logo
#

أحدث الأخبار مع #فينسنت_كوخ

عند بوابة الخلود
عند بوابة الخلود

الجزيرة

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الجزيرة

عند بوابة الخلود

يعدّ فيلم "عند بوابة الخلود" للمخرج "جوليان شنابل" الذي يحكي سيرة الفنان العالميّ "فينسنت كوخ" من أروع ما يمكن مشاهدته!. تكمن روعته في بصمات المخرج الواضحة، والذي جزمت أنّه هو نفسه مؤلّف الفيلم، حتى قبل أن أتأكّد من ذلك عن طريق محرّك البحث، وهو ما كان فعلًا. تتبدى لمسات المخرج، ووضوح تشرّبه لفنّ وسيكولوجيا "فان كوخ" ودوافعه النفسيّة على السواء، من خلال كادرات الفيلم، وحركة الممثلين، وزوايا الضوء المبهرة المستخدمة في التصوير؛ كما يتبدى علمه الدقيق بخفايا لوحاته وضربات فرشته، ولا سيما هوسه باللونين: الأزرق والأصفر، وظلال الشمس والخطوط والمساحات المفتوحة. مأخذي الوحيد على الفيلم هو عمر الممثل "وليام دافو"، الذي جسد شخصية الفنان، حيث بدا كبيرًا.. "فان كوخ" مات في ريعان شبابه، في السابعة والثلاثين من عمره، قبل أن يحصد أدنى أثر مادي أو معنوي معقول جراء عبقريته الاستثنائيّة. هذا الفيلم؛ لا يقلّ فرادة ولا عبقرية عن الفيلم البريطاني البولندي "فينسنت المحب"، للمخرجين: "دوروتا كوبيلا"، وهيوويلشمان"، الذي يعد هو الآخر تحفة فنية سينمائية لا تقل إبداعًا عن لوحات "كوخ" ذاته، كما يعد أول فيلم يصور بتقنية اللوحات التشكيلية، وبنفس طريقة رسوماته وأدواته وآلياته، ما يتطلب عمل أكثر من مئة وخمسين فنانًا لمدة خمس سنوات كاملة، من أجل استكمال المشاهد السينمائية في المزج ما بين الفنَّين: التشكيلي والسينمائي، ما يعكس أيضًا فرادة طاقم العمل والمخرج، وتمكّنه من أدواته الفنية والثقافية على السواء، وهو أمر يدعو لرثاء حال الواقع السينمائي العربي المتكلّس، والفقير إلى كوادر على ذات المستوى. ثنائية الجنون والعبقرية في فيلم "عند بوابة الخلود"، يطرح المخرج والمؤلف في تضاعيف الفيلم ثنائية الجنون والعبقرية، المتماسة في أحيان كثيرة مع البؤس المادي، المصير الذي وقع فيه غالبًا منتسبو ورواد الفن التشكيلي، بينما نجا منه فنانون آخرون، مثل "سلفادور دالي" "وبابلو بيكاسو" اللذين شهدا نجاحهما – سواء المادي أو المعنوي- في حياتيهما. ومهما قلنا عن زهد الفنان والمبدع في آثارهما فذلك يخالف الحقيقة، فالتحقق المادي والمعنوي مهم ولا شك؛ فجزء من تأكيد نجاح الفرد يتحقق عبر كينونته في محيطه الاجتماعي، وكل توتر في فضاء هذه العلاقة يؤدي إلى خلل نفسي، سواء أكان شديدًا أم يسيرًا. في مثل هذه الحالات يتمترس المبدع حول خيار هجاء المجتمع، ناعتًا إياه بقيم التخلف واللافهم والرجعية، أو الانسحاب واللامبالاة وعدم العبء بالأنساق الاجتماعية السائدة. لذلك؛ فإن من أقسى مشاهد الفيلم المرتبطة بهذا السياق مشهدَ رجل الدين الذي أتى إليه في مصحّه النفسي لتقييم حالته، وبدلًا من تقييمه لحالته النفسية قيّمه فنيًّا! في هدر مزر لقيمته كفنان، أمسك بلوحة "الغربان في حقل القمح" في مواجهته: "هذا ليس رسمًا يا بني، أنت متوهم"! وتلك هي اللوحة الموجودة الآن في متحف "فان كوخ" بأمستردام، والتي يقدر سعرها حاليًا بعشرات الملايين من الدولارات. ربما كان القصد الذي أراده المخرج من هذا المشهد هو إظهار الثأر المبطن للمؤسسات الدينية، التي انتسب إليها "فينسنت" لفترة طويلة، حيث كان يعد نفسه لكي يصبح واعظًا منخرطًا ضمن المشهد الأكليركي، وذلك قبل أن ينقلب على هذه المؤسسات انقلابًا حادًا وهو في السابعة والعشرين من عمره، ويتّجه إلى دراسة وممارسة الفن، أي إن هذه العظمة والغزارة الفنية عمرها فقط عشر سنوات، ما يعد معجزة فنية حقيقية. لهذا، يرجح البعض من المحللين النفسيين أن مرد أزماته هو هذا الهدر لقيمته كفنان، سواء مجتمعيًا -وهذا الذي بلغ بسكان إحدى القرى النائية التي نزل بها في فرنسا أن وُقِّعت عريضة جماعية تطالب السلطات باعتقاله صحيًا- أو فنيًا؛ فالدوائر الفنية المهمة في باريس لم تنتبه للوحاته أول الأمر، رغم اندراجه فنيًا كانطباعي، بينما كان أخوه "ثيو" -الذي كان له دور مهم جدًا في حياته- هو من يدعمه فنيًا وماليًا، ومع ذلك فشل في تسويق لوحاته (في حياته، بيعت لوحة واحدة فقط من لوحاته التي بلغ عددها ألفًا وخمسمئة). ليلة النجوم تكشف الرسائل المتبادلة بينه وبين أخيه -والتي نشرت فيما بعد- جانبًا من هذا الصراع؛ كما توضح أن علاقاته الاجتماعية لم تتعدّ أخاه وأسرته، وتكشف أيضًا فشله في إقامة أي علاقة اجتماعية ناجحة خارج هذا الإطار، سواء عاطفية أو حتى صداقة حقيقية من الوسط التشكيلي. أما علاقته ببول جوجان، فلم تكن سوى صداقة مدفوعة الأجر من قِبل أخيه، توّجها بقطع جزء من أذنه حزنًا لرحيل "جوجان" لعدم تأقلمه مع طباعه، ورغم عدم انقطاع الرسائل بينهما فإنهما لم يلتقيا أبدًا بعد ذلك. هذا الفشل الاجتماعي فاقم من حدة الأزمة الضاغطة على وعيه، وعلى اللاوعي لديه؛ فجابه هذه الحالة من التنكر باللامبالاة العميقة، والنقمة على محيطه، لكن بطريقته الخاصة.. العمل الدائم بلا كلل ولا ملل ودون انتظار أثر، على عكس كثير من المبدعين؛ لذا بلغت لوحاته وإسكتشاته في السنوات الخمس الأخيرة من عمره ثمانمئة لوحة، وهو رقم هائل يدل على مدى جديته وتفانيه. من بين اللوحات الأخيرة لوحةُ "ليلة النجوم"؛ وهي الأعلى سعرًا بين لوحاته، والمستقرة الآن بمتحف الفنون الحديثة بنيويورك، والتي تجلت فيها عظمة ضربات فرشته، واستخدامه للأزرق والأبيض والأصفر المتداخل، رغم أنها رُسمت بشكل تام نهارًا؛ إذ أنجزها في محطته الأخيرة داخل المصحة النفسية بفرنسا، حيث لم يكن مسموحًا له بالخروج ليلًا. وقد أثارت هذه اللوحة سيلًا من التأويلات، لعل أكثرها غرابة هو أنها إسكتش كامل لمجرة الزوبعة، أو لنجم "وحيد القرن" المكتشف في العام ألفين وأربعة. موت كوخ بعد إبداعه لها بأشهر قليلة، وفي الثامن والعشرين من يوليو/ تموز عام 1890، أطلق الرصاص على صدره، ولم يمت من فوره، إذ مات في اليوم التالي رفقة أخيه، وهما اللذان لم يفترقا أبدًا، فقد مات "ثيو" بعده بستة أشهر فقط، متأثرًا بمرض الزهري. ولا يزال قبر كوخ موجودًا بباريس، تنبت عليه الأعشاب التي طالما أحبها في حياته. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store