منذ 12 ساعات
الاستخبارات هي الحرب 3
الاستخبارات هي الحرب 3
صفوق الشمري
المقال جزء ثالث من فصل الاستخبارات في الحروب الحديثة، وهو فصل من سلسلة متكاملة تسلط الضوء على التحوّل الجذري الذي شهدته الحروب الحديثة الحالية، وما نعيشه اليوم هو ثورة عسكرية معلوماتية غير مسبوقة، تحوّلت فيها الحروب إلى معارك عقول وشبكات وذكاء اصطناعي، لا مجرد صدامات آليات وبنادق وقوات ومدرعات. في أكتوبر الماضي، كتبنا مقالًا بعنوان: «الحروب الحديثة تُدار بالاستخبارات»، سبقه قبل أعوام تحليل لواقع القوة الأمنية والاستخباراتية خلصنا فيه إلى أن: «إن أهمية الجهاز الأمني والاستخباراتي حاليًا تعادل، بل قد تتفوق، على القوة العسكرية». ولم تكن تلك العبارة آنذاك مجرد توقع، بل تشخيص مبكر لحقيقة بدأت تتجلى اليوم بوضوح في كل ميدان اشتعلت فيه نيران الحرب. تؤكد الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإيرانية الإسرائيلية، على حقيقتين جوهريتين لا يمكن تجاهلهما: 1- الحروب الحديثة شهدت تحولًا جذريًا أنهى فعليًا شكلها التقليدي، نحن أمام نقلة دراماتيكية غير مسبوقة في طبيعة النزاع المسلح، تُعدّ الأوسع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تبدلت أدوات الحرب كليًا، فأصبحت الاستخبارات، والذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة (الدرون)، والصواريخ الذكية، والفرط صوتية هي العوامل الحاسمة والبنية التحتية الجديدة لساحات القتال المعاصر. 2- دروس إستراتيجية عميقة تفرض على كل من يرغب في البقاء والتفوق أن يتعلّم، ويحلّل، ويستخلص العبر من وقائع هذه الحروب، حتى وإن كانت الأطراف المتحاربة خصومًا. فالتطور في طبيعة النزاع يستلزم بالضرورة إعادة تشكيل الإستراتيجيات وتحديث الأدوات بما يتماشى مع مقتضيات عصر جديد من الحروب الذكية والديناميكية. من هنا، نستكمل الحديث عن أهمية الاستخبارات لا بوصفها داعمًا عسكريًا، بل بصفتها العقل المدبر والمحرك الفعال لرسم الحروب. نعم، الاستخبارات هي الحرب ذاتها، من أتقنها انتصر بالحرب ! ثلاث عمليات ميدانية (ثلاثة أمثلة) مهمة جرت مؤخرًا تؤكد بشكل قاطع أن الاستخبارات باتت تقود المشهد القتالي بكل أبعاده: • العملية الأولى: تدمير المقاتلات الإستراتيجية الروسية: في واحدة من أبرز العمليات الاستخباراتية الهجومية خلال السنوات الأخيرة، استُخدمت أسراب من الطائرات المسيّرة صغيرة الحجم، قد تكلّف الواحدة منها أقل من 500 دولار، أُطلقت من شاحنات مموّهة، لتدمير ما يقارب ثلث الأسطول الإستراتيجي الروسي في غضون ساعات. هذه العملية كلفت روسيا ما يقرب من 7 مليارات دولار! عملية ستُكتب في التاريخ العسكري بسبب تدميرها البالغ وتكلفتها الزهيدة، ومن باب الشفافية يُقال إن جهاز استخبارات غربي خطط أو ساعد في العملية ونفذتها القوات الأوكرانية. • العملية الثانية: «البيجر» في مواجهة حزب الله عملية استخباراتية بامتياز، اعتمدت على تقنيات متقدمة للغاية، مكّنت من الرصد الفوري، والتعطيل اللحظي، والتصفية الدقيقة عن بُعد. تخيّل أن ضغطة زر واحدة، وفي أقل من دقيقة، أدّت إلى تحييد أو تصفية ما يقرب من 4000 عنصر من حزب الله خلال الحرب، دون أي تكلفة تُذكر، ومن نفذها ليسوا مقاتلين ميدانيين، بل تقنيون مختصون ربما لم يسبق لهم أن دخلوا ساحة معركة، حققوا ما قد تعجز عنه فرقة عسكرية كاملة مدرّبة على العمليات التقليدية. • العملية الثالثة: تصفية قادة الصف الأول في إيران في الساعات الأولى من اندلاع الحرب الإيرانية الإسرائيلية، نجحت عملية استخباراتية دقيقة في استدراج عدد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين إلى موقع محدد، عبر تلاعب ذكي بالمؤشرات والتحليلات الميدانية، لتُنفذ ضربة واحدة حاسمة أطاحت بجميعهم. هذه العمليات الثلاث تكشف أن من يحدد مسار الحرب اليوم ليس من يقف على أرض المعركة، بل من يجلس خلف الشاشات، يقود المعركة بتحليل البيانات، وتوجيه الذكاء الاصطناعي، وتفعيل الطائرات المسيّرة. كتبنا سابقًا: «في العصر الحديث، أصبحت الحروب تُدار بالمعلومات والاستخبارات والذكاء الاصطناعي والتقنية الحديثة، بدلًا من الاعتماد على الجنود فقط، حيث أصبح الجندي في الحروب الحديثة منفذًا للعمليات أكثر من كونه قائدًا لها. فمن يحدد الأهداف ويصمم العمليات «الاستخبارات» بشقيها الإلكتروني والبشري. ومع دخول الذكاء الاصطناعي، والبحث عن النمط والتضمين والاستبعاد والتحليل وغيرها، أصبحت الشبكات والذكاء وجمع المعلومات هي الكنز والذخيرة الأساسية لمسار الحروب. الحروب التقليدية كانت تعتمد على أجساد قوية ومهارات بدنية. أما اليوم، فـقد يكون الذي يحدد مسار الحروب شخص لا يملك أي بنية جسمانية، وربما يصعب عليه حتى حمل سلاح، ولكنه من خلف الشاشات، وبفضل مهاراته في جمع المعلومات والذكاء الاصطناعي، يستطيع تدمير أهم أهداف العدو. وربما شخص لم يدخل ميدان معركة حقيقيًا، ولكنه من خلف الشاشات يتحكم في درون كأنها لعبة بلايستيشن، ويقضي على أهداف العدو بدقة عالية». ما نريد التركيز عليه في هذا المقال هو ضرورة التكيّف مع هذا الواقع وتقبل التغيير، لسنا نفرض صيغة معينة، لكن نعتقد أن من أهم عناصر النجاح في الحروب الحديثة هو التكيف وقبول الجديد! وهذا بحد ذاته صعب في المجالات التقليدية التاريخية، سواء العسكرية أو الطب مثلًا، وفي علم الإدارة وفصل (إدارة التغيير)، سواء الإداري المدني أو العسكري، هناك ما يسمى «مقاومة التغيير أو صعوبة التغيير لمفاهيم جديدة»، خصوصًا دخول أناس من خارج المجال للعملية ! في عالم يتغيّر بوتيرة متسارعة، لم يعد من المقبول إدارة الحروب والصراعات بعقليات الأمس وأدوات الماضي. الحسم في النزاعات المعاصرة لم يعد مرتبطًا فقط بعديد القوات والآليات، بل أصبح مرهونًا بالفكر الاستباقي، والمعلومة الدقيقة، وسرعة التحليل واتخاذ القرار. هذا التحول فرض ضرورة إعادة تشكيل البنية الذهنية للمؤسسات العسكرية لتكون أكثر مرونة واستيعابًا للبعد الاستخباراتي والأمني. أصبحت الاستخبارات العامة والأمن الوطني والقومي لاعبين أساسيين في صياغة القرارات الإستراتيجية، ولم يعد دورهم يقتصر على الدعم أو التنسيق، باتوا شركاء – بل وقادة – في توجيه العمليات العسكرية. ولعل التحدي الأكبر يكمن في الانتقال من نموذج الفصل بين الأمن والدفاع إلى نموذج تكاملي تتداخل فيه الخبرات الأمنية مع القرارات العسكرية، وتتقدم فيه العقول الاستخباراتية لتوجيه دفة المعركة. ومع التغير الجذري في طبيعة الحروب، خاصة تلك المعتمدة على التقنية والمعلومات، بات من المنطقي أن تُمنح القيادات ذات الخلفية التحليلية أو التقنية في أجهزة الأمن والاستخبارات أدوارًا مباشرة في هيكلة وحدات الاستخبارات العسكرية. ليس تقليلًا من كفاءة الضباط العسكريين التقليديين، بل استجابة ضرورية لمتطلبات المرحلة التي تستدعي توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي والتحليل الشبكي داخل المؤسسات الدفاعية. ورغم وجود ما يُعرف بأمن الاستخبارات العسكرية في الجيوش، إلا أن ما نقصده هنا يذهب أبعد من ذلك؛ نحن نتحدث عن تطعيم العقلية العسكرية بفكر استخباراتي أمني عابر للتقسيمات الهيكلية التقليدية، قادر على استيعاب السياقات المعقدة، واستشراف التهديدات، والتعامل مع الأزمات قبل وقوعها. أي أن الدور الأمني لم يعد مجرد مكون مساعد، بل أصبح عصبًا محوريًا في البنية الدفاعية الشاملة. في هذا السياق، يصبح من المنطقي أن تشمل برامج تأهيل ضباط الاستخبارات العسكرية تدريبًا متخصصًا في مفاهيم الأمن القومي والاستخبارات العامة، كما أن إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية لتستوعب هذا المزج الفكري والتقني تمثل ضرورة لا ترفًا تنظيميًا. الجمود والتمسك بالخطط التقليدية في زمن التحولات الكبرى يُعدّ نوعًا من الإنكار الخطير. فالحروب اليوم لا تُخاض بالأسلحة فقط، بل بالعقول، وبالقدرة على التحليل والتوقع واتخاذ القرار في الوقت المناسب. ولهذا، فإن الاستثمار في أجهزة الاستخبارات العامة والأمن القومي، سواء عبر زيادة الموارد توسيع الصلاحيات، لم يعد خيارًا، بل حاجة إستراتيجية. ولا بد من إعادة توجيه جزء من الميزانيات من بعض القطاعات العسكرية التقليدية نحو هذه الأجهزة الحيوية، بعد أن أثبتت فاعليتها في إدارة الأزمات وتحقيق أهداف إستراتيجية بمجهود وموارد أقل وخسائر أدنى. في الحروب الحديثة، الاستخبارات المتقدمة – البشرية والتقنية – قادرة على تحقيق نتائج نوعية تَعجز عنها الجيوش النظامية في بعض الحالات، وهذا يمثل أعلى درجات الكفاءة والجدوى (Cost-effectiveness) في إدارة النزاعات. ولعل الأهم من كل ذلك أن العقل الاستخباراتي يوفّر الأرواح، ويحمي المقدرات الوطنية، ويمنع الانزلاق في مواجهات مفتوحة طويلة الأمد. فالذكاء الاستخباراتي أداة الحسم الأذكى والأكثر جدوى، في زمن تُقاس فيه قوة الدول بمرونتها المعرفية، ودقتها التحليلية، وسرعتها في التفاعل مع الواقع المتغيّر. المضي نحو هذا التحول لا يمكن أن يُترك لاجتهادات فردية أو مبادرات معزولة، بل يتطلب إرادة مؤسسية واعية، تبدأ بتشكيل فرق تحليل متخصصة تدرس تجارب الحروب الحديثة، وتُعيد هندسة البنية الاستخباراتية والعسكرية على أساس تكاملي يجمع بين الأمن والتقنية والتحليل العميق، بالتوازي مع تبني الذكاء الاصطناعي. لقد بات مفهوم «قوة الدولة» اليوم يخضع لإعادة تعريف. لم يعد يُقاس بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بعمق البنية الاستخباراتية، وكفاءة التعامل مع المعلومة، وسرعة التحليل والقرار. وربما سيكون من الطبيعي أن يدخل معيار «قوة أجهزة الاستخبارات العامة» ضمن معايير قياس القوة العسكرية الشاملة، رغم كونها قطاعًا أمنيًا غير دفاعي بالمعنى التقليدي.