أحدث الأخبار مع #عبدالرزاقالمراكشي


LE12
٣١-٠٣-٢٠٢٥
- ترفيه
- LE12
إسلام مغربي.. الإسلام يهدف بمعتنقيه للحياة الجامعة بين قوة الروح والمادة (الحلقة 30)
حفلت نصوص الإسلام وتعاليمه بالدعوة إلى مواجهة الحياة والاهتمام بها على دعائم مهذبة مشروعة وحث على الاستمتاع بها إجابة لداعي الفطرة والطبيعة التي لا بد أن تسير سيرها المتزن. وكان اهتمامه بها مدعاة لتأسيس الحياة نفسها. تقديم عبد الرزاق المراكشي : عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية '… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. حفلت نصوص الإسلام وتعاليمه بالدعوة إلى مواجهة الحياة والاهتمام بها على دعائم مهذبة مشروعة وحث على الاستمتاع بها إجابة لداعي الفطرة والطبيعة التي لا بد أن تسير سيرها المتزن. وكان اهتمامه بها مدعاة لتأسيس الحياة نفسها. فقد أباح الإسلام التمنع بالعمليات والتجمّل بوسائل الزينة في حدود القصد والاعتدال، وحارب الرهبانية والتبتل والانصراف عن متع الحياة الطيبة، فالإسلام في اهتمامه بالحياة يقف بها موقفا وسطا يدعو إليه وينفر من الجنوح إلى أحد الطرفين اللذين يكتنفان هذا الحد الوسط . فقد دعا الإسلام إلى الروحية المهدية ونهى عن طرفيها التبتل والتكالب على المادة . ولا تغسل في شـيء من الأمر واقتصـد كـلا طرفي قصـد الأمـور ذميـــم فالتبتل وما إليه من رهبانية وانصرف عن الحياة هو في الحقيقة موقف عداء وبغض للحياة. فقد اتجه بعض الناس إلى تنمية روحه فقط، مائلا إلى التبتل والعبادة والتحذير من الدنيا وتنفير الناس من موارد الخير فيها، ودعا إلى الصوم الدائم والزهد في متع الجسد، كأنما يريد أن يسجن الناس في كهف مظلم حتى يفارقوا الحياة. هذه الرهبانية نهى عنها الإسلام في قوله تعالى من سورة الحديد 'ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها '. ففي هذه الرهبانية والعزوف عن الدنيا تعطيل قوى التفكير والإدارة والعمل في الإنسان وترك قوى الكون وأسراره ومنافعه مهملة معطلة سخرها الله للإنسان : ' قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين امنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة'، كما جاء في سورة الأعراف، وقال تعالى في سورة النحل: 'والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون '. وروى من أنس بن مالك إنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها -أي عدوها قليلة- فقالوا: وأين صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال ثلاث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء إليهم رسول الله فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني '. والتكالب على المادة والتغالي في حب الحياة هو الطرف الآخر الذي نهى عنه الإسلام كذلك، فقد أُشرب كثير من الناس حب المال إلى درجة العبادة والتاليه، وصرفوا قواهم إلى الحصول عليه بأي طريق ولو كان غير مشروع حبا في الطغيان والتفاخر والتكاثر، فأغرقوا في المادية العمياء حتى صاروا عبيد لها. يقول الكتاب: 'ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون '. وقد ضرب الله تعالى لذلك الأمثال -ومن ذلك ما قصه في شأن صاحب الجنتين اللتين افتخر بهما عما صاحبه وكانت عاقبته قول جلت قدرته: 'وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها '. ومنه قصة قارون ونهايته: 'فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين '. وهكذا يكون التكالب على الحياة شرا ينهى عنه الدين، لأنه تسلط فردي ومغالاة في حب الدنيا ولا يلبث أن ينتهي بالكوارث: 'من كان يريد الحياة وزينتها نُوفّ عليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحيط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون '. فالإسلام يحارب الروحية البحت لأنها انصراف عن الحياة ويحارب المادية البحت لأنها عبادة للحياة وفناء فيها، ويدعو إلى المادية المهذبة القائمة على التوازن بين حاجات الجسم وحاجات الروح، فإن السعادة الحق في استكمال حظَّي الجسم والروح معا، ولكن في الحد الوسط يقول الله سبحانه: 'ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين '. وقد تعددت أساليب القرآن في الدعوة إلى الحياة بقوة والسيطرة عليها، وبالنظر في خلق السماوات والأرض والتأمل في أسرار الكون وقوى المادة، وإن الله سخّر هذا العالم للإنسان ودعاه إلى استنباط الثروة من مكانه. يقول الله تعالى في سورة النحل : ' والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تربعون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم فيه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك للآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرا لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسوها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون '. فالحياة موضوع جوهري من موضوعات القرآن الأساسية التي اهتمّ فيها بالحياة ومواردها ومصادر الثروة فيها، فقد تناولت هذه الآيات الكريمة بعض تلك الموارد المهمة على أنها من نعم الله على العباد تدعوهم إلى الإيمان بقدرته وعجيب صنعه والاعتراف بوحدانيته . بدأت الآيات بذكر الأنعام الحاملة في مدلولها -الإبل والبقر والغنم إذ هي خيار المال- ورأس الثروة، ومنبع البركة والنساء، واستخدم في الحديث عنها أسلوب الخطاب للتوجه مباشرة إلى المخاطَبين- فبيّن سبحانه أنه خلق لكم هذه الأنواع من الماشية تتخذون جلودها وأوبارها وشعرها وأصوافها ملابس تدفئكم وتدفع عنكم عادية البرد وقسوة الطبيعة، وتجنون ثمارا طيبة من نسلها ولبنها وعظمها وروثها، وتعتمدون عليها في حرث الأرض والحصول على الحب والثمار، وتأكلون لحومها الشهية التي تبني الأجسام، وتقرّ عيونكم بمنظرها الجميل، فتجد فيها النفوس راحة ومتعة واطمئنانا وتذوقا للجمال حين تختال أمامكم في مشيها غادية ورائحة تطلب المرعى أو تسعى إلى ورود الماء. كما أن منها ركائب لحملكم وتحمل أثقالكم في السلم وتركضون عليها في الكر والفر وقت الحرب، وهي الإبل، وخلق لكم دوابّ للحمل والركوب واتخاذ مظاهر الزينة والسلطان، وهي الخيل والبغال والحمير، إنها عدّتكم في الأسفار وسلاحكم المندفع في مواقع القتال، ومتعة كبرى لنفوسكم في حلبة السباق، ويخلق لكم وراء ذلك ما لا تعلمون من وسائل الحمل والركوب والقتال، كالسيارات والطائرات والبواخر والقطارات . يقول سبحانه في سورة يس: 'وخلقنا لهم من مثله ما يركبون'، فتأمل دقة التعبير بالمثلية في الآية. تلك هي دلائل قدرته. ومن تفضيله عليكم أن تكفل ببيان أقوم الطرق للهداية على يد أنبيائه ورسله حتى لا تحيدوا عن الطريق المستقيم ومنكم من هو جائر ومائل عنها . ومن موارد الحياة لكم -أنزل الماء من السحاب المكون بقوانين ثابتة، فجرى أنهارا ووديانا على ظاهر الأرض، أو امتصته ثم تفجر منها عيونا تفيض بالماء العذب 'وأنزلنا من السما ماء يقدر فأسكناه في الأرض'، فتشربون وتسقون دوابكم وتروون زروعكم وتركبون الفلك في الأنهار الجارية، إن في ذلك تنبيها لكم لكي تعملوا الفكر وتدفقوا النظر في عظمة الله . ومن الموارد لكم الأفلاك وحركاتها وما ينشأ عنها من الليل والنهار، ودوران الفصول والأعوام لترتيب مصالحكم وتنظيم معاشكم، إن في عالم الكواكب وتسخير الطبيعة لدعوة إلى العقل أن يسترسل وراءها ويبحث في طواعرها ومكنوناتها . أما عالم الأرض وما نخرجه بطونها وأعماقها من حيوان ونبات ومعادن متباينة الألوان والإشكال فذلك مبسوط أمامكم مستقر بين أيديكم يدل في جلاء على قدرة البديع ويدعوكم إلى الإسماع بالحياة التي خلقت لكم . وسخّر لكم البحار وعالمها العجيب وما لمحيطاتها من قوة جبارة وهيبة آسرة، إذ هي من أعجب ملك الله في الأرض، منها تستخرجون السمك الطري الطازج وتلتقطون اللؤلؤ والمرجان وما إليهما من الجواهر النادرة، وفيها لكم زينة وحلية ومنافع، وتجري بكم فيها السفن الضخمة، وهي البواخر، عابرة المحيطات تطوف بكم في عالم البحار، فتكتشفون الآفاق وجوانب الأرض، ويصبح العالم في قبضة أيديكم في التجارة والرحلة والحروب، ولتبتغوا وراء ذلك من فضله منافع أخرى كثيرة، كقوى الماء في استنباط الكهرباء وتجفيف الملح، وإقامة الحضارات المختلفة على شواطئ البحار. ولعلكم بهذه الموارد الحافلة تتوجهون بالشكر إلى الله على ما أنعم وتفضّل، منصرفين في الظرف نفسها عن التبتل والرهبنة اللذين يأباهما الشرع وتنفر من مساوئهما الطبيعة البشرية المخلوقة لنحيى حياة عملية قوامها القوة والمتعة في حدود 'لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة'.


LE12
٣٠-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. ما حرية الأديان؟ ومن أين جاءت؟ (الحلقة 29)
لقد أكثر الناس الكلام في حرية العقائد والأديان، فلم يوفق الكثير منهم على إصابة الهدف، بل جلهم ضلوا وأضلوا، واشتطوا في النجعة وأبعدوا، وذلك حينما فهموا أن الحري الأديان معناها الفوضى وأن كل واحد يمكن أن يكون له دين وعقيدة تختلف، بل تصادم عقيدة شعبه وقبيلته وعائلته، ولو كانت تلك العقيدة ضربا في الهوس، نوعا من الجنون، أو إحداث بلبلة في الرأي العام وتهجّم على عقائد الأمة وتحطيم لدينا وعقيدتها. تقديم عبد الرزاق المراكشي : عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية '… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه'.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق ' . لقد أكثر الناس الكلام في حرية العقائد والأديان، فلم يوفق الكثير منهم على إصابة الهدف، بل جلهم ضلوا وأضلوا، واشتطوا في النجعة وأبعدوا، وذلك حينما فهموا أن الحري الأديان معناها الفوضى وأن كل واحد يمكن أن يكون له دين وعقيدة تختلف، بل تصادم عقيدة شعبه وقبيلته وعائلته، ولو كانت تلك العقيدة ضربا في الهوس، نوعا من الجنون، أو إحداث بلبلة في الرأي العام وتهجّم على عقائد الأمة وتحطيم لدينا وعقيدتها. وإذا زجر أو أدب من يقومون بذلك الفساد العريض أو حكم عليهم بنص القانون الحق، ثارت الثائرة وكثر الضجيج، وأعول المعولون، ورأينا الذين لا يؤمنون بالله والنبيين ولا بيوم الحساب يتمسكون بكل جدل ويبحثون عن كل شبهة لمقاومة الحق وتغطية الشمس بالشبكة، فنراهم يلوذون بحقوق الإنسان وبقانون منظمة الأمم، ويهددون تارة بأن المغرب قد خالف روح العصر وخرج في ما ذهب إليه من عقاب المرتدين عن عرف العالم المتمدن ورجع بأحكامه القهقرى، إلى غير ذلك من التضليل والتهريج الذي لا يجدي فتيلا ولا يغني من الحق شيئا . ونريد أن نعلن لهؤلاء بكل صراحة أننا معشر المغاربة -شعبا وحكومة- آمنا بالله ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وآمنا بالقرآن والسنة المحمدية، وإنهما الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولسنا نرضى لأنفسنا قانونا أو نظاما غيرهما، وإيماننا بذلك أقوى من الصلب والفولاذ وأثقل من أن تهزه أراجيف المبطلين وأضاليل المضلين والمشعوذين . ونحن حينما نومن بقرآننا وسنّة نبينا وبجميع ما في الإسلام من نظم وتعاليمَ قيّمة، نظنّ أننا فوق القوانين الوضعية الحالية وفوق المدنيات العصرية الحديثة الناقصة، كما نؤمن بأنفسنا وأننا كنا متمدنين ولا نزال متمدنين، بل إن المدنية منا بدأت وإلينا تعود، ونحن معلموها الناس، ويجب أن نكون فيها متبوعين لا تابعين، كما يجب أن ندعو العالم إلى ما عندنا لأنه في حاجة إليه، ولأن ما عندنا أفضل من مدنيته وأنفع. فإذا كانت مدنيات الأمم التي تتقدم بها إلى أسواق العالم عقيقا براقا يجتذب الأنظار، فإن مدنيتنا الإسلامية أمام ذلك العقيق لؤلؤ ومرجان وجواهرُ نفيسة، لأننا بنيناها على تعاليم سماوية وبنوها على تجارب أرضية. ويتبين ذلك في كل نظم الحياة ونظرياتها، ومنها حرية الأديان، التي رفعنا بها الصوت قبل أن يكون للغرب الأوروبي وجود في الأرض.. وحينما كان يتخبط في ظلمات قرونه الوسطى كنا نعلن للناس حرية الأديان وحرية التفكير وحرية العمل، وكفانا بالقرآن دليلا، إذ يقول 'لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ'، وقال تعالى مخاطبا نبيه 'أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين'، أي ليس لك أن تكرههم على الإيمان. وقال تعالى 'لست عليهم بمسيطر'. وقال تعالى 'وما أنت عليهم بجبار'.. وخالف يهود المدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوه وعاندوه علنا فلم يحاربهم، بل أقرهم على دينهم وعادتهم، وأكثر من ذلك حسن معاملته للمنافقين الذين كانوا يحاربون رسالته في الخفاء ويضمرون له العداوة ويتربصون به وبالمسلمين الدوائر، وهو يعلم منهم ذلك حقّ العلم وقادر على عقابهم، ولكنه أهملهم ومنحهم الحرية الكاملة، ولما كان بعض الصحابة يستأذنه في قتل بعضهم ممن كان يظهر عليهم النفاق والكفر، كان عليه السلام يمنع قتلهم . وذكر أحمد أمين في كتابه 'ضحى الإسلام': 'يقول الأستاذ متز إن مما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام، وليست كذلك الثانية، وأن الكنائس والبيَع ظلت في المملكة الإسلامية كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكأنها لا تكون جزاء من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكتسبهم من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فساعد ذلك في خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. كان اليهودي والنصراني أو النصراني حرا أن يدين بدينه، ولكنه إن أسلم ثم ارتدّ عوقب بالقتل. وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل '. هذا قليل من كثير من أدلة حرية الأديان وتاريخها، وإننا نحن الذين وضعنا أسسها وأثبتنا قواعدها، وجميع الناس عالة علينا، إلا أن الحرية الدينية الحقّة ليست كما فهمه كثير من جهَلة العصر الذين ظنوا أن حرية الأديان معناها الفوضى في الدين والزندقة والإلحاد والتلاعب بالعقائد والمقدسات، وكل ناعق نعق يجب أن نحترمه ونهتمّ لهرائه، أو أن نسمح للحمقى والسفهاء بأن يتخذوا الدين هزؤا ولعبا، فيدخلون فيه ويخرجون ويبدلون ويغيرون حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم الضالة وتفسّخهم الخلقي، حاشا وكلا، لم يكن ذلك من حرية الأديان يوما من الأيام ولا كان ذلك مفهوم هذه الحرية عند من له إثارة من علم أو بصيرة دينية، وإنما حرية الأديان التي بناها الإسلام وأقرّها وجعلها من سياساته الراسية هي: احترام أصحاب الأديان الأخرى غير الإسلام بأن تعطاهم حقوقهم كاملة، سواء أكانوا مواطنين أو زوارا أو لاجئين أو كيفما كانوا. ومن حقوقهم ألا يُضطهَدوا لكونهم غير مسلمين، وألا يكرهوا على الدخول في الإسلام، وأن يعاملوا معاملة تتفق وكرامة البشرية، وأن يمارسوا عقائدهم ودياناتهم بكل حرية، دون أن يتدخل أحد في دينهم كما كان ولا يزال واقعا لمجاورتنا من النصارى واليهود والهنود وغيرهم من أهل النحل الذين يقيمون في بلادنا، فهم يمارسون عقائدهم وشعائرهم كأنهم في أوطانهم الأصلية، وهذه هي حرية الأديان التي جرى عليها المسلمون، وأقرها الإسلام منذ القدم . أما أن يكون الدين الإسلامي وشرائعه عرضه لهدم الهدامين وسخرية للساخرين والسفهاء من المنافقين والإباحيين، فلا، ثم لا، ثم لا.. ولأن ذلك لا يمتّ لحرية الأديان بأية صلة وحرية الأديان براء منه، لأنه إنما يمثل الفساد والفوضى والتلاعب بمقدسات الأمة وشعائرها وطعنا للفضيلة في صميم فؤادها ونشرا للرذيلة وتحطيما للأخلاق. ولهذا اقتضت الحكمة صيانة العقائد والنظم الإلهية من تلك الفوضى وعبث المفسدين وعبيد الأهواء والشهوات، فاتخذ عقوبات صارمة لمن يتجرأ على الله ويحاول نشر الفساد بين خلقه ونقض عهده وخيانة وعده وميثاقه بعد أن أعطاه طبعا مختارا، فجعل جزاء المرتدّ القتل، كما في حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص) من بدّل دينه فاقتلوه -رواه الجماعة إلا مسلم، وهذا هو الذي يمكن أن يضع حدا للعبث بالدين، وتلاعب أصحاب الأهواء والشهوات، 'ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تملوا ميلا عظيما '. دين العجائز تجــاوزت حـد الأكثريــن إلى العلــى وسافــرت واستبقيتهــم فـي المراكـــز وخضــت بحـارا ليس بــدرك قعرهــا وألقــيت نفســي فـي فسيــح المفــاوز ولججـت في الأفكــار ثم تراجـــع اخــ تيــاري، إلى استحسـان ديــن العجائــز


LE12
٢٩-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. كلمة حول الدعوة والإرشاد (الحلقة 28)
من طبيعة الحركة المشلولة أنها لا تملك القدرة على أن تبحث عن أسباب الفشل لأنها اصطلحت معه من أول وهلة، وتستمر في خداع وتضليل نفسها بأنها تسعى إلى هدف ويسلمها عنادها الأرعن إلى هوة الهزيمة المردية. تقديم عبد الرزاق المراكشي: عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية '… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق '. سبق أن كتبت على صفحات هذه المجلة الغراء مقالا تناولت فيه طبيعة الحركة وفلسفتها محللا إياها إلى ثلاثة أنواع: حية، وميتة، ومشلولة . من طبيعة الحركة المشلولة أنها لا تملك القدرة على أن تبحث عن أسباب الفشل لأنها اصطلحت معه من أول وهلة، وتستمر في خداع وتضليل نفسها بأنها تسعى إلى هدف ويسلمها عنادها الأرعن إلى هوة الهزيمة المردية، ولهذا فخطورة هذا النوع من الحركة أن لها وجودا وحيّزا، ولكنها لا تنطوي على حاسة معرفة الأخطاء التي ترتكبها ومدى علاقتها هي نفسها بالوسائل المستخدمة للوصول إلى الغاية، والتحقق من سلامة تلك الغاية وتمحيص إمكانيات نجاحها . ومن سمات هذه الحركة أيضا أنها تسرع إلى 'قول' الغاية دون أن تفكر في الوسائل الطبيعية المؤدية إليها، ولهذا تظل دائرة في الفراغ الواسع، وتصبح الغاية منعزلة عن كل نشاط ومجردة عن الواقع، تعيش في عالم الخيال . وهذه الحركة تسود الشعوب التي لا تعرف طريقتها، فتكثر فيها الحركة المشلولة، وتمر السنون دون الوصول على نتائج ايجابية، مع تبذير في الأموال والمجهودات وإنهاك للقوى، ما يؤدي إلى إشاعة اليأس والملل اللذين ينشأ عنهما الانطواء والاستهتار والتمرد . والوعظ والإرشاد، كما يدل اللفظ على معناه، رسالة خطيرة تطلع بمَهمّة تثقيفية في مختلف المجالات الاجتماعية، وتقصد تقويمَ الأخلاق والأجواء النفسية والروحية وإصلاح العادات والتقاليد وتوثيق عرى العلاقات الفردية والاجتماعية وتوجيه الطاقات المؤمنة نحو الإنتاج والتقدم ومناقشة الأفكار الطارئة على الفكرة الإسلامية ومحاربة كل ما يمس العقيدة والسلوك الإسلامي . وتملك حركة الوعظ والإرشاد وسائل مهمة لأداء رسالتها، وأهمها المسجد والإذاعة، كما أن لها ظروفا مساعدة، كالاستعدادات الروحية للاستماع والعمل، وأن الكلمة في المسجد لتفعل أضعافا مضاعفا مما تفعله في الشارع . وإن من واجبنا في المغرب الجديد تحويل هذه الحركة من 'وظيفة' إلى رسالة، ومن طبيعة الرسالة أن تكون لها أهداف سامية محددة ومدروسة، ويجب أن ترتبط بوسائل فعّالة تمليها الدراسة الدقيقة والبحث الجدي . إن حركة التبشير المسيحي تسير على أسس من العلم والدراسة، فكل مشكلة يوليها المبشرون عناية فائقة جبارة من الدرس والتمحيص ويدرسون المناطق المُستهدَفة لتبشيرهم دراسة اجتماعية ونفسية وجغرافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية، وعلى ضوء هذه الدراسة يبتكرون الوسائل الفعالة في إنجاح دعوتهم وتبليغها إلى النفوس ويعقدون المؤتمرات في نهاية كل مرحلة لدراسة النتائج التي حصلوا عليها ولمعرفة الأخطار واقتراح الحلول. والمطلع على نشاط المبشرين وما يكتبون يدرك مدى قيمة هذه الحركة التي تقاوم الإسلام، ويعرف الاستعداد الهائل الذي اتخذته للقضاء على ما أبقته عصور الانحطاط من الإسلام في العالم. ولقد أتيح لي أن أشاهد بنفسي النشاط التبشيري في البلاد العربية: إنه مزعج وجبار ويبعث الصديق والعدو على الإعجاب والتقدير لتلك المجهودات: فالجامعة الأمريكية ببيروت قد أدت رسالة 'جليلة' لفائدة التبشير والاستعمار -وما زالت تؤدي هذه الرسالة- زيادة على ما قامت به الجامعة اليسوعية والمدارس التبشيرية الأخرى، والأب زويمر ولامانس وتومسون وغيرهم مشهرون في هذا الميدان. كما أن الحركة الاستشراقية ساهمت بنصيب وافر في تدعيم الحركة التبشيرية ومدها بالقوة والحيوية . وقد يدفع الغرور بعضها إلى القول إن التبشير قد فشل، ولكن نظرة سريعة إلى الدول الإفريقية وإلى مكانة المسحيين السود فيها كافية للإقناع بأن الفاشلين هو نحن، وبأن المعلومات التي نلتقطها من حين إلى آخر من الذين يزورون إفريقيا السوداء لتبعتنا على الانزعاج والحسرة، وبأن ما نشاهده من اضطرابات اجتماعية وسياسية وفكرية في البلاد العربية والإسلامية ليست سوى نتيجة للمجهودات الجبارة التي يقوم بها المبشرون منذ نصف قرن أو أزيد في تلك البلاد . فهل رجال الوعظ والإرشاد عند ما أدركوا فداحة المسؤولية الملقاة على عاتقهم في هذا العالم الجديد أعدّوا العدة لمواجهة الظواهر الجديدة التي تهدد تراثنا الروحي والديني. وقد أفلحت بالفعل وأوجدت لنا نخبة مؤمنة برسالة الحضارة الغربية التي 'ستطهر' مجتمعنا من رواسبه القديمة التي تختلف عن 'الدين '… إن نظرة عامة إلى حالة الوعظ والإرشاد عندنا تخبرنا بالخبر اليقين بأننا نسعى إلى غير غاية ونتحرك لغير فائدة ونستهدف السراب، ولنأخذ على ذلك مثالا من المسجد : كنا أيام الاستعمار نشكو من الخطباء والخطبة، وكان يقال لنا إن الاستعمار هو المسؤول، إنه يخاف من ذوي الألسن الفصيحة ومن الخطب الرائعة، ولذلك فإنه يفرض على المصلين من يشجعهم على النوم ويغمض عليهم المعنى ويبتعد بهم عن الاهتمام بمشاكلهم الحيوية، وكنا نصدق ذلك… واليوم لا نريد أن يكون الخطباء صورة للمنظر القديم وخطبا كالجثث لا روح فيها.. لأنها لم تكتب أو تلق استجابة لحاجة ماسة، إنها تكتب أو تنقل لتلقى فقط قياما بوظيفة 'الإمام' التقليدية دون دراسة للوسط الذي ستلقى فيه الخطبة والظروف المحيطة به، والأحداث التي يهتم بها المجتمع، والمشاكل الجديدة التي تشغل فكر الشباب واهتمامهم، ما ينتج عنه عدم تحديد في الوسائل والإطار الذي يمكن أن يساعده في التأثير. وهكذا يبتعد بالخطبة عن اهتمام المصلحين لأنها بعيدة عن مشاكلهم الحيوية. وقد لا يملك البعض منها إلا كلمات يظهر فيها التكلف المحجوج والصنعة الحريرية، تُقرَأ بلهجة هي أبعد عن قواعد الخطابة وأبرأ مما تتطلبه خطبة تستهدف إصلاح المجتمع . إن تحسين أسلوب الدعوة والإرشاد يجب أن يقترن بتشجيع الشباب والنساء على غشيان المساجد، إقبالهم وتجاوبهم مع الخطبة، وإن مسؤولية الوعظ والإرشاد خطيرة جدا، خصوصا في هذا العصر الذي تسوده أفكار تحمل قيما خاصة ونظرات فلسفية للحياة، وهي تمتاز بخصوبتها وقوتها ونفوذها وقدرتها على استهواء الشباب لأنها تخاطب نفوسهم الثائرة وتستجيب لكثير من آمالهم وخيالاتهم. وقد تزود أصحابها بطرق رائعة وأساليب ماكرة لأنهم يعتمدون على العلم والفن لا على الصدف والزمن، لذلك نرى بعض المذاهب تنتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، وبالأخص في أوساط الشباب . ونحن اليوم في مفترق الطرق: إما أن تكون لنا القدرة على بعث مقومات دينينا في النفوس ومعالم حضارتنا في الحياة ونتسلح بكل ما يحقق لنا هذه الغاية، وإما أن نظل كما نحن: كميات سلبية تتجاذبها القوى الغريبة عنها دون أن يكون لها ما يفرض وجودها كأمة لها رسالة . إن العدد الذي يحارب الإسلام يتمثل في أمم ومذاهب وطوائف وأديان، وهو يتحصن -على تعداده- بأسلحة فكرية فتاكة وله من القدرة والمرونة والتقنية ما يضمن له أن يبلغ شأوا بعيدا في تزييف عقائدنا وتاريخينا وتلوين نظرتنا وحضارتنا وشلّ أفكارنا وحيويتنا. ولكن أخطر من العدو الانهيار الداخلي في القيادة الفكرية والروحية، لهذا فإن تطهير القيادة من الأدعياء والمنتقمين، ثم معرفة ما للعدو من قدرة وإمكانيات وتحديد مكامن ضعفنا التي تتسرب منها الأفكار الهدامة لكياننا لَهي الخطوة الأولى التي يجب أن نرتكز على أساسها وننطلق في أضوائها وتحت إرشادها . إن أي كيان يضطلع بمَهمّة الدفاع عن الإسلام والترغيب في تعاليمه، دون أن تكون لديه الحيوية والقدرة على تحقيق لتلك الأهداف، ومع ذلك يستمر في الحركة والعمل الدائب، يندرج تحت ما نسميه 'الحركة المشلولة' التي تعطي النتائج الهزيلة مع بذل أقصى جهد وتبذير كثير من الإمكانيات والطاقات . إن الدعوة إلى الإسلام في القرن العشرين بجب أن تصطبغ بصبغة هذا القرن وتستعمل وسائله الفعّالة، لذلك نود أن يكون للمغرب جهاز للوعظ والإرشاد له قيمته في المغرب وإفريقيا السوداء، التي تتغلغل فيها الدعوات التبشيرية المختلفة، والتي يبلغ عدد المبشرين فيها نحو ربع مليون، حسب ما أوردته إحدى المجلات التبشيرية . ونرى أنه يجب أن تتوفر في هذا الجهاز الشروط الكفيلة بتحقيق الأهداف الإسلامية، ونحن هنا نقدم بعض الشروط : 1 – أن يكون القائمون على شؤون هذا الجهاز مؤمنين حق الإيمان برسالة الإسلام وعلماء أفذاذا في الفكرة الإسلامية، ولهم اطلاع واسع على الثقافات العالمية والتيارات الفكرية المختلفة؛ 2 – أن يدرس هؤلاء الوسط المغربي دراسة شاملة لنواحي الحياة المغربية حتى يحددوا المشاكل الاجتماعية والأزمات الفكرية والنفسية.. وعلى ضوء ذلك يبتدعون العلاج والوسائل؛ 3 – أن يكون المرشد في هذا المجال مختصّا له ثقافة وإيمان ومقدرة تجعله أهلا للقيام بهذه المهمة؛ 4 – أن يكون لهذا الجهاز مؤتمر على مستوى إقليمي كل ثلاثة أشهر وعلى مستوى عامّ من كل سنة تناقش فيه النتائج والوسائل والأفكار ونقط الضعف في الحركة ويرسم السياسة العامة للدعوة والإرشاد. كما يجب أن يكون لديه مفتش دقيق ومخلص على المرشدين والوعاظ؛ 5 – أن يؤسس معهد خاص للوعاظ والدعاة ويختار لهم أساتذة على أسس الكفاءة، وتكون لهذا المعهد مجلة تبحث في شؤون الدعوة الإسلامية وتبثّ أفكارها بواسطتها وتصدرها باللغات العربية والفرنسية الانجليزية وتوزع في أنحاء إفريقيا. كما يجب أن يكون المعهد مجهزا بكل الوسائل التي تحقق إخراج الداعية الماهر، المؤمن الصالح والمبشر المقتدر ومن أهم هذه الوسائل : أ- حيوية المواد الدراسية، كعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والمذاهب الفكرية ودراسة الأديان والحضارات العالمية والخطابة والتصوف، والعادات والتقاليد لمكان الدعوة والجغرافية والتاريخ؛ ب- اللغات الأجنبية الحية واللغات الإفريقية؛ ج- أساتذة مقتدرون ومؤمنون؛ د- زيادة على العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه… إلخ.؛ هـ- إحاطة الطالب بجو ديني وتربيته على أسس الشعور بمسؤولية الدعوة، ليضمن لنا ذلك إيجاد الداعية المخلص لا الموظف المرتزق . ويجب علينا أن نشجع إخواننا الأفارقة على الانخراط في هذا المعهد وتزويدهم بجميع وسائل الدعوة ليرجعوا إلى بلدهم يخدمونه من الداخل . وبعد، ألم يحن للمغرب أن يسلك سبيل ماضيه المشرق وأن يشرع في تأدية رسالته الحضارية في الداخل وفي إفريقيا ليثبت له وجودا كامة لها رسالة حضارية في هذا العالم، الذي أصبحت السيادة فيه للفكرة والأمكنة المحفوظة بها هذه النسخ؟! واقترحت اللجنة أن يراعى في اختيار الكتب التي تحقق أن تكون الأولية فيها المخطوطات التي لم يسبق نشرها أو نشرت غير محققة، ثم الكتب التي نشرت محققة في نطاق محدود أو يتعذر تداولها في العالم العربي لقيود مالية أو نحوها، ثم الكتب التي نفدت طبعاتها. وعند توافر كتب متعددة في موضوع واحد تكون الأولية للكتب الأصلية في الفن أو الجامعة فيه. ويستوفي البحث عن جميع الأصول المخطوطة والمطبوعة إن كانت تمثل أصلا للكتاب المزمع نشره . هذه هي أهم مشروعات صون التراث وإحيائه، فما مدى النجاح الذي حققته أو ينتظر منها أن تحققه؟ الواقع أنه بالرغم من الجهود الضخمة التي يبذلها معهد المخطوطات في النطاق العربي الواسع والمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون في نطاقه المحلي الضيق، فإنني أخشى ألا تكون النتائج مرضية على الوجه المطلوب. فعدم تنسيق العمل بين معهد المخطوطات والهيئات العلمية الموجودة في البلاد العربية تنسيقا يوحد الخطة ويوفر الجهد، وعدم إشراك البلاد العربية إشراكا فعالا في الأعمال العلمية. وعدم توفر الروح العلمي اللازم لهذه الأعمال.. كل هذه العيوب تجعل المشروع -أي مشروع- كيفما كانت ضخامة الجهود التي تبذل لتحقيقه، عاجزا عن حمل عبء حماية التراث العربي وإحيائه على مستوى عربي كبير. فالأسف شديد أن النزاعات المحلية والأهواء الخاصة لا تزال مسيطرة على العقول. وحتى لا يًظَنَّ بي ميل من هذا النوع أرى أن أوضح كلامي بمثالين ملموسين : الأول أن الكتب التي اقترح مشروع المكتبة العربية تحقيقها -وتعد بالعشرات- أسندت جميعها إلى عدد مُحدّد من المحققين المصريين بالرغم من أن جزءا منها يهمّ بلادا عربية أخرى قد يتوفر من الكفاءات ما لا يتوفر لغيرها؛ الثاني أني حين اطلعت على مشروع المكتبة العربية ووجدت ضمن قوائمه رحلة العبدري المغربية اتصلت بالمسؤولين وأطلعتهم على اهتمامي بهذه الرحلة التي أنوي تقديمها أطروحة تكميلية لدكتوراة الدولة الفرنسية، فاقتنعوا بضرورة إسناد تحقيقها إلي ليس بصفتي مهتما بها فحسب، وإنما بصفتي مغربيا كذلك. ولكني فوجئت بعد ذلك حين أخبرني مسؤول كبير بأن اللجنة المختصة لا توافق على نشر هذه الرحلة لما فيها من نقذ لاذع لمصر وللمصريين . وإذن فلا سبيل إلى حماية التراث وإحيائه غير قيام كل دولة عربية بوضع تخطيط خاص لمعرفة تراثها المكتبي وصيانته وتحقيقه ونشره، ثم إجراء تنسيق على نطاق عربي واسع للتعرف على ما في كل قطر من مخطوطات وتبادل النسخ المصورة منها وتوحيد قواعد التحقيق أو التقريب بينها على الأقل . ونظرا إلى ما هي عليه حالة التراث في كل أركان الوطن العربي، ونظرا إلى ما تتطلب حمايته في كل أركان الوطن العربي، ونظرا إلى ما يتطلب حمايته من تخطيط وتنظيم، فإني أرى أن تمر العلمية بالمراحل الآتية : أولا: إنشاء هيئة علمية عليا لحماية التراث وإحيائه تكون مَهمّتها الإشراف والتنظيم؛ ثانيا: تكوين لجنة فنية متفرعة من هذه الهيئة لوضع قواعد تحقيق المخطوطات؛ ثالثا: إنشاء معهد أو شعبة دراسية في كلية الآداب للتخصص في فن تنظيم المكتبات وصيانة المخطوطات؛ رابعا: حصر المخطوطات، وتحتاج إلى بحث في كتب الفهارس والبرامج وغيرها من المؤلفات التي تعني بذكر الكتب والتعريف بها؛ خامسا: جمعها، وينبغي أن يكون شاملا مستقصيا لكل المخطوطات، لا فرق بين التافه منها والمهم. ويقتضي بادئ ذي بدء أن تمنع الدولة خروج أي مخطوط وأن يعلن أصحاب المكتبات الخاصة ما لديهم من مخطوطات يكون للدولة حق تصويرها واقتناء النادر منها مقابل تعويض يرضي أصحابها؛ سادسا: فهرستا وتنظيمها؛ سابعا: تحقيقها على أسس من الدرس والبحث لاستخلاص المعاني الكامنة التي تربط قديمها بالحديث؛ ثامنا: نشرها، وهي مرحلة ختامية تقتضي أن تعنى الدولة بنشر الكتب المتعلقة بها على أن تكلف هيئة التنسيق -وليكن معهد المخطوطات- بنشر المعاجم والكتب الضخمة التي تحتاج إلى وسائل وإمكانيات كبيرة .


LE12
٢٨-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- LE12
إسلام مغربي.. الشريعة الإسلامية والاجتهاد (27)
إن الإسلام قد تخطى ذلك المفهوم الضيق للدين وجعله يتجاوز صلات الإنسان مع قوى الغيب العُلوية إلى صلات الإنسان بالإنسان.. ويتطرق لجزئيات مهمة في علاقات الأفراد والمجتمع.. تقديم عبد الرزاق المراكشي: عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم '… اختارت لكم ' ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه '.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق '. إذا كان للدين -أيّ دين- عند علماء الغرب يعني 'الطريقة التي يحقق بها الإنسان صلاته مع قوى الغيب' أو 'هو ما يشتمل على كل معلوم وكل سلطة لا تتفق والعلم'، وهذان التعريفان قد عدّتهما الموسوعة الفرنسية الكبرى للعلوم والآداب والصناعات من أفضل التعريفات التي وردت في تعريف الدين، فإن للإسلام مدلولا آخر يختلف عن المفهوم السابق كل الاختلاف . إن الإسلام قد تخطى ذلك المفهوم الضيق للدين وجعله يتجاوز صلات الإنسان مع قوى الغيب العُلوية إلى صلات الإنسان بالإنسان.. ويتطرق لجزئيات مهمة في علاقات الأفراد والمجتمع .. لقد قام الإسلام دعوة إلى الحياة ودعوة إلى إصلاح المجتمع إصلاحا جذريا وشاملا، سواء في معتقداته أو في معاملاته.. لذلك فإن من يتمعن في أسلوب القرآن الكريم يرى في السورة الواحدة تجميلا وتزيينا للحياة والخير، تنديدا بما يسيء إلى الحياة، وبالشر.. فسرد القصة في القرآن واستهلالها يجمل القسم وختامها بالتهديد والوعيد ليس له إلا مغزى كبير جدا هو 'مصالح البشر '. لم يرد في القرآن حرف إلا وفيه خير الإنسان وفيه المصلحة، المصلحة الحقيقية.. المصلحة الموضوعية التي تحمي حقا أساسيا وخالدا . ونظرا إلى اتساع الأعراض والأهداف التي قصد الإسلام إيرادها في القرآن فقد جاءت معظم الآيات مجملة كلية، ذات صبغة عامة مرنة للتطور من حيث التطبيق، مع الإبقاء على المفهوم، فقد كانت المرونة في الصياغة التشريعية في القرآن منبعا ترا خصبا أغنى الفقه والحقوق الإسلامية أيما إغناء . إن المرونة في الصياغة التشريعية تنطلق من أن مصالح الشر لا تبقى واحدة وإنما هي عرضة للتبدل تبعا لتغير الزمن. فإذا كان النص جامدا امتنعت عليه مسايرة الظروف التي قد تطرأ وعُدّ بالتالي ناقصا أو غامضا، وكلاهما سيء . لذلك كان المنطق الأساسي في الإسلام : أولا: التأكيد على بعض المبادئ الأساسية في الدين وهو ما يتعلق بالعقيدة، والنص على عدم قابليتها للتحوير أو التغيير أو التبديل، كالوحدانية، وحب العدل، وحب الخير؛ ثانيا: صياغة العديد من النصوص الحقوقية المتعلقة بعلاقات البشر في ما بينهم صبغة مرنة تتحمل التأويل والقياس حسب مقتضيات الأزمنة والعصور . لذلك فإن ادّعاء بعض العلماء في العرب بأن الحقوق الإسلامية -كحقوق دينية- غير قابلة للتطور، حتى اتهموها بالجمود والعقم، إن هذا النظر لا يستقيم عندما نعرف أن الإسلام ليس دينا فحسب، إنه دين ودنيا، وفيه صالح العباد في المعاش والمعاد، وفيه خير الدنيا وخير الآخرة.. وإن الدنيا دار ممرّ.. وهذا الممر يذهب بنا إلى الآخرة، وهي المقر، لذلك فقد عُني الإسلام بالدارين معا . ولما كانت أمور الدنيا كثيرة ومتشابكة ومعقدة، وهي تتعلق بعلاقات البشر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك فقد اقتصر القرآن على وضع الكليات والمفاهيم تاركا للسنة ولمن ترتضيه السنة أن يبحث عن هذه الكليات ويلحق بهذه المفاهيم.. لقد نصّ القرآن على القصص الإرثية، وقضت السنّة بتوريث الجدة لأم، وقضى اجتهاد الصحابة بتوريث الجدة لأب، قياسا على توريث الجدة لأم . وفي الزكاة طالب القرآن بالزكاة.. وتكفلت السنة والاجتهاد ببيان مقادير الزكاة وأنصبتها والحد الأدنى الذي لا تجوز في ما دونه . ولا يسير القياس والاجتهاد على الهوى، وإنما وضع له العلماء قواعد وأصولا تقضي بأن يسلك الباحث أولا سبيل فهم معنى النص، والقياس عليه ثانيا، ثم البحث في علة وجود النص ثالثا . وقد كان المسلك الثالث المتعلق بمنح الإسلام لرجال القانون حرية الرأي الذي لا يعتمد على نص خاص وإنما على روح الشريعة المهيمنة على جميع النصوص والمعلقة 'إن غاية الشرع إنما هي المصلحة وحيثما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله' وإن 'ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن' هو ماء الحياة بالنسبة للشريعة . واعتمادا على فكرة المصلحةـ فقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن توزيع أراضي العراق بين الفاتحين وأصر على ضرورة إبقائها بيد أهلها على أن يأخذ منهم الخراج . فقد جاءه الفاتحون وطلبوا منه أن يخرج لمن ذكر في الآية الكريمة، 'واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل'، وأن يقسم لهم الباقي فقال عمر: فكيف لمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بطولها قد اقتسمت، وورثت عن الآباء وحيرت؟ ما هذا الرأي؟ ثم أخذ الفاتحون يناقشونه في ما قال، ولكنه أصر، فطلبوا منه أن يستشير، فاستشار من المهاجرين والأنصار، فأجمعوا على موافقته فولى عثمان بن حنيف مساحة أرض السواد . ولقد أورد هذا الخبر أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، في كتاب 'الخراج' وأيده تأييدا شديدا في تعليق له عليه . وبناء على المصلحة أيضا فقد قضى عمر بضبط بعض المراعي وحبسها على تخيّل العيش، ما أثار المالكين، ولكنه أصر على موقفه وهو يقول 'المال مال الله، والعباد عباد الله والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حييت من الأرض شبرا في شر '. وبناء على المصلحة أيضا فقد قضى عمر على محمد بن مسلمة بالسماح لجاره بأن يسوق نهرا في أرضه لأنّ النهر ينفع جاره ولا يضر محمدا، وقد قضى عمر هذا القضاء رغم معارضة المالك الشديدة لا مرار النهر، ولكن عمر أصر على رأيه قائلا لمحمد: 'والله ليمرن ولو على بطنك'. إن في الاجتهادات السابقة التي أفتى بها عمر بجرأة وحكمة وعقل لَخلاصة لأكبر نظرية عُرفت في الحقوق الحديثة ألا وهي نظرية التعسف في استعمال الحق . إن نظرية التعسف التي يتبجح علماء الغرب بأنهم هم الذين اخترعوها وهدوا البشرية لها إنما نجد لها تطبيقا واسعا منذ ألف وثلاثمائة عام ونيف على يد رجال القضاء في الإسلام ولم يقتصر الأخذ بفكرة المصلحة على عهد الصحابة، وإنما استمر الأخذ بها ولكن على نطاق أوسع في ما تلا عهد الصحابة من عهود، وإنما نجد عامة العلماء متفقين على إخفاء المرونة على النصوص والاجتهادات لتتسع إلى أكبر عدد ممكن من الفتاوى والآراء التي فيها مصالح الناس . ولم يشذَّ عن هذا الإجماع سوى رجال المذهب الشافعي، الذين نظروا إلى النصوص كأحكام ثابتة لا يأتيها التحوير والتبديل، ولذلك لم يحكموا بأمر إلا قياسا على أمر منصوص عليه في الكتاب أو السنّة وإلا فلا، ولذلك لم يأخذوا بالمصلحة وبالمرونة التي تتطلبها في النصوص.. وهم يقتربون في آرائهم جدا من آراء أصحاب النظرية التقليدية التي بقيت مسطرة على الفكر الحقوقي في أورية حتى أوائل هذا القرن العشرين . لا، إننا نرى في كتاب 'المنتقى' للإمام الغزالي رحمه الله، وهو شافعي، ما يوضح أنه يأخذ بفكرة المصلحة لكنه يقيدها ببعض الأوصاف حتى يمكن الأخذ بها، فهو يقول 'أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن طلب منفعة أو رفع مضرة، ولسنا نعني ذلك، ولكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع . ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأحوال الخمسة فهو مصحلة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مَضدّة ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في شبه الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق '. أما المالكية والحنابلة فإنهم لم يقيدوا أنفسهم بالقياس كما فعل الشافعية، ولا بالأوصاف كما فعل الغزالي، بل رأوا أن كل عمل فيه مصلحة بلا ضرر أو كان النفع فيها أكثر من الضرر فهو مطلوب . والمالكية يرون أنه ليس على المجتهد متابعة القياس في ما إذا أبى اطراده إلى جلب ضرر أو إلى حرج، ويرون مستندهم في هذا قوله تعالى: 'ما جعل عليكم في الدين من حرج'، وقوله أيضا 'يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر' وقوله عليه السلام 'لا ضرر ولا ضرار '. على أن المالكية يشترطون في المصلحة ألا تعارض أصلا من أصول الشريعة، وأن تكون مصلحة يتلقاها بالقبول، وأن تكون هناك حاجة تستدعيها . والأحناف أيضا أجازوا الخروج على القياس لضرورة المصلحة . أما التبعة الأمامية فقد أخذوا بالمصلحة على أوسع نطاق، وأضفوا على النصوص مرونة تجعلها تتقبل كل ما يستجد من أحداث.. ولا يعصم اتجاه الشيعة من الزلل في هذا التطرف إلا وجود القضاء والفتيى بين أيد عالمة وصالحة في آن واحد . أما تملك الشافعية بالنصوص وما يحمل على النصوص عن طريق القياس فإني واجد فيه عصمة وقصورا في آن واحد. ففيه عصمة لأنه أضفى على النصوص لونا من القدسية وحصر مصادر التشريع في الكتاب والسنة، معتبرا أن القانون هو المصدر الوحيد للحقوق، وعلى هذا سارت النظرية التقليدية في أوروبا في ما بعد، والتي تقول 'إن التشريع الرسمي يكفينا وحده للكشف عن جميع الأحكام الحقوقية الضرورية لحاجات الحياة الاجتماعية'. ويقول الأستاذ بلاندو (Blandeau) إن المصدر الوحيد للأحكام الحقوقية في الوقت الحاضر إنما هو القانون . ويستند الشافعي في حصره لأصول الشريعة بالكتاب والسنة إلى قوله تعالى 'وأطيعوا الله والرسول' وقوله تعالى 'اتبع ما يوحى إليك من ربك'، ويقول الإمام الشافعي 'الكتاب والسنة هما الأصلان اللذان افترض الله وهما عينان'. ثم قال 'إذا اجتهد المجتهد فالاجتهاد ليس بعين قائمة، إنما هو شيء يحدثه من قبل نفسه ولم يؤمن باتباع نفسه، وإنما باتباع غيره، فإحداثه على الأصلين اللذين افترض الله عليه أولى به من إحداثه على غير أصل أمر باتباعه، وهو رأي نفسه ولم يؤمر باتباعه، فإذا كان الأصل أنه لا يجوز أن يقع غيره والاجتهاد شيء يحدثه من عند نفسه '. أما القصور الذي يلاحظه المحققون على الشافعية في هذا الموضوع فهو عدم تمكنه من إيجاد الحلول لقضية بشأنها نص في كتاب أو سنة. ولم يمكن القياس عليها مما يضطر القاضي إلى طرح القضية جانبا، وهذا ما لا تقبله النظريات الحقوقية الحديثة ولا التعامل القضائي، ويعُدّون في فعل القاضي هذا 'امتناعا عن إحقاق الحق'، ما يوجب مسؤولية القاضي . هذا بالإضافة إلى أن الاجتهاد يعدّ مصدرا رابعا من مصادر الشريعة الإسلامية، وإليه يرجع الفضل في تطور الشريعة وجعلها تتلاءم مع مقتضيات العصر، وفي كل عصر إن آلاف القضايا قد تكفل الاجتهاد بحلها ولم يمتنع عن الحكم بها لعدم النص عليها، بل إن روح الشريعة المهيمنة على ضمير المجتهد تخلق له ذوقا حقوقيا فذا.. وبالاجتهاد أفتى عمر بإبقاء أرض العراق المفتوحة بيد أهلها وحبس المراعي على خيل الجيش.. وأمر الضحاك بن قيس بأن يمر بنهره في أرض محمد بن سلمة -كما بينا أعلاه- وكذلك أفتى العلماء بجواز كشف الصورة أمام الأطباء ولغاية المعالجة، لأن التداوي طريق للمحافظة على الحياة، وهذه تنزل بمنزلة الضرورة ونفعها أقل من الضرر الناتج عنها، وكذلك أفتوا بحل الخمر لغاية المعالجة أو القصة أو الظمأ الشديد عند عدم وجود الماء والميتة وغيرها إذا لم يوجد غيرها وعند الضرورة القصوى . وإذا زال المانع عاد الممنوع، ومعنى ذلك أنه إذا وجد غير الخمر ما يسد مدى عادت إليه حرمته، وكذلك في الدم والميتة، إلا أن هناك ما لا يجوز إطلاقا وفي أية حال ويبقى شرا محضا وحراما محضا، مثل الكفر بالله، ومثل الزنا، والقتل بغير حق . وبصورة عامة، فطالما أن علاقات الشر في تطور مستمر وفي تجدد مستمر، فإن أي تشريع في العالم يقف بعد مدة من الزمن قاصرا في بعض نصوصه أو غامضا أو مبهما عندما يتعرض لقضية جديدة فليس على القاضي إلا أن يحكم بحسب روح القانون، ومستندا إلى المثل والأفكار الكبرى والرئيسية التي يستهدفها القانون كالعدل والمساواة وإحقاق الحق . وعلى هذا فإن القول بعجز التشريع الإسلامي عن تلبية حاجات العصر نظرا إلى بعد الزمن بين صدوره وبين العصر الحاضر يمكن أن يوجه إلى أيّ تشريع آخر، سواء كان دينيا أو علمانيا، في ما إذا أخذنا بحرفية النص وعدم فتح باب الرأي والاجتهاد . وطالما أن الاجتهاد بالرأي أمر أقرّه الإسلام في أصوله الأولى فاتهام الإسلام بالعجز عن مسايرة التطور مردود وباطل نظرا إلى تمكن الاجتهاد من استيعاب حاجات العصور المختلفة. والأمكنة المختلفة والأمثلة التي أشرنا إليها أعلاه هي خير برهان، بالإضافة إلى أنها غيض من قيض.


LE12
٢٧-٠٣-٢٠٢٥
- صحة
- LE12
إسلام مغربي.. نحو إنشاء جيل إسلامي جديد (الحلقة 26)
من الأمراض التي تفشت في البلاد الإسلامية وأعقبت نتائج سيئة في تطورها، مرض الازدواج في التفكير والعقلية ونشوء جيلين في آن واحد مختلفين أشد الاختلاف يسير كل منهما في اتجاه ويجران المجتمع الإسلامي في اتجاهين متعارضين فتتعطل القوة وتبطل الحركة. تقديم عبد الرزاق المراكشي: عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ'النية'… اختارت لكم ' وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية الدولية أنّ هذا الإسلام 'على الطريقة المغربية' لم يكن بالضّرورة قائما على 'الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام دين عسر 'يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ' وبأن 'الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر' وأنْ 'ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه'.. ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة 'دعوة الحق'. من الأمراض التي تفشت في البلاد الإسلامية وأعقبت نتائج سيئة في تطورها، مرض الازدواج في التفكير والعقلية ونشوء جيلين في آن واحد مختلفين أشد الاختلاف يسير كل منهما في اتجاه ويجران المجتمع الإسلامي في اتجاهين متعارضين فتتعطل القوة وتبطل الحركة. أما الجيل الأول فهو الذي تثقف بثقافة العصر المنصرم فقرأ متونا في النحو والبلاغة والفقه والتوحيد والأصول وضعت وألفت لأبناء عصر غير هذا العصر، سواء في أمثلتها وشواهدها، أو في تبويبها وترتيبها، أو في إنشاء عبارتها وأسلوبها، ثم اقتصر على ذلك وربما زاد عليها قراءة بعض شروحها وحواشيها ولم يعرف غيرها حتى من المعارف والثقافة التي كان يعرفها المثقفون من أبناء العصور الإسلامية الأولى أيام ازدهار الحضارة الإسلامية يوم كانوا يقرأون مع الفقه والتوحيد والتفسير والحديث الحساب والجبر والهندسة والفلك والطب والكيمياء وغيرها من العلوم التي ترى عظمة الله في الكون وفضله على الإنسان بنعمة العقل الذي أتاه الله إياه، وما آتاه من السمع والبصر المؤدى إلى العلم كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله 'والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون'. والغالب في أبناء هذا الجيل في أكثر البلاد الإسلامية الاقتصار على الفقه والتوحيد دون التوسع في دراسة السنة والاطلاع على الحديث، وما يتبع ذلك من اطلاع على منافع الفقه وأصوله ومصادره، وما تولد من ذلك من آراء فقهية مستقاة من الكتاب والسنة مما يوسع أفق التفكير، ودون الاطلاع كذلك على كتاب الله وإمعان النظر في آياته سواء أكانت في الدعوة إلى التوحيد والنظر في آيات الله في الكون والخليقة، أم كانت في الآداب والأخلاق أم كانت في بيان التشريع والأحكام، لقد اقتصرت الدراسة في العصر الماضي في أكثر البلاد الإسلامية على دراسة فقهية على مذهب واحد، مما أدى إلى اعتقاد بعض الناس انحصار الإسلام في هذا المذهب وذلك الرأي. وأما الجيل الآخر فقد أخذ بثقافة العصر واقتبس عمله من هذه الثقافة المنقولة عن أوروبا سواء أكان أخذه لها مباشرة أو عن طريق غير مباشرة، ولا شك أن من المفيد بل من الضروري الاطلاع على ثقافة العصر ولا سيما في النواحي العلمية الخالصة التي تكشف أسرار الكون وآيات الله فيه، وتمكن الإنسان من تسخيره لمنفعته وتؤدي إلى عمارة الأرض واستخراج خيراتها والترفيه عن الإنسان، ولكن هذا الجيل يغلب عليه أن يجهل الثقافة الإسلامية الأصيلة وما تتضمنه من قيم خلقية واتجاهات إنسانية وتشريعات راقية، وما بنيت عليه من عقيدة قويمة ومفاهيم صحيحة وشعور بالمسؤولية، ولا يعرف من التاريخ الإسلامي إلا قليلا. وقد يعرفه مشوها محرفا، وقد يصل إليه عن طريق المستشرقين أو المؤلفين العربيين وأصحاب الأغراض والأهواء. لقد سارت البلاد الإسلامية منذ أكثر من قرن على أساس تكوين هاتين العقليتين وإنشاء هذين النوعين أو الجيلين وجعلت لكل منهما طريقا لتكوينه، فالجيل الأول يتكون في مدارس قديمة في نمطها وأسلوبها، والثاني يتكون في مدارس حديثة أنشئت على غرار المدارس الأوروبية واقتبست منها برامجها ومناهجها، ثم كانت محاولات إصلاحية ولكن على أساس الإبقاء على هذا الازدواج وإدخال بعض الإصلاحات على النوع الأول، وهكذا كانت مثلا في مصر المدارس الدينية الأزهرية من ابتدائية وثانوية وعالية، ولم يكن الإصلاح فيها إلا بتقسيمها إلى سنوات وصفوف أو فصول ورسم أنظمة لها من حيث المناهج والامتحانات والشهادات وإدخال مقدار ضئيل من علوم العصر وهو في منهاج هذه المدارس كالرقعة النابية في الثوب تختلف عنه لونا ونسيجا. ثم تختلف طريق الجيلين في الحياة ومكانة كل منهما ومهمته في المجتمع، أما الجيل الأول فللوعظ والإرشاد والخطابة والإفتاء والتدريس الديني وما إلى ذلك بحيث يتكون منهم فئة أطلق عليها اسم مبتدع غريب (رجال الدين)، وأما الجيل الثاني فيتكون منه موظفو الدولة ورؤساء دوائرها والاختصاصيون في كل فن من فنون الإدارة أو العمل. لقد كان لهذه الخطة آثار سيئة جدا في الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بسبب هذا الازدواج في التفكير وهذا التعدد في العقلية، وكان بين الطرفين حذر متبادل وجفاء ان لم يظهر في الظاهر فإن آثاره موجودة. والطريق القويمة في تكوين الحياة الإسلامية والأسلوب الطبيعي السليم هو في التوحيد والانسجام، فالحياة واحدة ولو تعددت جوانبها، والإسلام نفسه يقوم على فكرة التوحيد في كل شيء، توحيد الله، وتوحيد الإنسانية، وتوحيد الطبقات، وإقامة مجتمع موحد منسجم، ولذلك كان من واجب البلاد التي تقيم اليوم أسس نهضتها أن لا تسلك طريق الازدواج، وعلى البلاد التي اجتازت نهضتها مرحلة كبيرة وإقامتها على هذا الازدواج أن تتحرر منه وأن تضع أسسا جديدة لنهضتها. يجب أن يكون في جميع البلاد الإسلامية تعليم ابتدائي موحد يقوم على مفاهيم إسلامية في جميع ودرس الأشياء مبنيا على أساس غرس الإيمان بالله الخالق في قلب الطفل وعقله، كما يكون درس الدين مواده ودروسه، فيكون تلقين المعلومات الطبيعية وسيلة أيضا لبعث همته في الحياة ويعتني في هذه المرحلة بتعليم القرآن وتعويد التلاميذ على الشعائر والعادات الإسلامية، ويكون التعليم الثانوي في المرحلة الثانية تعليما متنوعا من تعليم عام ومهني، تجاري أو زراعي أو صناعي أو نسوي مصطبغا بالصبغة الإسلامية في جميع نواحيه وتكثر فيه مادة الثقافة الإسلامية من عقيدة وتوحيد وتفسير وحديث وفقه وسيرة وتاريخ، وتكون مواردها الفكرية كالفلسفة وعلم الاجتماع قائمة على أساس الإسلام، ونظرية إلى الحياة والوجود والإنسان والكون والحضارة، بحيث يخرج الطالب مشربا بروحه في تفكيره وسلوكه، وأما التعليم العالي أي الجامعي فينبغي كذلك أن يكون موحدا فلا يكون هنالك معاهد مدنية، ومعاهد دينية وإنما تكون معاهد إسلامية متنوعة الاختصاص من الطب والهندسة إلى اللغة والشريعة، ويكون تدريس الإسلام ونظامه جزءا من كل فرع من هذه الفروع بحيث لا تخلو كلية من الكليات كالطب والهندسة والزراعة من ثقافة إسلامية ودينية، لأنها تخرج الطبيب المسلم والمهندس المسلم والأديب المسلم، وليس هذا غريبا في هذا العصر فإن البلاد الشيوعية والبلاد الكاثوليكية تسلك هذه الخطة فتعلم البلاد الشيوعية في جامعاتها العقيدة والفلسفة الشيوعية في جميع فروعها بطريقة إلزامية، كما تعلم الجامعات الكاثوليكية الدين في جميع كلياتها وفي جميع سنواتها. هذه هي الطريقة التي تخرج لنا جيلا جديدا قويا مسلحا بالثقافة والعلم والدين والخلق، جيلا موحدا منسجما يتصرف في الحياة بطريقة واحدة ويفكر تفكيرا واحدا، ويحل المشكلات التي يصادفها بطريقة واحدة، يستمد عناصرها من الإسلام ومبادئه ويتكون جيل متفقه في دينه فلا يكون هناك رجال دنيا لا يعرفون من أمر الدين شيئا، ورجال دين لا يعرفون من أمر الدنيا شيئا، يتكون جيل إسلامي يشترك على تنوع اختصاصه وتعدد خبرته ومهنته في قسط مشترك من فهم الإسلام، ويشترك في الجهاد في هذه الحياة لتحقيق أهداف الإسلام التي هي أهداف إنسانية تحقق سعادة الإنسانية بترقيتها ماديا وخلقيا وروحيا يوصلها بالكون وآفاقه من جهة، وبالله الخالق من جهة أخرى. وقد تكون هذه العملية صعبة أو يكون دون تحقيقها عقبات ولكنها أساسية وضرورية لبعث الإسلام من جديد ووقوفه قويا صامدا أمام الأنظمة والعقائد الأخرى وفي ذلك رضاء الله سبحانه وخير الإنسانية وسلامها.