#أحدث الأخبار مع #فيجاي_براشادالغدمنذ 2 أيامسياسةالغدالسودان: لغة الدمفيجاي براشاد* - (معهد تريكونتيننتال للبحث الاجتماعي) 16/5/2025 ترجمة: علاء الدين أبو زينة حصدت هذه الحرب الأهلية المنسية أرواح ما لا يقل عن 150.000 شخص وشرّدت نحو 13 مليوناً آخرين. ويشكل فهم تفاصيلها السياسية المفتاح لتعقب أسبابها -وتحديد سبل حلها. اضافة اعلان * * * على مدى الأسابيع الماضية، انصبت أنظار العالم بلا شك على التصعيد بين الهند وباكستان، وسوف نكتب المزيد عن هذا الملف حين تهدأ الأوضاع. وعلى الرغم من أن أياً من الجيوش لم يعبر الحدود أو خط السيطرة، فإن القلق يبقى مبررًا: كلا البلدين يمتلك أسلحة نووية. والآن، يبدو أن الأمور عادت فعلياً إلى اتفاق وقف إطلاق النار للعام 1948، الذي استمر لعقود من دون معاهدة سلام شاملة وحقيقية. كما بقي التركيز العالمي منصبًا -عن حق- على الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين، حيث شدد الإسرائيليون الحصار التام على قطاع غزة، ربما انتقاماً من عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة في 27 كانون الثاني (يناير)، متحدّين بالكامل الحرب الإبادية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، بدا أن بعض النزاعات، مثل الحرب المستمرة في السودان، قد طواها النسيان تماماً تقريباً. وهذا هو موضوع هذا المقال، المبنيّ على محادثات أجريت مع عمال إغاثة إنسانيين وشخصيات سياسية سودانية. يعكس القول بأن هذه الحرب محيِّرة، وأنها لا توجد تفسيرات سهلة لها، عنصرية التغطية الإعلامية التي ترى في النزاعات الأفريقية شؤوناً غامضة ولا نهائية. ومع ذلك، ثمة أسباب لهذه الحرب، وهو ما يعني أن هناك سبلًا لإنهائها. ينبغي تجاوز "لغة الدم" التي استحوذت على وعينا العالمي، والبحث بدلاً من ذلك في التفاصيل السياسية التي تكمن فيها إمكانية تحقيق السلام. البدايات قبل عامين تقريبًا، تحطم السلام الهش والآمل في السودان حين اندلعت الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع -وهما جناحان من أجنحة الدولة السودانية. وجرى إحياء الذكرى الثانية لهذه الحرب، في 11 نيسان (أبريل)، بهجوم مروّع شنّته قوات الدعم السريع على مخيم زمزم للاجئين في شمال دارفور. وكما روت "هوا"، وهي أم سودانية لثلاثة أطفال نجت من الهجوم: "كانت القنابل تتساقط على المستشفى... وغادر من نجا منا فقط وأطفاله على ظهره". وبحلول 16 نيسان (أبريل)، كان المخيم -الذي ضم في السابق نصف مليون لاجئ- قد دُمّر تمامًا، بينما أسفر الهجوم عن سقوط مئات القتلى وهروب الباقين إلى الفاشر وتويلة القريبتين. خلال عامين من القتال، قُتل ما لا يقل عن 150.000 شخص، وتم تهجير نحو 13 مليوناً -أي أكثر من خُمس سكان السودان البالغ عددهم 51 مليوناً. وتبدو هذه الكارثة المستمرة عبثية تمامًا وبلا معنى لغالبية السودانيين. لكن المشهد كان مختلفاً تماماً في 11 نيسان (أبريل) 2019، أي قبل ست سنوات من مجزرة زمزم، حين أُطيح بالرئيس عمر البشير بعد حكم طويل، من خلال حركة جماهيرية شاركت فيها لاحقاً المؤسسة العسكرية. بدأت الاحتجاجات ضد حكومة البشير في كانون الأول (ديسمبر) 2018 بسبب التضخم والأزمة الاجتماعية المتصاعدة. وحين عجز البشير عن الاستجابة لمطالب الناس، لم يتمكن من الاستمرار في الحكم -حتى باستخدام القوة- خاصة بعد أن انقلب عليه الجيش السوداني (كما فعل الجيش المصري مع الرئيس حسني مبارك في العام 2011). وكان الذي أطاح بالبشير هو ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ"المجلس العسكري الانتقالي"، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وبمساعدة الفريق محمد "حميدتي" حمدان دقلو. تشكل الأمل شكلت القوى التي قادت الاحتجاجات على الأرض تحالفاً باسم "قوى الحرية والتغيير". وشمل هذا التحالف الحزب الشيوعي السوداني، وقوى الإجماع الوطني، وتجمع المهنيين السودانيين، والجبهة الثورية السودانية، ونساء المجموعات المدنية والسياسية السودانية، والعديد من لجان المقاومة أو اللجان الشعبية بالأحياء. بعد ذلك، وبضغط من الاحتجاجات التي قادتها قوى الحرية والتغيير، وقّع الجيش اتفاقاً في منتصف العام 2019 للإشراف على انتقال إلى حكم مدني. وبدعم من "الاتحاد الأفريقي"، تم تشكيل "مجلس السيادة الانتقالي"، الذي ضم خمسة أعضاء عسكريين وستة مدنيين. عيّن "المجلس" عبد الله حمدوك (من مواليد العام 1956) رئيساً للوزراء، ونعمات عبد الله خير (من مواليد العام 1957) رئيسة للقضاء. وبدا حمدوك، وهو دبلوماسي هادئ عمل لفترة طويلة في "لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا"، مناسباً تماماً لدوره كرئيس وزراء انتقالي. كما مثلت خير، وهي قاضية مخضرمة انضمت إلى الحراك الاحتجاجي ضد البشير، النموذج المناسب لقيادة السلطة القضائية بكفاءة. كان الباب إلى مستقبل جديد في السودان قد بدأ يُفتح بالفعل. ولكن، لم يمض طويل وقت حتى وقع السودان فريسة لضغوط تاريخه الخاص. في العام 2021، وبعد محاولات انقلابية فاشلة عدة، استولى الجنرال عبد الفتاح البرهان على السلطة، ظاهريًا للدفاع عن المرحلة الانتقالية، ولكن في الواقع لإعادة رموز نظام البشير من عزلتهم إلى الحكومة. في الواقع، كثيرًا ما تُقاطع الثورات بعودة النظام القديم الذي لا يمكن التخلّص من قبضته على القوات المسلحة والمجتمع بسهولة. وكان كلّ من البرهان وحميدتي يعلمان أن أي مسعى إلى تحقيق العدالة ضد حكومة البشير سيضربهما بقوة، لأنهما كانا مطرقة ذلك النظام (كانت قوات حميدتي، المعروفة شعبيًا باسم "الجنجويد" -أو "الشياطين على ظهور الخيل"- قد ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان خلال حملة البشير في إقليم دارفور). وبالأهمية نفسها، كان لدى الرجلين وحاشيتهما مصالح مادية على المحك، بما في ذلك السيطرة على مناجم الذهب السودانية في دارفور وكردفان. وبالنسبة لأمثال هؤلاء، فإن الخوف من المشنقة، والجشع وإغراء الحصول على مزيد من الغنائم هي الأهم. عادة ما يتطلب الانتقال الحقيقي للسلطة قطيعة تامة مع المجتمع القديم، وهو أمر يصعب تحقيقه ما لم تنهَر المؤسسة العسكرية أو يُعاد تشكيلها بالكامل وفقًا لصورة المجتمع الجديد، وليس بعناصر النظام القديم. وقد عمل كلا الرجلين -البرهان وحميدتي- على تقويض هذا الانتقال، وبقمع سريع ضد الحركات الجماهيرية، خاصة نقابات الشغلية والشيوعيين، تمكّنا من إحكام السيطرة على الخرطوم. عندما تتشكّل عصابة من الأشقياء لتقود بلداً ما، يكون على شعبه أن يشعر بالقلق. في العام 2021، شكّلت السعودية والإمارات والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مجموعة رباعية أُطلق عليها اسم "الرباعية من أجل السودان"، على أساس أن الهدف هو إعادة البلاد إلى الديمقراطية. لكن السودان وقف على حافة هاوية لعبة التجاذبات الجيوسياسية، مع تصاعد الاتهامات بأن العسكر المضادين للثورة في السودان شرعوا في تطوير علاقات وثيقة مع روسيا. في العام 2019، كان البشير قد ناقش صفقة تسمح لروسيا ببناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وهو ما كان سيمنحها موطئ قدم على القارة الإفريقية. وعرّض سقوط البشير وجود القاعدة للخطر، لكنّ فتحها أعيد عندما عاد فريقه القديم إلى الحكم. وأدخل هذا الواقع السودان في مرمى الصراع المتصاعد بين الغرب وروسيا، وأيضًا بين ممالك الخليج العربي. وحين يُجرّ بلد ما إلى تشابكات الآخرين، يصبح من الصعب تمييز مشاكله الخاصة. شرع الخلاف داخل زمرة الحكم من العسكر وبقايا نظام البشير في التضخم بشأن دمج القوات المسلحة وتقسيم الغنائم. وعلى السطح، بدا أنهم يتجادلون حول الجدول الزمني للعودة إلى الحكم المدني، لكنّ النزاع كان يدور في الواقع حول السيطرة العسكرية والسيطرة على الموارد. وفي نهاية المطاف، تصاعدت هذه الصراعات الداخلية على السلطة إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 2023. وكانت في الحقيقة حربًا حتمية، تحمل كل سمات الحرب بالوكالة: القوات المسلحة السودانية مدعومة من مصر والسعودية، بينما تدعم الإمارات قوات الدعم السريع، وهناك أطراف خارجية أخرى تحرّك الخيوط من وراء الستار. استمرت المحادثات من أجل التوصل إلى حل هنا وهناك، لكنها لا تحرز أي تقدم. وأصبحت الحرب تسير بمنطقها الخاص، لم يتمكن 300.000 جندي في القوات المسلحة السودانية من تحقيق مكاسب كبيرة ضد 100.000 مقاتل في قوات الدعم السريع يعملون بدوافع عالية. ويمكن أن تؤدي الموارد التي لا تنضب من مبيعات الذهب والدعم الخارجي هذه الحرب مشتعلة إلى الأبد، أو على الأقل حتى ينسى معظم العالم أنها تحدث (كما حدث مع الحروب المنسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية وعلى حدود ميانمار). ما تزال الأمم المتحدة تصدر البيانات، بينما تطالب منظمات حقوق الإنسان بفرض مزيد من الضغط على القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. لكنّ أي شيء ملموس لم يأتِ بعد. وحتى محادثات السلام نفسها منقسمة: الإماراتيون والمصريون يتولون رعاية بعضها في القاهرة، بينما يعقد السعوديون محادثات أخرى في جدة، بينما قرّر البريطانيون عقد جولة جديدة في لندن. وفي كل ذلك، ليس من الواضح مَن يتحدث مع مَن، وعن ماذا. جاءت أكثر المحاولات جدية للتوسط من أجل اتفاق سلام من "الاتحاد الإفريقي" في كانون الثاني (يناير) 2024 مع إنشاء "اللجنة رفيعة المستوى من أجل السودان". ويترأس اللجنة الدكتور محمد بن شمباس، وهو دبلوماسي غاني كان الممثل الخاص المشترك للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور ورئيس العملية المختلطة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) من العام 2012 إلى العام 2014. وهو يعرف كِلا الجنرالين ويدرك مدى تعقيد الوضع في السودان. أما العضوان الآخران في اللجنة فهما الدكتورة سبيسيوزا وانديرا-كازيبي، نائبة رئيس أوغندا السابقة، والسفير فرانسيسكو ماديرا من موزمبيق، الذي كان ممثلاً خاصًا للاتحاد الإفريقي في الصومال ورئيس بعثة الاتحاد الإفريقي هناك. تعمل "اللجنة رفيعة المستوى من أجل السودان" بالتعاون مع "الهيئة الحكومية للتنمية" (إيغاد) -وهي الهيئة الإقليمية لشرق إفريقيا- لإقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة الحوار للتوصل أولاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وبعد ذلك إلى اتفاق شامل. وقد التقت اللجنة بمجموعة واسعة من الشخصيات من مختلف أطياف الطيف السياسي في البلاد، بما في ذلك أعضاء من الأحزاب السياسية، والمؤسسة العسكرية، ومنظمات المجتمع المدني. وكان العديد منهم من الموقعين على "اتفاقية جوبا للسلام" في العام 2020، التي شملت أيضًا فصائل مسلحة من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. لكن المفاوضين يواجهون مشكلة في أوساط المكونات المدنية. في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، شكّل رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك، ائتلاف "تقدُّم"، الذي جلب أصواتًا مدنية إلى طاولة المفاوضات. لكنّ الخلافات والانقسامات سرعان ما بدأت في الظهور على مدار العامين الماضيين بسبب الولاءات لأحد طرفي الصراع، ما أدى إلى حل الائتلاف في شباط (فبراير) 2025. عندئذٍ، شكّل حمدوك مجموعة جديدة باسم "صمود"، تهدف إلى الحفاظ على مسافة متساوية من كلا الطرفين. وفي آذار (مارس)، شكّل الهادي إدريس، عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق، ائتلاف "تأسيس السودان"، الذي رشّح محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، لقيادته. وبذلك، انقسمت حتى المجموعات المدنية على أسس قسمة الحرب الأهلية. في العام الماضي، كنتُ قد تحدثتُ مع حمدوك، الذي بدا عليه الإرهاق من طول أمد الحرب وعبثية المفاوضات. وعلى الرغم من دبلوماسيته الهادئة، كان حمدوك يعتقد أن الحروب يمكن أن تُنهك الجيوش وتُجبرها على التفاوض. وهو يعرف التاريخ جيدًا: نال السودان استقلاله من بريطانيا ومصر في العام 1956، لكنه سرعان ما دخل في حربه الأهلية الأولى بين الشمال والجنوب، والتي انتهت بـ"اتفاقية أديس أبابا" في العام 1972؛ وأصبحت تلك العشرية السلمية التي تلتها، والتي غذّتها عائدات النفط من الجنوب، ذكرى بعيدة. ثم اندلعت الحرب الأهلية الثانية بين الشمال والجنوب من العام 1983 إلى العام 2005، وأسفرت عن الاستفتاء الذي أُجري في العام 2011 وأدى إلى تقسيم البلاد إلى السودان وجنوب السودان. وأخيرًا، اندلع صراع دموي في دارفور في العام 2003 واستمر ببطء حتى وصوله إلى نهاية في العام 2010، وكان من العوامل التي أسهمت في الإطاحة بعمر البشير في العام 2019. في ذلك الوقت، كان الشعار ضد البشير هو "تسقط بس". وقد سقط. لكن الأرض ما تزال تهتز. لم يعرف شعب السودان طعم السلام منذ أجيال. ويبقى أمل حمدوك ضد مجرى التاريخ، لكنه من أجل المستقبل. *فيجاي براشاد Vijay Prashad: مؤرخ ومحرر وصحفي هندي. يعمل زميلا في الكتابة وكبير المراسلين في "غلوبتروتر"، ومحررًا في دار "ليفت وورد" للنشر، ومديرًا لمعهد ثلاثي القارات للأبحاث الاجتماعية. وهو أيضًا زميل غير مقيم كبير في "معهد تشونغيانغ للدراسات المالية" بجامعة رينمين في الصين. ألّف أكثر من 20 كتابًا، منها: "الأمم الأشد ظلمة والأمم الأشد فقرًا". من أحدث كتبه: "النضال يجعلنا بشرًا: دروس من الحركات من أجل الاشتراكية"، وكتاب "الانسحاب: العراق، ليبيا، أفغانستان وهشاشة القوة الأميركية"، بالاشتراك مع نعوم تشومسكي. *نشر هذا المقال تحت عنوان: Sudan & the Language of Blood
الغدمنذ 2 أيامسياسةالغدالسودان: لغة الدمفيجاي براشاد* - (معهد تريكونتيننتال للبحث الاجتماعي) 16/5/2025 ترجمة: علاء الدين أبو زينة حصدت هذه الحرب الأهلية المنسية أرواح ما لا يقل عن 150.000 شخص وشرّدت نحو 13 مليوناً آخرين. ويشكل فهم تفاصيلها السياسية المفتاح لتعقب أسبابها -وتحديد سبل حلها. اضافة اعلان * * * على مدى الأسابيع الماضية، انصبت أنظار العالم بلا شك على التصعيد بين الهند وباكستان، وسوف نكتب المزيد عن هذا الملف حين تهدأ الأوضاع. وعلى الرغم من أن أياً من الجيوش لم يعبر الحدود أو خط السيطرة، فإن القلق يبقى مبررًا: كلا البلدين يمتلك أسلحة نووية. والآن، يبدو أن الأمور عادت فعلياً إلى اتفاق وقف إطلاق النار للعام 1948، الذي استمر لعقود من دون معاهدة سلام شاملة وحقيقية. كما بقي التركيز العالمي منصبًا -عن حق- على الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين، حيث شدد الإسرائيليون الحصار التام على قطاع غزة، ربما انتقاماً من عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة في 27 كانون الثاني (يناير)، متحدّين بالكامل الحرب الإبادية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، بدا أن بعض النزاعات، مثل الحرب المستمرة في السودان، قد طواها النسيان تماماً تقريباً. وهذا هو موضوع هذا المقال، المبنيّ على محادثات أجريت مع عمال إغاثة إنسانيين وشخصيات سياسية سودانية. يعكس القول بأن هذه الحرب محيِّرة، وأنها لا توجد تفسيرات سهلة لها، عنصرية التغطية الإعلامية التي ترى في النزاعات الأفريقية شؤوناً غامضة ولا نهائية. ومع ذلك، ثمة أسباب لهذه الحرب، وهو ما يعني أن هناك سبلًا لإنهائها. ينبغي تجاوز "لغة الدم" التي استحوذت على وعينا العالمي، والبحث بدلاً من ذلك في التفاصيل السياسية التي تكمن فيها إمكانية تحقيق السلام. البدايات قبل عامين تقريبًا، تحطم السلام الهش والآمل في السودان حين اندلعت الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع -وهما جناحان من أجنحة الدولة السودانية. وجرى إحياء الذكرى الثانية لهذه الحرب، في 11 نيسان (أبريل)، بهجوم مروّع شنّته قوات الدعم السريع على مخيم زمزم للاجئين في شمال دارفور. وكما روت "هوا"، وهي أم سودانية لثلاثة أطفال نجت من الهجوم: "كانت القنابل تتساقط على المستشفى... وغادر من نجا منا فقط وأطفاله على ظهره". وبحلول 16 نيسان (أبريل)، كان المخيم -الذي ضم في السابق نصف مليون لاجئ- قد دُمّر تمامًا، بينما أسفر الهجوم عن سقوط مئات القتلى وهروب الباقين إلى الفاشر وتويلة القريبتين. خلال عامين من القتال، قُتل ما لا يقل عن 150.000 شخص، وتم تهجير نحو 13 مليوناً -أي أكثر من خُمس سكان السودان البالغ عددهم 51 مليوناً. وتبدو هذه الكارثة المستمرة عبثية تمامًا وبلا معنى لغالبية السودانيين. لكن المشهد كان مختلفاً تماماً في 11 نيسان (أبريل) 2019، أي قبل ست سنوات من مجزرة زمزم، حين أُطيح بالرئيس عمر البشير بعد حكم طويل، من خلال حركة جماهيرية شاركت فيها لاحقاً المؤسسة العسكرية. بدأت الاحتجاجات ضد حكومة البشير في كانون الأول (ديسمبر) 2018 بسبب التضخم والأزمة الاجتماعية المتصاعدة. وحين عجز البشير عن الاستجابة لمطالب الناس، لم يتمكن من الاستمرار في الحكم -حتى باستخدام القوة- خاصة بعد أن انقلب عليه الجيش السوداني (كما فعل الجيش المصري مع الرئيس حسني مبارك في العام 2011). وكان الذي أطاح بالبشير هو ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ"المجلس العسكري الانتقالي"، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وبمساعدة الفريق محمد "حميدتي" حمدان دقلو. تشكل الأمل شكلت القوى التي قادت الاحتجاجات على الأرض تحالفاً باسم "قوى الحرية والتغيير". وشمل هذا التحالف الحزب الشيوعي السوداني، وقوى الإجماع الوطني، وتجمع المهنيين السودانيين، والجبهة الثورية السودانية، ونساء المجموعات المدنية والسياسية السودانية، والعديد من لجان المقاومة أو اللجان الشعبية بالأحياء. بعد ذلك، وبضغط من الاحتجاجات التي قادتها قوى الحرية والتغيير، وقّع الجيش اتفاقاً في منتصف العام 2019 للإشراف على انتقال إلى حكم مدني. وبدعم من "الاتحاد الأفريقي"، تم تشكيل "مجلس السيادة الانتقالي"، الذي ضم خمسة أعضاء عسكريين وستة مدنيين. عيّن "المجلس" عبد الله حمدوك (من مواليد العام 1956) رئيساً للوزراء، ونعمات عبد الله خير (من مواليد العام 1957) رئيسة للقضاء. وبدا حمدوك، وهو دبلوماسي هادئ عمل لفترة طويلة في "لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا"، مناسباً تماماً لدوره كرئيس وزراء انتقالي. كما مثلت خير، وهي قاضية مخضرمة انضمت إلى الحراك الاحتجاجي ضد البشير، النموذج المناسب لقيادة السلطة القضائية بكفاءة. كان الباب إلى مستقبل جديد في السودان قد بدأ يُفتح بالفعل. ولكن، لم يمض طويل وقت حتى وقع السودان فريسة لضغوط تاريخه الخاص. في العام 2021، وبعد محاولات انقلابية فاشلة عدة، استولى الجنرال عبد الفتاح البرهان على السلطة، ظاهريًا للدفاع عن المرحلة الانتقالية، ولكن في الواقع لإعادة رموز نظام البشير من عزلتهم إلى الحكومة. في الواقع، كثيرًا ما تُقاطع الثورات بعودة النظام القديم الذي لا يمكن التخلّص من قبضته على القوات المسلحة والمجتمع بسهولة. وكان كلّ من البرهان وحميدتي يعلمان أن أي مسعى إلى تحقيق العدالة ضد حكومة البشير سيضربهما بقوة، لأنهما كانا مطرقة ذلك النظام (كانت قوات حميدتي، المعروفة شعبيًا باسم "الجنجويد" -أو "الشياطين على ظهور الخيل"- قد ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان خلال حملة البشير في إقليم دارفور). وبالأهمية نفسها، كان لدى الرجلين وحاشيتهما مصالح مادية على المحك، بما في ذلك السيطرة على مناجم الذهب السودانية في دارفور وكردفان. وبالنسبة لأمثال هؤلاء، فإن الخوف من المشنقة، والجشع وإغراء الحصول على مزيد من الغنائم هي الأهم. عادة ما يتطلب الانتقال الحقيقي للسلطة قطيعة تامة مع المجتمع القديم، وهو أمر يصعب تحقيقه ما لم تنهَر المؤسسة العسكرية أو يُعاد تشكيلها بالكامل وفقًا لصورة المجتمع الجديد، وليس بعناصر النظام القديم. وقد عمل كلا الرجلين -البرهان وحميدتي- على تقويض هذا الانتقال، وبقمع سريع ضد الحركات الجماهيرية، خاصة نقابات الشغلية والشيوعيين، تمكّنا من إحكام السيطرة على الخرطوم. عندما تتشكّل عصابة من الأشقياء لتقود بلداً ما، يكون على شعبه أن يشعر بالقلق. في العام 2021، شكّلت السعودية والإمارات والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مجموعة رباعية أُطلق عليها اسم "الرباعية من أجل السودان"، على أساس أن الهدف هو إعادة البلاد إلى الديمقراطية. لكن السودان وقف على حافة هاوية لعبة التجاذبات الجيوسياسية، مع تصاعد الاتهامات بأن العسكر المضادين للثورة في السودان شرعوا في تطوير علاقات وثيقة مع روسيا. في العام 2019، كان البشير قد ناقش صفقة تسمح لروسيا ببناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وهو ما كان سيمنحها موطئ قدم على القارة الإفريقية. وعرّض سقوط البشير وجود القاعدة للخطر، لكنّ فتحها أعيد عندما عاد فريقه القديم إلى الحكم. وأدخل هذا الواقع السودان في مرمى الصراع المتصاعد بين الغرب وروسيا، وأيضًا بين ممالك الخليج العربي. وحين يُجرّ بلد ما إلى تشابكات الآخرين، يصبح من الصعب تمييز مشاكله الخاصة. شرع الخلاف داخل زمرة الحكم من العسكر وبقايا نظام البشير في التضخم بشأن دمج القوات المسلحة وتقسيم الغنائم. وعلى السطح، بدا أنهم يتجادلون حول الجدول الزمني للعودة إلى الحكم المدني، لكنّ النزاع كان يدور في الواقع حول السيطرة العسكرية والسيطرة على الموارد. وفي نهاية المطاف، تصاعدت هذه الصراعات الداخلية على السلطة إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 2023. وكانت في الحقيقة حربًا حتمية، تحمل كل سمات الحرب بالوكالة: القوات المسلحة السودانية مدعومة من مصر والسعودية، بينما تدعم الإمارات قوات الدعم السريع، وهناك أطراف خارجية أخرى تحرّك الخيوط من وراء الستار. استمرت المحادثات من أجل التوصل إلى حل هنا وهناك، لكنها لا تحرز أي تقدم. وأصبحت الحرب تسير بمنطقها الخاص، لم يتمكن 300.000 جندي في القوات المسلحة السودانية من تحقيق مكاسب كبيرة ضد 100.000 مقاتل في قوات الدعم السريع يعملون بدوافع عالية. ويمكن أن تؤدي الموارد التي لا تنضب من مبيعات الذهب والدعم الخارجي هذه الحرب مشتعلة إلى الأبد، أو على الأقل حتى ينسى معظم العالم أنها تحدث (كما حدث مع الحروب المنسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية وعلى حدود ميانمار). ما تزال الأمم المتحدة تصدر البيانات، بينما تطالب منظمات حقوق الإنسان بفرض مزيد من الضغط على القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. لكنّ أي شيء ملموس لم يأتِ بعد. وحتى محادثات السلام نفسها منقسمة: الإماراتيون والمصريون يتولون رعاية بعضها في القاهرة، بينما يعقد السعوديون محادثات أخرى في جدة، بينما قرّر البريطانيون عقد جولة جديدة في لندن. وفي كل ذلك، ليس من الواضح مَن يتحدث مع مَن، وعن ماذا. جاءت أكثر المحاولات جدية للتوسط من أجل اتفاق سلام من "الاتحاد الإفريقي" في كانون الثاني (يناير) 2024 مع إنشاء "اللجنة رفيعة المستوى من أجل السودان". ويترأس اللجنة الدكتور محمد بن شمباس، وهو دبلوماسي غاني كان الممثل الخاص المشترك للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور ورئيس العملية المختلطة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) من العام 2012 إلى العام 2014. وهو يعرف كِلا الجنرالين ويدرك مدى تعقيد الوضع في السودان. أما العضوان الآخران في اللجنة فهما الدكتورة سبيسيوزا وانديرا-كازيبي، نائبة رئيس أوغندا السابقة، والسفير فرانسيسكو ماديرا من موزمبيق، الذي كان ممثلاً خاصًا للاتحاد الإفريقي في الصومال ورئيس بعثة الاتحاد الإفريقي هناك. تعمل "اللجنة رفيعة المستوى من أجل السودان" بالتعاون مع "الهيئة الحكومية للتنمية" (إيغاد) -وهي الهيئة الإقليمية لشرق إفريقيا- لإقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة الحوار للتوصل أولاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وبعد ذلك إلى اتفاق شامل. وقد التقت اللجنة بمجموعة واسعة من الشخصيات من مختلف أطياف الطيف السياسي في البلاد، بما في ذلك أعضاء من الأحزاب السياسية، والمؤسسة العسكرية، ومنظمات المجتمع المدني. وكان العديد منهم من الموقعين على "اتفاقية جوبا للسلام" في العام 2020، التي شملت أيضًا فصائل مسلحة من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. لكن المفاوضين يواجهون مشكلة في أوساط المكونات المدنية. في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، شكّل رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك، ائتلاف "تقدُّم"، الذي جلب أصواتًا مدنية إلى طاولة المفاوضات. لكنّ الخلافات والانقسامات سرعان ما بدأت في الظهور على مدار العامين الماضيين بسبب الولاءات لأحد طرفي الصراع، ما أدى إلى حل الائتلاف في شباط (فبراير) 2025. عندئذٍ، شكّل حمدوك مجموعة جديدة باسم "صمود"، تهدف إلى الحفاظ على مسافة متساوية من كلا الطرفين. وفي آذار (مارس)، شكّل الهادي إدريس، عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق، ائتلاف "تأسيس السودان"، الذي رشّح محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، لقيادته. وبذلك، انقسمت حتى المجموعات المدنية على أسس قسمة الحرب الأهلية. في العام الماضي، كنتُ قد تحدثتُ مع حمدوك، الذي بدا عليه الإرهاق من طول أمد الحرب وعبثية المفاوضات. وعلى الرغم من دبلوماسيته الهادئة، كان حمدوك يعتقد أن الحروب يمكن أن تُنهك الجيوش وتُجبرها على التفاوض. وهو يعرف التاريخ جيدًا: نال السودان استقلاله من بريطانيا ومصر في العام 1956، لكنه سرعان ما دخل في حربه الأهلية الأولى بين الشمال والجنوب، والتي انتهت بـ"اتفاقية أديس أبابا" في العام 1972؛ وأصبحت تلك العشرية السلمية التي تلتها، والتي غذّتها عائدات النفط من الجنوب، ذكرى بعيدة. ثم اندلعت الحرب الأهلية الثانية بين الشمال والجنوب من العام 1983 إلى العام 2005، وأسفرت عن الاستفتاء الذي أُجري في العام 2011 وأدى إلى تقسيم البلاد إلى السودان وجنوب السودان. وأخيرًا، اندلع صراع دموي في دارفور في العام 2003 واستمر ببطء حتى وصوله إلى نهاية في العام 2010، وكان من العوامل التي أسهمت في الإطاحة بعمر البشير في العام 2019. في ذلك الوقت، كان الشعار ضد البشير هو "تسقط بس". وقد سقط. لكن الأرض ما تزال تهتز. لم يعرف شعب السودان طعم السلام منذ أجيال. ويبقى أمل حمدوك ضد مجرى التاريخ، لكنه من أجل المستقبل. *فيجاي براشاد Vijay Prashad: مؤرخ ومحرر وصحفي هندي. يعمل زميلا في الكتابة وكبير المراسلين في "غلوبتروتر"، ومحررًا في دار "ليفت وورد" للنشر، ومديرًا لمعهد ثلاثي القارات للأبحاث الاجتماعية. وهو أيضًا زميل غير مقيم كبير في "معهد تشونغيانغ للدراسات المالية" بجامعة رينمين في الصين. ألّف أكثر من 20 كتابًا، منها: "الأمم الأشد ظلمة والأمم الأشد فقرًا". من أحدث كتبه: "النضال يجعلنا بشرًا: دروس من الحركات من أجل الاشتراكية"، وكتاب "الانسحاب: العراق، ليبيا، أفغانستان وهشاشة القوة الأميركية"، بالاشتراك مع نعوم تشومسكي. *نشر هذا المقال تحت عنوان: Sudan & the Language of Blood