#أحدث الأخبار مع #كينلوتشالجزيرة١١-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالجزيرة'كين لوتش'.. سينما لخدمة العدالة الاجتماعية والقضية الفلسطينيةمع افتتاح مهرجان بافتا السينمائي الشهير في بريطانيا، كان المخرج المخضرم 'كين لوتش' يخطو بثبات على السجادة الحمراء في قاعة المهرجان الملكية، وحين وصل إلى مكان التقاط الصور توجه إلى الكاميرات، ثم رفع لوحة تطالب بوقف المجازر التي تخلفها الحرب على غزة، وكان بجواره رفيقه كاتب السيناريو 'بول لافيرتي'، وعدد من رفاقهما في دورة عام 2024 من المهرجان، التي انطلقت في العاصمة البريطانية لندن. ومع أن مواقف 'لوتش' المؤيدة للقضية الفلسطينية معروفة، فإن وكالات الأنباء طيرت صوره واتخذتها خبرا، مصحوبة بتصريحاته المطالبة بالفائزين في المهرجان بأن يطالبوا بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. وقد استشهَد 'لوتش' يومئذ بالفائزين في نسخة المهرجان التي تقام في أسكتلندا، فقد طالبوا بوقف الحرب على غزة. تأييد لفلسطين يتجاوز التصريحات الإعلامية في انحيازاته ومواقفه، لم يرسم 'لوتش' فرقا بين ما هو سياسي وما هو سينمائي أو فني، فالكل عنده واحد، فهو يغترف من معين قصص الناس، لينسج منها أفلاما، ويتفاعل مع الأحداث الجارية كأنه شاب في مقتبل العشرين لا كهل تجاوز التسعين من العمر. يرى 'لوتش' السينما فنا جماعيا غير ممكن من دون تجمع الناس مع بعضهم كما في المسرح، فهي عنده تجربة جماعية لا فردية. ولذا فإن من واجباتها أن تكون معبرة عن الطبقة العاملة. ولهذا فإن تأييده للقضية الفلسطينية يتعدى التصريحات الإعلامية إلى الدعم المالي المباشر لحملات مقاطعة إسرائيل. فبعد أن سُئل عن سبب عرض فيلمه 'أنا، دانييل بليك' (I, Daniel Blake) في إسرائيل أنكر موافقته على ذلك، وأعلن تبرعه بكل عائدات عرض الفيلم هناك لحركة 'المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل' (BDS). 'جيرمي كوربن'.. دعم الرجل القادم من المقاعد الخلفية يدافع 'كين لوتش' بشراسة عن استقلاليته واستقلالية أعماله وأفكاره، لهذا اشتُهر بمواقفه الرافضة تدخلات الشركات الكبرى في السياسة والإعلام، ودافع عن دور الفن في التغيير الاجتماعي. ولم يمنعه ذلك من الانضمام لحزب العمال البريطاني، والوقوف بجوار صديقه 'جيرمي كوربن' إبان الفوز التاريخي، الذي أحرزه برئاسة حزب العمال في مفاجأة كبيرة عام 2016، حين انتقل من مقاعد الحزب الخلفية إلى المقاعد الأمامية. حينها لم يجد بأسا من أن يصبح مخرج أفلام وثائقية، ويسخر عمله وموهبته لخدمة حملة 'كوربن' لرئاسة الحزب، فأخرج فيلم 'حوار مع جيرمي كوربن' (2016)، الذي وثق جلستين له مخصصتين للرد على أسئلة الجمهور بمدينتي لندن وشيفيلد في إنجلترا خلال الحملة. وحين سئل عن سبب إخراج مثل هذا الفيلم أجاب برغبته في توثيق شعور التفاؤل والأمل، الذي يحدو كثيرين، ويُفسّر استعداد كثيرين للنضال من أجل الرؤية الجديدة التي يطرحها 'جيرمي كوربن'. 'حانة البلوط العتيق'.. فيلم التقاعد عن السوريين من المفارقات أن 'كين لوتش' لم يتناول القضية الفلسطينية قط في أعماله الفيلمية، مع أنه مدافع شرس عنها، بل إنه لم يتناول أي قضايا عربية، وربما يعود ذلك لصراعات دخلها أثناء عمله في قسم الدراما بهيئة الإذاعة البريطانية، أثناء عقدي الستينيات والسبعينيات، وسنعرضها لاحقا في هذه المقالة. فقد انتُقد يومئذ بأنه يستغل الأفلام الفنية لتقديم رؤية سياسية، وهو أمر ما فتئ يتبرأ منه، ويقول إنه يقدم أفلاما وثائقية، وليست أعمالا سياسية، بل رؤية فنية خالصة نابعة من عقله ووجدانه وتقييمه ونظرته للواقع. وفي عام 2023، قدم مفاجأتين لمتابعيه ومشاهديه، الأولى أنه سيعتزل الإخراج السينمائي وستكون مباراة اعتزاله فيلم 'حانة البلوط العتيق' (The Old Oak). والمفاجأة الثانية أن الفيلم سيكون عن اللاجئين السوريين، وطبيعة حياتهم واندماجهم في المجتمع البريطاني، وذلك استثناء واضح من جل أفلامه التي كانت غارقة في قضايا المواطن البريطاني المحلية. ففي هذا الفيلم، ذهب 'لوتش' بعيدا إلى أقصى شمال إنجلترا، وتحديدا بلدة 'دورهام' بالقرب من أسكتلندا، واختار حانة قديمة لتمثل مركز الأحداث في الفيلم. والحانة في المجتمع البريطاني والغربي عموما هي المركز الاجتماعي الأهم في المدن والقرى، ففيها محل النقاش واللقاء بين الأصدقاء، وهي فضاء أشبه بالمقاهي في البلدان العربية، أو يفوق أهميتها، ذلك لأن شرب الخمر طقس اجتماعي تشاركي، له مركزية كبيرة في الغرب، بعكس احتساء القهوة في المجتمعات العربية والمسلمة. ولهذا كانت الحانة وروّادها يمثلون في الفيلم الطبقة الشعبية العاملة في بريطانيا، تلك الطبقة التي فقدت كثيرا من مميزاتها إبان حقبة رئيسة الوزراء 'مارغريت تاتشر' فقد أغلقت مناجم هذه المدن الصناعية، ومنها مدينة 'دورهام'، فأورث ذلك مرارة نفسية توارثها السكان، فأصبحوا يصبون غضبهم على المهاجرين، ولا سيما السوريين الذي جاؤوا ليعيشوا في المدينة. يتعاطف 'تومي' مع اللاجئين السوريين، ولا سيما الشابة يارا اللاجئة التي تهوى التصوير، لكنه يجد نفسه في موقف صعب، بمواجهة بني جلدته المعادين للاجئين. وعند تصاعد التوتر، قرر أن يفتح الحانة أمام كلا الفريقين، على أمل خلق تفاهم أفضل بين الطرفين، فاندلعت مواجهات بين اللاجئين ومن يعادونهم من السكان ويرونهم سبب مشاكلهم الحياتية. وهنا يستخدم 'لوتش' الصورة الفوتوغرافية لتعلب دورا في نسيج الفيلم، فهي نقطة التلاقي بين ثقافتين، وجسر الحوار بين المتخاصمين. فيارا السورية ترى مستقبلها المشرق من خلال عدسة الكاميرا، وهي تحلم أن تكون مصورة تجوب العالم وتلتقط الصور، وأما 'تومي' فيزين جدران حانته بصور بالأبيض والأسود. تجول عينا يارا على صور الحائط، تسجل بعينيها ذاكرة البلدة، وتسأل 'تومي' عن الناس والأحداث، وتبقى الكاميرا في يد يارا طول الفيلم، تذكرنا بتسجيل اللحظة الراهنة والقادمة، أو بالأحرى الحاضر والمستقبل، كما تبقى الصور على الحائط في خلفية المشاهد تذكرنا بتسجيل اللحظة السابقة أو ظلال الماضي. والفيلم هو امتداد لأسلوب 'كين لوتش' الشهير، وهو التماس المباشر مع القضايا الاجتماعية الشعبية، باستخدام ممثلين غير محترفين أحيانا، إمعانا في الواقعية. وهو هنا يجسد مشاعر الحياة اليومية البسيطة لدى رجل الشارع الإنجليزي، غير أنه لا ينجرف وراء مشاعر الغضب الناتج عن التهميش والفقر، بل يغوص في جذور مشكلة العنصرية، بصفتها نتاجا للمعاناة الاقتصادية لا الكراهية. كما أنه يفتح نافذة أمل للتضامن الإنساني برغم كل الصعوبات. رائد الدراما الوثائقية التلفزيونية تدين صناعة التلفزيون والسينما في بريطانيا بكثير من الفضل للمخرج 'كين لوتش'، فقد كان أحد الرواد الذين أخرجوا الدراما التلفزيونية من الأستديو إلى الشارع في حقبة الستينيات، فالشارع يمثل لديه الواقع بلا تزييف ولا تزوير. ما فتئ 'لوتش' يحاول التفاعل مع الواقع ومشاكله من بوابة الدراما، ثم من بوابة السينما، وكان قد درس القانون في جامعة أوكسفورد العريقة، وبرغم البون الشاسع بين ما درسه وما عمل به، فإن أيام الجامعة كانت خصبة جدا له على الصعيد الفني، لأنه التحق بنادي المسرح التجريبي في الجامعة، وكانت فرصة له للتشبع بهذا الفن، قبل أن يلتحق بهيئة الإذاعة البريطانية 'بي بي سي' في وقت لاحق. ولم يزل -حتى بعد عقود كثيرة- وفيا لتجربته المسرحية على صعيد فلسفة أداء الممثل، والحضور الجماعي للجماهير، التي يراها جزءا لا يتجزأ من تجربة السينما. 'عودي للبيت كاثي'.. ضجة تغير قانون الرعاية الاجتماعية كان 'كين لوتش' ممن برز على أيديهم مصطلح الدراما الوثائقية في بريطانيا، فكان يعمل في قسم الدراما بهيئة الإذاعة البريطانية، ولم يكن طموحه يومئذ يقف عند هذا الحد، فكان يريد أن تحقق الدراما التي يخرجها نسب مشاهدة نشرة الأخبار، من دون أن يتقيد بقيود العمل الإخباري. ولهذا أحدث عمله الدرامي التلفزيوني الأشهر 'عودي للبيت كاثي' (Cathy Come Home) عام 1966 ضجة كبيرة، تجاوزت موضوع الدراما التي تناولت الخلل بمنظومة الرعاية الاجتماعية في بريطانيا، إلى إشعال موضوع هوية الأنماط الإنتاجية التلفزيونية، وحدود الفوارق بين ما حقيقي وما هو خيالي. اجتاز 'عودي للبيت كاثي' المسافة الفنية بكل جرأة، بين ما هو إخباري وما هو درامي، فكان فيه معلق صوتي، ونصوص مكتوبة على الشاشة، ناهيك عن هذه القضية الشائكة التي تناولها، وأحدث بها هزة في المجتمع البريطاني، وقد تغير قانون الرعاية الاجتماعية على إثرها. 'أيام الأمل'.. إسقاطات سياسية من التاريخ بعد عقد من الزمان أعاد 'لوتش' الكرة مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع حدث تاريخي آخر هو دراما 'أيام الأمل' (Days of Hope) عام 1975. خلال حقبة بث هذه الدراما في السبعينيات، كانت بريطانيا تعاني من أزمات اقتصادية، وفي الوقت نفسه قامت ثورة تقنية في عالم التلفزيون، فظهر التلفزيون الملون أول مرة. حينها قفز 'لوتش' قفزة أخرى تتجاوز اللحظة الاقتصادية والسياسية الراهنة، وذهب بعيدا إلى التاريخ، وتحديدا إلى عام 1926، حين حدثت أكبر أزمة اقتصادية تموج بها البلاد، وأفضت إلى 'الإضراب الكبير'. وقد جسد تلك اللحظة التاريخية بلا إحالة مباشرة للواقع البريطاني الاقتصادي والاجتماعي المعاصر لوقت عرضه. ومع ذلك كانت الإسقاطات التاريخية واضحة، ولم يحتج المشاهد إلى قدر عال من الذكاء، ليربط السياق الاقتصادي والاجتماعي في بريطانيا خلال منتصف السبعينيات بأجواء عام 1926، مما عزّز تفاعل الجمهور معه، ليس فقط بوصفه عملا دراميا، بل نافذة تعكس هموم الطبقة العاملة وصراعاتها مع الأزمات الاقتصادية.
الجزيرة١١-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالجزيرة'كين لوتش'.. سينما لخدمة العدالة الاجتماعية والقضية الفلسطينيةمع افتتاح مهرجان بافتا السينمائي الشهير في بريطانيا، كان المخرج المخضرم 'كين لوتش' يخطو بثبات على السجادة الحمراء في قاعة المهرجان الملكية، وحين وصل إلى مكان التقاط الصور توجه إلى الكاميرات، ثم رفع لوحة تطالب بوقف المجازر التي تخلفها الحرب على غزة، وكان بجواره رفيقه كاتب السيناريو 'بول لافيرتي'، وعدد من رفاقهما في دورة عام 2024 من المهرجان، التي انطلقت في العاصمة البريطانية لندن. ومع أن مواقف 'لوتش' المؤيدة للقضية الفلسطينية معروفة، فإن وكالات الأنباء طيرت صوره واتخذتها خبرا، مصحوبة بتصريحاته المطالبة بالفائزين في المهرجان بأن يطالبوا بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. وقد استشهَد 'لوتش' يومئذ بالفائزين في نسخة المهرجان التي تقام في أسكتلندا، فقد طالبوا بوقف الحرب على غزة. تأييد لفلسطين يتجاوز التصريحات الإعلامية في انحيازاته ومواقفه، لم يرسم 'لوتش' فرقا بين ما هو سياسي وما هو سينمائي أو فني، فالكل عنده واحد، فهو يغترف من معين قصص الناس، لينسج منها أفلاما، ويتفاعل مع الأحداث الجارية كأنه شاب في مقتبل العشرين لا كهل تجاوز التسعين من العمر. يرى 'لوتش' السينما فنا جماعيا غير ممكن من دون تجمع الناس مع بعضهم كما في المسرح، فهي عنده تجربة جماعية لا فردية. ولذا فإن من واجباتها أن تكون معبرة عن الطبقة العاملة. ولهذا فإن تأييده للقضية الفلسطينية يتعدى التصريحات الإعلامية إلى الدعم المالي المباشر لحملات مقاطعة إسرائيل. فبعد أن سُئل عن سبب عرض فيلمه 'أنا، دانييل بليك' (I, Daniel Blake) في إسرائيل أنكر موافقته على ذلك، وأعلن تبرعه بكل عائدات عرض الفيلم هناك لحركة 'المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل' (BDS). 'جيرمي كوربن'.. دعم الرجل القادم من المقاعد الخلفية يدافع 'كين لوتش' بشراسة عن استقلاليته واستقلالية أعماله وأفكاره، لهذا اشتُهر بمواقفه الرافضة تدخلات الشركات الكبرى في السياسة والإعلام، ودافع عن دور الفن في التغيير الاجتماعي. ولم يمنعه ذلك من الانضمام لحزب العمال البريطاني، والوقوف بجوار صديقه 'جيرمي كوربن' إبان الفوز التاريخي، الذي أحرزه برئاسة حزب العمال في مفاجأة كبيرة عام 2016، حين انتقل من مقاعد الحزب الخلفية إلى المقاعد الأمامية. حينها لم يجد بأسا من أن يصبح مخرج أفلام وثائقية، ويسخر عمله وموهبته لخدمة حملة 'كوربن' لرئاسة الحزب، فأخرج فيلم 'حوار مع جيرمي كوربن' (2016)، الذي وثق جلستين له مخصصتين للرد على أسئلة الجمهور بمدينتي لندن وشيفيلد في إنجلترا خلال الحملة. وحين سئل عن سبب إخراج مثل هذا الفيلم أجاب برغبته في توثيق شعور التفاؤل والأمل، الذي يحدو كثيرين، ويُفسّر استعداد كثيرين للنضال من أجل الرؤية الجديدة التي يطرحها 'جيرمي كوربن'. 'حانة البلوط العتيق'.. فيلم التقاعد عن السوريين من المفارقات أن 'كين لوتش' لم يتناول القضية الفلسطينية قط في أعماله الفيلمية، مع أنه مدافع شرس عنها، بل إنه لم يتناول أي قضايا عربية، وربما يعود ذلك لصراعات دخلها أثناء عمله في قسم الدراما بهيئة الإذاعة البريطانية، أثناء عقدي الستينيات والسبعينيات، وسنعرضها لاحقا في هذه المقالة. فقد انتُقد يومئذ بأنه يستغل الأفلام الفنية لتقديم رؤية سياسية، وهو أمر ما فتئ يتبرأ منه، ويقول إنه يقدم أفلاما وثائقية، وليست أعمالا سياسية، بل رؤية فنية خالصة نابعة من عقله ووجدانه وتقييمه ونظرته للواقع. وفي عام 2023، قدم مفاجأتين لمتابعيه ومشاهديه، الأولى أنه سيعتزل الإخراج السينمائي وستكون مباراة اعتزاله فيلم 'حانة البلوط العتيق' (The Old Oak). والمفاجأة الثانية أن الفيلم سيكون عن اللاجئين السوريين، وطبيعة حياتهم واندماجهم في المجتمع البريطاني، وذلك استثناء واضح من جل أفلامه التي كانت غارقة في قضايا المواطن البريطاني المحلية. ففي هذا الفيلم، ذهب 'لوتش' بعيدا إلى أقصى شمال إنجلترا، وتحديدا بلدة 'دورهام' بالقرب من أسكتلندا، واختار حانة قديمة لتمثل مركز الأحداث في الفيلم. والحانة في المجتمع البريطاني والغربي عموما هي المركز الاجتماعي الأهم في المدن والقرى، ففيها محل النقاش واللقاء بين الأصدقاء، وهي فضاء أشبه بالمقاهي في البلدان العربية، أو يفوق أهميتها، ذلك لأن شرب الخمر طقس اجتماعي تشاركي، له مركزية كبيرة في الغرب، بعكس احتساء القهوة في المجتمعات العربية والمسلمة. ولهذا كانت الحانة وروّادها يمثلون في الفيلم الطبقة الشعبية العاملة في بريطانيا، تلك الطبقة التي فقدت كثيرا من مميزاتها إبان حقبة رئيسة الوزراء 'مارغريت تاتشر' فقد أغلقت مناجم هذه المدن الصناعية، ومنها مدينة 'دورهام'، فأورث ذلك مرارة نفسية توارثها السكان، فأصبحوا يصبون غضبهم على المهاجرين، ولا سيما السوريين الذي جاؤوا ليعيشوا في المدينة. يتعاطف 'تومي' مع اللاجئين السوريين، ولا سيما الشابة يارا اللاجئة التي تهوى التصوير، لكنه يجد نفسه في موقف صعب، بمواجهة بني جلدته المعادين للاجئين. وعند تصاعد التوتر، قرر أن يفتح الحانة أمام كلا الفريقين، على أمل خلق تفاهم أفضل بين الطرفين، فاندلعت مواجهات بين اللاجئين ومن يعادونهم من السكان ويرونهم سبب مشاكلهم الحياتية. وهنا يستخدم 'لوتش' الصورة الفوتوغرافية لتعلب دورا في نسيج الفيلم، فهي نقطة التلاقي بين ثقافتين، وجسر الحوار بين المتخاصمين. فيارا السورية ترى مستقبلها المشرق من خلال عدسة الكاميرا، وهي تحلم أن تكون مصورة تجوب العالم وتلتقط الصور، وأما 'تومي' فيزين جدران حانته بصور بالأبيض والأسود. تجول عينا يارا على صور الحائط، تسجل بعينيها ذاكرة البلدة، وتسأل 'تومي' عن الناس والأحداث، وتبقى الكاميرا في يد يارا طول الفيلم، تذكرنا بتسجيل اللحظة الراهنة والقادمة، أو بالأحرى الحاضر والمستقبل، كما تبقى الصور على الحائط في خلفية المشاهد تذكرنا بتسجيل اللحظة السابقة أو ظلال الماضي. والفيلم هو امتداد لأسلوب 'كين لوتش' الشهير، وهو التماس المباشر مع القضايا الاجتماعية الشعبية، باستخدام ممثلين غير محترفين أحيانا، إمعانا في الواقعية. وهو هنا يجسد مشاعر الحياة اليومية البسيطة لدى رجل الشارع الإنجليزي، غير أنه لا ينجرف وراء مشاعر الغضب الناتج عن التهميش والفقر، بل يغوص في جذور مشكلة العنصرية، بصفتها نتاجا للمعاناة الاقتصادية لا الكراهية. كما أنه يفتح نافذة أمل للتضامن الإنساني برغم كل الصعوبات. رائد الدراما الوثائقية التلفزيونية تدين صناعة التلفزيون والسينما في بريطانيا بكثير من الفضل للمخرج 'كين لوتش'، فقد كان أحد الرواد الذين أخرجوا الدراما التلفزيونية من الأستديو إلى الشارع في حقبة الستينيات، فالشارع يمثل لديه الواقع بلا تزييف ولا تزوير. ما فتئ 'لوتش' يحاول التفاعل مع الواقع ومشاكله من بوابة الدراما، ثم من بوابة السينما، وكان قد درس القانون في جامعة أوكسفورد العريقة، وبرغم البون الشاسع بين ما درسه وما عمل به، فإن أيام الجامعة كانت خصبة جدا له على الصعيد الفني، لأنه التحق بنادي المسرح التجريبي في الجامعة، وكانت فرصة له للتشبع بهذا الفن، قبل أن يلتحق بهيئة الإذاعة البريطانية 'بي بي سي' في وقت لاحق. ولم يزل -حتى بعد عقود كثيرة- وفيا لتجربته المسرحية على صعيد فلسفة أداء الممثل، والحضور الجماعي للجماهير، التي يراها جزءا لا يتجزأ من تجربة السينما. 'عودي للبيت كاثي'.. ضجة تغير قانون الرعاية الاجتماعية كان 'كين لوتش' ممن برز على أيديهم مصطلح الدراما الوثائقية في بريطانيا، فكان يعمل في قسم الدراما بهيئة الإذاعة البريطانية، ولم يكن طموحه يومئذ يقف عند هذا الحد، فكان يريد أن تحقق الدراما التي يخرجها نسب مشاهدة نشرة الأخبار، من دون أن يتقيد بقيود العمل الإخباري. ولهذا أحدث عمله الدرامي التلفزيوني الأشهر 'عودي للبيت كاثي' (Cathy Come Home) عام 1966 ضجة كبيرة، تجاوزت موضوع الدراما التي تناولت الخلل بمنظومة الرعاية الاجتماعية في بريطانيا، إلى إشعال موضوع هوية الأنماط الإنتاجية التلفزيونية، وحدود الفوارق بين ما حقيقي وما هو خيالي. اجتاز 'عودي للبيت كاثي' المسافة الفنية بكل جرأة، بين ما هو إخباري وما هو درامي، فكان فيه معلق صوتي، ونصوص مكتوبة على الشاشة، ناهيك عن هذه القضية الشائكة التي تناولها، وأحدث بها هزة في المجتمع البريطاني، وقد تغير قانون الرعاية الاجتماعية على إثرها. 'أيام الأمل'.. إسقاطات سياسية من التاريخ بعد عقد من الزمان أعاد 'لوتش' الكرة مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع حدث تاريخي آخر هو دراما 'أيام الأمل' (Days of Hope) عام 1975. خلال حقبة بث هذه الدراما في السبعينيات، كانت بريطانيا تعاني من أزمات اقتصادية، وفي الوقت نفسه قامت ثورة تقنية في عالم التلفزيون، فظهر التلفزيون الملون أول مرة. حينها قفز 'لوتش' قفزة أخرى تتجاوز اللحظة الاقتصادية والسياسية الراهنة، وذهب بعيدا إلى التاريخ، وتحديدا إلى عام 1926، حين حدثت أكبر أزمة اقتصادية تموج بها البلاد، وأفضت إلى 'الإضراب الكبير'. وقد جسد تلك اللحظة التاريخية بلا إحالة مباشرة للواقع البريطاني الاقتصادي والاجتماعي المعاصر لوقت عرضه. ومع ذلك كانت الإسقاطات التاريخية واضحة، ولم يحتج المشاهد إلى قدر عال من الذكاء، ليربط السياق الاقتصادي والاجتماعي في بريطانيا خلال منتصف السبعينيات بأجواء عام 1926، مما عزّز تفاعل الجمهور معه، ليس فقط بوصفه عملا دراميا، بل نافذة تعكس هموم الطبقة العاملة وصراعاتها مع الأزمات الاقتصادية.