logo
المرحلة الذهبية للتفاهة

المرحلة الذهبية للتفاهة

المدنمنذ 12 ساعات

في نفوس الجماعات والأفراد، حنينٌ دائم إلى مرحلة معينة تشّكل في نظرهم ذروة الازدهار: مرحلة خيالية غالباً، حيث الحياة تشبه "نهراً طويلاً هادئاً" على اسم الفيلم الفرنسي الساخر. الإسلاميون بمختلف مشاربهم يحنّون وأحياناً يطمحون إلى فرض مرحلة بعينها من تاريخ الحضارة الإسلامية الغنيّ، كنموذج أوحد من تصوّرهم عن الإسلام. أتباع الديانات الأخرى لديهم أيضاً تهويماتهم عن عصور ذهبية غابرة، أوهام قد تدفع بهم إلى احتلال أرض الآخرين ولو بعد آلاف السنين كي يتحقق الوعد الإلهي القاطع. البشر قادرون على تبرير كل شيء: الجشع، والأنانية وحتى الإجرام المقدّس!
تمرّ هذه الفكرة في رأسي بعد ظهر يوم جمعة، بعد أسبوع طويل من العمل والجلوس في مكتب مزدحم. لسنوات كان لي مكتبي الخاص المنعزل الذي رتبته كما أريد، وأضفت إليه إبريق غلي الشاي الكهربائي، والعسل للتحلية، وأنواعاً عديدة من شاي ما بعد الظهيرة. هذا المكتب الذي انطبعت جدرانه المصفرّة في ذاكرتي، صار ملجئي حيث كنت أمضي ساعة أو ساعتين كل يوم لإعادة ترتيب العالم، كما يقول شاعر فرنسي، أو لبرمجة أفكاري وتنظيمها. ويا له من ترف أن يكون لك مكان مرّ عليه زملاء وأصدقاء كثر قبل أن يرحلوا جميعاً ويتركوه لك وحدك.
بقيت لسنوات أغلق الباب على نفسي في ذلك المكتب، محاولةً ألا أزعج زميل التعليم في قسم اللغة الإسبانية في المكتب المجاور، والذي يدفن رأسه دوماً في حاسوبه من دون أن ينطق بكلمة واحدة. هذه العزلة المقدسة ورفقة زملاء أعزاء طويلة، دفعتني إلى تحمّل الفقر الماديّ بسبب الراتب القليل، لكني أحببت عملي ومكاني وكرهت التنقّل، لأننا في الغربة نتشبث بالأماكن القليلة التي فيها شبه من أماكننا الأصلية.
لكن الوفاء في النظام الرأسمالي عملة صدئة لا تُصرف، لذلك قررت هجر ذاك المكتب أخيراً، مُجبرةً، إذ لا وقت لديّ الآن أمضيه مع صور فروغ فرخزاد وعمر الشريف وفاتن حمامة وجان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، متنقلّة كل يوم بين قراءة الصحف بالعربية وتحضير الصفوف بالفرنسية ومتابعة الشؤون الإدارية بالإنكليزية. رحلتي في عالم العمل الأميركي بدأت معكوسة: عشت مرحلة التقاعد قبل الدخول الفعلي إلى ثقافة العمل والجينز المسموح به يوم الجمعة فقط. أنتِ في مرحلة العبودية المختارة، قال لي صديق، عبودية قاومتها طويلاً قبل الوقوع في سجنها.
هل كانت تلك العزلة مرحلتي الذهبية؟ لا أحب التفكير في ذلك! أريد أن أفكّر ككل التقدميين الحمقى بأن مرحلتي الذهبية تنتمي إلى المستقبل لا إلى الماضي. على أي حال يا لتلك الفكرة العقيمة! ترامب يصرخ كل يوم في التلفزيون بأنه سيعيد أميركا إلى عظمتها مجدداً، واليمينيون الأوروبيون يحلمون بعودة الفاشية إلى بلدانهم أو بعهد "الرجال الكبار" قبل مرحلة قتل الأب المتمثلة بقطع رؤوس الملكية. يحلم اليمينيون بالماضي كما تحلم العجوز بعودة الصبا، فيما يعيش التقدميّون مرحلة أمل مراهقة مستمرة. أما الواقع فلا يأبه حقاً، فهو موجود في مكان ما بعيداً من الصراخ البشريّ المزعج المواكب له.
ساعات طويلة تمرّ كل يوم: برامج ونماذج وأوراق وذكاء اصطناعي وقوانين الولاية والمدارس ووجع الرقبة وأخبار العالم العربي المخيفة. ساعات أحاول فيها استدراج ذاكرتي إلى مرحلة ذهبية وأفشل تماماً، الـ"هنا والآن" أقوى من أي استرسال في ذكريات بعيدة أو خيالات عن المستقبل. الفواتير والاتصالات الضرورية ومتابعة شؤون الأولاد والدراسة والعمل لا تترك ترف التفكير في أي شيء آخر. وحده القلق زائرُ دائم يطرق الباب آخر الليل حين ينتهي كل شيء، وأفشل في إطفاء دماغي المتوثب.
هل سأصبح يوماً فأرة مكتب؟ موظّفة مثالية تحمل كوب القهوة في الصباح وملفاتها آخر النهار؟ هل هذا ما أردته حقاً؟ أجيب نفسي: بل هذا ما كان ممكناً بعدما لفظتنا تلك الأوطان العنيفة. هل عشتُ مرحلة ذهبية؟ لا بد أن المرحلة الذهبية تبدأ بالاعتراف بالواقع والسعي إلى تحسينه أولاً. قدماي مغروستان في الرمال المتحركة، وأعرف بأنه في العمل كما في السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً. بالعودة إلى الصديق الذي تحدّث عن العبودية المختارة، فقد سألني: على اعتبار أننا نعيش اليوم مرحلة ذهبية، فما هو عنوانها؟ أجبته ضاحكة: المرحلة الذهبية للتفاهة!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المرحلة الذهبية للتفاهة
المرحلة الذهبية للتفاهة

المدن

timeمنذ 12 ساعات

  • المدن

المرحلة الذهبية للتفاهة

في نفوس الجماعات والأفراد، حنينٌ دائم إلى مرحلة معينة تشّكل في نظرهم ذروة الازدهار: مرحلة خيالية غالباً، حيث الحياة تشبه "نهراً طويلاً هادئاً" على اسم الفيلم الفرنسي الساخر. الإسلاميون بمختلف مشاربهم يحنّون وأحياناً يطمحون إلى فرض مرحلة بعينها من تاريخ الحضارة الإسلامية الغنيّ، كنموذج أوحد من تصوّرهم عن الإسلام. أتباع الديانات الأخرى لديهم أيضاً تهويماتهم عن عصور ذهبية غابرة، أوهام قد تدفع بهم إلى احتلال أرض الآخرين ولو بعد آلاف السنين كي يتحقق الوعد الإلهي القاطع. البشر قادرون على تبرير كل شيء: الجشع، والأنانية وحتى الإجرام المقدّس! تمرّ هذه الفكرة في رأسي بعد ظهر يوم جمعة، بعد أسبوع طويل من العمل والجلوس في مكتب مزدحم. لسنوات كان لي مكتبي الخاص المنعزل الذي رتبته كما أريد، وأضفت إليه إبريق غلي الشاي الكهربائي، والعسل للتحلية، وأنواعاً عديدة من شاي ما بعد الظهيرة. هذا المكتب الذي انطبعت جدرانه المصفرّة في ذاكرتي، صار ملجئي حيث كنت أمضي ساعة أو ساعتين كل يوم لإعادة ترتيب العالم، كما يقول شاعر فرنسي، أو لبرمجة أفكاري وتنظيمها. ويا له من ترف أن يكون لك مكان مرّ عليه زملاء وأصدقاء كثر قبل أن يرحلوا جميعاً ويتركوه لك وحدك. بقيت لسنوات أغلق الباب على نفسي في ذلك المكتب، محاولةً ألا أزعج زميل التعليم في قسم اللغة الإسبانية في المكتب المجاور، والذي يدفن رأسه دوماً في حاسوبه من دون أن ينطق بكلمة واحدة. هذه العزلة المقدسة ورفقة زملاء أعزاء طويلة، دفعتني إلى تحمّل الفقر الماديّ بسبب الراتب القليل، لكني أحببت عملي ومكاني وكرهت التنقّل، لأننا في الغربة نتشبث بالأماكن القليلة التي فيها شبه من أماكننا الأصلية. لكن الوفاء في النظام الرأسمالي عملة صدئة لا تُصرف، لذلك قررت هجر ذاك المكتب أخيراً، مُجبرةً، إذ لا وقت لديّ الآن أمضيه مع صور فروغ فرخزاد وعمر الشريف وفاتن حمامة وجان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، متنقلّة كل يوم بين قراءة الصحف بالعربية وتحضير الصفوف بالفرنسية ومتابعة الشؤون الإدارية بالإنكليزية. رحلتي في عالم العمل الأميركي بدأت معكوسة: عشت مرحلة التقاعد قبل الدخول الفعلي إلى ثقافة العمل والجينز المسموح به يوم الجمعة فقط. أنتِ في مرحلة العبودية المختارة، قال لي صديق، عبودية قاومتها طويلاً قبل الوقوع في سجنها. هل كانت تلك العزلة مرحلتي الذهبية؟ لا أحب التفكير في ذلك! أريد أن أفكّر ككل التقدميين الحمقى بأن مرحلتي الذهبية تنتمي إلى المستقبل لا إلى الماضي. على أي حال يا لتلك الفكرة العقيمة! ترامب يصرخ كل يوم في التلفزيون بأنه سيعيد أميركا إلى عظمتها مجدداً، واليمينيون الأوروبيون يحلمون بعودة الفاشية إلى بلدانهم أو بعهد "الرجال الكبار" قبل مرحلة قتل الأب المتمثلة بقطع رؤوس الملكية. يحلم اليمينيون بالماضي كما تحلم العجوز بعودة الصبا، فيما يعيش التقدميّون مرحلة أمل مراهقة مستمرة. أما الواقع فلا يأبه حقاً، فهو موجود في مكان ما بعيداً من الصراخ البشريّ المزعج المواكب له. ساعات طويلة تمرّ كل يوم: برامج ونماذج وأوراق وذكاء اصطناعي وقوانين الولاية والمدارس ووجع الرقبة وأخبار العالم العربي المخيفة. ساعات أحاول فيها استدراج ذاكرتي إلى مرحلة ذهبية وأفشل تماماً، الـ"هنا والآن" أقوى من أي استرسال في ذكريات بعيدة أو خيالات عن المستقبل. الفواتير والاتصالات الضرورية ومتابعة شؤون الأولاد والدراسة والعمل لا تترك ترف التفكير في أي شيء آخر. وحده القلق زائرُ دائم يطرق الباب آخر الليل حين ينتهي كل شيء، وأفشل في إطفاء دماغي المتوثب. هل سأصبح يوماً فأرة مكتب؟ موظّفة مثالية تحمل كوب القهوة في الصباح وملفاتها آخر النهار؟ هل هذا ما أردته حقاً؟ أجيب نفسي: بل هذا ما كان ممكناً بعدما لفظتنا تلك الأوطان العنيفة. هل عشتُ مرحلة ذهبية؟ لا بد أن المرحلة الذهبية تبدأ بالاعتراف بالواقع والسعي إلى تحسينه أولاً. قدماي مغروستان في الرمال المتحركة، وأعرف بأنه في العمل كما في السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً. بالعودة إلى الصديق الذي تحدّث عن العبودية المختارة، فقد سألني: على اعتبار أننا نعيش اليوم مرحلة ذهبية، فما هو عنوانها؟ أجبته ضاحكة: المرحلة الذهبية للتفاهة!

بينالي الفنون الإسلامية يسلط الضوء على التراث الإسلامي
بينالي الفنون الإسلامية يسلط الضوء على التراث الإسلامي

الديار

timeمنذ 2 أيام

  • الديار

بينالي الفنون الإسلامية يسلط الضوء على التراث الإسلامي

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب تحت عنوان "وما بينهما"، في كانون الثاني الماضي، فعاليات الدورة الثانية من "بينالي الفنون الإسلامية" في مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة، بتنظيم من "مؤسسة بينالي الدرعية". ويشكل البينالي الذي يستمر حتى 25 أيار الجاري، منصة ثقافية وفنية تجمع بين الفن والمعرفة، وتسعى لتعميق التأمل في العلاقة بين التحولات الاجتماعية والثقافية والفنون الإسلامية. وضم البرنامج الثقافي المصاحب للبينالي سلسلة من اللقاءات والمحاضرات وتسليط الضوء على قضايا الهوية، والتاريخ، والتراث المعماري في العالم الإسلامي. تناولت هذه اللقاءات موضوعات متعددة، منها ممارسات الترميم والصيانة في مكتبة الفاتيكان، وتاريخ مكتبة الخالدية في القدس وما تحتويه من مخطوطات نادرة، بالإضافة إلى الإرث المكتوب في التقاليد الإسلامية والمسيحية في المدينة المقدسة. وشمل البرنامج محاضرة "السماء والأرض وعشرة آلاف شيء"، التي استعرض خلالها المصور، بيتر ساندرز، العلاقة العميقة بين الإسلام والصين عبر العصور، وورشة عن "صناعة البلاط الخزفي المستوحى من بيوت جدة التاريخية"، وجلسة "لماذا يؤلف الفنانون الكتب؟"، بمشاركة فنانات مثل فاطمة عبد الهادي، وآلاء يونس، وتمارا كالو، وحياة أسامة. وسلطت هذه الجلسة الضوء على الكتاب كوسيلة فنية مبتكرة، تتجاوز الطباعة لتصبح مساحة للتفكير البصري، والتجريب، والحميمية، حيث تشكل كتب الفنانين امتداداً لأعمالهم وتفتح أمام الجمهور تجربة فنية مختلفة وتفاعلية. ومن أبرز جلسات "لقاءات البينالي" لهذا العام، جلسة بعنوان "مشاريع محلية تعنى بالتراث الثقافي الإسلامي"، التي تجمع نخبة من المهتمين بصون التراث السعودي، مثل سارة العبدلي، وفواز المحرج، وطيب الطيب، وعبد الله القاضي. كما تعقد جلسة أخرى بعنوان "البيت الحرام: بحث في الكعبة المشرفة" للكاتب والفنان السعودي، علي القريشي، وتتناول الكعبة من منظور تاريخي ومعماري، وتسرد تطورها ورمزيتها في العالم الإسلامي. ويقدم البينالي أيضاً ورشاً تفاعلية مثل "بينالي بعد المدرسة"، و"بينالي بعد العمل"، وفعاليات أسبوعية متنوعة تشمل "خميس الطهي"، و"أيام السبت للرسم"، و"أمسيات السينما". ويشارك في البينالي هذا العام أكثر من 30 مؤسسة دولية من دول متعددة بينها السعودية، وفلسطين، ومصر، وسلطنة عمان، وفرنسا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، وإندونيسيا، والبرتغال. ويضم البينالي أكثر من 500 قطعة أثرية وفنية موزعة على 7 أقسام رئيسية هي: البداية، المدار، المقتني، المظلة، المكرمة، المنورة، المصلى.

كان رفيق سلاح عبدالناصر والسادات...أحمد مظهر السياسي
كان رفيق سلاح عبدالناصر والسادات...أحمد مظهر السياسي

المدن

timeمنذ 4 أيام

  • المدن

كان رفيق سلاح عبدالناصر والسادات...أحمد مظهر السياسي

قلما تجد في تاريخ الفن المصري رجلاً بهذا التنوع والثراء، فقد تشعبت اهتمامات الممثل أحمد مظهر الذي رحل عن الحياة في الثامن من أيار 2002 بين الفن والأدب والرياضة والزراعة والسياسة على خلفية من أصوله العسكرية. بل كان بإمكانه أن يصبح – إذا أراد – أحد اللاعبين الكبار في المسرح السياسي في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952. وإذا كان مشواره كممثل الذي بدأ بالصدفة حين شارك في فيلم "ظهور الإسلام" العام 1951 قد قاده لأن يكون أحد أبرز أسماء السينما العربية بما يقرب من مئة فيلم وعشرات الشخصيات الدرامية التي باتت من كلاسيكياتها، وإذا كانت صداقته الحميمة بالأديب نجيب محفوظ قد أدخلته عالم الأدب من الباب الكبير باعتباره صاحب الفضل في تكوين جماعة "الحرافيش" وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم منذ أربعينيات القرن الماضي، وإذا كانت نشأته الرياضية الباكرة وجمعه بين الملاكمة والرماية والفروسية قد دفعت به إلى منصات التتويج ومشاركته في دورتي لندن 1948 وهلسنكي 1952 الأولمبيتين، فإن صفحة مهمة في حياته ظلت مجهولة أو شابها على الأقل كثير من الافتئات، فوقعت تفاصيلها بين التهوين تارة والتهويل أخرى، وأعني هنا دوره الخفي في الحياة السياسية بمصر في مرحلة شديدة الخصوصية والاضطراب من تاريخها المعاصر. التحق أحمد مظهر بالكلية الحربية العام 1936 في أعقاب توقيع مصر معاهدتها الشهيرة مع بريطانيا، فوجد في دفعته كلاً من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين وحسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين، وكان يسبقه بدفعة أنور السادات، وبدفعتين الأديب يوسف السباعي، ولحق به الدكتور ثروت عكاشة، وهي الأسماء التي غيرت في ما بعد وجه الحياة السياسية في مصر ومنطقة الشرق الأوسط. ثم رافق مظهر بعد التخرج كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات حين تم توجيه الثلاثة إلى معسكرات الجيش في منقباد التابعة لمحافظة أسيوط في صعيد مصر. وحينما سألته عند بداية تعارفنا في تشرين الأول 1987 عن ذكرياته عن هذه المرحلة من حياته، قال إنه لاحظ اهتمامات عبد الناصر بالتكتيك العسكري والنظريات القتالية، فيما كان السادات معنياً بالأحزاب السياسية والعمل السفلي والكفاح ضد الاستعمار الإنكليزي، ما انعكس عليه هو الآخر. وأضاف أن السادات حينما انتقلا معًا إلى القاهرة، فيما ذهب ناصر إلى جبل الأولياء بالسودان، هو الذي عرّفه على الفريق عزيز المصري الذي لُقّب بـ"أبو الأحرار" والمعروف بميله إلى معسكر الألمان في الحرب العالمية الثانية من أجل تخليص مصر من الاحتلال البريطاني. ومنذئذ لم يفارق مظهر الفريق عزيز المصري حتى في مغامرته الخطرة بمقابلة القائد روميل على متن طائرة عند قدومه بجيش المحور إلى الصحراء الغربية بمصر قبيل وقوع معركة العلمين الشهيرة التي قلبت موازين القوى في الشمال الأفريقي لمصلحة دول الحلفاء في أتون الحرب العالمية الثانية. وبحسب ما قاله لي أحمد مظهر ونشرته في حينه، أنه كان المؤسس للتنظيم الأول للضباط الأحرار الذي كان عزيز المصري أباه الروحي، وكان التنظيم يجتمع في شقته في شارع الحلمية في مصر الجديدة قبل أن يعلم البوليس السياسي باجتماعات التنظيم، ويصدر القرار بمهاجمة الشقة والقبض على أفراده باعتباره تنظيماً شيوعياً. فقرر الرجل، إثر هذه الواقعة، حلّ التنظيم قبل أن يعيد عبد الناصر تشكيله العام 1949 عقب عودته من حصار الفلوجة بفلسطين إبان النكبة الكبرى العام 1948، فانضم إليه أحمد مظهر أيضاً باعتباره ضابطا في سلاح الفرسان بعد مشاركته في حرب 1948 متطوعاً، رغم معارضة الملك فاروق اشتراك سلاح الفرسان في الحرب باعتباره قوة الجيش التي تؤمن عرشه بالقاهرة. ولم تنقطع علاقة مظهر بالرياضة في تلك الفترة، فقد حقق نتائج باهرة في الفروسية أهّلته لعضوية الفريق المصري المشارك في دورتي لندن وهلسنكي الأولبيتين، من من دون أن يتخلف عن اجتماعات الضباط الأحرار الذين كانوا يجهزون لحركتهم الثورية. وفي مقال له نشرته صحيفة الأهرام القاهرية عقب وفاة أحمد مظهر العام 2002، كشف صديقه نجيب محفوظ عن دور خفي قام به مظهر في تلك الفترة الحرجة، فذكَر أن مظهر كان الوسيط بين الضباط الأحرار وحزب الوفد، حين سلّم صهره محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية المصري والقطب الوفدي البارز، رسالة من عبد الناصر إلى النحاس باشا رئيس الوفد ورئيس الوزراء، يخبره فيها بنيّة الأحرار الانقلاب على الملك، طالباً الدعم والتنسيق مع التنظيم. غير أن النحاس رفض الانقلاب على الدستور وسيطرة الجيش على السلطة، لكنه حفظ للأحرار سرّهم. وأضاف محفوظ أن النحاس، ووزير داخليته فؤاد سراج الدين، كانا على علم بتحركات الضباط الأحرار، لكنهما – ما معناه – غضا الطرف عنها حسبما أبلغه صديقه الحرفوش الأكبر أحمد مظهر. وفي صيف 1952، ذهب مظهر إلى عبد الناصر ليبلغه أنه يستعد للسفر إلى فنلندا للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية، مستفسراً عن موعد القيام بالثورة، فأبلغه ناصر بأنه لم يحدّد الموعد بدقة ونصحه بالبقاء في القاهرة. لكن كثرة تأجيلات موعد القيام بحركة الضباط الأحرار دفعت قائد مدرسة الفرسان إلى عدم الاستماع لنصيحة ناصر والسفر إلى أوروبا، غير أن تسرّب أخبار التنظيم إلى القصر الملكي وفوز اللواء محمد نجيب في انتخابات نادي ضباط الزمالك على حساب رجال الملك، دفعا عبد الناصر للتعجيل. وحينما قامت الثورة بالفعل، فجر 23 يوليو، كان أحمد مظهر قد وصل إلى باريس في طريقه إلى فلندا، ولم يكن في الإمكان العودة إلى القاهرة، فأكمل طريقه مع البعثة المصرية إلى هناك. وقال لي مظهر قبل أسبوعين من وفاته، وبينما كنت أحرّر كتاب تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي 2002، أنه لم يشأ بعد عودته من الدورة الأولمبية التقرب من زملائه الأحرار، خشية أن يتصور بعضهم أنه يبحث عن منصب رفيع. لكن عبد الناصر احتفظ له بمكانه كقائد لكلية الفرسان وأحد قادة سلاح الفروسية، وأضاف أن علاقته في تلك الفترة اقتصرت على الفارسين يوسف السباعي وثروت عكاشة باعتبارهما رفيقي سلاح الفروسية. وحكى مظهر أن عبد الحكيم عامر وقف في طريقه بشدة حينما قرر قبول دعوة يوسف السياعي للمشاركة في التمثيل في فيلم "رد قلبي" الذي يحكي قصة ثورة يوليو، اعتقاداً منه بأن في ذلك إهانة للزي العسكري الذي يرتديه مظهر. ولم يتحول إلى الحياة المدنية إلا حينما أحاله عامر إلى التقاعد العام 1956 عقاباً له، فاختاره السباعي مساعداً له في المجلس الأعلى للفنون والآداب، ليبدأ الرجل منذ ذلك اليوم مشواره الطويل في عالم التمثيل، ولم يقترب قط من رفقاء السلاح، لا سيما عبد الناصر والسادات، لكنه عند وفاة ناصر في أيلول 1970، حرص على اصطحاب ابنه شهاب إلى بيت الرئيس الراحل في صباح اليوم التالي لتسجيل كلمته في سجل العزاء. أما السادات، فقد اختاره ليمثل شخصيته في أكثر من عمل إذاعي تناول حياة الرئيس، لا سيما بعد انتصارات أكتوبر 1973.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store