أحدث الأخبار مع #فرانسيسفوكوياما


لكم
منذ 19 ساعات
- سياسة
- لكم
فرانسيس فوكوياما.. الإسلام والحداثة والربيع العربي
لكتاب 'نهاية التاريخ والإنسان الأخير' رَجع صدى قوي جدا، أصدر المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما هذا الكتاب في لحظة تحول انتقالي ومفصلي في المشهد الأخير من القرن العشرين عشية تحلل المنظومة السوفياتية ونهاية ما كان يُنعت بفترة 'توازن الرعب'. والواقع، فقد أحدث هذا الكتاب دون غيره هَزَّة قوية في بلاد العم سام وخارجها بحكم أنه كان يُظهر وِجهة نظر الإدارة الأمريكية في تعاطيها مع قضايا الشأن الدولي، ويُحدد معالم طريق بِنية النظام العالمي الجديد New World Order، ويزيد من أهمية ذلك، مواقف فوكوياما الفكرية التي يطبعها التفكك والتسرع أحيانا في اتخاذ الأحكام، فهو المُؤيد للحرب على العراق، والمُنتقد لأداء إدارة البيت الأبيض في مرحلة ما بعد الحرب على العراق؛ وهو أيضًا العارض لخبرته الفكرية في تحليل قضايا الشرق الأوسط، دون أن يُمسك بتفاصيله الدقيقة ويهتدي إلى فهم التباسات المنطقة وتحولاتها الكبرى… ورغم ذلك، يبقى لفوكوياما حضور بارز في مشهدية الثقافة العالمية، بكتاباته ومواقفه، وأحيانا بجرأته، فقد جرى اختياره من طرف مجلة Foreign Policy عام 2009 كأحد المفكرين المائة في العالم، الذين أثروا بأفكارهم ومقولاتهم. طبيعي جدا، أن يقع الاختيار على فوكوياما، ليس إلى قوة أطروحته الفكرية، وإنما إلى صخابة المتابعات الإعلامية التي واكبت كتاباته ومواقفه، ولعل من بينها كتابه الموسوم بعنوان 'التنمية السياسية ودور القانون'، والذي يُنقب من خلاله في تاريخانية تشكل فكرة القانون وتطور الفكر السياسي عند البشر. ضمن هذا الكتاب 'الإسلام والحداثة والربيع العربي' الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2015، والذي هو في الأصل عبارة عن سلسلة حوارات صحفية أجراها الأستاذ رضوان زيادة مع فوكوياما يعود إلى إثارة قضايا الشرق الأوسط والديمقراطية والحداثة والتطرف والإسلام…والحال، يكتشف القارئ ضمن سلسلة هذه الحوارات، تفاعل فوكوياما مع قضايا الشرق الأوسط، خاصة مع فكرة تطور القانون في المجتمعات الإسلامية، ويعرض لفكرة الانتقال من بنيات القبيلة والعشيرة ونظام الموالي إلى بناء الدولة التي أنشأها الاستعمار، كما يتوقف عند مركزية الدين في بناء الدولة، وقضية استحداث الديموقراطية والحداثة وتحولات الربيع العربي. يعتقد فرانسيس فوكوياما أن هناك خاصيتين مميزتين أعاقتا بناء الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط العربي، الأولى هي وجود النفط، إذ النفط بقدر ما يعتبر نِعمة فهو نقمة، لأن الناس لا يُؤدون ضرائب، ولا يحاسبون الدولة، على خلاف أوروبا مثلا التي نشأت فيها الديموقراطية في ارتباط مع الضرائب. فحضور اقتصاد النفط، سيعفي الدول العربية من فرض الضرائب، وستعفى هي كذلك من الالتزام بالمسؤولية، وستستعيض عنها بتقديم إعانات مالية من أجل ترسيخ الديكتاتورية. الخاصية الثانية التي يُلح عليها فوكوياما هي الصراع مع إسرائيل، الذي بقدر ما اعتبر مصدر المشاكل في المنطقة، فقد وَفَّر ذريعة جيدة للأنظمة السلطوية لتجنب المواجهة الفعلية لمشاكلها الحقيقية، ورمى بالمسؤولية على كل إخفاق تنموي وسياسي على هذا الصراع عبر تبني نظرية المؤامرة.(ص 44) يسير فرانسيس فوكوياما بعيدا في هذا التحليل، إذ سيعتبر مناصرة الولايات المتحدة الأمريكية للدكتاتوريات العربية في الشرق الأوسط أمر غير صحي على المدى الطويل، مُستدلا بما جاء على لسان كوندليزا رايس، لأنه الرهان لديه كان على حصان خاسر، سيحول دون تطور الديموقراطية داخلها (ص55). وفي حديثه عن الإسلام، يُوضح فوكوياما أنه ليس عائقا أمام تحقق الديموقراطية والتنمية السياسية الحديثة، ما دامت الأنظمة الدينية تمتلك عقيدة متطورة، وقادرة على التحول نحو بِنيات أكثر ليبرالية وتسامحا، وقد يظهر أن الديموقراطية قد ارتبطت لوقت طويل بأشكال معينة من 'التغريب' في العديد من الدول المسلمة، مما أدى إلى عدم وجود ارتياح حقيقي لهذا المفهوم، خاصة وأنها تدَخَّلت في المزيد من المسائل الثقافية لهذه المجتمعات، مثل قضية المرأة والمساواة ودور الدين في المجتمع…(ص54). يميل فوكوياما في تحليله للجوانب الثقافية داخل الشرق الأوسط إلى اعتبار أن الإسلام هو الثقافة العالمية الرئيسة الوحيدة التي لها جدليا بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة، مقارنة مع ديانان أخرى، كالهندوسية والكونفوشيوسية، باستثناء تركيا التي يُمكن أن تفتخر بديموقراطية عاملة وحيدة، بفضل علمانية مصطفى كمال أتاتورك. لا يتردد فوكوياما في شن هجوم شرس على الحركات المتطرفة التي تكره مبادئ الحداثة وتستعديها. يتجه فوكوياما نحو اعتبار أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع عصابة صغيرة جدا من الإرهابيين، وإنما نحو تبلور 'فاشية إسلامية' تشكل تحديا إيديولوجيا أكثر من ذاك الذي كانت تشكله الشيوعية السوفياتية فيما مضى، مُبديا تخوفه من أن يَحوز الإسلام الراديكالي المزيد من الأنصار والأسلحة القوية الجديدة التي سيواجه بها الغرب، لأن العالم الاسلامي يقول بأنه يقف اليوم عند نقطة الفصل التي وقفت عندها أوروبا المسيحية أثناء حرب الثلاثين سنة في القرن السابع عشر، حيث ستقود السياسيات الدينية صراعا محتملا لا نهاية له، ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل بين الطوائف المختلفة من المسلمين، وقد يؤدي ذلك في عصر الأسلحة البيولوجية والنووية إلى كارثة تطال الجميع (ص88). يبدو فوكوياما في تحليله لأوضاع العالم الإسلامي أكثر انبهارا بتجربة إيران الإصلاحية، التي اعتبرها قائدة في المنطقة في بلورة إسلام أكثر حداثة وتسامحا، داعيا المسلمين المهتمين بشكل أكثر ليبرالية للإسلام بالتوقف عن لوم الغرب، والاهتمام بعزل المتطرفين بينهم. وعلى العموم، طرحت مواقف فوكوياما نقاشا كبيرا في محور جاكارتا طنجة، جدال لم ينتهي بعد حول مقاسات الصلاحية العلمية والتناسب الفكري…ليس فقط لأنها تعكس وِجهة نظر بعض المثقفين الأمريكيين تجاه ما يقع في العالم، بله لجرأتها وحساسيتها في مكاشفة الواقع العربي من زاوية مغايرة قد تحتاج إلى وقت طويل من أجل هضمها وسكبها على الواقع المعقد لبنية الانظمة العربية.


الميادين
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- أعمال
- الميادين
أسعد بلد في العالم.. هل هو كما نظن!؟
أورد تقرير السعادة العالمي لعام 2025، الصادر الشهر الماضي، فإن فنلندا هي أسعد دولة في العالم، تليها الدنمارك وأيسلندا والسويد بفارقٍ ضئيل. ويميل الفنلنديون إلى التفاعل مع لقب "الأسعد في العالم"، الذي منحهم إياه تقرير السعادة العالمي الصادر من الأمم المتحدة في مارس/آذار 2025، للعام الثامن على التوالي، بنوع من الفتور المصحوب بالدهشة. وعلى الرغم من ذلك، تحتفل شركات السياحة الفنلندية بتنامي اهتمام الزائرين، الذين باتوا يربطون بين فنلندا ومفهوم السعادة، أملاً في خوض تجربة تلك "السعادة الفنلندية" بأنفسهم.وعلاوة على ذلك، تشير bbc إلى أنه "لا ينبغي للزائر أن يتوقع الترحيب بضحكات أو عبارات يملؤها المرح عند وصوله إلى مطار هلسنكي، أو حال نزوله من إحدى عبّارات البلطيق في ميناء العاصمة، إذ أن فنلندا دولة واقعية وعملية ولا تحب التعقيد". لم يكن هذا الخبر مفاجئاً. فالتقرير، الذي يصدره سنوياً منذ عام 2012 ائتلاف من جهات تشمل جائزة "غالوب"، غالباً ما يضع هذه الدول الاسكندنافية الأربع - وجميعها ديمقراطيات مستقرة ذات مواطنين مزدهرين وأصحاء - في صدارة القائمة أو قريبة منها. وفي أسفل القائمة (من بين 147 دولة شملها التقييم) جاءت أفغانستان، ثم سيراليون ولبنان وملاوي. تعزز هذه التصنيفات فرضية رئيسية في نظامنا السياسي والاقتصادي المعولم: الدول الفقيرة تعيسة لأنها فقيرة، والثروة شرط أساسي لازدهار الفرد والمجتمع. يشجّع صندوق النقد الدولي التجارة والنمو الاقتصادي على أساس أن السعادة تزداد مع الرخاء المادي. ويتحدث مفكرون سياسيون مثل فرانسيس فوكوياما وستيفن بينكر عن رغبتهم في مساعدة الدول الفقيرة والمضطربة على "الوصول إلى الدنمارك". لكن هناك أسباباً للشك في أن تصنيفات تقرير السعادة العالمي - ونموذج التنمية الدولية الذي غالباً ما تُتخذ لتبريره - لا تُجسّد مفهوم الرفاهية بكامله. يُطرح على المشاركين سؤال واحد: "تخيّل سلّماً من 11 درجة، أعلاها وأسفلها تُمثّلان أفضل وأسوأ حياة ممكنة، ووضع حياتهم على إحدى هذه الدرجات". My Miserable Week in the 'Happiest Country on Earth' يكون هذا المقياس، المعروف باسم تقييم الحياة، معلومة مفيدة، لكن السعادة، بلا شك، ظاهرة أكثر تعقيداً. قد تكون مريضاً لكنك لا تزال تشعر بأن الحياة ذات معنى، أو قد تكون غير مستقر مالياً لكنك لا تزال تتمتع بعلاقات وثيقة مع أفراد عائلتك وأصدقائك. هناك أيضاً أدلة على أنه عندما يُقدّم الناس تقييمهم لحياتهم، فإن صياغة السؤال قد تدفعهم إلى التركيز على الثروة والمكانة الاجتماعية على حساب جوانب أخرى من الرفاهية. وهذا يُنذر بتفاقم الوضع: فإذا كان تقييم الحياة، في الواقع، طريقة أخرى لقياس الرخاء الاقتصادي، فليس من المُستغرب ولا المُلفت أن ترتبط تصنيفات تقرير السعادة العالمي ارتباطًا وثيقًا بالناتج المحلي الإجمالي. وتنشر مجموعة كبيرة من الأبحاث - عشرات الأوراق الأكاديمية، بما في ذلك لمحة عامة رفيعة المستوى عن النتائج في مجلة Nature Mental Health - استناداً إلى السنة الأولى من بيانات دراستنا "الازدهار العالمي"، وهو مشروع مدته 5 سنوات يطرح أكثر من 100 سؤال على أكثر من 200,000 شخص في 22 دولة في ست قارات. بدمج إجابات أسئلة حول عدة مجالات للرفاهية - الصحة، والسعادة، والمعنى، والشخصية، والعلاقات الاجتماعية، والرخاء المادي - حسبنا درجة ازدهار مركّبة لكل دولة. Finland has been named the world's happiest country, while Britain is the 2nd unhappiest. Let's look at the Healthcare, low privatisation, low sewage dumping, rising life expectancy, profit free education, good wages and all makes sense. تقرير "السعادة العالمي"، "تُقدم نتائجنا صورة مختلفة للرفاهية العالمية. وكما هو متوقع، حققت السويد، على سبيل المثال، درجات عالية في تقييم الحياة، ولكن عندما توسعنا في نطاق التباين، تغيرت الصورة: احتلت السويد المرتبة 13 فقط من حيث أعلى درجة ازدهار مركبة، متعادلة تقريباً مع الولايات المتحدة، وأقل بكثير من إندونيسيا والفلبين وحتى نيجيريا، التي بلغ نصيب الفرد من ناتجها المحلي الإجمالي لعام 2023 أقل بقليل من 2% من نظيره في أميركا". The difference between the happiest country and one of the least happy countries in the world. And I don't think I need to tell you which one is America…. العيّنة الكاملة المكونة من 22 دولة، انخفض إجمالي الازدهار الوطني المركب بشكلٍ طفيف مع ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.. وأفادت معظم الدول المتقدمة التي شملتها الدراسة بانخفاض المعنى، وتراجع العلاقات والمجتمعات المُرضية، وتراجع المشاعر الإيجابية مقارنةً بنظيراتها الأفقر. قد لا تكون معظم الدول التي أفادت بارتفاع مستوى الازدهار المركب العام غنية اقتصادياً، لكنها غالباً ما كانت غنية بالصداقات والزواج والمشاركة المجتمعية - وخاصةً المشاركة في المجتمعات الدينية.


وكالة نيوز
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- وكالة نيوز
هل يمكن بناء حضارة إسلامية جديدة؟
شفقنا- إقامة حضارة إسلامية جديدة تعني أنّ المسلمين سينخرطون مرة أخرى في عملية تقديم نموذج جديد للبشرية. وهذا النموذج يرتبط في الأساس بنمط العيش أكثر من العمران والمدنية. كما إنّ المتوقع هو أن يكون لهذا النموذج الحضاري أكبر الأثر على صعيد تغيير العالم بأسره. ليس مبالغة القول بأنّ أزمة البشرية الكبرى ومعاناتها المتصاعدة في هذا العصر تكمن في افتقادها المزمن لتلك الأطروحة التي تبلور لها نموذجًا واضحًا للعيش، سواء على مستوى إدارة الحكم أو طبيعة الحياة الأُسرية والعلاقات. هذا اليأس الذي يُطبق على أرواح أهل الأرض ويفرض عليهم الإذعان للواقع المر ناتج عن خفاء البرنامج المُقنع أو خارطة الطريق المرشدة إلى الحياة الطيبة. البرنامج المُقنع يتمثل في وجود نموذج حي يمكن فحصه ومشاهدته وتجربته أيضًا. الدعوة الفكرية والإعلامية مهمة، لكنها لن تصل إلى نتيجة ما لم يتمكن أصحاب هذه الأطروحة من تحقيق هذا النموذج. العقود الأخيرة التي شهدها التاريخ المعاصر كانت إعلانًا مدوّيًا عن فشل الديمقراطية وموت الليبرالية بانهيار نموذجها الاقتصادي المتمثل بالرأسمالية. وما نشاهده اليوم من نهاية للتاريخ هو في الواقع ليبرالية تحتضر بخلاف ما تخيله مُنظّر الديمقراطية فرانسيس فوكوياما. عجز الديمقراطية عن إدارة الرأسمالية لتحقيق المساواة والازدهار يعود أولًا إلى كون الديمقراطية بحدّ ذاتها على تعارض صريح مع الرأسمالية! لا بد أن تؤدي الرأسمالية المتفلتة إلى حكم أقلية وسيطرتها في النهاية. المجتمعات التي اختارت بإرادتها هذه الرأسمالية كنظام اقتصادي كانت في الواقع تُضحّي بديمقراطيتها المزعومة. كلما طبقت الرأسمالية الليبرالية وسمح لحرية السوق المطلقة كان ذلك عاملًا أساسيًّا لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء والمزيد من التحكُّم والاستبداد. ما ظنّه الناس كمُنقذ بعد عهود الفاشية لم يجلب سوى المزيد من الفشل والمعاناة. نحن اليوم في عصر موت الأيديولوجيات ونهاية الأُطروحات في الغرب ومن يدور في فلكه. أما إذا نظرنا إلى العالم الإسلامي، فنستطيع أن نقول بأنّ المسلمين ما زالوا يمتلكون قابلية فريدة لتقديم البديل المنقذ. الأمر الذي يبدو حلمًا مستحيل التحقُّق، يُصبح ممكنًا بالنظر إلى ما يمتلكه المسلمون من مبادئ وعقائد وعناصر ثقافية. أحد أهم أسرار هذه القابلية هو أنّ المسلمين لم يتخلوا لحد الآن عن إيمانهم بضرورة حكومة السماء؛ الأمر الذي يعني بأنّه يسهل عليهم تقبُّل تدخل الله في الحياة العامة وهم ينتظرون ذلك بنحو أو بآخر. معرفتنا بقواعد التاريخ وسنن المجتمعات تُثبت بأنّه لا يمكن للبشرية أن تنجح في إدارة حياتها بصورة عادلة وصحيحة. هذا ما يحتاج إلى تفصيل لا مجال له الآن. لكنّ الفكر الإسلامي كان ولا يزال مشغولًا بمناقشة هذا التدخُّل الإلهي في الوقت الذي أضحى في الثقافات الأخرى بمثابة الأسطورة. وهناك عوامل منطقية تاريخية وتجريبية وراء تمسُّك المسلمين بهذا المبدأ وتخلّي الآخرين عنه. في اللحظة التي يتمكّن المسلمون من تفسير هذا التدخُّل تفسيرًا قابلًا للتطبيق، ويحققون أنموذجًا منه على بقعة من الأرض سوف تتغير جميع المعادلات القائمة، وتنهار أبنية العلوم الإنسانية قاطبة. ربما يمكن القول بأنّ مثل هذا لم يتحقق لحد الآن. وهذا ما يعجز عن فهمه الكثير من المفكرين. معظم المهتمين بالعلاقة بين النظرية الإسلامية والتطبيق يتصورون أنّ هذه النظرية قد أُعطيت فرصتها في العصور السابقة وقدّمت كل ما عندها. يُطلق البعض على تلك العصور عنوان الذهب لا الفضة. بعض هؤلاء يدعو إلى استعادة ذلك المجد التليد. لكن على مدى التاريخ الإسلامي كان هناك ضعف مُزمن في بلورة قضية التدخُّل الإلهي في الحياة وعلاقته بالمسؤوليات الملقاة على عاتق المسلم. من الطبيعي أن ينتقل هذا الضعف النظري إلى الجانب العملي والتجربة. حتى في أحسن الحالات النظرية، كان هناك مشكلة واضحة في إقناع المسلمين أنفسهم. فما الذي افتقده المعتقدون بهذا المبدأ حتى عجزوا عن إقناع الناس؟! الحركة الهادرة للفتوحات 'الإسلامية' في البدايات وما جلبته للمسلمين من ثروات مكّنهم بشكل طبيعي من تقديم نوع من النموذج الحضاري الذي تفوّق على نماذج عصره. لم يكن وضع الحضارات الأخرى متألقًا البتّة. عند صعود تلك الحضارة الإسلامية العباسية كان العالم في أسوأ عصور الظلام. لعل هذه النقطة بالتحديد هي التي يُفترض أن تخضع لمناقشة دقيقة حين يتم الحديث عن العصور الذهبية للإسلام. بالتأكيد لم يكن هذا الذهب صدفة، لكنه بالتأكيد أيضًا لم يكن حضارة بالمعنى الدقيق. حضارة إسلامية تقدم أنموذجًا للعيش بناء على مبادئ دينها. كان هناك هوة تتّسع يومًا بعد يوم بين المبادئ والتجربة. لم تتمكن تلك التجارب الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية من تقديم أي نوع من الأطروحة. كان الأمر أشبه بالصدفة أو بالثراء الذي يحصل بالإرث. لا شك بأنّ جانبًا أساسيًّا من قوة هذه الحكومات والسلطات كان مستفادًا من عناصر مهمة في ثقافة الإسلام. التعبئة المذهلة التي تحققت في بعض هذا العصور لم تكن من فراغ. كان للدين حضوره اللافت، وكان هناك الآلاف من الحالمين بنشر الدين في كل العالم. لكن التاريخ أصدر حكمه في النهاية، وعلمنا من الذي استغل من. ينتصر أولئك الذين يسيطرون على مقاليد الحكم ومعهم أحلامهم. السذاجة التي ميزت قسمًا كبيرًا من هؤلاء الفاتحين ترجع بالدرجة الأولى إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام لا يحتاج إلى ما هو أكثر من السيف. ما كانت عقولهم لتقدر على استيعاب شروط النصر الحقيقي وعلى رأسها وجود أطروحة دقيقة للحكم والإدارة وقائد يؤمن بهذه الأطروحة وقادر على تنفيذها. هذه السذاجة تظهر دومًا بصورة القبول بحكومة الجائر؛ وفق هذا التصوُّر السلطان ظل الله على الأرض؛ والأهداف الإلهية ستتحقق كيفما كان! ربما لا يُلام أصحاب هذا التصوُّر حين نظروا إلى التاريخ ووجدوا أنّ أمثال معاوية بن أبي سفيان كان له كل ذلك الفضل في انتشار الإسلام. يتفق هنا أنّ بعض أكثر السلاطين إجرامًا وفسادًا قد سُجلوا على لائحة الأمجاد. هذه السذاجة المستمرة تنفي الأطروحة، ومعها تزول فكرة الأُنموذج. لا حضارة ممكنة في ظل هذا الفكر. لا بأس أن نزور تلك الأمجاد قليلًا. فسقوط الإمبراطورية الساسانية الفارسية في العصر الأول، والتي كانت بمثابة القطب الثاني للقوى العالمية، لم يكن إلا نتاج انحلال وخواء مزمن ضرب هذه الإمبراطورية. إنّ تحوُّلها إلى لقمة سائغة بيد المسلمين، لا يعني أنّ الفاتحين قد أنجزوا مهمة مستحيلة. فإقبال الفرس على الإسلام بهذه الحمية والسرعة العجيبة يرجع إلى يأسهم المُطبق بعد طول معاناة على يد ملوكهم وأباطرتهم. وهذا ما يُفسر أيضًا تخليهم عن لغتهم القديمة في تلك المدة الوجيزة (أكثر الفارسية أضحت عربية). ولم يمر سوى بضع سنوات حتى أصبح الفرس يشكلون القوة الكبرى في الجيوش المسلمة، ومعها ازداد حجم تأثيرهم في الحياة السياسية. ربما كانت الشعوبية أو العنصرية القومية هي التي حدّت من طموحاتهم أو أدوارهم معظم الأوقات. سقوط الروم في مشرقنا لا يرجع إلى قوة الفاتحين أيضًا، بل إلى سياسات الاستمالة وتعقيدات العلاقات القبلية في هذه المنطقة. وسقوط القسطنطينية (إسطنبول اليوم) الذي حدث بعد تسعة قرون له قصة مشابهة. لم يكن الصراع حضاريًّا البتة. كان يرتبط إلى حدٍّ كبير بالتعبئة العسكرية، بخلاف عصرنا هذا. هذا الفهم الساذج للتاريخ المُسلم يرجع إلى اعتبار التوسُّع المرحلة الأخيرة من التاريخ. وبحسب هذا الفهم إذا فرضنا أن الجيوش الإسلامية افتتحت كل الأرض، فسوف نكون على موعد قريب مع الهدف النهائي حيث تتبدل الأرض غير الأرض وتشرق بنور ربها. سقوط الأندلس بعد فتحها وحكمها لمئات السنين ينفي هذه الفرضية بالكامل؛ والشواهد أكثر من أن تُحصى. هنا ينبغي أن نسجل بأنّ تخلّي قسم كبير من المسلمين عن الاعتقاد بهذه العاقبة يرجع إلى انقلاب الأوضاع بصورة مأساوية من الغزو المغولي والحروب الصليبية وسقوط الخلافة العثمانية وسيطرة الكفار على أرض الحرمين، وما جره كل ذلك من فظائع لم تكن نكبة فلسطين سوى حلقة ممتدة منها. هكذا تحول الفكر الإسلامي الذي كان يُبشر باليوم الموعود والجنة الأرضية إلى اعتناق عقيدة النهاية الكارثية للعالم التي اشتهرت بين أهل الكتاب؛ وغابت فكرة {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين}،[1] وراء مقولة 'لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق'.[2] بيئات الفكر الإسلامي كانت تتقلب بين فكرة استعادة الأمجاد وبين النهاية الكارثية للعالم. في كلا الحالين لم تجري عملية البحث في التاريخ بالصورة المطلوبة. صدمة الاستعمار الحديث والغزو الغربي لبلادنا وما يفعله كل يوم في فلسطين ومختلف أنحاء العالم المسلم تجعل محنة الحروب الصليبية كنزهة. لكنّها في الوقت نفسه تبعث الحياة في الدعوة إلى الماضي المجيد. جماعات وأخويات إسلامية عادت مرة أخرى بأحلام الجهاد والخلافة الإسلامية. أما فشل الحركات القومية والعروبية والأطروحات الاشتراكية في مواجهة عدو الأمة الذي أذلها في فلسطين، فقد كان عاملًا مهمًّا في إمداد الحركات الإسلامية الجهادية بقدرة تعبوية جديدة. ها نحن على موعد مع مقاومة وجهاد سيعيدنا إلى الأمجاد. وبين التفسير الكارثي لمستقبل العالم وخطاب 'المقاومة وحدها كفيلة بعودة الخلافة'، كان هناك تجربة من نوعٍ جديد تسير بصمت وسط عالمٍ مليء بالانقسامات العرقية والحدود المذهبية؛ كانت هذه التجربة الإسلامية تتقدم والأمل يحدوها بإقامة حضارة إسلامية جديدة؛ جديدة لأنّها مغايرة للسابقة في العصر الذهبي، لكنّها غير منقطعة عن نقاط قوتها. لذلك لم تكن دعوة إلى الماضي ولا تغافلًا عنه. وفي هذه التجربة كانت تتبلور معالم الأُطروحة التي يفترض أن تفسر لنا طبيعة التدخل الإلهي أو دور السماء في أهم شؤون الحياة وأكثرها تعقيدًا كقضية الحكومة ومسؤوليات الشعوب ومنهج الإدارة العامة وكيفية التعامل مع الآخر. هذا في الوقت الذي كان عليها أن تبني نموذجها وسط عالمٍ مليء بالأعداء والذين هيمنوا على عالم الأطروحات واحتكروا وسائل تقديم النماذج. وهكذا تعود الأطروحة الإسلامية إلى جذورها العقائدية حيث يدور الأمر بين السماء والأرض، أي رب العالم والعالم، أو خليفة الله والشعب. وهكذا يرجع البحث إلى الاستمداد من السماء للنجاح في الأرض. لكن العقبة الأساسية التي كانت تواجه هذه الأطروحة في تجربتها الثورية المعاصرة هي حاجة النخبة والخواص والمسؤولين والمدراء والقادة فيها إلى فهم عميق لمعنى التدخل الإلهي في الحكم والسياسة والإدارة. الأمر الذي سمح لتسلُّل علمانية دينية أو ازدواجية متذبذبة بين الدين والغرب كانت ذا تأثير كبير في تعطيل تقديم النموذج أو تأخيره إلى يومنا هذا. يتطلع الشباب الطامحون إلى هذه التجربة في الوقت الذي يئس كبارهم منها. فالذين عايشوا فشل التجارب النضالية التي وعدتهم بالازدهار والتطوُّر والعدالة والحرية، ثمّ شاهدوا انبثاق هذه الحركة الثورية الإسلامية الفتية وسط كل هذا اليأس، لعلهم كانوا أكثر الناس رجاءً وأملًا، لكن عجزهم عن تفسير التاريخ وبُعدهم عن مشهد التحوُّلات الفكرية وعمليات تشكيل وتبلوُر الأُطروحة، سرعان ما ألقى بهم في لجة اليأس مرة أخرى. هذا ما يصيب كل من يتصور أنه بالتنظير وحده أو بالتطبيق وحده يمكن أن يتحقق التغيير. وهذا ما يصيب من لم يعرف شيئًا عن مخاض التنظير وتحديات التطبيق. الذين ينظرون إلى العالم من جهة الأفكار فقط، ربما لن يتمكنوا من فهم مدى أهمية التجربة والنموذج. والذين يتحركون في عالم التجربة دون فهم دور الأطروحة، ربما سيكون نصيبهم اليأس. فلا بد من العمل على الأمرين في تناغمٍ كبير انطلاقًا من مبادئ البحث العلمي والاستيعاب التام لدروس التاريخ وتجاربه. السيد عباس نور الدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]. القصص، 83. [2]. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج15، ص263.


الجزيرة
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
غرام بعض الناس باليمين والفاشية يفسره علم النفس
في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي " فرانسيس فوكوياما" بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية. هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ. فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية. ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟ وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟ هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية. وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية. وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية. من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان "الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة" كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد. ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة. بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين. ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى ، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة "الانفتاح على التجارب" والليبرالية وبين سمة "الانضباط" والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى. فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف. من الخوف إلى خطاب الكراهية وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد. خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من "كريستوفر إس. باركر" و"مات إيه. باريتو" في كتابهما "التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة"، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه "تهديد المكانة" بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية. وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل "الآخرين". ويتشكل "تهديد المكانة" عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي "رودريك كرامر" (Paranoid Social Cognition) أو "الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة"، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر. ويعود "باركر" إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب " باراك أوباما" أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول " كامالا هاريس" إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين "لويد أوستن" وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب "رشيدة طليب" و"إلهان عمر" للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس. وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة "حزب الشاي" (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى "استعادة عظمة مفقودة". لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم "كوكلوكس كلان"، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية. ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة. اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية. في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "بوليتيكو أوروبا"، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين. ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" الهولندي اليميني المتطرف لـ"بي بي سي": "علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء"، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي. خطاب الكراهية وآليات الدماغ وفقا لعالِم النفس "ماثيو ويليامز" في كتابه "علم الكراهية"، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد. ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء. من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس "ديفيد بيزارو" يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات "المنبوذة" بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي. يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب "أندريه فينتورا" زعيم حزب "تشيجا" اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع "الروما" بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ"الغزاة المسلمين" المهددين لـ"نقاء" الأمة. لماذا نصطف مع الجماعة؟ في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من "هنري تاجفيل" و"جون تيرنر" ما عُرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه "التميز الإيجابي"، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى. ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هم"، وتتسع "هم" لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة. وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي. يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها. ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية. وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي. كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟ وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة "كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية. ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب "إخوة إيطاليا". تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور "أوغستو بينوشيه" إلى السلطة. وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود "هتلر" بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري. هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان "عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي". من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية. العار المكبوت والغضب السياسي وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان "الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية" الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي. وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور. والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش. وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية. غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا. واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية. من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان "تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت" أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت. وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون "تأثير مطابقة الرأي". ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.


الجزيرة
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
لماذا يصوت الناس لليمين المتطرف؟ علم النفس السياسي يجيب
في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي " فرانسيس فوكوياما" بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية. هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ. فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية. ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟ وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟ هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية. وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية. وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية. من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان "الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة" كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد. ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة. بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين. ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى ، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة "الانفتاح على التجارب" والليبرالية وبين سمة "الانضباط" والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى. فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف. من الخوف إلى خطاب الكراهية وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد. خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من "كريستوفر إس. باركر" و"مات إيه. باريتو" في كتابهما "التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة"، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه "تهديد المكانة" بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية. وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل "الآخرين". ويتشكل "تهديد المكانة" عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي "رودريك كرامر" (Paranoid Social Cognition) أو "الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة"، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر. ويعود "باركر" إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب " باراك أوباما" أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول " كامالا هاريس" إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين "لويد أوستن" وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب "رشيدة طليب" و"إلهان عمر" للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس. وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة "حزب الشاي" (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى "استعادة عظمة مفقودة". لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم "كوكلوكس كلان"، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية. ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة. اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية. في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "بوليتيكو أوروبا"، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين. ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" الهولندي اليميني المتطرف لـ"بي بي سي": "علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء"، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي. خطاب الكراهية وآليات الدماغ وفقا لعالِم النفس "ماثيو ويليامز" في كتابه "علم الكراهية"، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد. ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء. من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس "ديفيد بيزارو" يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات "المنبوذة" بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي. يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب "أندريه فينتورا" زعيم حزب "تشيجا" اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع "الروما" بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ"الغزاة المسلمين" المهددين لـ"نقاء" الأمة. لماذا نصطف مع الجماعة؟ في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من "هنري تاجفيل" و"جون تيرنر" ما عُرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه "التميز الإيجابي"، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى. ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هم"، وتتسع "هم" لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة. وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي. يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها. ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية. وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي. كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟ وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة "كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية. إعلان ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب "إخوة إيطاليا". تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور "أوغستو بينوشيه" إلى السلطة. وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود "هتلر" بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري. هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان "عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي". من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية. العار المكبوت والغضب السياسي وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان "الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية" الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي. وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور. والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش. وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية. غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا. واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية. من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان "تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت" أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت. وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون "تأثير مطابقة الرأي". ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.