أحدث الأخبار مع #كتابة


الرياض
منذ 3 أيام
- ترفيه
- الرياض
قصة قصيرة:سايت نِت
تعارفا صدفةً في رُكنٍ من أركان الإنترنت؛ شدّتهما الكلمات قبل الصور؛ والأفكار قبل الأصوات؛ ثم التقيا على أرض الواقع في مقهى صغير؛ تحادثا؛ تناغما؛ ثم تسللا معًا نحو علاقة نبتت من شاشة؛ وأينعت في الحياة. وبعد عامين من التفاهم والودّ، اختارا أن يعلّقا هذه العلاقة على مشجب الشرع، ويوثّقاها في دفاتر كاتب العدل؛ وأدخل اسمها في دفتر عائلته؛ لا كإضافة إدارية؛ بل كعنوان لمرحلةٍ جديدة. وبعد انتهاء شهر العسل؛ لم يفكرا في الإنجاب كما يفعل الآخرون، بل في ولادة مشروعٍ رقميّ يجمعهما؛ موقع إلكتروني يحمل اسميهما؛ ملامحهما؛ وربما شغفهما المشترك. فهما لم يكونا غريبين عن هذا العالم؛ بل من أبنائه؛ يعرفان أسراره؛ ويجيدان استقطاب المتابعين كما تُجيد النار جذب الفراش. قرّرا أن يطلقا على الموقع اسم "سايت نِت"، وأن يكتبا فيه بأسمائهما الحقيقية؛ وبأسماء مستعارة أيضًا؛ فاختار لنفسه اسم "نسرين"؛ وهي اختارت اسم "مشعل"؛ ولعب كلٌّ منهما دوره بإتقان؛ وكأنهما ممثلان على مسرح يتقن كلٌّ منهما التحوّل. مرّت الأيام سريعًا، وكما تُشعل الكتابة نار الحرف، أشعلت "نسرين" نيران الغيرة في قلبها. الرجال يهرولون خلف مشاركاتها؛ يتهافتون على كلماتها؛ يصفّقون لها بحرارة؛ ويغدقون عليها الإعجاب؛ وحتى النساء تقرّبن منها؛ مراسلاتٌ لا تهدأ وأحاديث ماسنجر لا تنقطع. نسرين أو بالأصح (هو) أصبح صديقةً حميمةً للكثيرات؛ عرف عنهنّ كل شيء: الأسماء؛ السكن؛ المشكلات؛ وحتى أرقام الهواتف؛ في مجتمعٍ عربيٍّ ما زال يعاني من عقد الغياب والحرمان؛ باتت الإنترنت مسرحًا بديلًا؛ وسلوى لوقتٍ فارغ؛ ومتنفسًا للبوح والظهور. النساء فيه أكثر حضورًا من الرجال، والأضواء عليهنّ أسهل من أن تُنتزع. ووسط هذه الأضواء، خفت نور علاقتهما شيئًا فشيئًا؛ الثقة بدأت تتآكل وتستهلك بقايا عزمها؛ والشك تسلل بين ضلوعهما كدخانٍ خفي؛ وسرعان ما تحوّلت شقتهما إلى مركز استخبارات؛ تُزرع فيه العيون؛ وتُفتش فيه الأسرار. تمادى هو في توسيع علاقاته مع الجنسين: مع النساء؛ كان مدفوعًا بفضول الذكر القديم؛ ومع الرجال، كان يخفي بعض ملامحه لئلا تفضحه زوجته. وبدأت تلاحظ غيابه؛ وادعاءاته؛ وهروبه المستمر: يخرج لشراء الحليب؛ ثم يعود ناسيًا الصامولي؛ ويتكرر هذا المشهد، وتزداد الشكوك. وفي لحظة صدفة؛ رأت هاتفًا آخر في درج سيارته؛ وسألته؛ فأنكر؛ قال: لكن قلبها لم يصدّق؛ ولم يحتمل. عادت إلى بيت أهلها؛ وطلبت الطلاق؛ فلم تَعُد قادرة على أن تكون شرطيّة تلاحق لصوص الثقة، ولا زوجةً تطارد أشباح الخيانة.


الرياض
منذ 4 أيام
- ترفيه
- الرياض
فضاء معرفيذاتية الكاتب.. والتأثير النفسي
موضوع العلاقة بين علم النفس والكتابة، من الموضوعات الشيقة التي تشدني كثيراً، فهذه النوعية من الدراسات جذبت اهتمامي أثناء دراستي في الدراسات العليا، فإن العلاقة وثيقة، بحكم أن الكاتب في الدرجة الأولى يعبر عن ذاته، حيث لا يمكن الانفكاك عن الذات مهما حاول أي كاتب أن يكون حيادياً في تصويره أو رسمه لشخصيات الرواية على سبيل المثال، لكن النص الإبداعي حتى وإن لم يكن - سيرة ذاتية - أو سيرة غيرية حتى، لابد أن يختلط بالتعبير الذاتي، بوضع بصمة شخصية الكاتب في ذات النص، أو داخل كينونته، لهذا قال الكاتب الكولمبي الشهير ماركيز: «إن جميعنا كبشر عصابيون - أي لا نخلو من الأمراض النفسية العصابية - لكننا - ويقصد هنا الكتاب - نعالج أنفسنا بالكتابة» وهو تأكيد على أن النصوص الإبداعية لا تخلو من جزء من الفضفضة أو التعبير عن ذواتنا ككتاب. مهما بدوت أو حاولت أن تكون حيادياً فإن النص سوف يكشفك، سوف يعري ذاتك، إذا وجد ناقداً محترفاً، قادراً على الولوج إلى أعماق النص الذي عبره سوف يلج إلى أعماق ذاتك. وهنا يسوقنا الحديث إلى أولى فروق الكتابة الروائية، والسيناريو الدرامي أو السينمائي الذي يعتبر فرقاً جوهرياً، في كون، السيناريو يختلف عن ذلك يحرص على دراسة الشخصيات من جميع أبعادها والعمل على تقديمها على الشاشة بحيادية كاملة - قدر الإمكان - ولكون نمط كتابة السيناريو الحديث والأشهر عالمياً - حالياً - السيناريو الأمريكي الذي يعتمد على ورش الكتابة والتي سوف تساهم بدورها في تفكيك تلك الذاتية التي يمكن أن يظل داخلها الكاتب الواحد، أو الأوحد، عندما يشترك آخرون معه - من الكتابة - فيما يسمى بتطوير النص، الذي يحدث عند تدوير ذلك النص بين الكتابة، ولعلي في مقالات مقبلة أقوم بالحديث عن أبرز الفروق الجوهرية بين الكتابة الروائية وبين كتابة السيناريو.


عكاظ
منذ 5 أيام
- ترفيه
- عكاظ
مطارات الكلمات
في منتصف شهر مايو الجاري، أكملت عامًا كاملًا منذ أن بدأت رحلتي مع الكتابة الأسبوعية المتخصصة في مجال الطيران. عامٌ من التحليق بين غيوم الأفكار، ومن الهبوط اللطيف فوق السطور، عام سعيت فيه لأن يكون الطيران أكثر من وسيلة تنقل، بل عوالم تستحق أن تُروى ببساطة، وتُكتب بشغف، وتُقرأ بمحبة. قبل عام، تشرفت بالانضمام إلى «طاقم» عكاظ، الصحيفة التي لم تتنازل يومًا عن مكانتها في صدارة المشهد الصحفي السعودي. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المقالة الأسبوعية مسؤولية وعي لا مجرد كلمات تُسطّر، وصارت هذه الزاوية نافذة حرصت أن يرى الناس من خلالها عوالم الطيران بما فيها من جمال وتعقيد، وما يحيط بها من غموض وفضاءات، نافذةٌ تشرح التفاصيل، وتقدّمها بروح الكاتب الذي يعيش النص والصوت. وعلى حد علمي فإن هذه المقالة المتخصصة بالطيران، هي الوحيدة من نوعها في الصحافة الخليجية وربما العربية. أجتهدتُ دائمًا كي لا يكون محتواها تكرارًا لما هو معروف أو اجترارًا لأخبار متاحة، وسعيت أن تمضي بخطٍ مختلف، يجمع التحليل العقلاني البعيد عن المبالغات، والفكر الذي لا يتسوّل الإثارة، وحرصتُ كلّ أسبوع على اختيار الزوايا والاقتراب من الأسئلة التي لا تُطرح كثيراً، ومحاولة إضاءة الكواليس التي لا يراها الجمهور، والقضايا التي تمس جوهر الصناعة. كتبت كل مقالة بدهشة طفل يرى الطائرة لأول مرة، وبهدوء خبير طوّحته المطارات. في مقالاتي، كنت أبحث عن القصة قبل الخبر وعن الإنسان بين الأرقام؛ لأن الطيران هو دمعة مودّع، وضحكة عائد، وفي الوقت نفسه رافعة اقتصادية وبوابة استثمار، ومسرح يومي لتفاصيل تشغيلية لا تنتهي. مرّ العام وكأنه رحلة قصيرة لكنها مليئة بالتحديات. كتبت من صالات الانتظار المزدحمة ومن غرف الفنادق البعيدة، ومن مقاعد الطائرات المحلّقة، كتبت من قلب التجربة، لا من أطرافها وأنا الذي أمضيت ثلاثين عامًا في ممرات الطيران بين أصوات الطيارين وشاشات المراقبة وساحات الصحافة، وها أنا أجد نفسي كلما قرأت مقالتي في عكاظ أشعر بأنني أُقلع مع القارئ في فضاء من الكلمات، نتأمل معًا كيف يتقاطع الطيران مع الحياة. ولأن الرحلات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، سأظل وفيًا للطيران والكتابة، وللقارئ الذي يحوّل كل مقالة إلى مدرج يمتد نحو الأفق. سأواصل بمشيئة الله، بقلبي أولًا، ثم بضمير الكاتب الذي يؤمن أن الكلمات الصادقة قادرة على التحليق. سأكتب ما دامت في السماء سحابة، وعلى الأرض مطار، وفي القلب حنين لا يخبو لرحلة مقبلة. أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 أيام
- ترفيه
- الجزيرة
حين رأيت الطفل الذي كنته.. ولم أعد أهرب منه
كان ذلك في المساء، المساء الذي لا يشبه غيره، حيث لا ضجيج خلف الأبواب، ولا أصوات تأمرني بأن أكون "على ما يرام". جلست على الأرض، لا على الكرسي ولا على الأريكة، بل على البلاط البارد كما كنت أفعل ذات طفولة بعيدة، وأغمضتُ عيني، ثم رأيته.. لم يأتِ من باب، ولا خرج من جدار، بل حضر كأنه لم يغب، كأنني أنا الغائب وهو المنتظر، كان يلبس قميصًا قديمًا، لونُه باهت من كثرة اللعب، وكان حافيًا، كان يشبهني.. أكثر منّي الآن. لم أنظر إليه كغريب، بل شعرت كما لو كنت أمام مرآة لا تُظهر التجاعيد ولا الحذر، ولا الطبقات التي راكمتها عبر السنوات كي أحمي نفسي من الانكسارات. قال لي بصوت لم أسمعه بل شعرت به: "أخيرًا جئت"! ولم أستطع أن أنكر. كل الأعذار بدت لي سخيفة، أمام حضوره شعرتُ بأنني أتعرّى داخليًّا، كما لو أنني أخلع كل ما علّقوه فوقي: الواجب، والقوة، والعقلانية، والنجاح، والهيبة.. كل تلك الأثقال التي لم تكن يومًا من اختياري. تذكرت عندها ما قاله جيمس هيلمان: "أعمق جزء فينا لم يكبر أبدًا". وهذا الجزء.. كان يجلس أمامي الآن، حيًّا، وهادئًا، ولا يُطالبني بشيء، سوى أن لا أخونه مرّة أخرى. سألني دون أن يُحرك فمه: "هل ما زلتَ تكتب؟" قلت: "أكتب كثيرًا". قال: "لكن ليس لي".. كان صادقًا. لم أكتب له منذ سنوات، نسيت رسائله التي خطّها في دفاتري بالرصاص، ونسيت حتى نبرة صوته حين كان يقول لي: "اكتُب لأنك تحب، لا لأنك تخاف أن تُنسى". ثم جلس قربي، لا ليعاتبني، بل ليرى إن كنت أستطيع البكاء مثله. وهنا خفت.. خفت أن يسألني لماذا لم أصرخ حين جُرحت أول مرة؟ لماذا تعلمت أن أُطفئ غضبي بالشاي والابتسامة المصطنعة؟ لماذا ابتلعت الخذلان كأنه قهوة الصباح؟ قلت له بصوت مكسور: "كنت أظن أنّ هذا هو النضج." لكنني كبِرت.. وضعت المسافة بيني وبين نفسي، وأخفيت عن العالم الطفل الذي كان يرى كل شيء بلغة القلب ضحك كما يضحك الأطفال حين يسمعون كذبة لا تُقنعهم.. تذكرت عندها عبارة جون برادشو: "نقضي النصف الأول من حياتنا نحاول أن نصبح كبارًا، ثم نقضي النصف الآخر نحاول أن نعود إلى ما فقدناه". وكنت -بكل صدق- أريد العودة إليه! ولأول مرة، لم أشعر بالخجل من ذلك. قال لي وهو يرسم دوائر صغيرة بأصبعه: "لم أكن أريد أن أكون طبيبًا أو مهندسًا كما قالوا لي، كنت فقط أريد أن أبني بيتًا من الرمل.. ولا يهدمه أحد." شهقت بصمت.. كم حلمًا هدمته بيدي، لأرضي الذين قالوا لي: "هذا لا يليق بك"، "هذا ليس جديًّا"، "هذا ليس واقعيًّا"؟. كنت قد هجرت حتى ذلك الصوت الصغير الذي كان يقول لي في الليالي: "لا تخف، أنت كافٍ كما أنت." تذكرت حينًا كنت أتكلم فيه مع الطيور دون أن أنتظر منها ردًّا، وأنني كنت أكتب رسائل إلى آخرين وأضعها تحت وسادتي، وأنني كنت أقول "أحبك" لأشخاص لا يعرفون كم كانت الكلمة صادقة. لكنني كبِرت.. وضعت المسافة بيني وبين نفسي، وأخفيت عن العالم الطفل الذي كان يرى كل شيء بلغة القلب. وقد قالت أليس ميلر: "الطفل في داخلك لا يطالبك بالعودة إلى الطفولة، بل بأن تكون صادقًا معه." الآن.. لا أهرب منه، بل أفسح له مكانًا في كل لحظة، أجعله يختار الموسيقا، والألوان، والعناوين.. أدعوه ليقرأ لي قبل أن أنام، وأصدّق دموعه قبل أن أصدّق التحليلات النفسية ولأول مرة منذ سنين، شعرت أنني أستطيع أن أكون صادقًا معه.. سألني إن كنت ما زلت أحب البسكويت بالكاكاو. قلت: "لم أذقه منذ عشر سنوات". قال: "إذن، لا تتعجب من مزاجك السيئ"، وضحك. إعلان حين ضحك، انفتحت في داخلي نافذة نسيتها، كأن قلبًا ما كان مغلقًا عليّ، كأنني كنت أعيش بنصف تنفّس. منذ تلك الليلة، تغيّر شيء عميق في داخلي.. صرت أقول له كل مساء: "تصبح على خير." أشتري دفاتر ملوّنة لأكتب فيها، لا لأحسّن خطي، بل لأرتب روحي، أرتدي الألوان التي تُضحكه، لا التي تُرضي أعينهم.. أصبحتُ أركض أحيانًا بلا سبب، وأبكي دون أن أشرح لماذا، وأسمح للطفل في داخلي أن يُمسك بيدي حين تُظلم الطرق. وكما قال هنري نوفن: "ليس علينا أن نقتل الطفل فينا لنكون كبارًا، بل أن نحميه.. ونمنحه صوتًا." والآن.. لا أهرب منه، بل أفسح له مكانًا في كل لحظة، أجعله يختار الموسيقا، والألوان، والعناوين.. أدعوه ليقرأ لي قبل أن أنام، وأصدّق دموعه قبل أن أصدّق التحليلات النفسية؛ لأنه ببساطة.. الجزء الوحيد فيّ الذي لم يكذب عليّ يومًا.


الجزيرة
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الجزيرة
الكتابة: مواجهة ناعمة مع الذات
لطالما دُهشتُ لقدرة الكُتّاب على إذابة الشعور ورصّه في كلمات، تسحرني كل عبارة تحمل ثقل أيام وصدمات بالغة، أو تصيغ فرحًا وتضم بهجة، عبارة واحدة قد تلخص مشوار حياة كاملة، وتجعلني أفكر فيها لأيام وربما أكثر، وكنت كلما كتبت خاطرةً أو نصًّا شعرت وكأنما أتممت جلسة علاج نفسي، بدون انتظار وصفة طبية أو تعليمات أتبعها. للكتابة عذوبة بدايات الحبّ الأولى ونشوة تجربة شيء جديد؛ حيث تمتد لما هو أعمق من مجرد وسيلة تعبير، فمع كل هدية أهديها أرفق رسالةً فيها شيء من نفسي وشعوري، وفي كل موقف أواجهه شخصيًّا، ألجأ للكتابة واللغة، تدوينًا كان أم خربشة، حبًّا أم اعتذارًا، كانت الكتابة دومًا حاضرة. يقال إنه في كل واحد منا كاتب بانتظار أن يُكتشف، أوْمن بهذا الافتراض إلى حد بعيد، كما أوْمن بقوة اللغة على انتشالنا من فوضى الخارج وتسارع كل شيء حولنا. يقول العقاد ما معناه "أقرأ لأن حياةً واحدة لا تكفيني"… لطالما لخصت هذه العبارة علاقتي مع الكتابة، فكما تشبه القراءة صديقًا يتحدث إليّ، كانت الكتابة أشبه بصديق يستمع إلي، بلا حكم أو نقد، أو مقاطعة أو تعقيب، وغالبًا ما كنت أكتب بلا ترتيب ولا تنمق، بُحتُ لدفاتر ملاحظاتي بما لم أبحْ به يومًا لمخلوق، لا لشيء إلا أن الكتابة -بشكل أو بآخر- تجرّدني حتى من نفسي، وتضعني أمام مواجهة حقيقية مع ذاتي، أتعرّف إليها مع كل خاطرة أو تدوينة، أصقلها وأنميها، فالواحد منّا في رحلة دائمة لامتناهية، ولا وصول فيها، للتعرف على نفسه. في الكتابة أجدني في الكتابة أجدني وأفهمني، وبالكتابة اتسعت مداركي ورأيت الحياة بأكثر من عينين، وأحببت الكون وما يحويه بأكثر من قلب واحد. كنت أكتب لأرى ما وراء كل شيء، لأغوص في أعماق كل ما هو ظاهر، لأفهم تلافيف الكون وكلاكيعي الشخصية، لأحميني من تآكل فِكَري داخل رأسي، رأسي الذي حملني أكثر مما حملته يومًا، ولأبحر في أغوار النفس وما خلف كل كلمة قيلت أو لم تقلْ. ففي خضم التشوش الذي لا حصر له، وتسارع كل شيء حولي، والشعور المتواصل بالضياع؛ كنت أستعيد توازني بالتدوين، وأنظم داخلي وفوضاي بالكلمات التي لم تكن يومًا مجرد كلمات، بل حضنًا واسعًا وطبطبةً صادقة ومواساة شافية، كانتذ بمثابة صديق دائم الاستماع بلا ملل أو تساؤلات، مثل: كيف أخفف عنه؟ متى ينتهي من كلامه؟ ألم يجد غيري يشكو له؟.. وأسئلة كثيرة أخرى. فعلى غرار الحديث مع شخص ما، الحديث بالكتابة كان دائمًا أكثر حرية وسلاسة، من النفس إلى النفس بكل استرسال. إن ما يربكني بخصوص الكتابة هو انعقاد اللغة وتشابكها، ورفضها الخروج أو الصياغة.. في مرات كثيرة، كنت أثقل على نفسي من نفسي، وأبت اللغة أن تطاوعني، فكنت أشعر بأن يديَّ مكبلتان وأصابعي من فولاذ تأبى الحراك! في مواقف كهذه يساورني شعور بالعجز وبأن الكتابة ليست لي ربما، وما ألبث أن أقنع نفسي بهذا الأمر حتى أعود وأكتب أي شيء، فقط لأتخلص من حبسة الكتابة وأتجاوز هذا الشعور المقيت الذي يحرمني لذتها. الكتابة كخلاص روحي في كل مكان وزمان، ولعديد من الكتاب، كانت الكتابة بمثابة خلاص روحي ووسيلة تشافٍ.. فمثلًا، الكاتبة الإنجليزية سيلفيا بلاث منحتها الكتابةُ شعورًا بالجدوى والمعنى، ففي إحدى قصائدها الأولى كتبت: تسألني لماذا أُمضي عمري في الكتابة إن كانت مصدر تسلية إن كانت تستحق وفوق كل شيء إن كانت ذات جدوى إن لم يكن، إذن، أثمة سبب؟ أنا أكتب فقط لأن هناك صوتًا في داخلي لن تهدأ فِكَرنا ولا دواخلنا إلا بالمواجهة، ولا شيء أكثر سحرًا من الكتابة، لتجريد أنفسنا من أنفسنا، وكشف هشاشتنا الإنسانية أمامنا، وهي التي مهما فعلنا -وبغض النظر عن الوعي الذي توصّلنا إليه- فإننا لن نجرؤ على إبدائها أمام إنسان، مهما بلغت درجة القرب والشفافية بيننا. إن ما نعيشه اليوم من زيف وهشاشة وتكُّلف بعيد كل البعد عن بساطة الإنسان الحقيقي، يجعل الواحد منا في صراع دائم، وبحث لامتناهٍ عن الذات الحقة، التي تاهت وسط هذا العالم الفضفاض المشبع بالتصنع. فأصبح فهم النفس من أكثر الأمور استعصاءً وصعوبة.. ومع كل هذا وأكثر، نحن بحاجة أولًا لوعي به، ثم الغوص في فهمه. ومرةً أخرى أقول: لا شيء أكثر استيعابًا للنفس من الكتابة، ومحاولة تجسيد الفكر في كلمات، وفك شفراتها بالتجريد والتدوين، ليستعيد الإنسان نفسه وما هو عليه حقًّا.