منذ يوم واحد
الآفاق المختلفة لاقتصادات الحرب
75
كان الإنفاق العسكري الباهظ أحد عوامل انهيار الإمبراطوريتين الرومانية والإسبانية، واندلاع الثورة الفرنسية، حيث إن خوض حملات عسكرية لا نهاية لها، وغالبًا ما تكون خاسرة، قد يكلف الدولة ثمنًا باهظًا. وقبل القرن العشرين، كان الإنفاق العسكري الباهظ يتسبب عادةً في نفاد احتياطيات الذهب لدى الحكومات التي تخوض حملات عسكرية متواصلة، وهو ما كان يؤدي إلى إغراق الدولة في أزمات مستمرة. أما في عصر العملات الورقية والأسواق المالية المتطورة، باتت الاقتصادات الكبرى تتمتع بقدرة واسعة - وإن لم تكن مطلقة في نهاية المطاف - على الاقتراض لتمويل الحروب. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، واجهت ألمانيا واليابان قيودًا على قواتهما المسلحة فرضها الحلفاء، ولكن نتيجة لذلك استفاد البلدان من «عائد السلام» بعد الحرب، حيث حققت شركاتهما المصنعة التي تركز على التصدير أرباحًا هائلةً مع تحول الأسواق الاستهلاكية إلى الطابع العالمي خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
ويختلف طابع اقتصاد الحرب، إلا أنه قد يكون مفيدًا للنشاط الاقتصادي، وإن كان ذلك يعتمد على نقطة البداية، وربما يحدث ذلك على المدى القصير فقط. ويمكن القول إن اندلاع الحرب العالمية الثانية ساهم بشكل كبير في إنهاء الركود الاقتصادي الحاد وارتفاع معدلات البطالة في ثلاثينيات القرن الماضي. فقد أدت الزيادات الهائلة في الإنفاق الحكومي في الاقتصادات الغربية إلى تحفيز الإنتاج الصناعي، وانخفاض معدلات البطالة، رغم أن هذه الاقتصادات كانت قد بدأت في التعافي قبل اندلاع الحرب، بينما ارتفع معدل الدين الحكومي بشكل حاد خلال فترات النزاع. وقد واجهت روسيا حملة عسكرية في أوكرانيا أطول وأكثر تكلفة بكثير مما كانت قد توقعته في عام ٢٠٢٢، وتعرضت لعقوبات صارمة من القوى الغربية. ومع ذلك، ورغم تأثر اقتصادها في بعض النواحي، فقد أثبت قدرًا ملحوظًا من الصمود.
وأشار الدكتور ريتشارد كونولي، المتخصص في الاقتصاد الروسي في مقال نشره إلى وجود نقاط قوة معينة في الوضع الاقتصادي الروسي. كما أوضح أن الاقتصاد الروسي لا يتمتع بجميع سمات الاقتصاد الحربي، حيث لم تُجبر البلاد على فرض ضوابط على الأسعار أو السيطرة المركزية على الاقتصاد. وقد حافظت روسيا على إيرادات قوية من صادرات النفط، بينما لا يتجاوز الدين العام 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أدنى مستوى بين اقتصادات مجموعة العشرين. وعلى الرغم من ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، إلا أن العديد من الشركات والأسر يتمتعون بإمكانية الحصول على قروض مدعومة. ورغم وجود نقص في العمالة، إلا أن ارتفاع الأجور المصاحب لذلك، إلى جانب المدفوعات الكبيرة التي تُقدم لعائلات المجندين في الجيش، قد ساهما في تعزيز الطلب المحلي وتقليص التفاوتات الاقتصادية بين المناطق الروسية. كما ساهمت القيود التي فرضت على حركة رؤوس الأموال في التشجيع على زيادة الاستثمار داخل البلاد. وعلى الصعيد السياسي، دفع غزو روسيا لأوكرانيا العديد من الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكري. ويُعد التطور الأبرز في هذا السياق ما حدث في ألمانيا. فعلى مدى عقود، التزم القادة السياسيون في ألمانيا بسياسات مالية محافظة وبمستويات محدودة من الإنفاق العسكري. إلا أن هذا النهج قد تغير الآن مع موافقة البرلمان على تخفيف القيود الدستورية على الاقتراض. وتُحدث هذه الإجراءات تأثيرًا أشبه بالحافز الاقتصادي. فقد رفعت مؤسسة جولدمان ساكس من توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بمقدار 0.2% هذا العام، وبنسبة تتراوح بين 0.5% إلى 1.5% لعام 2026.
ومن النتائج الثانوية الأخرى لاقتصاد الحرب الحافز الناتج عن جهود إعادة الإعمار. ويمثل انتهاء الصراع في سوريا فرصة سانحة من هذا النوع. ومن المتوقع أن تحقق شركات البناء التركية، على وجه الخصوص، أرباحًا كبيرةً، بفضل قربها الجغرافي من سوريا. وقد شهدت أسعار أسهم شركات البناء والإسمنت التركية ارتفاعًا كبيرًا في شهر ديسمبر الماضي، عقب سقوط نظام الأسد. وفي عام ٢٠٢٣، أشارت تقديرات البنك الدولي إلى أن تكلفة الأضرار التي لحقت بالبيئة العمرانية في سوريا نتيجة الحرب الأهلية التي اندلعت في عام ٢٠١١ بلغت ١١.٤ مليار دولار. وقال فولكان بوزاي، الرئيس التنفيذي لجمعية صناعة الأسمنت التركية، في أعقاب تغيير النظام، إنه على الرغم من وجود تحديات سياسية ولوجستية قد تواجه عملية إعادة إعمار البنية التحتية السورية، إلا أن «الفرص كبيرة جدًا».
مساحة إعلانية