#أحدث الأخبار مع #فروغفرخزادالمدنمنذ 19 ساعاتترفيهالمدنالمرحلة الذهبية للتفاهةفي نفوس الجماعات والأفراد، حنينٌ دائم إلى مرحلة معينة تشّكل في نظرهم ذروة الازدهار: مرحلة خيالية غالباً، حيث الحياة تشبه "نهراً طويلاً هادئاً" على اسم الفيلم الفرنسي الساخر. الإسلاميون بمختلف مشاربهم يحنّون وأحياناً يطمحون إلى فرض مرحلة بعينها من تاريخ الحضارة الإسلامية الغنيّ، كنموذج أوحد من تصوّرهم عن الإسلام. أتباع الديانات الأخرى لديهم أيضاً تهويماتهم عن عصور ذهبية غابرة، أوهام قد تدفع بهم إلى احتلال أرض الآخرين ولو بعد آلاف السنين كي يتحقق الوعد الإلهي القاطع. البشر قادرون على تبرير كل شيء: الجشع، والأنانية وحتى الإجرام المقدّس! تمرّ هذه الفكرة في رأسي بعد ظهر يوم جمعة، بعد أسبوع طويل من العمل والجلوس في مكتب مزدحم. لسنوات كان لي مكتبي الخاص المنعزل الذي رتبته كما أريد، وأضفت إليه إبريق غلي الشاي الكهربائي، والعسل للتحلية، وأنواعاً عديدة من شاي ما بعد الظهيرة. هذا المكتب الذي انطبعت جدرانه المصفرّة في ذاكرتي، صار ملجئي حيث كنت أمضي ساعة أو ساعتين كل يوم لإعادة ترتيب العالم، كما يقول شاعر فرنسي، أو لبرمجة أفكاري وتنظيمها. ويا له من ترف أن يكون لك مكان مرّ عليه زملاء وأصدقاء كثر قبل أن يرحلوا جميعاً ويتركوه لك وحدك. بقيت لسنوات أغلق الباب على نفسي في ذلك المكتب، محاولةً ألا أزعج زميل التعليم في قسم اللغة الإسبانية في المكتب المجاور، والذي يدفن رأسه دوماً في حاسوبه من دون أن ينطق بكلمة واحدة. هذه العزلة المقدسة ورفقة زملاء أعزاء طويلة، دفعتني إلى تحمّل الفقر الماديّ بسبب الراتب القليل، لكني أحببت عملي ومكاني وكرهت التنقّل، لأننا في الغربة نتشبث بالأماكن القليلة التي فيها شبه من أماكننا الأصلية. لكن الوفاء في النظام الرأسمالي عملة صدئة لا تُصرف، لذلك قررت هجر ذاك المكتب أخيراً، مُجبرةً، إذ لا وقت لديّ الآن أمضيه مع صور فروغ فرخزاد وعمر الشريف وفاتن حمامة وجان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، متنقلّة كل يوم بين قراءة الصحف بالعربية وتحضير الصفوف بالفرنسية ومتابعة الشؤون الإدارية بالإنكليزية. رحلتي في عالم العمل الأميركي بدأت معكوسة: عشت مرحلة التقاعد قبل الدخول الفعلي إلى ثقافة العمل والجينز المسموح به يوم الجمعة فقط. أنتِ في مرحلة العبودية المختارة، قال لي صديق، عبودية قاومتها طويلاً قبل الوقوع في سجنها. هل كانت تلك العزلة مرحلتي الذهبية؟ لا أحب التفكير في ذلك! أريد أن أفكّر ككل التقدميين الحمقى بأن مرحلتي الذهبية تنتمي إلى المستقبل لا إلى الماضي. على أي حال يا لتلك الفكرة العقيمة! ترامب يصرخ كل يوم في التلفزيون بأنه سيعيد أميركا إلى عظمتها مجدداً، واليمينيون الأوروبيون يحلمون بعودة الفاشية إلى بلدانهم أو بعهد "الرجال الكبار" قبل مرحلة قتل الأب المتمثلة بقطع رؤوس الملكية. يحلم اليمينيون بالماضي كما تحلم العجوز بعودة الصبا، فيما يعيش التقدميّون مرحلة أمل مراهقة مستمرة. أما الواقع فلا يأبه حقاً، فهو موجود في مكان ما بعيداً من الصراخ البشريّ المزعج المواكب له. ساعات طويلة تمرّ كل يوم: برامج ونماذج وأوراق وذكاء اصطناعي وقوانين الولاية والمدارس ووجع الرقبة وأخبار العالم العربي المخيفة. ساعات أحاول فيها استدراج ذاكرتي إلى مرحلة ذهبية وأفشل تماماً، الـ"هنا والآن" أقوى من أي استرسال في ذكريات بعيدة أو خيالات عن المستقبل. الفواتير والاتصالات الضرورية ومتابعة شؤون الأولاد والدراسة والعمل لا تترك ترف التفكير في أي شيء آخر. وحده القلق زائرُ دائم يطرق الباب آخر الليل حين ينتهي كل شيء، وأفشل في إطفاء دماغي المتوثب. هل سأصبح يوماً فأرة مكتب؟ موظّفة مثالية تحمل كوب القهوة في الصباح وملفاتها آخر النهار؟ هل هذا ما أردته حقاً؟ أجيب نفسي: بل هذا ما كان ممكناً بعدما لفظتنا تلك الأوطان العنيفة. هل عشتُ مرحلة ذهبية؟ لا بد أن المرحلة الذهبية تبدأ بالاعتراف بالواقع والسعي إلى تحسينه أولاً. قدماي مغروستان في الرمال المتحركة، وأعرف بأنه في العمل كما في السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً. بالعودة إلى الصديق الذي تحدّث عن العبودية المختارة، فقد سألني: على اعتبار أننا نعيش اليوم مرحلة ذهبية، فما هو عنوانها؟ أجبته ضاحكة: المرحلة الذهبية للتفاهة!
المدنمنذ 19 ساعاتترفيهالمدنالمرحلة الذهبية للتفاهةفي نفوس الجماعات والأفراد، حنينٌ دائم إلى مرحلة معينة تشّكل في نظرهم ذروة الازدهار: مرحلة خيالية غالباً، حيث الحياة تشبه "نهراً طويلاً هادئاً" على اسم الفيلم الفرنسي الساخر. الإسلاميون بمختلف مشاربهم يحنّون وأحياناً يطمحون إلى فرض مرحلة بعينها من تاريخ الحضارة الإسلامية الغنيّ، كنموذج أوحد من تصوّرهم عن الإسلام. أتباع الديانات الأخرى لديهم أيضاً تهويماتهم عن عصور ذهبية غابرة، أوهام قد تدفع بهم إلى احتلال أرض الآخرين ولو بعد آلاف السنين كي يتحقق الوعد الإلهي القاطع. البشر قادرون على تبرير كل شيء: الجشع، والأنانية وحتى الإجرام المقدّس! تمرّ هذه الفكرة في رأسي بعد ظهر يوم جمعة، بعد أسبوع طويل من العمل والجلوس في مكتب مزدحم. لسنوات كان لي مكتبي الخاص المنعزل الذي رتبته كما أريد، وأضفت إليه إبريق غلي الشاي الكهربائي، والعسل للتحلية، وأنواعاً عديدة من شاي ما بعد الظهيرة. هذا المكتب الذي انطبعت جدرانه المصفرّة في ذاكرتي، صار ملجئي حيث كنت أمضي ساعة أو ساعتين كل يوم لإعادة ترتيب العالم، كما يقول شاعر فرنسي، أو لبرمجة أفكاري وتنظيمها. ويا له من ترف أن يكون لك مكان مرّ عليه زملاء وأصدقاء كثر قبل أن يرحلوا جميعاً ويتركوه لك وحدك. بقيت لسنوات أغلق الباب على نفسي في ذلك المكتب، محاولةً ألا أزعج زميل التعليم في قسم اللغة الإسبانية في المكتب المجاور، والذي يدفن رأسه دوماً في حاسوبه من دون أن ينطق بكلمة واحدة. هذه العزلة المقدسة ورفقة زملاء أعزاء طويلة، دفعتني إلى تحمّل الفقر الماديّ بسبب الراتب القليل، لكني أحببت عملي ومكاني وكرهت التنقّل، لأننا في الغربة نتشبث بالأماكن القليلة التي فيها شبه من أماكننا الأصلية. لكن الوفاء في النظام الرأسمالي عملة صدئة لا تُصرف، لذلك قررت هجر ذاك المكتب أخيراً، مُجبرةً، إذ لا وقت لديّ الآن أمضيه مع صور فروغ فرخزاد وعمر الشريف وفاتن حمامة وجان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، متنقلّة كل يوم بين قراءة الصحف بالعربية وتحضير الصفوف بالفرنسية ومتابعة الشؤون الإدارية بالإنكليزية. رحلتي في عالم العمل الأميركي بدأت معكوسة: عشت مرحلة التقاعد قبل الدخول الفعلي إلى ثقافة العمل والجينز المسموح به يوم الجمعة فقط. أنتِ في مرحلة العبودية المختارة، قال لي صديق، عبودية قاومتها طويلاً قبل الوقوع في سجنها. هل كانت تلك العزلة مرحلتي الذهبية؟ لا أحب التفكير في ذلك! أريد أن أفكّر ككل التقدميين الحمقى بأن مرحلتي الذهبية تنتمي إلى المستقبل لا إلى الماضي. على أي حال يا لتلك الفكرة العقيمة! ترامب يصرخ كل يوم في التلفزيون بأنه سيعيد أميركا إلى عظمتها مجدداً، واليمينيون الأوروبيون يحلمون بعودة الفاشية إلى بلدانهم أو بعهد "الرجال الكبار" قبل مرحلة قتل الأب المتمثلة بقطع رؤوس الملكية. يحلم اليمينيون بالماضي كما تحلم العجوز بعودة الصبا، فيما يعيش التقدميّون مرحلة أمل مراهقة مستمرة. أما الواقع فلا يأبه حقاً، فهو موجود في مكان ما بعيداً من الصراخ البشريّ المزعج المواكب له. ساعات طويلة تمرّ كل يوم: برامج ونماذج وأوراق وذكاء اصطناعي وقوانين الولاية والمدارس ووجع الرقبة وأخبار العالم العربي المخيفة. ساعات أحاول فيها استدراج ذاكرتي إلى مرحلة ذهبية وأفشل تماماً، الـ"هنا والآن" أقوى من أي استرسال في ذكريات بعيدة أو خيالات عن المستقبل. الفواتير والاتصالات الضرورية ومتابعة شؤون الأولاد والدراسة والعمل لا تترك ترف التفكير في أي شيء آخر. وحده القلق زائرُ دائم يطرق الباب آخر الليل حين ينتهي كل شيء، وأفشل في إطفاء دماغي المتوثب. هل سأصبح يوماً فأرة مكتب؟ موظّفة مثالية تحمل كوب القهوة في الصباح وملفاتها آخر النهار؟ هل هذا ما أردته حقاً؟ أجيب نفسي: بل هذا ما كان ممكناً بعدما لفظتنا تلك الأوطان العنيفة. هل عشتُ مرحلة ذهبية؟ لا بد أن المرحلة الذهبية تبدأ بالاعتراف بالواقع والسعي إلى تحسينه أولاً. قدماي مغروستان في الرمال المتحركة، وأعرف بأنه في العمل كما في السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً. بالعودة إلى الصديق الذي تحدّث عن العبودية المختارة، فقد سألني: على اعتبار أننا نعيش اليوم مرحلة ذهبية، فما هو عنوانها؟ أجبته ضاحكة: المرحلة الذهبية للتفاهة!