ في تقدير دور الولايات المتحدة وتأثيرها على ما يحدث فعلياً في التجارة العالمية، فالنموذج العالمي يتغير، سواء كان ترامب موجوداً أم لا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store