
لماذا يصوت الناس لليمين المتطرف؟ علم النفس السياسي يجيب
في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي " فرانسيس فوكوياما" بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية.
هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ.
فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية.
ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟
وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟
هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب
الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية.
وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية.
وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية.
من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان "الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة" كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد.
ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة.
بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين.
ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى ، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة "الانفتاح على التجارب" والليبرالية وبين سمة "الانضباط" والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى.
فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف.
من الخوف إلى خطاب الكراهية
وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد.
خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من "كريستوفر إس. باركر" و"مات إيه. باريتو" في كتابهما "التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة"، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه "تهديد المكانة" بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية.
وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل "الآخرين".
ويتشكل "تهديد المكانة" عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي "رودريك كرامر" (Paranoid Social Cognition) أو "الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة"، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر.
ويعود "باركر" إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب " باراك أوباما" أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول " كامالا هاريس" إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين "لويد أوستن" وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب "رشيدة طليب" و"إلهان عمر" للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس.
وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة "حزب الشاي" (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى "استعادة عظمة مفقودة".
لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم "كوكلوكس كلان"، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية.
ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة.
اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية
ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية.
في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017.
ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "بوليتيكو أوروبا"، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين.
ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" الهولندي اليميني المتطرف لـ"بي بي سي": "علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء"، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي.
خطاب الكراهية وآليات الدماغ
وفقا لعالِم النفس "ماثيو ويليامز" في كتابه "علم الكراهية"، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد.
ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء.
من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس "ديفيد بيزارو" يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات "المنبوذة" بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي.
يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب "أندريه فينتورا" زعيم حزب "تشيجا" اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع "الروما" بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ"الغزاة المسلمين" المهددين لـ"نقاء" الأمة.
لماذا نصطف مع الجماعة؟
في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من "هنري تاجفيل" و"جون تيرنر" ما عُرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه "التميز الإيجابي"، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى.
ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هم"، وتتسع "هم" لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة.
وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي.
يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها.
ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية.
وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي.
كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟
وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة "كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية.
إعلان
ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب "إخوة إيطاليا".
تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور "أوغستو بينوشيه" إلى السلطة.
وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود "هتلر" بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري.
هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان "عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي". من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية.
العار المكبوت والغضب السياسي
وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان "الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية" الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي.
وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور.
والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش.
وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية.
غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف
وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا.
واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية.
من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان "تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت" أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت.
وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون "تأثير مطابقة الرأي".
ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
نبوءة هنتنغتون الخاطئة حول الصراع مع الإسلام
يتيه هنتنغتون بعيدًا في التواريخ القديمة فيتّبع خط سير الشعوب والحضارات والإمبراطوريات في كرّها وفرّها. ثم يرتد كموجة في بحر هائج إلى الأزمنة المعاصرة المثقلة بالصراعات والمعبّأة بتناقضات لا تلتئم. ومن خلال كل ذلك تراه يلهث وراء البحث عن القوانين الحاكمة لصدام الحضارات. وحين يرسو على "جُودي" التناقضات الثقافية، يؤسس قواعد صارمة لحالة الاشتباك الدائم، خاصة في عمق دوائر الصدع التي ترشح بأسباب الحروب والتوترات الشديدة والعلاقات المعقدة. واليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود تفصلنا عن أول ظهور للكتاب (1993)، ها هو "صدام الحضارات" يستعيد راهنيته من خلال إطلاق المقاومة الفلسطينية جولة جديدة من الصراع سمّتها "طوفان الأقصى". وهي تطورات تطرح السؤال حول القدرة التفسيرية لتلك النظرية لمجريات الصراع الدولي، انطلاقًا من مفاهيمها الأساسية في الصدام الحضاري. والحقيقة أننا لم نشأ التوسع في تفكيك الصورة المجملة للصدام مثلما حواها الكتاب. فالمجال لا يتسع لذلك. فآثرنا الاقتصار على الصراع في فلسطين باعتبارها المنطقة الأنموذج لذلك الصدام. لقد جاء مؤتمر مالطا 1989 ليعلن عن نهاية الحرب الباردة. نهاية سيلد من خاصرتها نظام عالمي جديد من أهمّ ملامحه انتصار الليبرالية على الاقتصاد الموجّه، والديمقراطية على الشمولية. تمامًا مثلما انتصر الرهان الهيغلي على وعود الماركسية. وهو ما جرّأ فوكوياما سنة 1992 على التبشير "بنهاية التاريخ". ولم يشذّ هنتنغتون عن تلك القاعدة في تتبّع وقائع الصراع الدولي. فقد رأى أنّ العالم قد تحوّل لأول مرة من "صراع أيديولوجي" بين معسكرين، إلى صراع حضاري "بين جماعات من حضارات مختلفة". ومن ثم فقد أصبحت الحضارة هي المحور الجديد للسياسة الدولية. فخلف الصراعات والمواجهات وكل مظاهر التنافي الحدّي بين القوى تكمن قوة ثاوية: اسمها الهوية الثقافية للشعوب. فلم يعد الاقتصاد هو المحرك الأساسي للعلاقات الدولية مثلما ادعت الماركسية، ولا هي الأيديولوجيات مثلما عبرت عنها الحرب الباردة، بل هي الحضارة التي لا تفتأ تسلط أضواءها الكاشفة على التناقضات العميقة بين الأنساق. وقد وجدت تلك القاعدة ترجمتها في التوازنات الدولية الناشئة. إن إعادة ترتيب النظام العالمي على أساس حضاري تعني انقلابًا تامًا في التراتبية الدولية. فتكون دول المركز في الحضارات هي مرجعية ذلك النظام من خلال الثقافة التي تشترك فيها مع الدول الأعضاء في نفس الحضارة. فـ "العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية". ومن ثمّ فإن المقومات الأساسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات تختزل في تصوّرات دولة المركز وعمقها الثقافي. وعلى قاعدة ذلك العامل الثقافي تبنى التراتبية الجديدة في العلاقات الدولية. فنخرج من توازنات الحرب الباردة التي قامت على وجود قوتين عظميين زائد كتلتهما الدولية، زائد مناطق نفوذهما في العالم الثالث، إلى توازنات جديدة نقطة ارتكازها الدولة المركز في القطب الحضاري زائد الدولة الإقليمية التي تشترك معها في الأساس الثقافي، زائد منطقة النفوذ. وهو ما يعكس أهمية دولة المركز في الفرز الإستراتيجي الجديد الذي أفضى إلى مجموعة من الكتل الحضارية تتزعم كل كتلة فيها دولة مركز. فالولايات المتحدة دولة مركز في الغرب الحضاري، وروسيا دولة مركز في الكتلة الأرثوذكسية، والصين دولة مركز في القطب الكنوفيشيوسي. في حين أنّ "حضارات الإسلام وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ليس لها دول مركز". وهو غياب يعود بالأساس إلى مفاعيل الاستعمار الغربي في تفتيت تلك الكيانات الحضارية. وهو التفتيت الذي يحمل الكثير من نذر الصدام. صدام الحضارات إن الكتاب أشبه ما يكون بنبوءة استشرف هنتنغتون من خلالها محركات الصراع في الأزمنة القادمة. فلم يكن الصراع المقصود "الآن وهنا" ولكنه كان قراءة في "كفّ" المستقبل. وهو ينظر إلى ذلك المستقبل بعين "الحتمية التاريخية". فيكون "صدام الحضارات" بمثابة "الطور الأخير في عملية تطور النزاعات في العالم الحديث" مثلما يقول. فالحضارة في تعريف هنتنغتون "مزيج معقد من الأخلاق والدين والتعليم والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي". وحين ربطها بالصدام فقد تحولت إلى "براديغم" يستهدي به في تفسير التناقضات بين شعوب تعرّف نفسها دائمًا انطلاقًا من هُويّتها الحضارية ومخزونها الثقافي. فـ"نحن الحضارية، وهم الذين خارج تلك الحضارية، من الثوابت في التاريخ الإنساني". فالحروب بين دول من حضارات مختلفة تكون أكثر ضراوة ودموية عند استشعار تهديد الهُوية. وفي هذا السياق، يؤكد هنتنغتون أن العلاقات بين الحضارات ستكون أكثر عدوانية، خاصة بين الإسلام وجيرانه. وأن أخطر الصراعات في المستقبل ستكون "نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني". ويتوقف كثيرًا عند تفاصيل الغطرسة الغربية فنراه يتتبع تفاصيل تشكلها بين الخط التاريخي والخط الثقافي. خط تارخي يفصل بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية. وقد ارتبط تاريخيًا بالإمبراطورية الرومانية في القرن العاشر. وخط ثقافي يرتبط بالتقسيم التاريخي بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية، فهو الحد الثقافي لأوروبا، أي أنّ "أوروبا تنتهي حيث تنتهي المسيحية الغربية ويبدأ الإسلام والأرثوذكسية. وبعد زوال "الخطر الأحمر" أصبح ذلك الخط الفاصل هو الحد السياسي والاقتصادي لأوروبا والغرب. وقد كيّف سقوط الشيوعية نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم. فرأى أن أيديولوجيته الليبرالية يمكن أن تحكم العالم. فكانت العولمة صدى لتلك الأطروحة الظافرة. وهو ما زاد من احتمالات الصدام. فما يراه الغرب قيمًا نبيلة يراه الآخرون محض استعمار. خطوط الصدع يجري الصدام حسب هنتنغتون عند خطوط التقسيم الحضاري، خطوط الصدع أو دول الصدع. وهي الدول التي "تركب الحدود على مناطق التماس بين الحضارات". فتندلع صراعات لا حد لها عند خطوط التقسيم بين الدول أو الجماعات المنتمية إلى حضارات مختلفة. وقد يجري الصراع داخل الدولة نفسها. وهو يرى أن المعنيّين أكثر بصراعات خطوط التقسيم هم أساسًا المسلمون. وأحيانًا أخرى "تكون القضية قضية صراع للسيطرة على أراضٍ. وقد يكون هدف أحد المشاركين فيها على الأقل هو انتزاع أرض وتحريرها من آخرين بطردهم أو قتلهم أو القيام بالعملين معًا، وغالبًا ما تكون الأرض المتنازع عليها رمزًا لهوية وتاريخ طرف من طرفي الصراع أو لهما معًا، قد تكون أرضًا مقدسة لهما فيها حق لا يجوز المساس به". وهذا الكلام فيه بعض وجاهة. فقد كان المسلمون غالبًا موضوعًا للإخضاع والاحتلال عند خطوط التماس، أو في عمق الدول التي لا تدين بالإسلام مثل الصين، أو الهند، أو ميانمار.. ولعل فلسطين هي خلاصة ذلك الصراع. الصراع الحضاري في فلسطين مع نهاية الدولة العثمانية أصبح الإسلام -عكس الحضارات الغربية والأرثوذكسية والصينية- "يفتقر إلى دولة مركز". وقد أجّج ذلك الفراغ مطامع الاستعمار والصهيونية. ولكن ما لم يدركه هنتنغتون أن الفراغ السياسي الناتج عن غياب دولة الأمة، قد عبّأه العمق الحضاري الذي تمتاز به القضية الفلسطينية. لذلك لا عجب أن تتبوأ القضية الفلسطينية منذ منتصف القرن العشرين موقع القضية المركزية للأمة. والمشكلة الأساسية في أطروحة هنتنغتون أنه لم ينظر إلى الصراع في فلسطين على أنه صراع مركزي ذو طبيعة استثنائية، بل تعامل معه بوصفه أحد الصراعات الإثنية أو العرقية التي تشق العالم المعاصر. فهو ينتمي لحروب خطوط الصدع، مثله مثل حرب الهند، وباكستان أو بين المسلمين والمسيحيين في السودان وغيرها، لذلك فقد حضر في كتابه كمثال للاستدلال به كلما اقتضت حاجته النظرية. يرى هنتنغتون أن "رعاية الغرب في قمة قوته في مواجهة الإسلام، لوطن يهودي في الشرق الأوسط، وضعت الأساس لعداء عربي إسرائيلي مستمر". وفي الخلفية الحضارية للصراع ينظر هنتنغتون إلى فلسطين من خلال انتمائها للإسلام، في حين يضع إسرائيل ضمن الدائرة المسيحية اليهودية. ملاحظًا أن الغرب قد أضفى على ذلك المشروع طابعًا دينيًا، وجعله "ضمن مكونات البُعد الديني في الحضارة الغربية". وقد دلت صفحات التاريخ على صراع عميق ومستمر بين الإسلام والمسيحية. فـ"كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر". والاحتكاك بين الجانبين كان يثير دائمًا قضايا الهوية والانتماء. وخلال معظم جولات الصراع كان "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك". وعلى الرغم من محاولة هنتنغتون البحث في حقيقة الإسلام، فإن تصوره لم يستطع النفاذ إلى العمق الفلسفي والوجودي لذلك الدين. فتردّت قراءته في مفاهيم مختزلة عن العنف والدم ونبذ الآخر. فسار على تخوم "العمق الحضاري" للصراع دون أن يلجه. فجاء صورة باهتة، بالكاد تنطق بأحكام الجغرافيا الخرائطية منزوعة السلاح الحضاري. ليصبح الصراع في فلسطين صراعًا محكومًا بنظرية "خطوط الصدع"، أو خطوط "التقسيم الحضاري". وهي مقاربة متهافتة إذا نظرنا إليها من زاوية الجغرافيا الفلسطينية بحد ذاتها. ففلسطين لا تقع ضمن خطوط الصدع مثلما يسميها هنتنغتون، أي الدول الواقعة على التماس بين حضارتَين، بل إنها – بمنطق التاريخ والجغرافيا- جزء من أرض الشام. وتقع في عمق الخريطة العربية. فهي الخط الفاصل بين الجناح الشرقي والجناح الغربي للأمة. ولم يكن استقدام يهود الشتات من أصقاع الأرض إلا لضرورة السيطرة على "سُرّة" العالم. ومن ثم تأبيد واقعة التجزئة والتخلف والإلحاق الحضاري. فتقاطع الاستعمار مع الصهيونية لإنتاج تلك الحالة الطارئة. لقد رأى هنتنعتون وهو يبحث عن منطقة التناقض بين الإسلام والغرب أن الصراع في عمقه هو صراع بين القيم الدينية والقيم العلمانية. وهو الاستنتاج الذي حرم الرجل النفاذ إلى عمق الصراع فظل معلقًا في سطحه. فتلك المعايير النسبية لا تصلح لأن تكون حاملًا موضوعيًا لصراع من أعقد الصراعات في التاريخ. إضافة إلى ما يكتنفها من صعوبة حين الفرز بين القوى. ففي سنة 1968 مثلًا، أعلنت حركة فتح وهي التي قادت النضال الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي أن مشروعها السياسي يهدف إلى بناء "الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية". فأين تتمايز القوى المتقابلة؟ إضافة إلى أنه قد جرى مع دولة الاستقلال التبني الواسع للأنموذج الغربي في السياسة في العالم العربي، والعالم الثالث. لذلك ينتقل هنتنغتون إلى التركيز على أهمية الأرض والمقدسات وقيمة القدس في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية. فيقر بأنّ "المكان له مغزى تاريخي وثقافي وعاطفي عميق لدى كل طرف"، ولكنه يعجز عن استنطاق النصوص المؤسسة لعظمة المكان كي ينفذ إلى عمق الصراع. صحيح أنه أدرك أن الصراع صراع جذري لا يقبل الحلول الوسطى. ولكنه لم يدرك أنه صراع بين وجهتي نظر تجاه الكون والحياة والإنسان، تصدران عن قاعدتين فلسفيتين متمايزتين. وحين يهرب من كل ذلك إلى تحديد طبيعة العدو، فإنه يرى في مفرد الصهيونية جمْع الغرب الحضاري. يرى هنتنغتون أن الكيان المحتل ليس إلا جزءًا من الغرب الحضاري. فإسرائيل ليست قوة قائمة بذاتها بل هي قوة قائمة بغيرها. زرعها الغرب في قلب الأمة لأسباب حضارية وإستراتيجية. وقد ارتبطت بذلك الغرب برابط "القربى الثقافية". وهي الصلة التي تجعل من الدول الأعضاء في الحضارة الواحدة أسرة واحدة. وتأخذ الدولة المركز دائمًا على عاتقها "توفير الدعم والنظام للأقارب"، فهي علاقة تبادلية. إذ كثيرًا ما قدم الإسرائيليون أنفسهم على أنهم خط الدفاع الأساسي عن الغرب، بالأمس ضد خطر الشيوعية والاتحاد السوفياتي، واليوم ضد "خطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها". ومن ثم يمكن أن نفهم كيف تداعت الدول الغربية إلى إسناد دولة الاحتلال بعد إطلاق عملية طوفان الأقصى. وكيف فتحت خطوط الإمداد لتوفير احتياجاتها من العتاد والسلاح بل والمشاركة الميدانية في العدوان على غزة. وهي صلة القربى التي بررت لألمانيا المتورطة في "المحرقة النازية"، أن تتورط في محرقة غزة؛ فتصرّح وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك "كلنا صهاينة على نحو ما". لقد دافع هنتنغتون عن فكرة "صدام الحضارات". ورغم فقدان النظرية للاتساق العلمي، فإنها تمثل إسهامًا في عقل الصراع الحضاري في فلسطين. فهذه المنازلة التاريخية في غزة تعكس تصادمًا بين مشروعين حضاريين: واحد قام على مركزية الله في الوجود، وآخر نهض على مركزية الإنسان في الوجود. فخلف الرؤية الحضارية يكمن جوهر الصراع. ومما لا شك فيه أنّ الصراع مع الصهيونية هو استمرار للصراع مع الغرب نفسه، فقد ورثت الحركة الصهيونية عن الغرب إمبرياليته وقاعدته الفلسفية التي كان يجري في ضوئها الفرز النشيط بين فسطاط المتمدّنين وفسطاط البرابرة، وتسويغ نهج العنف والعسف من منطلق تحضير وتمدين أولئك الذين لا حضارة لهم. الإسطوانة المشروخة نفسها يرددها نتنياهو ببلاهة لتبرير حرب التطهير العرقي على غزة.


الجزيرة
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
غرام بعض الناس باليمين والفاشية يفسره علم النفس
في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي " فرانسيس فوكوياما" بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية. هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ. فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية. ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟ وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟ هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية. وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية. وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية. من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان "الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة" كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد. ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة. بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين. ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى ، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة "الانفتاح على التجارب" والليبرالية وبين سمة "الانضباط" والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى. فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف. من الخوف إلى خطاب الكراهية وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد. خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من "كريستوفر إس. باركر" و"مات إيه. باريتو" في كتابهما "التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة"، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه "تهديد المكانة" بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية. وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل "الآخرين". ويتشكل "تهديد المكانة" عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي "رودريك كرامر" (Paranoid Social Cognition) أو "الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة"، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر. ويعود "باركر" إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب " باراك أوباما" أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول " كامالا هاريس" إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين "لويد أوستن" وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب "رشيدة طليب" و"إلهان عمر" للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس. وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة "حزب الشاي" (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى "استعادة عظمة مفقودة". لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم "كوكلوكس كلان"، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية. ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة. اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية. في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "بوليتيكو أوروبا"، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين. ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" الهولندي اليميني المتطرف لـ"بي بي سي": "علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء"، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي. خطاب الكراهية وآليات الدماغ وفقا لعالِم النفس "ماثيو ويليامز" في كتابه "علم الكراهية"، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد. ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء. من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس "ديفيد بيزارو" يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات "المنبوذة" بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي. يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب "أندريه فينتورا" زعيم حزب "تشيجا" اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع "الروما" بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ"الغزاة المسلمين" المهددين لـ"نقاء" الأمة. لماذا نصطف مع الجماعة؟ في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من "هنري تاجفيل" و"جون تيرنر" ما عُرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه "التميز الإيجابي"، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى. ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هم"، وتتسع "هم" لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة. وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي. يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها. ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية. وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي. كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟ وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة "كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية. ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب "إخوة إيطاليا". تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور "أوغستو بينوشيه" إلى السلطة. وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود "هتلر" بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري. هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان "عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي". من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية. العار المكبوت والغضب السياسي وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان "الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية" الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي. وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور. والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش. وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية. غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا. واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية. من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان "تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت" أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت. وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون "تأثير مطابقة الرأي". ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.


الجزيرة
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
لماذا يصوت الناس لليمين المتطرف؟ علم النفس السياسي يجيب
في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي " فرانسيس فوكوياما" بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية. هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ. فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية. ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟ وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟ هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية. وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية. وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية. من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان "الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة" كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد. ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة. بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين. ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى ، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة "الانفتاح على التجارب" والليبرالية وبين سمة "الانضباط" والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى. فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف. من الخوف إلى خطاب الكراهية وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد. خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من "كريستوفر إس. باركر" و"مات إيه. باريتو" في كتابهما "التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة"، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه "تهديد المكانة" بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية. وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل "الآخرين". ويتشكل "تهديد المكانة" عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي "رودريك كرامر" (Paranoid Social Cognition) أو "الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة"، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر. ويعود "باركر" إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب " باراك أوباما" أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول " كامالا هاريس" إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين "لويد أوستن" وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب "رشيدة طليب" و"إلهان عمر" للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس. وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة "حزب الشاي" (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى "استعادة عظمة مفقودة". لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم "كوكلوكس كلان"، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية. ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة. اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية. في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "بوليتيكو أوروبا"، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين. ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" الهولندي اليميني المتطرف لـ"بي بي سي": "علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء"، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي. خطاب الكراهية وآليات الدماغ وفقا لعالِم النفس "ماثيو ويليامز" في كتابه "علم الكراهية"، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد. ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء. من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس "ديفيد بيزارو" يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات "المنبوذة" بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي. يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب "أندريه فينتورا" زعيم حزب "تشيجا" اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع "الروما" بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ"الغزاة المسلمين" المهددين لـ"نقاء" الأمة. لماذا نصطف مع الجماعة؟ في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من "هنري تاجفيل" و"جون تيرنر" ما عُرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه "التميز الإيجابي"، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى. ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هم"، وتتسع "هم" لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة. وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي. يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها. ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية. وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي. كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟ وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة "كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية. إعلان ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب "إخوة إيطاليا". تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور "أوغستو بينوشيه" إلى السلطة. وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود "هتلر" بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري. هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان "عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي". من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية. العار المكبوت والغضب السياسي وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان "الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية" الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي. وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور. والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش. وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية. غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا. واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية. من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان "تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت" أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت. وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون "تأثير مطابقة الرأي". ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.