منذ 10 ساعات
سيمفونية الإصلاح
عندما سُئل سقراط فيلسوف اليونان الذي تحمل نتيجة فكره الإصلاحي وتفكره في كيفية إصلاح مجتمعه الإثيني وتخليصه من براثن الفكر السفسطائي الذي حاول أنصاره استغلال شباب إسبرطة واستغلال جهلهم وسذاجتهم لجلب الأموال الطائلة عن طريق السفسطة والتلاعب بالألفاظ معتمدين على بلاغتهم وقدرتهم على الإقناع عن طريق الخطابة.
إلا أن سقراط لم يدخر جهدًا ولا طاقة فكرية لديه إلا واستخدمها لدحض شبهات وفِريات هذه الطائفة التي لا ترى قيمة للحقائق الخلقية، ولا قيمة للمعرفة؛ لأن مثل هذه الأمور نسبية متغيرة؛ لأنها تعتمد على الحواس، والحواس دومًا ما تخدع.
ومن ثم راحوا يروجون لفكرهم الذي من وجهة نظري ليس إصلاحيًا، وإنما فكر ظلامي حصر القضية برمتها في الإنسان مقياس كل شيء، الحقائق نسبية، لا توجد حقائق على الإطلاق وإن افترضنا جدلًا وجودها فلن نستطيع إدراكها وحتى إذا ما أدركناها فلن نستطيع إيصالها للآخرين.
ومن هنا انبرى سقراط لدحض فِرياتهم هذه مستخدمًا منهجًا جديدًا، أعده - إن جاز لي- منهجًا إصلاحيًا. هذا المنهج أقامه على ركيزتين أساسيتين هما التهكم والتوليد، عن طريق فكرة التناظرية، بمعنى مناظرة هؤلاء ومقارعتهم الحجة بالحجة والرأي بالرأي عن طريق الأسلوب الكوميدي الساخر، الذي تم استخدامه في العصر الحديث في المسرح السياسي، عند زكي طليمات ومسرح سيد درويش، وفي عصرنا مسرح محمد صبحي، أولئك الذين وظفوا مسارحهم الكوميدية إلى مسارح للنقد لا للنقض.
فعندما سئل سقراط هل أنت حكيم؟ قال: أنا لست حكيمًا ولا أدعي الحكمة، وإنما أنا متفكر متفلسف محب للحكمة، فالحكمة الكاملة الخالدة لا يتصف بها إلا الآلهة.
ونحن نتفق معه في أن الحكمة لا يتصف بها إلا الإله، وإنما نحن سعاة إليها موظفين جل تفكرنا حتى نصيب جزءًا منها، فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها أينما كانت وأينما تكون، نسعى إليها سعيًا حثيثًا بغية الإصلاح متمثلين قول الله تعالى: (يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ). فمن أولو الألباب هؤلاء؟ إنهم المتفكرون، أصحاب العقول المستنيرة التي لا تدخر جهدًا في سبيل الإصلاح، دأبهم وديدنهم وطنهم وأبناء وطنهم، باذلين الغالي والرخيص في سبيل النهوض به ووضعه في مكانته التي يستحقها وسط الأمم المتقدمة.
ولعل سؤالًا قد نواجه به أو يجابهنا به أحد المثبطين المُقَنِّطين الذين إن جاز لنا وصفهم نقول عنهم "رويبضة القوم"، الذين غلبتهم نزعة اللامبالاة. السؤال: هل ستصلحون أنتم الكون؟ ليس هناك فائدة من مساعيكم. نقول لهؤلاء وأمثالهم: ومن الذي قال لكم إن المتفكر مصلح أو يدعي إصلاحًا، أو هو شخص مفارق للواقع أو رجل خارق، بيده عصا سحرية سيضرب بها البحر فينفلق فرْقين كل فرْق كالطود العظيم، أو سيشير بها إلى المشكلة فتحل. لا، لن نقول ذلك ولن نفعل ذلك، فعصر التفكير الميثولوجي الخرافي ولَّى وانقضى، وعصر الأنبياء أصحاب المعجزات انقضى. وإنما المعجز الحقيقي كامن بداخلنا، المتفكر القابع فينا والذي تحركه هموم ومشكلات وطنه سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية. المعجزة التي أخبرنا عنها الله جل وعلا في قوله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ). فضلًا عن التفكر، معجزة إرادة التغيير وإرادة الصلاح المدعومة بهداية الله وتسديده وتوفيقه في قوله تعالى: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ).
المهم أن نأخذ الخطوة ولا نتواكل ولا نتكاسل ونطرق كل الأبواب وكل سبل الإصلاح، ولابد أن يعلم الجميع أن هذه الطرق ليست ممهدة بالورود، بل مليئة بالعسرات والعقبات، لذلك ضرورة ملحة التسلح بعدة وعتاد للمواجهة، مواجهة أولئك الذين لا يريدون الخير. نعم، الإصلاح دعوة الأنبياء ونداء الله تعالى من فوق سبع سموات، فالإصلاح نقيضه الإفساد، (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).
نعم، الإصلاح ضرورة ملحة الآن، وفقًا لفقه الضرورة أو فقه الواقع، كل في مكانه، المعلم في مدرسته، المهندس في مصنعه، التاجر، الصانع، الطبيب، أستاذ الجامعة، القاضي على منصات القضاء، كل يعمل قدر جهده وقدر استطاعته في سيمفونية تكاملية تعزف مقطوعة موسيقية واحدة، كل يحفظ لحنًا واحدًا، أمامهم نوتة موسيقية واحدة، لحن يخلد أسماءهم مع الخالدين، وإن جاز لي تسميته سأسميه "لحن الإصلاح".
* أستاذ الفلسفة بآداب حلوان