logo
#

أحدث الأخبار مع #علاقة_عائلية

'يلا بابا!'.. رحلة مصالحة عابرة للحدود بين أب وابنته
'يلا بابا!'.. رحلة مصالحة عابرة للحدود بين أب وابنته

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • ترفيه
  • الجزيرة

'يلا بابا!'.. رحلة مصالحة عابرة للحدود بين أب وابنته

تقترح المخرجة اللبنانية آنجي عبيد على والدها منصور عبيد رحلة برية معها، تبدأ من بروكسل وتنتهي في بيروت، رحلة تريد بها استعادة علاقة انقطعت معه سنوات، توفر له فيها فرصة لاسترجاع ذكرياته عن رحلته الأولى، التي قطع فيها هذا الطريق قبل نحو 40 عاما. الرحلة البرية في نفس الطريق هي الفكرة المركزية التي يؤسس عليها الوثائقي اللبناني 'يلّا بابا!' (2024) بناءه الدرامي، ويجعلها مدخلا لمراجعة تاريخ شخصي، تداخلت تفاصيله مع متغيرات سياسية كبرى، تبدلت فيها خرائط، وانتهت أنظمة دول، كما تباعدت جراءها صلات عائلية حميمة بعد غياب طويل. الفيلم من إخراج اللبنانية آنجي عبيد وكتابتها أيضا، وهو إنتاج لبناني بلجيكي هولندي مشترك مع قناة الجزيرة الوثائقية. رحلة طريق تقرب فتاة من أبيها كان الأب حذرا واستغرب أول الأمر من الفكرة، لكنه قبل بها وشرع الوثائقي فورا في توثيق مسار رحلة برية طويلة، توقفاتها في محطات عدة تجعله 'فيلم طريق' مختلفا، ليست فيه أحداث دراماتيكية ولا مغامرات حاصلة، لأن المراد منها في الأساس استعادة علاقة عائلية، أضعفها طول الغياب وبُعد المسافات، واليوم تريد صانعة الفيلم ترميمها بالاقتراب من أبيها، والتعرف على آرائه ومواقفه من نواحٍ حياتية شتى. يفسر ذلك اعتماد نصه أكثر على الحوارات، وعلى التقاط الانفعالات والأحاسيس الدقيقة، المتولدة من اختلاف رؤى الأجيال للعلاقات الاجتماعية وللعالم ومتغيراته، فيبدو وفقها الأب محافظا، متمسكا بموروثه الديني المسيحي التقليدي، لكن ابنته تظهر انفتاحا على قبول المفاهيم الاجتماعية الأكثر ليبرالية وحرية. لكن حوارات السيارة تشي بانفتاح من جانب الأب، لتفهم مواقف ابنته ومراعاة انتمائها لجيل جديد، يرى الأمور بمنظار مختلف. هذا يجعل الرحلة مناسبة للبوح والمصالحة مع الذات، أما آنجي فهي فرصة لها للتعرف على كائن ظلت تجهله، لا تتذكر من وجوده بالقرب منها إلا القليل، ويعود جله لسنوات طفولتها، لكنها الآن تجد فيه جوانب مشرقة تشجعها على المضي في تقربها منه، والتعرف -خلال المسير بالسيارة آلاف الكيلومترات- على عالم رآه في الماضي، أما اليوم فلم يعد كما كان. ذكرياته ومعرفته الواسعة بحكم كونه صحفيا يكتب في حقل الثقافة، تفضي إلى مزيد من النقاشات والحوارات المكثفة، بفضل توليف سينمائي بارع، تولاه داني أبو لوح، يزيح عنها كل لغو زائد. العالم يتغير والخرائط تتبدل معاينتهما للخريطة بغرض تحديد الطرق التي عليهما قطعها بالسيارة من بروكسل إلى لبنان، تشي بحجم متغيرات الجغرافيا السياسية الهائلة الحاصلة في العالم وفي منطقتنا العربية، ومنها حقيقة أنهما لا يستطيعان المرور في العودة بسوريا، بسبب ما فيها من صراعات سياسية وعسكرية. هذا يدفعهما لإحداث تغيير في مسار الرحلة القديمة، التي مر فيها بسوريا قادما من بيروت باتجاه تركيا، أما اليوم فسيختصر الطريق، ويعبر من تركيا إلى لبنان بالباخرة. يخبرها أنه في عام 1980 -أثناء الحرب الأهلية اللبنانية- عبر 6 دول فقط، أما الآن فعليه عبور 10 دول، بسبب تفكك يوغسلافيا إلى عدة دول عليهما الآن المرور بها، والخضوع للتفتيش عند الدخول والخروج من أراضيها. يدور حديث بينهما عن الحرب التي يثبت موقفه الرافض لها، وربما هذا يفسر ضمنا -من دون الإعلان صراحة- سبب هجرته لبنان نحو بروكسل خلال الحرب الأهلية (1975-1990). يرفض منصور عبيد الوجود الإسرائيلي على أرض بلاده، ويتذكر المعاناة التي كان يلقاها سكان قرى الجنوب -ومنها قريته كوكبا- أثناء تنقلاتهم من ضيعة إلى أخرى، وما كان الجيش الإسرائيلي يفرض عليهم يومئذ من استخراج الموافقات الأمنية المذلة للوصول إلى حقولهم. كان ذلك أثناء مرحلة شبابه، لكنه وحتى اليوم ما زال يرفض كل احتلال جديد لبلده، ولا يتنازل عن موقفه المنتقد للظواهر السياسية السلبية والفساد في لبنان، وهو ما كان سببا في عدم عودته إليه منذ سنوات طوال. كل هذا يأتي في سياق أحاديث متفرقة ومتقطعة يتطلب من المُشاهد فهمها في سياقها الزمني وفي سياق العلاقة الخاصة بين الأب وابنته وفي عمق امتداداتها العائلية والأُسرية. اختلاف في الرؤى وتقارب في المواقف بمروره في الأراضي الإيطالية، يتذكر امرأة تعرّف عليها أثناء رحلته الأولى، وكان يومئذ في الثلاثين من عمره، ولم يبح الأب بطبيعة العلاقة، لكنه حرص على زيارتها، وقد علم من جيرانها أنها قد ماتت بوباء كورونا. يدفع ذلك أنجي لتصارحه بمخاوفها من موته أثناء انتشار الجائحة، وهو بعيد عنها وعن وطنه، ويدفعه هذا للحديث بينهما عن الموت والمرض، وعن أفكار وجودية تنم عن اختلاف في زوايا النظر إليها، لكنها تقرب في الوقت نفسه نظرة البنت إلى والدها، وإلى إعادة النظر بآرائه. ترفض آنجي كثيرا من آراء أبيها، لكنها تترك مساحة معقولة لفهم دوافعها، وهو كذلك أيضا، فكل موقف أو رأي مختلف يقبل مناقشته وإن بشيء من الضيق، ويفسح له مجالا للقبول به، أو على الأقل لفهم دوافعه. تلك المواقف والحوارات حول الدين والزواج والموت والوطنية والاحتلال وما في البلد من خراب اقتصادي وسياسي، يقرب بينهما ويجعل حواراتهما لها معنى أعمق. وأكثر ما يهم آنجي فيها قدرتها على إزاحة مخاوفها من احتمال افتراق نهائي بينهما، وقد وجدت في قبوله واختلافه معها احتراما لشخصيتها، بوصفها امرأة ناضجة وعصرية ومثقفة، تعرف ما تريد، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كله متحققا وفق رغباتها وتطلعاتها. لكن أكثر الأفكار مدعاة للجدل بينهما، هي فكرة زواجها من رجل من غير ديانتها المسيحية، فهي فكرة يعارضها الأب ظاهرا، لكنه يقبل مجاراتها عقليا، لتفهمه الواقع اللبناني، فالأجيال الجديدة والمثقفة لا تريد مجاراة تقاليد اجتماعية وأعراف دينية تربى هو ونشأ عليها. تقلبات الرحلة ومنعطفات ها الشعورية تقلبات الرحلة ومزاج الماضين بها، تتوارد من غير تخطيط، وفي وسط كل وقفة منها يظهران في مشهد متكرر جالسين قبالة موقع أو مدينة يتحدثان عنها وعن تاريخها، وارتباط كل ذلك برحلته القديمة. ففي صربيا يتوقف الأب عند ساحة اتخذتها السلطات اليوغسلافية يومئذ متحفا حربيا مكشوفا، يذكّر زواره بانتصار الحلفاء والكتلة الشيوعية على الفاشية الألمانية. وفي الصورة الفوتوغرافية القديمة التي أخذها عند وصوله أول مرة إلى ذلك المكان، يظهر جالسا على ظهر إحدى الدبابات. ولم يتغير المكان بالمقارنة بين اللحظة الآنية وبين ظهوره في الصورة القديمة، لكن منصور الشاب وقتها هو الذي تغيّر، فقد أضحى اليوم رجلا مسنا في أوسط السبعين من العمر. يقرآن في صوفيا عاصمة بلغاريا شعارات كتبت على بعض جدرانها، تدين الرأسمالية الجديدة، منها: 'التضخم يساوي الرأسمالية'. وفي الطريق إليها توافق آنجي على صعود سائحتين معها، وهما إسبانية وفرنسية، كانتا في طريقهما لزيارة طهران، لكن الأوضاع المستجدة والخطيرة جعلتهما يغيران خططهما. وجود الفتاتين وحديثهما باللغة الفرنسية معها ومع والدها يغير مزاج الرحلة، فينتقل الحديث إلى جوانب إنسانية، راغبة في مشاركة الآخر أحاسيس اللحظة العابرة المشبعة بالفضول والرغبة في التواصل. 'أريد لك الإقامة في لبنان!' حين يقتربان من الحدود التركية، تسأله عن السر الذي يرغب أن يبوح لها به، فيجيب جوابا يثير أحزانا: لقد كتبت وصيتي! ويخبرها أنه خصص لها فيها ولأختها حصصا من أملاكه، والباقي منه له ولزوجته، التي كانت تتابع رحلتهما عبر الهاتف. المهم لديه من كل ما كتبه هو عدم تفريط الورثة بالبيت القديم في ضيعة كوكبا، لأن ذلك البيت الجنوبي يذكره بوالده، والجهد الذي بذله لبنائه بيديه، فلا يريد التفريط به، ولا يسمح لأحد من الورثة بنكران جهد والده فيه. ومع دخول سيارتهما الحدود التركية يسمعان خبر انقلاب فيها، فتطلب سلطاتها من الداخلين الأجانب المرور فقط دون الإقامة. تدفع مشاهد مدينة إسطنبول الجميلة آنجي للبوح برغبتها في الإقامة فيها، لكن رد والدها يضمر رغبة كامنة لديه، إذ يقول: 'أريد لك الإقامة في لبنان!' وتلك عبارة تشي برغبة في تعويض ما لم يستطع فعله. البر اللبناني.. هل يعود المهاجر إلى موطنه؟ في الباخرة العملاقة التي تقلهما مع سيارتهما، تقودهما رؤيتهما مياه البحر الهائجة للحديث عن الهجرة والمهاجرين، الذين يركبون البحر بقوارب صغيرة مهترئة غير عابئين بالخطر، مدفوعين برغبة الوصول إلى مكان آمن، قد يحقق لهم حلم عيش حياة أفضل من تلك التي يعيشونها في أوطانهم. تبدي الابنة تعاطفا معهم، يتوافق مع اهتمامها السينمائي بموضوع الهجرة والاغتراب، الذي تناولته من زوايا شتى في فيلم 'كنت نام ع السطح' (2017)، وتتناول فيه تجربة مهاجرة سورية إلى أوروبا وما لقيت من معاناة، وفي فيلم 'باسفيك' (2019) تقارب تجربة وجودها الشخصي في بلجيكا. وبدخول السيارة إلى البر اللبناني تظهر علامات النفور والتوتر على الأب، فمن المؤكد أن أحاسيس ومشاعر متداخلة ومضطربة وراء ذلك، يحاول إخفاءها والتركيز بدلا منها على مظاهر سلبية مثيرة لتذمر يخفي ما يحمله من حنين وانتماء متجذر للمكان القديم. ويتغير مزاجه لحظة طلبه من ابنته الاستدارة لدخول مزارع أشجار الزيتون المملوكة له ولعائلته، إذ يشعر بفرح غامر لوجوده بين الأشجار التي يعرف أماكنها ويتذكرها جيدا. هل سيعود منصور يوما إلى ذلك المكان، للتمتع بجماله والتلذذ بحلاوة الذكريات التي يسترجعها؟ لا يتوقف الوثائقي طويلا عند هذا السؤال، بل يتركه مفتوحا على احتمالات، فالزمن كفيل بالإجابة عليها. 'يلّا بابا!' منجز بصري ممتع ومتميز، لحلاوة اشتغالاته الجمالية وبخاصة توليفه وتصويره (توماس سزاكا مارسا) اللافت في براعة التقاطه لأحاسيس أبطاله، ولتفاصيل رحلتهم التي قربت ما كان منقطعا بينهم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store