أحدث الأخبار مع #عبداللهالبردوني

سعورس
منذ 4 أيام
- ترفيه
- سعورس
شاعر اليمن الحزين "البكالي" في صباح وفاته
في الثانية بعد منتصف الليل، صعدت روحه الطيبة إلى بارئها، كما لو أنها اكتفت من هذا العالم، بعد أن ضاق بها الحنين، وأثقلها الوجع. وحين وصلتني أنباء وفاته فجراً، شعرت وكأن شيئًا من القلب انطفأ، وكأن اليمن فقدت شاعرًا لم يكن يكتب عنها فحسب، بل كان يحملها في صدره أينما حل، كأمٍ عجوز لا يملك فكاكًا من حبها ولا يستطيع احتمال أساها. عرفته عن قرب في لقاء لم يكن طويلاً، لكنه كان كافيًا لأدرك كم كان إنسانًا استثنائيًا: صافي القلب، نقيّ السريرة، عفويًّا حد الطفولة، يحمل في ملامحه تعب البلاد، وفي عينيه خريطة الأسى اليمني الممتدّ من جيل إلى جيل. وكأنك تنظر إليه من خلال بيت أبيه الشعري الشاعر الكبير عبدالله البردوني: عرفته يمنيا في تلفته خوف وعيناه تاريخ من الرمدِ كان ياسين وفيًا بطبعه، محبًا للناس والوطن، وكان يتحدث عن محن اليمن كمن يتحدث عن جراحه الشخصية. لم يكن ذلك تكلّفًا أو موقفًا، بل كان صدقًا مؤلمًا، ينبع من قلب امتلأ حتى الحافة بالتعب. وكنت أرى في كلماته ما لا يمكن للكلمات أن تحمله، من حبٍ صامت وقلق دائم على وطنٍ يتآكل. بعث إلي برسالة ذات مرة تحمل ابتهالات إلى بارئه وهو يحمل اليمن فيها: إلهي.. لا تُحصي معانيكَ مفرداتي ولا تضاهي جلالكَ محاولاتي؛ لأن أكون عبداً يليق بكَ، ولكني أتوسل إليكَ بما لا تدركه قدراتي فيكَ من سعة الغايات ودلالة الأسماء، أتوسلُ إليك بكل ما لا أدركه ويدركه البشر أن تخفَّفَ عنّي عبء التوجس؛ ومشقة الخوف من تقصيرٍ في عبادتكَ، وإهمالٍ في أداء حقكَ كخالق معبود، خذ بيدي يا الله وخذ بيد وطني وأمتي إلى حالٍ غير هذا الحال. قد لا أكون مبالغا إن قلت إن سبب النوبة التي أصابته هو هذا الوجع الدفين، فقبل وفاته بيوم بعث إلي برسالة تقطر فجيعة على اليمن بعد أن شاهد اللقاء الكبير الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي رفع العقوبات عن سوريا ، فكتب يتوجع على اليمن أيما وجع، ويشيد بالموقف التاريخي لولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ويحمل اليمنين تبعات هذه المآسي قائلا: "ان السعودية وقفت معنا أكثر من ذلك بكثير، لم نرع الجميل، نعتقد أن هناك مصالح سعودية.. الدبلوماسية السعودية كانت في العالم ناطقة باسم اليمني وقضيته، تعاملت معنا كما لو الأم مع ولدها الكسيح، بأبسط الأشياء، فكان النكران، والاتهام للسعودية" وفي رسالته لوم وتقريع لليمن لا أفضل نشره الآن! وبعد هذه الرسالة بدقائق بعث برسالته الأخيرة وكأنها والله وصية مودع يقول فيها نصا: "هنيئا لكم قيادتكم الرشيدة في المملكة إني أغبطكم على ما تعيشون فيه من نعيم واستقرار؛ حافظوا على وطنكم بقلوبكم وعقولكم فأنتم في فترة سيكتبها التاريخ على جبين الحياة" آه يا سين ما أصدق كلماتك ومشاعرك، لقد والله جاءت من رجل وفيّ جرب الحرب والشتات والغربة والألم والحرمان، ويرفض أن يعيش أهله ومحبوه في السعودية هذه الآلام ويخشى عليهم منها ولذلك يقول حافظوا على هذا النعيم بقلوبكم ومشاعركم وولائكم، وحافظوا عليه بعقولكم فهما واستيعابا ودفاعا واعيا ضد كل انحراف! إن معرفتي بالمثقفين والشعراء العرب كبيرة وعلاقاتي بهم متشعبة، وذلك يجعلني أُكبر هذا الشاعر في وفائه للملكة التي احتضنت تجربته وطبعت دواوينه الشعرية واستضافته في محافلها وكان من آخرها أمسيته الشعرية في مقهى أدب في الرياض. بعث إلي في مارس الماضي قائلا: "هذي فقرة من كتابي عن المملكة الذي رصدت فيه الأرض والانسان والمعطى الحضاري لهذا الوطن الجميل الذي نهنئكم عليه المملكة قبسٌ من الأعلى يحطُّ على شبه الجزيرة العربية بأجمل ما يكون عليه الإنسان وأبهى ما تزهو به الأرض. دولةٌ ضاربةٌ في الدهشة ولأسباب كثيرة تجد أن الصمت هو الحل المناسب إزاء هذا الجمال. هنا أخلاقٌ تنضح بها وجوه القوم قبل أفئدتهم، هنا سكينةٌ لا يجد الأذى مجالاً لإثارة زوابعه فيها. * المشرف العام على الموسوعة العالمية للأدب (أدب) د. عبدالله السفياني


النهار
٢٩-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- النهار
الحوثيون بندقية للإيجار والعبث
الجماعة الحوثية التي أدخلت البلد الكبير في مأزق أكبر، جعلت الشعب جله إن لم يكن كله يرى أن ضرب الحوثي فرصة للخلاص من حالة العبث التي كرستها الجماعة المتمردة في اليمن. يعزز من نظرة الشعور بالعزلة والتجاهل هذا الغموض الإعلامي. لا صور ولا معلومات ولا إمكانية لسماع شهادات الناس. لا أحد يتحدث في هذا البلد المحشور في أقصى الجزيرة العربية عما يحدث، عدا صور من تليفونات عابرة، وحديث لمراقبين بعيدين مكاناً ووعياً عن مجمل الصورة الحقيقية. والمؤلم هو متاجرة الحوثي بآلام الناس وأوجاعهم، والمزايدة على القضية الفلسطينية العادلة، فقد اختطفت الجماعة المتمردة عاصمة اليمن في لحظة تناحر وانهيار غريب لتسير بمشروع دمار أدخلت فيه البلد في نفق تمزق لن يخرج منه بسهولة، وحولت الجماعة قدرات عاصمة البلد الكبير إلى مختبر لصنع الإرهاب وتصديره، لتجلب لشعب الإيمان والحكمة كل ويلات الحروب وكل أنواع التدخلات. فتصنيف الإدارة الأميركية للحوثيين كجماعة إرهابية جاء متأخراً كما يرى ذلك معظم اليمنيين، حتى أن هناك من يجاهر بالقول إنه لا يثق بما يجري، ويراه ربما سيناريو إعادة تصدير للجماعة التي أصابت الناس بالدمار النفسي قبل دمار المدن. عزلة مناطق سيطرة الحوثي باليمن تزداد كل يوم، وللعزلة تبعاتها وآثارها؛ فالجماعة القابضة على أرواح السكان فى صنعاء، لا تقوى على تقدير الموقف وتفكر خارج المنطق ويكسبها العزل الواسع انكفاء عدوانياً مخيفاً، مثل كل قبضة للتعصب الديني ينتج دائماً عنها ثنائية العزلة والاستبداد، فالعزلة تزرع في الناس الجهل والشك في الآخرين، وتضعف حجم الثقة المتبادلة، أما الاستبداد السياسي فيزرع في الناس كراهية كل مخالف... وخلال عشر سنوات ليس هناك تواصل حقيقي للناس الذين ساقهم سوء الطالع ليكونوا فى مناطق سيطرة ميليشيات الحوثي مع العالم. الجماعة التي أنشأت قوة محلية ضاربة، وسياجاً إعلامياً ديماغوجياً يبدأ بعشرات الإذاعات المحلية ولا ينتهي بطابور من السيطرة على فضاء الإنترنت المحدود أصلاً باليمن, سياج إعلامي مضلل ومثير للشفقة، حيث لا صوت يعلو على صوت الإمام المنقذ وصرخة التشظي المذهبي. ضربت الجماعة عزلة مخيفة على الناس بقبضة أمنية فاشية وأحادية فكرية، لا يجرؤ معها سكان صنعاء على رفع الهمس بأنين جوعهم، أو المطالبة برواتبهم منذ سبع سنوات، لك أن تتصور حجم الإذلال، بأن تُساق إلى عملك كل يوم لسنوات دون أن تجرؤ على مطالبة السلطات بأجر؟ ثم تخرج بمسيرات شعبية تحت سياط الخوف تهتف بعصمة القائد الفرد الملهم! وتجبر تحت نير القهر على شكره لصون كرامة الأمة، وتهتف مطالباً بتحرير العالم، تهتف للحرية وأنت ترسف بأغلال العبودية. تلك هي صورة صنعاء اليوم، لمن يسأل عنها ولا يراها إلا من خلال إعلام مضلل. وكما وصفها الشاعر الكبير عبدالله البردوني رحمه الله قبل سنين: "مليحة عاشقاها: السلُّ والجربُ... ماتت بصندوق (وضاح) بلا ثمنٍ.. ولم يمتْ في حشاها العشقُ والطربُ". الآن حتى الطرب تم قتله أيها البردوني البديع. قتل في هتافات الحرب. وظهرت صرخات كراهية مؤذية للذوق والسمع. جُبِل الناس في اليمن، على فطرة نصرة القضية الفلسطينية، وتحرير فلسطين يعيشون في قلب البلد الصعب، وقلوبهم مع قضايا الأمة، فتلك طبيعة الناس هناك، يصحون على نداء القدس، ولا ينامون من أنين غزة، يتعاطفون مع بيروت ويبكون على دمشق. وحده الحوثي وجماعته بقي دوماً يرى ذلك الأمر بدعة لا تعنيه، حتى جاء فجأة يختطف راية كان ينكرها، وإذا بالناس بين نارين: الأولى إرهاب قبضته المكرسة للصراع الطائفي والمناطقي، والثانية اختطافه راية فلسطين عنهم عنوة وهم يعرفون زيف إدعائه. لذا يأتي أي قصف لصنعاء ليكرس حالة الذهول التي تحيط بالناس، فهم يدركون أن جنون ميليشيات الحوثي المتمردة من جلب القصف واستدعاء تدخل العالم، وهم أي الناس من يكتوون بنار كل الحرب، حيث لا يكترث الحوثي لضرب أي منشأة ملك الشعب، ولا يعنيه توفير الخدمات لهم، وبالتالي فإن قصف الكهرباء أو الطرق، لا يشكل أي ضغط عليه ولا يثير غضبه، بل قد نراه ينتشي أكثر، مرسخاً قدمه على واقع ملغم، يفرح بالخراب، كون الحرب لديه مصدر رزق لا كارثة تصيب البشر، هو يخشى على رأسه فقط وما دونه يراه عدماً. ولن يؤثر أي تدخل مالم يكن الضرر شخصياً فى الجماعة. ولا يدري المرء هل ما يجري لأرض السعيد هي لعنة الآباء المتوراثة منذ تمزق أيادي سبأ، "وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق"، أم أن هناك فرصة للخلاص من كل هذا صارت تلوح بالأفق قريباً، حيث تعود الأمور لما يجب أن تكون من بناء مؤسسات الدولة، التي وحدها من يمكنها صنع الاستقرار، واحتواء كل ألوان الطيف لليمن الكبير، وإنهاء هذا التمرد المهدد للسلام والأمن محلياً ودولياً، وتنتهي مرحلة ازدهار بندقية بقيت دوماً بندقية للإيجار والعبث.