#أحدث الأخبار مع #عمرظاهرساحة التحرير١٧-٠٣-٢٠٢٥سياسةساحة التحريرتأخرت .. لكنها آتية حتما!عمر ظاهرتأخرت .. لكنها آتية حتما!! د. عمر ظاهر ما العمل؟ سؤال طرحه لينين قبل أكثر من مئة وعشرين سنة. وعندما نتذكّر هذا، ونذكره، فليس لأننا مغرمون بلينين، بل لنذكّر أنفسنا بأن الشعوب الأخرى أيضا مرت بالحال المزرية التي نمر بها نحن الآن. نعرف أن الشعب الروسي، بعد أن أجاب لينين عن السؤال، تجاوز في حينه محنته، وبنى امبراطورية عظيمة نقلت البشرية خطوات هامة إلى الأمام على طريق التحرر والتقدم، ودامت سبعين سنة، ثم صار لزاما أن يطرح أحدهم السؤال نفسه: ما العمل؟ وجاء الجواب من فلاديمير بوتين، ونهضت روسيا من جديد! بوتين ينهض بروسيا، وليس من الكرامة أن نلوم أحدا، عندما تكون التضحية بتحالفنا معه، وثقفنا به، من ضمن الثمن الذي تتطلبه نهضته، فيضحي بهما بلا رحمة أو شفقة. لا ينبغي لنا أن نعتب لأن الأصل في الحياة هو الاعتماد على النفس، وذلك من عزم الأمور. أما التحالفات والصداقات، فمَن استطاع إليه سبيلا. درسٌ من التاريخ في تاريخ العرب الحديث، وفق مصادر كثيرة، يمكننا تمييز ثلاث فترات شملت كل بلدانهم بصورة متفاوتة، وهذه الفترات يمكن توصيفها على الوجه الآتي، رغم تداخلها مع عوامل أخرى غير التي نعتمدها كأساس للتوصيف: أولا، فترة المد التقدمي الذي كان عنوانه التحرر، والديمقراطية، والاشتراكية. هذه الفترة جاءت بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا (وعلى إثر انهيار الامبراطورية العثمانية، أو بعد تنفيذ مؤامرة سايكس-بيكو)، وتميزت على وجه العموم بتشكيل الأحزاب الشيوعية، والاشتراكية، والوطنية، وشهدت (ربما أيضا بسبب الاحتكاك مع الاستعمار الغربي) توجها إلى التحرر، والتطور الاجتماعي، رغم سيطرة الرجعية السياسية، والاستعمار. ثانيا، فترة صعود الحركات القومية، وذلك على إثر انهيار الحركات الشيوعية، بدءً من العراق عام 1963، ثم سيطرة الناصرية، وقيام الانقلابات العسكرية ذات الصبغة القومية بذريعة محاربة الصهيونية. هذه الفترة انتهت بسرعة قياسية القصر – في الحقيقة بالارتباط مع هزيمة حزيران 1967، رغم أن الانقلابات استمرت بعد عام 1967 بحجة تصحيح المسار، في العراق عام 1968، وفي ليبيا، والسودان عام 1969، وفي سورية عام 1970، وفي مصر تحت يافطة 'إزالة آثار العدوان' حتى وفاة القائد العربي جمال عبدالناصر. ليس هناك أي خلل في أن تكون للأمة روح قومية، إنما كان الخلل فيمن قفزوا على الشعور القومي، واستغلوه شر استغلال، فحولوا تلك الانقلابات العسكرية إلى مفرخة لتوليد الدكتاتوريات، بدلا من بناء القوة لتحرير فلسطين. وجاءت نهاية هذه الفترة، فعليا، عام 1979 بالخيانة التاريخية لأنور السادات في إبرامه اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيوني. ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية لانتكاسة الروح القومية العربية هو أن عقلية الأمة العربية تعاني من الخجل في التمسك بنفسها، وذلك تحت تأثير الإسلام الذي ينحو إلى تبني مفهوم أوسع للأمة، أي الأمة الإسلامية، الأمر الذي يوحي بأن التمسك بالقومية عنصرية بغيضة؛ وأيضا تحت تأثير الشعور بالتعاطف مع الأقليات الكثيرة في العالم العربي، والرغبة في عدم إبداء التعالي إزاءها؛ كذلك تحت تأثير متعمد من أعداء العرب، مخافة توحد مئات الملايين في هوية تشكل مقدمة لظهور قوة مؤثرة على الساحة الدولية. ومع الأسف، فإن الحركات التقدمية أسهمت هي الأخرى في تنفير الشباب من التوجهات القومية لصالح شكل طوباوي من الأممية! ثالثا، فترة الإسلاموية، فإذا كان السادات قد أعلن على الملأ نهاية تأثير القوى القومية العربية وذلك بإخراج مصر، الشقيقة الكبرى في نظر كل العرب، من الصراع ضد إسرائيل، فإن قيام الثورة الإسلامية في إيران في نفس الفترة (نهاية سبعينات القرن الماضي)، نفخ في الرماد الذي كانت نار الحركات الإسلاموية في العالم العربي تكمن تحتها. والفترة الإسلاموية قد تكون الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة بافتضاح كونها استخدمت الإسلام كواجهة تخفي وراءها الطائفية البغيضة، والإرهاب الدموي كسلاح يستخدمه أعداء الأمة للتضليل، والتجهيل، ولإبقاء الأمة العربية على صراط غير مستقيم. لا يمكن، بطبيعة الحال، تعميم توصيفاتنا لتكون شاملة، فمثلا بقي نبض الأمة يدل على بقائها على قيد الحياة في حركتين إسلاميتين، في لبنان وفي غزة، هما الأمل الأخير في أن تبقى روح الإسلام في جسد الأمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. الإحباط الشامل إذا كانت الإسلاموية قد انتهت نهايتها المفجعة في أخذها طابعا طائفيا دمويا، وكانت القومجية قد انتهت إلى طريق مسدودة من الاستئثار بالحكم بأي ثمن، فإن فترة الحركات ذات النزعة إلى التحرر، والديمقراطية، والاشتراكية في النصف الأول من القرن الماضي قد انتهت، وانتهى الدور المؤثر لها، لأسباب مشابهة، ولكن بمسميات أخرى، فالدكتاتوريات نخرت جسد تلك الحركات مع أنها لم تتحكم في الدولة، والحكومة، بل في تأسيس مافيات داخلية في الأحزاب، والتحكم بمقدراتها لعقود من العمل السري، مولدة قيادات معتقة ضلت جاثمة على صدور أنصارها حتى انقراضها؛ والطائفية نفسها تجلت في تلك الحركات في انقسامات أفقية وعمودية بين الموالاة للسوفييت، والموالاة للصين، أو حتى تقليد كوبا! وتخوين بعضها بعضا. لماذا الاستعراض القصد من هذا التلخيص ليس مجرد استعراض مختصر لتاريخنا القريب، وإنما استقراء لما يمكن أن يأتينا في قادم الأيام، فما يأتي لن يكون خارج ما عرفناه من أطر سياسية وثقافية تركت فينا آثارها. وإن كان لكاتب هذه السطور أن يدلو بدلوه، فليس هناك من أساس لما ندلي به غير التجربة، والمعايشة، والمعاناة. ربما لن يكون هناك اختلاف كبير في فهمنا للإطار الديني (بصرف النظر عن التدين الشخصي لكل منا) الذي أثبت فشلا كارثيا في نقلنا خطوة إلى أمام، لا على المستوى السياسي، ولا التصارعي، ولا الثقافي. لقد أغرق الطائفيون هذه الأمة في الجهل، وفي الدماء، وعسى أن يكون ما نعيشه اليوم من مأساة مروعة في سورية هو الفصل الأخير في كتاب الطائفية البغيضة. إننا نتمنى أن تكون المأساة التي نشهدها في سورية آخر نفس للطائفية الإسلاموية، وإلا فإنه لو نجح من يقفون وراء الطائفيين في المد في عمر الوباء الطائفي، فإننا يمكن أن نكون مقبلين على بروز حركات اجتماعية عبثية ليس لها في عالم السياسة غير ردود أفعال عشوائية على ما يرونه الدين الذي يمثله هؤلاء الطائفيون المقرفون. إن الإطار الديني، والذي يولّد بشكل طبيعي الطائفية الدموية، ليس مصدر أمل. أما القومجيون الذين كانت قضية فلسطين محور وجودهم، فقد اصطدموا هم أولا بجدار صلب من الروح القطرية، وبدلا من مصارحة شعوبهم، والتوجه إلى شكل من الحكم الوطني المعقول، شاركوا في خداع شعوبهم في التعلق بالأوهام، وساروا على نهج التأله، زاعمين أنهم ضرورة تاريخية، فانتهى بهم المطاف إلى العزلة عن شعوبهم، وعن العالم، ليواجهوا منفردين عدوا لا يرحم! لقد خانوا جميعا، وبصور مختلفة، قضية فلسطين، وسقط بسقوط أنظمتهم الأساس الوجودي لحركاتهم، وليس من عاقل يمكنه أن يعقد الآمال عليهم! التاريخ سيقول كلمته إن التاريخ يخبرنا أنه، وفي مثل هذه الظروف التي نمر بها، تنجب الأمم منقذيها. التاريخ يخبرنا أيضا أن الأمة العربية، وعلى ضوء تاريخها الحديث تحتاج إلى إطار جامع، ومرن، يمكنه جمع الأمة، والاستفادة من اجتماعها لتحقيق وزن نوعي لها على الساحة الدولية، والدخول في تحالفات متوازنة لا تبعية فيها لمصالح الحلفاء، أو الأصدقاء. العالم يتشكل من جديد عبر صراعات، وعبر تحالفات ندّية، وعبر القوة. ورغم أن الأحزاب الاشتراكية 'التقدمية'، وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية العربية ارتكبت هي الأخرى أخطاءً (إن لن نقل جرائم) كارثية، لا بد لنا أن نعترف بأن وجودها كانت له مردودات إيجابية على مستوى الوعي، ونشر الثقافة، والإيمان بالأممية، وبالمساواة، ليس فقط بين الجنسين، بل وبين الطوائف المختلفة، حيث كانت أيضا ملاذا للأقليات التي رأت في مناهجها، وبرامجها، حماية لها من الطغيان المفترض للأكثرية، وتطلعت إلى المشاركة على قدم المساواة معها في بناء المجتمع الاشتراكي المنشود. نحن على ثقة بأن الأغلبية العظمى من أبناء أمتنا خيارهم الاجتماع، عبر عودة موفقة للحركات التقدمية بعد أن ينتفض أنصارها، ويمارسوا نقدا ذاتيا حقيقيا لمسيرتها؛ نستغرب حقا لماذا لم تظهر حتى الآن حركة تقدمية عربية جامعة، ليس بالضرورة على شكل حزب شيوعي عربي، بل حركة سياسية لا دينية فاعلة تجمع الشباب العربي على روح قومية إنسانية عقلانية، وعلى شكل حركة إنقاذ عربية. لكننا على يقين بأنها ستظهر، وهي تنتظر لينينها العربي ليجيب عن السؤال التاريخي: ما العمل؟ نحن، السياسيون المتقاعدون في أوروبا، لن يكون لنا أي تأثير على ما سيقع في العالم العربي الذي نرتبط به ارتباطا روحيا. إنما لنا بضع كلمات لنقولها لمن سيبادرون إلى تأسيس 'حركة الإنقاذ العربية': أولا، إن أول دولة ستدعمكم هي الصين، وذلك لأنها بحاجة إليكم في صراعها الصامت من أجل تحجيم، وتقزيم أمريكا. لكن إياكم أن تعطوها أكثر مما تأخذون منها. الصين تتفرج الآن على العرب وهم يُذبحون، ويُجوَّعون، ولا تحرك ساكنا لأنها تريد أن تصل الولايات المتحدة الحد الأقصى في اضطهاد العرب حتى يجد العرب في الصين، وفي التبعية لها حلا لمأساتهم. إنقاذ أمتنا بأيدينا نحن، وليس بيدي الصين، فلا تتركوا الصين تستغل مآسينا. تعاملوا معها تعامل الند للند. أما روسيا، فهي تنهض من كبوتها، ولا تحتمل أن يثقل أي حليف، أو صديق كاهلها، فهي ليست الاتحاد السوفيتي، وهي، على ما يبدو، لا تتهيأ لحرب كبرى، ولذلك لا تجد حاجة إلى تحالفات مع الضعفاء. ثانيا، لا تمارسوا الصبيانية التي مارسها التقدميون الأولون حين اعتبروا الدين أفيون الشعوب، واستعدَوا البسطاء من الأمة. الإسلام ليس عدوكم. انظروا إلى بوتين، الشيوعي السابق، كيف يستفيد من دعم الكنيسة. أنتم كتقدميين أقرب، بالتأكيد، إلى الله من الإسلامويين الطائفيين. ثالثا، لتكن الروح القومية عندكم حقيقية، دون أن تكونوا عنصريين، فأنتم يريد الأعداء سحقكم لأنكم عرب، ولن ينفعكم وضع أي بعد بينكم وبين العروبة، بل كونوا روح العروبة التقدمية، الإنسانية. وفي هذا السياق، لا بد من الحفاظ على نفس الروح الكلاسيكية في الحركات التقدمية فيما يتعلق بالأقليات، لكن هذا لا يعني إطلاق العنان للعواطف، ونسيان أن الهدف من الحركة هو مصلحة العرب في تجنب الانسحاق تحت أقدام الكبار، وليس النفخ في روح إحياء الامبراطوريات البائدة للأقليات. رابعا، لا بأس في أن يكون تنظيمكم سريا في البداية، ولكن اعملوا وكأنكم ستتحولون بعد استقرار العالم إلى تنظيم علني، فلا تكون عليكم مآخذ من أمتكم. خامسا، ابتعدوا عن محاولة المركزية، واتركوا كل قطر يعمل ضمن إطار عام. سادسا، أحيلوا كبار السن منكم على التقاعد الكريم كي لا تتكرر تجربة القادة الدببة الذين قضوا أعمارهم في الجبال حتى انقطعت صلتهم بالحياة في المدن، وصار همهم البقاء في 'القيادة الحكيمة' لأنهم كانوا لا يجيدون أي عمل يكسبون منه قوت يومهم، فتحولوا إلى طفيليين يعتاشون على أحزابهم. سابعا، لا تنافقوا بأن تكونوا من أنصار حقوق المرأة حين يتعلق الأمر بنساء الآخرين، وتتمسكوا بالتقاليد الاجتماعية الموروثة حين يتعلق الأمر بنسائكم. إن التاريخ يكاد يصرخ بأن الأمة العربية حبلى بحركة تقدمية جامعة، وأن ولادتها باتت قاب قوسين أو أدنى. وحتى لو كانت الولادة عسيرة، فإنها حاصلة لا محال. تأخرت .. لكنها آتية حتما! 2025-03-17
ساحة التحرير١٧-٠٣-٢٠٢٥سياسةساحة التحريرتأخرت .. لكنها آتية حتما!عمر ظاهرتأخرت .. لكنها آتية حتما!! د. عمر ظاهر ما العمل؟ سؤال طرحه لينين قبل أكثر من مئة وعشرين سنة. وعندما نتذكّر هذا، ونذكره، فليس لأننا مغرمون بلينين، بل لنذكّر أنفسنا بأن الشعوب الأخرى أيضا مرت بالحال المزرية التي نمر بها نحن الآن. نعرف أن الشعب الروسي، بعد أن أجاب لينين عن السؤال، تجاوز في حينه محنته، وبنى امبراطورية عظيمة نقلت البشرية خطوات هامة إلى الأمام على طريق التحرر والتقدم، ودامت سبعين سنة، ثم صار لزاما أن يطرح أحدهم السؤال نفسه: ما العمل؟ وجاء الجواب من فلاديمير بوتين، ونهضت روسيا من جديد! بوتين ينهض بروسيا، وليس من الكرامة أن نلوم أحدا، عندما تكون التضحية بتحالفنا معه، وثقفنا به، من ضمن الثمن الذي تتطلبه نهضته، فيضحي بهما بلا رحمة أو شفقة. لا ينبغي لنا أن نعتب لأن الأصل في الحياة هو الاعتماد على النفس، وذلك من عزم الأمور. أما التحالفات والصداقات، فمَن استطاع إليه سبيلا. درسٌ من التاريخ في تاريخ العرب الحديث، وفق مصادر كثيرة، يمكننا تمييز ثلاث فترات شملت كل بلدانهم بصورة متفاوتة، وهذه الفترات يمكن توصيفها على الوجه الآتي، رغم تداخلها مع عوامل أخرى غير التي نعتمدها كأساس للتوصيف: أولا، فترة المد التقدمي الذي كان عنوانه التحرر، والديمقراطية، والاشتراكية. هذه الفترة جاءت بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا (وعلى إثر انهيار الامبراطورية العثمانية، أو بعد تنفيذ مؤامرة سايكس-بيكو)، وتميزت على وجه العموم بتشكيل الأحزاب الشيوعية، والاشتراكية، والوطنية، وشهدت (ربما أيضا بسبب الاحتكاك مع الاستعمار الغربي) توجها إلى التحرر، والتطور الاجتماعي، رغم سيطرة الرجعية السياسية، والاستعمار. ثانيا، فترة صعود الحركات القومية، وذلك على إثر انهيار الحركات الشيوعية، بدءً من العراق عام 1963، ثم سيطرة الناصرية، وقيام الانقلابات العسكرية ذات الصبغة القومية بذريعة محاربة الصهيونية. هذه الفترة انتهت بسرعة قياسية القصر – في الحقيقة بالارتباط مع هزيمة حزيران 1967، رغم أن الانقلابات استمرت بعد عام 1967 بحجة تصحيح المسار، في العراق عام 1968، وفي ليبيا، والسودان عام 1969، وفي سورية عام 1970، وفي مصر تحت يافطة 'إزالة آثار العدوان' حتى وفاة القائد العربي جمال عبدالناصر. ليس هناك أي خلل في أن تكون للأمة روح قومية، إنما كان الخلل فيمن قفزوا على الشعور القومي، واستغلوه شر استغلال، فحولوا تلك الانقلابات العسكرية إلى مفرخة لتوليد الدكتاتوريات، بدلا من بناء القوة لتحرير فلسطين. وجاءت نهاية هذه الفترة، فعليا، عام 1979 بالخيانة التاريخية لأنور السادات في إبرامه اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيوني. ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية لانتكاسة الروح القومية العربية هو أن عقلية الأمة العربية تعاني من الخجل في التمسك بنفسها، وذلك تحت تأثير الإسلام الذي ينحو إلى تبني مفهوم أوسع للأمة، أي الأمة الإسلامية، الأمر الذي يوحي بأن التمسك بالقومية عنصرية بغيضة؛ وأيضا تحت تأثير الشعور بالتعاطف مع الأقليات الكثيرة في العالم العربي، والرغبة في عدم إبداء التعالي إزاءها؛ كذلك تحت تأثير متعمد من أعداء العرب، مخافة توحد مئات الملايين في هوية تشكل مقدمة لظهور قوة مؤثرة على الساحة الدولية. ومع الأسف، فإن الحركات التقدمية أسهمت هي الأخرى في تنفير الشباب من التوجهات القومية لصالح شكل طوباوي من الأممية! ثالثا، فترة الإسلاموية، فإذا كان السادات قد أعلن على الملأ نهاية تأثير القوى القومية العربية وذلك بإخراج مصر، الشقيقة الكبرى في نظر كل العرب، من الصراع ضد إسرائيل، فإن قيام الثورة الإسلامية في إيران في نفس الفترة (نهاية سبعينات القرن الماضي)، نفخ في الرماد الذي كانت نار الحركات الإسلاموية في العالم العربي تكمن تحتها. والفترة الإسلاموية قد تكون الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة بافتضاح كونها استخدمت الإسلام كواجهة تخفي وراءها الطائفية البغيضة، والإرهاب الدموي كسلاح يستخدمه أعداء الأمة للتضليل، والتجهيل، ولإبقاء الأمة العربية على صراط غير مستقيم. لا يمكن، بطبيعة الحال، تعميم توصيفاتنا لتكون شاملة، فمثلا بقي نبض الأمة يدل على بقائها على قيد الحياة في حركتين إسلاميتين، في لبنان وفي غزة، هما الأمل الأخير في أن تبقى روح الإسلام في جسد الأمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. الإحباط الشامل إذا كانت الإسلاموية قد انتهت نهايتها المفجعة في أخذها طابعا طائفيا دمويا، وكانت القومجية قد انتهت إلى طريق مسدودة من الاستئثار بالحكم بأي ثمن، فإن فترة الحركات ذات النزعة إلى التحرر، والديمقراطية، والاشتراكية في النصف الأول من القرن الماضي قد انتهت، وانتهى الدور المؤثر لها، لأسباب مشابهة، ولكن بمسميات أخرى، فالدكتاتوريات نخرت جسد تلك الحركات مع أنها لم تتحكم في الدولة، والحكومة، بل في تأسيس مافيات داخلية في الأحزاب، والتحكم بمقدراتها لعقود من العمل السري، مولدة قيادات معتقة ضلت جاثمة على صدور أنصارها حتى انقراضها؛ والطائفية نفسها تجلت في تلك الحركات في انقسامات أفقية وعمودية بين الموالاة للسوفييت، والموالاة للصين، أو حتى تقليد كوبا! وتخوين بعضها بعضا. لماذا الاستعراض القصد من هذا التلخيص ليس مجرد استعراض مختصر لتاريخنا القريب، وإنما استقراء لما يمكن أن يأتينا في قادم الأيام، فما يأتي لن يكون خارج ما عرفناه من أطر سياسية وثقافية تركت فينا آثارها. وإن كان لكاتب هذه السطور أن يدلو بدلوه، فليس هناك من أساس لما ندلي به غير التجربة، والمعايشة، والمعاناة. ربما لن يكون هناك اختلاف كبير في فهمنا للإطار الديني (بصرف النظر عن التدين الشخصي لكل منا) الذي أثبت فشلا كارثيا في نقلنا خطوة إلى أمام، لا على المستوى السياسي، ولا التصارعي، ولا الثقافي. لقد أغرق الطائفيون هذه الأمة في الجهل، وفي الدماء، وعسى أن يكون ما نعيشه اليوم من مأساة مروعة في سورية هو الفصل الأخير في كتاب الطائفية البغيضة. إننا نتمنى أن تكون المأساة التي نشهدها في سورية آخر نفس للطائفية الإسلاموية، وإلا فإنه لو نجح من يقفون وراء الطائفيين في المد في عمر الوباء الطائفي، فإننا يمكن أن نكون مقبلين على بروز حركات اجتماعية عبثية ليس لها في عالم السياسة غير ردود أفعال عشوائية على ما يرونه الدين الذي يمثله هؤلاء الطائفيون المقرفون. إن الإطار الديني، والذي يولّد بشكل طبيعي الطائفية الدموية، ليس مصدر أمل. أما القومجيون الذين كانت قضية فلسطين محور وجودهم، فقد اصطدموا هم أولا بجدار صلب من الروح القطرية، وبدلا من مصارحة شعوبهم، والتوجه إلى شكل من الحكم الوطني المعقول، شاركوا في خداع شعوبهم في التعلق بالأوهام، وساروا على نهج التأله، زاعمين أنهم ضرورة تاريخية، فانتهى بهم المطاف إلى العزلة عن شعوبهم، وعن العالم، ليواجهوا منفردين عدوا لا يرحم! لقد خانوا جميعا، وبصور مختلفة، قضية فلسطين، وسقط بسقوط أنظمتهم الأساس الوجودي لحركاتهم، وليس من عاقل يمكنه أن يعقد الآمال عليهم! التاريخ سيقول كلمته إن التاريخ يخبرنا أنه، وفي مثل هذه الظروف التي نمر بها، تنجب الأمم منقذيها. التاريخ يخبرنا أيضا أن الأمة العربية، وعلى ضوء تاريخها الحديث تحتاج إلى إطار جامع، ومرن، يمكنه جمع الأمة، والاستفادة من اجتماعها لتحقيق وزن نوعي لها على الساحة الدولية، والدخول في تحالفات متوازنة لا تبعية فيها لمصالح الحلفاء، أو الأصدقاء. العالم يتشكل من جديد عبر صراعات، وعبر تحالفات ندّية، وعبر القوة. ورغم أن الأحزاب الاشتراكية 'التقدمية'، وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية العربية ارتكبت هي الأخرى أخطاءً (إن لن نقل جرائم) كارثية، لا بد لنا أن نعترف بأن وجودها كانت له مردودات إيجابية على مستوى الوعي، ونشر الثقافة، والإيمان بالأممية، وبالمساواة، ليس فقط بين الجنسين، بل وبين الطوائف المختلفة، حيث كانت أيضا ملاذا للأقليات التي رأت في مناهجها، وبرامجها، حماية لها من الطغيان المفترض للأكثرية، وتطلعت إلى المشاركة على قدم المساواة معها في بناء المجتمع الاشتراكي المنشود. نحن على ثقة بأن الأغلبية العظمى من أبناء أمتنا خيارهم الاجتماع، عبر عودة موفقة للحركات التقدمية بعد أن ينتفض أنصارها، ويمارسوا نقدا ذاتيا حقيقيا لمسيرتها؛ نستغرب حقا لماذا لم تظهر حتى الآن حركة تقدمية عربية جامعة، ليس بالضرورة على شكل حزب شيوعي عربي، بل حركة سياسية لا دينية فاعلة تجمع الشباب العربي على روح قومية إنسانية عقلانية، وعلى شكل حركة إنقاذ عربية. لكننا على يقين بأنها ستظهر، وهي تنتظر لينينها العربي ليجيب عن السؤال التاريخي: ما العمل؟ نحن، السياسيون المتقاعدون في أوروبا، لن يكون لنا أي تأثير على ما سيقع في العالم العربي الذي نرتبط به ارتباطا روحيا. إنما لنا بضع كلمات لنقولها لمن سيبادرون إلى تأسيس 'حركة الإنقاذ العربية': أولا، إن أول دولة ستدعمكم هي الصين، وذلك لأنها بحاجة إليكم في صراعها الصامت من أجل تحجيم، وتقزيم أمريكا. لكن إياكم أن تعطوها أكثر مما تأخذون منها. الصين تتفرج الآن على العرب وهم يُذبحون، ويُجوَّعون، ولا تحرك ساكنا لأنها تريد أن تصل الولايات المتحدة الحد الأقصى في اضطهاد العرب حتى يجد العرب في الصين، وفي التبعية لها حلا لمأساتهم. إنقاذ أمتنا بأيدينا نحن، وليس بيدي الصين، فلا تتركوا الصين تستغل مآسينا. تعاملوا معها تعامل الند للند. أما روسيا، فهي تنهض من كبوتها، ولا تحتمل أن يثقل أي حليف، أو صديق كاهلها، فهي ليست الاتحاد السوفيتي، وهي، على ما يبدو، لا تتهيأ لحرب كبرى، ولذلك لا تجد حاجة إلى تحالفات مع الضعفاء. ثانيا، لا تمارسوا الصبيانية التي مارسها التقدميون الأولون حين اعتبروا الدين أفيون الشعوب، واستعدَوا البسطاء من الأمة. الإسلام ليس عدوكم. انظروا إلى بوتين، الشيوعي السابق، كيف يستفيد من دعم الكنيسة. أنتم كتقدميين أقرب، بالتأكيد، إلى الله من الإسلامويين الطائفيين. ثالثا، لتكن الروح القومية عندكم حقيقية، دون أن تكونوا عنصريين، فأنتم يريد الأعداء سحقكم لأنكم عرب، ولن ينفعكم وضع أي بعد بينكم وبين العروبة، بل كونوا روح العروبة التقدمية، الإنسانية. وفي هذا السياق، لا بد من الحفاظ على نفس الروح الكلاسيكية في الحركات التقدمية فيما يتعلق بالأقليات، لكن هذا لا يعني إطلاق العنان للعواطف، ونسيان أن الهدف من الحركة هو مصلحة العرب في تجنب الانسحاق تحت أقدام الكبار، وليس النفخ في روح إحياء الامبراطوريات البائدة للأقليات. رابعا، لا بأس في أن يكون تنظيمكم سريا في البداية، ولكن اعملوا وكأنكم ستتحولون بعد استقرار العالم إلى تنظيم علني، فلا تكون عليكم مآخذ من أمتكم. خامسا، ابتعدوا عن محاولة المركزية، واتركوا كل قطر يعمل ضمن إطار عام. سادسا، أحيلوا كبار السن منكم على التقاعد الكريم كي لا تتكرر تجربة القادة الدببة الذين قضوا أعمارهم في الجبال حتى انقطعت صلتهم بالحياة في المدن، وصار همهم البقاء في 'القيادة الحكيمة' لأنهم كانوا لا يجيدون أي عمل يكسبون منه قوت يومهم، فتحولوا إلى طفيليين يعتاشون على أحزابهم. سابعا، لا تنافقوا بأن تكونوا من أنصار حقوق المرأة حين يتعلق الأمر بنساء الآخرين، وتتمسكوا بالتقاليد الاجتماعية الموروثة حين يتعلق الأمر بنسائكم. إن التاريخ يكاد يصرخ بأن الأمة العربية حبلى بحركة تقدمية جامعة، وأن ولادتها باتت قاب قوسين أو أدنى. وحتى لو كانت الولادة عسيرة، فإنها حاصلة لا محال. تأخرت .. لكنها آتية حتما! 2025-03-17