منذ 10 ساعات
"أمريكا أولاً" والإعلام: استراتيجية ترامب للضغط على خصومه
صدر في عام 1987 كتاب "فن الصفقة" لدونالد ترامب بالتعاون مع الصحفي توني شوارتز، وجمع بين سرد السيرة الذاتية والدليل العملي في عالم التجارة والتفاوض. لم يكن الكتاب مجرد استعراض لصفقات ناجحة، بل كان أداة ذكية لصياغة صورة ترامب كرجل أعمال صارم وواثق، يعرف كيف ينتصر.
أرى أن هذا الكتاب لم يُكتب فقط لتوثيق التجربة، بل لصناعة "الأسطورة الإعلامية" التي سيبني عليها لاحقًا مشروعه السياسي، فقد وظف ترامب حضوره الإعلامي، منذ صدور الكتاب، لبناء شخصية عامة لا تُنسى، وهذا ما مهّد الطريق لصعوده المفاجئ والفعّال إلى ساحة السياسة، لا سيما خلال حملته الانتخابية الأولى عام 2016.
عندما استعرض خطابات ترامب ومقابلاته، أجد أن كل شيء عنده يدور حول شعار "أمريكا أولاً". من وجهة نظري، هذا الشعار ليس مجرد تعبير وطني، بل هو تكتيك ذكي يُستخدم لتبرير السياسات المتشددة داخليًا وخارجيًا. من خلاله، يظهر ترامب أمام أنصاره كمدافع شرس عن السيادة الأميركية، وكقائد لا يخضع للإملاءات الدولية. وهنا يظهر الدور المحوري للإعلام؛ إذ لم يكن مجرد وسيط لنقل خطاباته، بل منصة يستثمرها بعناية، لخلق حالة من الزخم والهيمنة على المشهد العام.
ومن يتأمل أسلوب ترامب الإعلامي يدرك أنه لا يعتمد على العفوية، بل يُتقن "فن الترويج" كما يسميه بنفسه. ففي إحدى تصريحاته قال: "فن الترويج أو المبالغة الصادقة، الناس تحب أن تسمع أن الشيء هو الأفضل أو الأعظم، وهذا جزء من جذب الانتباه." هذه الجملة، في رأيي، تختصر فلسفة ترامب الإعلامية بالكامل. هو لا يكتفي بإرسال رسائل واضحة، بل يضخّمها بلغة حماسية مفرطة، ليصنع حولها هالة تجذب العقول والأنظار. هذا الأسلوب لا يُحرك وسائل الإعلام فحسب، بل يحرّك الرأي العام نفسه. فحين يصف مشروعه بأنه "الأعظم في التاريخ" أو إنجازاته بأنها "لم تحدث من قبل"، فهو لا يهدف إلى الدقة، بل إلى إثارة الفضول والتفاعل، وجعل كل ما يقوله قابلًا للتداول والنقاش. إنها مبالغة مقصودة، تُحقق غايتها في كل مرة، وتجعله، رغم كل الجدل، في صدارة المشهد الإعلامي والسياسي.
أما أسلوبه الخطابي، فهو قائم – كما ألاحظ – على الإثارة اللفظية والاستفزاز المتعمد. نبرة التهديد والحدة في التعبير ليست عفوية، بل مدروسة لخلق تفاعل عاطفي وتحفيز الإعلام على التغطية الكثيفة. والمفارقة أن الإعلام، حتى المعارض منه، يسقط في الفخ ذاته، فيمنح تصريحاته صدى واسعًا. بهذه الطريقة، يفرض ترامب أجندته الإعلامية على الجميع، ويحتل المساحات الإخبارية دون الحاجة إلى تدخل مباشر.
ما يلفت انتباهي أيضًا أن ترامب يتقن استخدام التصريحات الصادمة كأدوات لكسب التفاعل. فكل كلمة يقولها تُصاغ لتكون "عنوانًا عاجلًا"، ما يسرّع انتشارها ويجعلها محورًا للنقاش العام. وبهذا الأسلوب، لا يكتفي بالحضور الإعلامي، بل يصنع الحدث نفسه، ويجعل خصومه أسرى لردود الفعل والانفعالات.
الأذكى من ذلك، في نظري، هو أن ترامب لا يخاطب الجماهير فقط، بل يستخدم الإعلام لممارسة ضغوط سياسية حقيقية. فحين تُضخّم تصريحاته وتنتشر عالميًا، يجد الخصوم أنفسهم تحت وطأة الرد العلني أو تعديل المواقف. بهذه الطريقة، يحوّل الإعلام إلى أداة تفاوضية تُحسّن موقعه وتضعف خصومه، كما حدث مرارًا في تعامله مع إيران وملفات أخرى.
ولعل أبرز مثال على براعة ترامب الإعلامية كان خلال حملته الانتخابية عام 2016، التي نجح فيها في تحويل كل مناظرة، وكل تغريدة، إلى عاصفة إعلامية تخدمه. أنا أعتقد أن الإعلام لعب دورًا جوهريًا في صعوده إلى البيت الأبيض، ليس لأنه تبنّى سياساته، بل لأنه ضاعف من ظهوره بشكل غير مسبوق. كان ترامب نجمًا يوميًا في نشرات الأخبار، حديث الناس على مواقع التواصل، ومحور الجدل في كل زاوية، مما مكّنه من الوصول إلى قاعدة جماهيرية واسعة دون التكاليف التقليدية للحملات. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2024، واصل ترامب توظيف الاستراتيجية ذاتها، فحوّل الإعلام إلى أداة تعبئة وتحشيد، وفرض نفسه كمرشح محوري رغم كثافة المنافسة والانقسام السياسي.
وبرأيي، فإن استمرار اعتماده على هذا النهج الإعلامي قد يكون أحد المفاتيح الرئيسية لفوزه مجددًا أو على الأقل لإبقائه في مركز القرار والتأثير.