
عند بوابة الخلود
يعدّ فيلم "عند بوابة الخلود" للمخرج "جوليان شنابل" الذي يحكي سيرة الفنان العالميّ "فينسنت كوخ" من أروع ما يمكن مشاهدته!. تكمن روعته في بصمات المخرج الواضحة، والذي جزمت أنّه هو نفسه مؤلّف الفيلم، حتى قبل أن أتأكّد من ذلك عن طريق محرّك البحث، وهو ما كان فعلًا.
تتبدى لمسات المخرج، ووضوح تشرّبه لفنّ وسيكولوجيا "فان كوخ" ودوافعه النفسيّة على السواء، من خلال كادرات الفيلم، وحركة الممثلين، وزوايا الضوء المبهرة المستخدمة في التصوير؛ كما يتبدى علمه الدقيق بخفايا لوحاته وضربات فرشته، ولا سيما هوسه باللونين: الأزرق والأصفر، وظلال الشمس والخطوط والمساحات المفتوحة.
مأخذي الوحيد على الفيلم هو عمر الممثل "وليام دافو"، الذي جسد شخصية الفنان، حيث بدا كبيرًا.. "فان كوخ" مات في ريعان شبابه، في السابعة والثلاثين من عمره، قبل أن يحصد أدنى أثر مادي أو معنوي معقول جراء عبقريته الاستثنائيّة.
هذا الفيلم؛ لا يقلّ فرادة ولا عبقرية عن الفيلم البريطاني البولندي "فينسنت المحب"، للمخرجين: "دوروتا كوبيلا"، وهيوويلشمان"، الذي يعد هو الآخر تحفة فنية سينمائية لا تقل إبداعًا عن لوحات "كوخ" ذاته، كما يعد أول فيلم يصور بتقنية اللوحات التشكيلية، وبنفس طريقة رسوماته وأدواته وآلياته، ما يتطلب عمل أكثر من مئة وخمسين فنانًا لمدة خمس سنوات كاملة، من أجل استكمال المشاهد السينمائية في المزج ما بين الفنَّين: التشكيلي والسينمائي، ما يعكس أيضًا فرادة طاقم العمل والمخرج، وتمكّنه من أدواته الفنية والثقافية على السواء، وهو أمر يدعو لرثاء حال الواقع السينمائي العربي المتكلّس، والفقير إلى كوادر على ذات المستوى.
ثنائية الجنون والعبقرية
في فيلم "عند بوابة الخلود"، يطرح المخرج والمؤلف في تضاعيف الفيلم ثنائية الجنون والعبقرية، المتماسة في أحيان كثيرة مع البؤس المادي، المصير الذي وقع فيه غالبًا منتسبو ورواد الفن التشكيلي، بينما نجا منه فنانون آخرون، مثل "سلفادور دالي" "وبابلو بيكاسو" اللذين شهدا نجاحهما – سواء المادي أو المعنوي- في حياتيهما.
ومهما قلنا عن زهد الفنان والمبدع في آثارهما فذلك يخالف الحقيقة، فالتحقق المادي والمعنوي مهم ولا شك؛ فجزء من تأكيد نجاح الفرد يتحقق عبر كينونته في محيطه الاجتماعي، وكل توتر في فضاء هذه العلاقة يؤدي إلى خلل نفسي، سواء أكان شديدًا أم يسيرًا.
في مثل هذه الحالات يتمترس المبدع حول خيار هجاء المجتمع، ناعتًا إياه بقيم التخلف واللافهم والرجعية، أو الانسحاب واللامبالاة وعدم العبء بالأنساق الاجتماعية السائدة.
لذلك؛ فإن من أقسى مشاهد الفيلم المرتبطة بهذا السياق مشهدَ رجل الدين الذي أتى إليه في مصحّه النفسي لتقييم حالته، وبدلًا من تقييمه لحالته النفسية قيّمه فنيًّا! في هدر مزر لقيمته كفنان، أمسك بلوحة "الغربان في حقل القمح" في مواجهته: "هذا ليس رسمًا يا بني، أنت متوهم"! وتلك هي اللوحة الموجودة الآن في متحف "فان كوخ" بأمستردام، والتي يقدر سعرها حاليًا بعشرات الملايين من الدولارات.
ربما كان القصد الذي أراده المخرج من هذا المشهد هو إظهار الثأر المبطن للمؤسسات الدينية، التي انتسب إليها "فينسنت" لفترة طويلة، حيث كان يعد نفسه لكي يصبح واعظًا منخرطًا ضمن المشهد الأكليركي، وذلك قبل أن ينقلب على هذه المؤسسات انقلابًا حادًا وهو في السابعة والعشرين من عمره، ويتّجه إلى دراسة وممارسة الفن، أي إن هذه العظمة والغزارة الفنية عمرها فقط عشر سنوات، ما يعد معجزة فنية حقيقية.
لهذا، يرجح البعض من المحللين النفسيين أن مرد أزماته هو هذا الهدر لقيمته كفنان، سواء مجتمعيًا -وهذا الذي بلغ بسكان إحدى القرى النائية التي نزل بها في فرنسا أن وُقِّعت عريضة جماعية تطالب السلطات باعتقاله صحيًا- أو فنيًا؛ فالدوائر الفنية المهمة في باريس لم تنتبه للوحاته أول الأمر، رغم اندراجه فنيًا كانطباعي، بينما كان أخوه "ثيو" -الذي كان له دور مهم جدًا في حياته- هو من يدعمه فنيًا وماليًا، ومع ذلك فشل في تسويق لوحاته (في حياته، بيعت لوحة واحدة فقط من لوحاته التي بلغ عددها ألفًا وخمسمئة).
ليلة النجوم
تكشف الرسائل المتبادلة بينه وبين أخيه -والتي نشرت فيما بعد- جانبًا من هذا الصراع؛ كما توضح أن علاقاته الاجتماعية لم تتعدّ أخاه وأسرته، وتكشف أيضًا فشله في إقامة أي علاقة اجتماعية ناجحة خارج هذا الإطار، سواء عاطفية أو حتى صداقة حقيقية من الوسط التشكيلي.
أما علاقته ببول جوجان، فلم تكن سوى صداقة مدفوعة الأجر من قِبل أخيه، توّجها بقطع جزء من أذنه حزنًا لرحيل "جوجان" لعدم تأقلمه مع طباعه، ورغم عدم انقطاع الرسائل بينهما فإنهما لم يلتقيا أبدًا بعد ذلك.
هذا الفشل الاجتماعي فاقم من حدة الأزمة الضاغطة على وعيه، وعلى اللاوعي لديه؛ فجابه هذه الحالة من التنكر باللامبالاة العميقة، والنقمة على محيطه، لكن بطريقته الخاصة.. العمل الدائم بلا كلل ولا ملل ودون انتظار أثر، على عكس كثير من المبدعين؛ لذا بلغت لوحاته وإسكتشاته في السنوات الخمس الأخيرة من عمره ثمانمئة لوحة، وهو رقم هائل يدل على مدى جديته وتفانيه.
من بين اللوحات الأخيرة لوحةُ "ليلة النجوم"؛ وهي الأعلى سعرًا بين لوحاته، والمستقرة الآن بمتحف الفنون الحديثة بنيويورك، والتي تجلت فيها عظمة ضربات فرشته، واستخدامه للأزرق والأبيض والأصفر المتداخل، رغم أنها رُسمت بشكل تام نهارًا؛ إذ أنجزها في محطته الأخيرة داخل المصحة النفسية بفرنسا، حيث لم يكن مسموحًا له بالخروج ليلًا.
وقد أثارت هذه اللوحة سيلًا من التأويلات، لعل أكثرها غرابة هو أنها إسكتش كامل لمجرة الزوبعة، أو لنجم "وحيد القرن" المكتشف في العام ألفين وأربعة.
موت كوخ
بعد إبداعه لها بأشهر قليلة، وفي الثامن والعشرين من يوليو/ تموز عام 1890، أطلق الرصاص على صدره، ولم يمت من فوره، إذ مات في اليوم التالي رفقة أخيه، وهما اللذان لم يفترقا أبدًا، فقد مات "ثيو" بعده بستة أشهر فقط، متأثرًا بمرض الزهري.
ولا يزال قبر كوخ موجودًا بباريس، تنبت عليه الأعشاب التي طالما أحبها في حياته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
أفلام صيف 2025.. منافسة ساخنة بين توم كروز وبراد بيت وسوبرمان قادم بقوة
يُعد موسم الصيف السينمائي هو الأكثر انتظارا كل عام، ففيه تتسابق الأفلام ذات الميزانيات الضخمة على تسلية المتفرجين والاستحواذ على لقب "الأعلى في شباك التذاكر العالمي". ويسود هذا الصيف منافسة ساخنة جدا بين نجوم كبار، بالإضافة إلى عودة سوبرمان مرة أخرى للشاشة الكبيرة، وأجزاء جديدة من سلاسل ناجحة جدا. ليحتار المتفرج فيما يختار ليشاهد، غير أننا نقدّم له هذه القائمة المحددة بالتواريخ لنسهل عليه هذه الاختيارات الصعبة. المهمة المستحيلة: الحساب الأخير – 23 مايو/أيار يبدأ هذا الموسم الصيفي بفيلم النجم توم كروز "المهمة المستحيلة: الحساب الأخير" (Mission: Impossible – The Final Reckoning)، الجزء الثامن من سلسلة "المهمة المستحيلة". السلسلة التي بدأت قبل حوالي 30 عامًا تقريبًا، وتحديدًا عام 1996. يعد هذا الفيلم تكملةً لفيلم "مهمة مستحيلة: الحساب الميت" (Mission: Impossible – Dead Reckoning Part One)، الصادر عام 2023. يُعيد توم كروز، وهايلي أتويل، وسيمون بيغ أدوارهم من الأفلام السابقة، وتدور أحداث الفيلم بعد مرور شهرين على الاشتباك في قطار الشرق السريع، حيث يسافر إيثان هانت (توم كروز) إلى لندن على أمل تتبّع أثر يقوده إلى مفتاح الكيان. وفي لندن، تُقام مظاهرة كبيرة ضد الكيان، بسبب مستقبل الذكاء الاصطناعي وانقلابه على البشرية، يدور الفيلم حول الهلع من الذكاء الاصطناعي، خاصة عندما يتحكم فيه أشرار يسعون للسيطرة على العالم. تتميز سلسلة "المهمة المستحيلة" بمشاهد أكشن مصورة بأفضل التقنيات، مع اهتمام شديد بالواقعية وتقليل استخدام المؤثرات البصرية إلى الحد الأدنى، مما يمنح السلسلة هويتها الخاصة ويجعل المتفرجين يتابعونها فيلمًا بعد آخر. "إف 1" – 25 يونيو/حزيران "إف1" (F1) هو إسهام النجم براد بيت في هذا الموسم الحار. وهو فيلم درامي رياضي، من إخراج جوزيف كوسينسكي وسيناريو كتبه إيرين كروغر، ويستعرض بطولة العالم للفورمولا 1. وقد أُنتج بالتعاون مع الاتحاد الدولي للسيارات (FIA)، الهيئة المنظمة لهذه الرياضة. تدور أحداث الفيلم حول سوني هايز (براد بيت)، سائق فورمولا 1 في التسعينيات من القرن الماضي، الذي تعرض لحادث مروّع أجبره على الاعتزال من سباقات الفورمولا 1، والاتجاه إلى التسابق في فئات أخرى. لكن حياته تتغير عندما يتواصل معه روبن (خافيير باراديم)، مالك فريق في سباق فورمولا 1 وصديق البطل، ويطلب منه الخروج من التقاعد لتدريب الموهبة الصاعدة نواه (دامسون إدريس) من فريق غراند بريكس أبيكس (APXGP). تحظى الأفلام الرياضية، خصوصا في مجال سباقات السيارات، بشعبية كبيرة لأسباب متعددة، منها تصوير مشاهد السباقات، بالإضافة إلى البعد الدرامي والعاطفي. غير أن ما يضفي على "إف1" أهميته الخاصة وجود براد بيت، الذي لا يزال نجمًا ذا شعبية كبيرة. "ميغان 2.0" – 27 يونيو/حزيران حقق فيلم "ميغان" (M3GAN) نجاحا غير متوقع عند عرضه عام 2022، حيث بلغت إيراداته 181 مليون دولار مقابل ميزانية قدرها 12 مليون دولار فقط، الأمر الذي أدى إلى إصدار جزء ثانٍ منه، من المنتظر عرضه هذا الصيف. "ميغان 2.0" (M3GAN 2.0) هو فيلم خيال علمي ورعب من إخراج جيرارد جونستون، ويشهد عودة أليسون ويليامز، وفايوليت ماكغرو، وآيمي دونالد، وجينا ديفيس إلى البطولة. تدور أحداث الفيلم بعد عامين من أحداث فيلم "ميغان"، حيث أصبحت جيما (أليسون ويليامز) مؤلفة ومدافعة عن تنظيم الذكاء الاصطناعي، وقامت بحبس نسخة لا تزال نشطة من ميغان داخل دمية صغيرة غير مؤذية. ومع ذلك، تم سرقة تكنولوجيا ميغان، واستُخدمت في تطوير روبوت عسكري يدعى "أميليا"، أصبح واعيًا بذاته، وتمرّد على صانعيه، ويحاول تنفيذ سيطرة شاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي. يتناول الفيلم من جديد فكرة الهلع من الذكاء الاصطناعي، لكنه يراهن على فضول المتفرجين لمشاهدة جزء جديد من بطلتهم الدمية المرعبة والمفضلة. عالم الديناصورات: إحياء – 2 يوليو/تموز محبّو سلسلة "حديقة الديناصورات" السينمائية، التي بدأت عام 1993، سيسعدون بعرض أحدث أفلامها بعنوان "عالم الديناصورات: إحياء" (Jurassic World: Rebirth)، وهو الفيلم الرابع من سلسلة "عالم الديناصورات" (Jurassic World) والسابع ضمن سلسلة "حديقة الديناصورات" (Jurassic Park) بشكل عام. سيضم الفيلم طاقمًا تمثيليًا جديدًا بقيادة سكارليت جوهانسون، ماهرشالا علي، وجوناثان بيلي. تدور أحداث الفيلم بعد 5 سنوات من أحداث فيلم "عالم الديناصورات: السيادة" (Jurassic World Dominion)، عندما أصبح مناخ الأرض غير صالح لحياة الديناصورات، وتعيش الكائنات الناجية في مناطق استوائية نائية، تشبه إلى حد كبير البيئات التي ازدهرت فيها في الماضي. يتم تجنيد زورا بينيت (سكارليت جوهانسون)، كعميلة سرية من قِبل شركة أدوية للمشاركة في مهمة سرية جدًا مع عالم الأحافير الدكتور هنري لوميس. يُكمل الفيلم قصص الديناصورات من خلال طاقم مختلف، وقد أثبتت أفلام السلسلة السابقة أن الجمهور لا يتابعها بناءً على الممثلين من فيلم لآخر، بل بفضل المؤثرات البصرية التي تعيد إحياء الديناصورات على الشاشة مرة أخرى. سوبرمان – 11 يوليو/تموز يشهد هذا الصيف إعادة إطلاق سلسلة أفلام دي سي (DC) للأبطال الخارقين، وذلك باستخدام ممثلين جدد بعدما وضعت أستديوهات وارنر براذرز (Warner Bros) السلسلة القديمة خلف ظهرها نتيجة إخفاقاتها المتعددة، سواء نقديًا أو في شباك التذاكر. يستعرض الفيلم رحلة كلارك كينت /سوبرمان، في محاولة للتوفيق بين إرثه الكريبتوني وعائلته البشرية التي تبنته في مدينة سمولفيل بولاية كانساس، ويُقدم دور سوبرمان للمرة الأولى هنا الممثل الشاب ديفيد كورينسويت. الفيلم من إخراج جيمس غن، أحد أهم المخرجين الذين تعاونوا مع أفلام مارفل، حيث أخرج ثلاثية "حراس المجرة " (Guardians of the Galaxy)، بالإضافة إلى فيلمه الوحيد مع سلسلة دي سي القديمة بعنوان "الفرقة الانتحارية" (The Suicide Squad)، الذي حقق نجاحًا على عكس الجزء الأول الذي لم يكن من إخراجه. يشتهر جيمس غن بأسلوبه المميز في تقديم مشاهد الأكشن، التي تجمع بين الرشاقة والعنف والفكاهة، كما يُعرف باستخدامه للأغاني والموسيقى الشعبية كخلفية لهذه المشاهد. وتُعد عودة سوبرمان على يده بشرى سارة للكثير من المشاهدين.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
حين يُغني الانتشار عن الاعتبار
كنت أريد توثيق هذه الخواطر من خلال مقطع مصور، وما زلت، ولا ضير أن أقيدها بالكلمات والحروف، علني أُحقق بذلك غايتين؛ فالنفس تميل إلى الكتابة، والسائد في عالم اليوم لغة المقاطع المصورة (الفيديو)، بمختلف أشكالها وطرقها وسرعاتها كذلك. وكي لا أنجرف في الحديث عن سطوة هذه المقاطع السريعة، التي نستهلكها حتى الثمالة، أريد التنبيه إلى أمرٍ بالغ الأهمية؛ ففي حديثي هذا لا أقصد أحدًا بعينه، ولا أستهدف شخصًا أو منصة أو غير ذلك، إنما هو حديث عام عن حالة استشرت في السنوات الماضية، وأردت تسليط الضوء على مثلبة تُقوّض ولا تبني، ونماذج تقلل من قدر صاحبها ولا ترفعه، وإليكم هذه القصة. شاركت مرةً في اجتماع ضمّ نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين المخضرمين، وكان من بين المواضيع تحرير لفظ "الباحث"، وبيان الشروط التي يجب أن يتحلى بها المرء قبل إطلاق اللقب عليه، خاصة مع شيوع استخدام اللفظ، ودورانه على الألسنة في السنوات الماضية. وكانت المشاركات قيمة بلا شك، ولكنني طرحت وجهة نظرٍ مختلفة قليلًا عن الأخريات، إذ إنّ تحرير المصطلح لن يعني بحال من الأحوال ضبطه، وبالمحصلة ضبط استخدامه، وتحديد على من يُطلق. فالواقع أن كثيرين ممن يتصدرون المشهد على أنهم باحثون، وخاصة في التطورات ذات الصلة بالشأن العام وقضايا المنطقة، لا تنطبق عليهم أيٌ من الشروط التي طرحها الأساتذة الكرام، بل ترى الواحد منهم (أي الباحث المتوهم) لا تكاد تجد له ورقة أو فصلًا في كتاب، أو مقالًا رصينًا، أو مشاركة دائمة مكتوبة، ثم يتصدر في وسائل الإعلام. وبكل تأكيد، فإن هذه الجزئية وما يتصل بها بحاجة إلى مزيد من البحث والإيضاح، ولكني في هذا الحديث أريد توسيع دائرة النظر أكثر. هذا المثال الذي حاولت البدء به جزء من مشكلة مستشرية، متعلقة بالقفز على التخصصات، وتصدّر الحديث في كثير من القضايا والعلوم، من باب الاهتمام، ومن ثَم سعة الاطلاع، من دون أي التفاتة إلى أهمية التخصص، مهما كان شكله وطريقته وآلياته، وحول هذه الأخيرة، ولأنني متخصص في التاريخ، خضت غماره منذ سنوات طويلة طالبًا جامعيًّا وقارئًا نهمًا، ثم معلمًا وواضعًا لمناهج دراسية ركزت على التاريخ الإسلامي، أزعم أنني قادرٌ على معرفة الغث من السمين في الأطروحات التي تُقدَّم، وما يتم تداوله في المنصات والبرامج. يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري ومن المفيد ها هنا الإشارة إلى أن ميدان التاريخ من الميادين التي طرق بابها كثرة من غير الدارسين في الأروقة الأكاديميّة (وهو ما سأعود إليه لاحقًا)، وبعيدًا عن تقييم ما قدموه تقييمًا دقيقًا، فإن عددًا منهم ترك بصمة واضحة، وتجاوز مرحلة التخصص الدراسي الأكاديمي المجرد من خلال سعة الاطلاع، والإصرار على المراجعات الدائمة، مع وجود ملاحظات لا يخلو منها أي عملٍ بشريّ، بسبب الخلفية الأيديولوجية، ومحاولة الدفاع المستميت عن شخصيات بعينها من التاريخ، وما سوى ذلك. أعود إلى الفكرة الأولى، وأضرب لكم حقل التاريخ مثلًا.. بطبيعة الحال، يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري، وغير ذلك من شؤون. الأول جهدٌ متراكم رصين، والثاني تقميش سريع لمادة سيتم استهلاكها سريعًا، ولا ضير بهما، ولكن الضرر عندما يطغى المنتَج المستهلَك السريع على الإنتاج المتراكم، ويتحول صانع المحتوى إلى "مؤرخ"، ويتصدر في قضايا التاريخ والحديث عن الحضارات، بل ينزاح من تخصصه "المهمّ"، لكي يقفز في تخصص آخر لا يعدو فيه أن يكون مهتمًّا أو قارئًا، وإن كان باحثًا فبها ونعمت.. ولي في ذلك قصة كذلك.. على أثر اندحار النظام المجرم في سوريا، وتحرير البلاد، بدأت منصات التواصل باقتراح مضامين ومقاطع حول سوريا واقعًا وتاريخًا وغير ذلك، ولفت نظري مرة -وكنت في طريقٍ طويل في المواصلات العامة- واحدٌ من الشخصيات الفاضلة الكريمة المحترمة، يتحدث في ديوانية عن "تاريخ سوريا"، وقد رأيت له مقاطع كثيرة يتحدث فيها عن التاريخ مع علمي أن تخصصه شيء آخر، وهو مبدعٌ به. شاهدت في القطار نحو نصف المقطع المسجل، وهالني المغالطات التي وردت في المقطع، وهي معلومات لا أحسب أي متخصصٍ في التاريخ يقع بها، بل بعضها أشبه ما يكون بالمعلومات العامة، ولم يكن الحديث إلا عن البدايات الأولى والمراحل المبكرة لجزءٍ من سوريا في التاريخ قبل الإسلام وبعده، وأذكر أنني عددت نحو 4 أو 5 أغلاطٍ فظيعة في نصف المقطع فقط، فتوقفت عن الاستماع، وكلما شاهدت مقاطع للأستاذ الفاضل (ولا أدعي أنها سيئة، ولكنني لا أستطيع منع نفسي من أخذ موقف بعد النموذج الذي استمعت إليه) أسأل نفسي عن الهدف من هذا التطفل، إن لم نقل غير ذلك. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع لا أحاكم ما يقدمه الشخص من مقطعٍ واحد، ولكن هذه النماذج متكررة كثيرًا، في التاريخ وعلم النفس والشريعة والتربية وغيرها.. لم يعد "التحصيل" معيارًا لكي يتصدر البعض للحديث، بل أصبحت قدرة الحديث بنفسها هي المدخل الذي يسمح لأيٍّ كان أن يتحدث عما يريد وكيفما أراد، وإن أضفنا على الحديث طبقة من المُعدِّين الحاذقين، والإلمام بالإنجليزية، أو دعمًا من المنص معاينة التغييرات (يُفتح في علامة تبويب جديدة) ات الكبرى، فستجد الشخص نفسه يتحدث تارة عن اليهود، وطورًا عن الحضارة، وثالثة عن التاريخ السياسي لدولة معينة، ورابعة عن كنه علم التاريخ.. ولا حاجة لتوسيع الأمثلة لئلا يُفهم من كلامي استهداف لأشخاص أقدرهم، ولكن راعني هذا الحال، وهو مما لا يليق بهم من دون شك. وهنا لا بد من الوقوف عند ملمح مهم.. التفاعل مع هؤلاء من قبل المنصات أو المتلقي لا يتم بناءً على التحصيل والتراكم المعرفي، وجدارة ما يقولونه، وإنما لامتلاكهم جمهورًا واسعًا، ونتيجة لحضورهم الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وانعكاس ذلك على مشاهدة ما يقدمونه مرئيًّا بكثافة، وهو ما أدى إلى تحويل معيار العمق والمعرفة إلى معيار الانتشار والحضور، وهذا – في تقديري- خلط خطير بين من يُعرف بعطائه العلمي، وبين من يُسلَّط عليه الضوء لأسباب تتصل بمنصات التواصل وسرعة التداول، وأحيانًا بسبب موقعه الجغرافي والبيئة التي تحيطه. ومشكلة هذا التحول أن الجمهور -مع الوقت- يربط الشهرة بالجدارة، ويتعامل مع المتصدر على أنه مرجع، لا لمحتواه بل لانتشاره، وهذه معضلة معرفية وأخلاقية تستحق التأمل والوقوف عندها طويلًا. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع، وفي الحديث عن التاريخ -مثلًا- أخاله هو وأمثاله من كبار الحفاظ أهلًا للحديث عن التاريخ، فلهم ملكات المحدث، وفوقها سعة اطلاع وفقه، ومعرفة بالأدب والأنساب واللغة وغيرها؛ ما يجعل ما يحدِّثون به الطلاب، وما يقولونه في البرامج والمنصات، دررًا لا يخفت وهجها! فاستمع له أو للعلامة الددو -حفظ الله الجميع- وستقف مذهولًا أمام هذه الحافظة المهولة، واللغة العالية من دون تكلف، وفوق ذلك الوقوف عند الحق، والرجوع عن الخطأ حال وجوده، ولا أريد أن أضرب أمثلة من الطرف المقابل، فما سبق فيه كفاية. أخيرًا، لا أشترط البتة التحصيل الأكاديمي الخالص، ففي هذا الباب أحاديث كثيرة وشجون؛ فهذا في بعض التخصصات أمرٌ دخيل وربما يكون غير أساسيّ، ولكنه في تخصصات أخرى ضرورة ملحّة. وليس لي أصلًا أن أحدّد ما يتكلم فيه الناس، وما ليس لهم حق الكلام فيه، ولكنّني أدعو إلى أن ينضبط هؤلاء فيما يُحسنونه، وألا يتطفلوا على ما لا يُحسنونه، ففي بعض الأحيان يكون حديثهم عن قضيةٍ ما، أو نقد علمٍ آخر، وبالًا على سامع لا يعي خطورة ما لديه وما يعانيه، أو على متلقٍ ليس لديه إدراك للبحث عن المعلومة الصحيحة. وأختم بتلك القصة اللطيفة التي رواها الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في أحد كتبه؛ ففيها منفعة عظيمة وعبرة: إعلان "سألني صيدلي عن حكم من أدرك الإمام راكعًا ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟ قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك ما يحلو. قال: أعرف ذلك، ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة! قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تُحسن وتترك ما تُحسن. قال: ما معنى ما تقول؟ قلت: أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين.. أو الشيوعيين فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك -للأسف- تسهم في سقوط الأمة، وتجعلها غير جديرة بالحياة. قال: إنني أبحث في حكم شرعي، ولا أشتغل باللغو. قلت: الحكم الشرعي -كما قرره أهل الذكر- بين أمرين، خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون.. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به، أما أن تؤلف رابطة عنوانها: جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة، فهذا سخف.. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى تُحشى به عقول الناس؟".


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
لحظة صعبة لعدّاء يصدم طفلا اقتحم مضمار الجري
أظهرت لقطات فيديو كيف عاش طفل صغير لحظات من الرعب بعد أن صدمه أحد العدائين بعد اقتحام الطفل المضمار خلال سباق جري في رياضة ألعاب القوى. يبدأ المقطع، الذي تبلغ مدته 7 ثوانٍ، بثلاثة رجال يركضون بأقصى سرعة نحو الكاميرا من مسافة بعيدة، في حين يقف طفل على كتلة مرتفعة بجانب المضمار. وبدا أن الطفل لم ينتبه للسباق الجاري، فقفز إلى أقرب مسار قبل أن يبدأ بالسير نحو مركز المضمار. في الأثناء انطلقت صرخات من المشجعين المذعورين وهم يرون ما سيحدث، لكن الطفل الغافِل لم يتمكن من الابتعاد عن الطريق في الوقت المناسب، فأسقطه العدّاء الذي لم يستطع إيقاف اندفاعه. كان العداء الذي اصطدم بالطفل متصدرا السباق، فقرر مواصلة الجري بدلا من الاطمئنان على الصبي. بدلا من ذلك، ركضت امرأة مذعورة بسرعة إلى المضمار بعد أن تجاوزها الرجال الثلاثة مسرعين للاطمئنان على الصبي. أعرب مستخدمو "ريديت" المصدومون عن تعاطفهم مع الطفل الذي تعرض لصدمة الاصطدام. وقال أحد المعلقين "إذا كنتَ غبيا، فعليك أن تكون قويا". وأضاف آخر "آمل أن يتذكر الطفل هذا الدرس من الحياة". إعلان وأكد ثالث "لقد تعلّم الصبي درسا قيّما في ذلك اليوم". في حين قال آخر "ربما أنقذ هذا حياته. ربما سينظر في الاتجاهين قبل عبور الطريق في المرة المقبلة". إشادة بالمتسابق في المقابل أشاد آخرون بالرياضي لعدم تأثر سباقه بالحادث. وقال أحدهم "نجا من خسارة مركزه، أمر مثير للإعجاب". وأشار مستخدم آخر إلى أنه "حاول الابتعاد عن الطريق". وأضاف "يعتقد الناس أنه مجرد سباق، لكن بالنسبة له، قد يكون ذلك فرصته للالتحاق بالجامعة أو تأمين مستقبله".