#أحدث الأخبار مع #لمعهدبيوالمدنمنذ 3 أيامترفيهالمدنالتكنولوجيا والأجيال: صراعات الهوية الرقميةقبل أسابيع قليلة، كنت جالسًا مع زميلي وصديقي نعيم على كَنَبَة الانتظار في قصر اليونسكو، نترقب بدء حفلة الفنان خالد الهبر. فاقترب منَّا الصحفي المخضرم نصري الصايغ طالبًا الانضمام إلينا. لم يمانع رائحة السيجارة الكوبية التي بين أصابعي، بل اعترف بابتسامة: "أحب رائحة التبغ لكني ودَّعتُ التدخين". رددت بمزاح: "وودَّعتَ الكتابةَ أيضًا.. أين اختفيت؟". انطلق الرجل يحكي عن اعتكاف اختياري عن العمل الصحفي منذ ثمانية أعوام، ثم دار الحديث عن مهنتي في عالم البرمجة والاتصالات. كلما تعمقنا في الشرح، ازداد فضوله، خصوصاً حين تطرقنا لموضوع الذكاء الاصطناعي وتطبيق "شات جي بي تي". هزَّ رأسه وقال كمن يلخص رحلة عمر: "أنا ابن الورقة والقلم". في اللحظة ذاتها، أمسك نعيم بهاتف نصري، وحمَّل تطبيق "شات جي بي تي". لمدة نصف ساعة، تحوَّل الصحفي الكهل إلى طفل في متجر ألعاب: يسأل بفضول، يُجرب الأوامر، يتعلم. راقبتُ المشهد كمن يُصور فيلمًا؛ ففي تلك اللحظات اكتشفتُ أن جيل "البومرز" لا يكره التكنولوجيا، بل يعاني حيرة العاشق القديم: يتوق لاحتضان الحداثة، لكنه يخشى ارتكاب الأخطاء. "لا بأس إن أخطأتَ في الكتابة.. التطبيق يُصلح نفسه بنفسه"، قلتُ وهو يتردد في الضغط على الزر. ابتسم كتلميذٍ يخطو أولى خطواته في عالم لا يحكمه الحبر، بل اللوغاريتمات. المهاجرون الرقميون جيل "البومرز" (1946–1964) هم الذين تعلَّموا استخدام التكنولوجيا الحديثة في مرحلة متأخرة من حياتهم. يحملون هواتف ذكية، لكنهم يفضلون إرسال رسائل صوتية بدلًا من الكتابة على شاشات اللمس. غالبًا ما يكونون ضحايا سهلة للاختراقات الإلكترونية. كشفت دراسة لمعهد "بيو" عام 2022 أن 70% منهم يخشون سرقة بياناتهم الشخصية، لكن 85% يستخدمون كلمات مرور بسيطة مثل "123456". رغم ذلك، يُعتبر هذا الجيل الأكثر إنفاقًا عبر الإنترنت في الولايات المتحدة (43% حسب إحصائيات فوربس)، لكنهم يصرُّون على الدفع نقدًا عند استلام المشتريات؛ خوفًا من "قراصنة الإنترنت الذين يسرقون بيانات البطاقات". في الواقع، هذا الجيل ليس غريبًا تمامًا عن عالم التكنولوجيا. فهم عاصروا اختراعات ثورية مثل الغسالات الكهربائية التي غيَّرت حياتهم اليومية وسوق العمل، لكنهم تعوَّدوا على بساطة الأجهزة ذات الأزرار الكبيرة والتعليمات الواضحة. حتى اليوم، يبحثون عن التكنولوجيا التي تعمل دون تعقيدات، تمامًا كما اعتادوا في الماضي. وتعمل كبرى الشركات مثل أمازون، ومؤخرًا "Open AI"، على بناء تطبيقات تناسبهم بسبب قدرتهم الشرائية. الجسر السري بين عالمين يتميَّز جيل إكس (1965–1980) بأنه عاش طفولةً خاليةً من الإنترنت، لكنه دخل سوق العمل مع صعود أولى أجهزة الكمبيوتر المكتبية، ثم المنزلية لاحقًا. هذا الجيل الهجين يجمع بين الشكِّ في التكنولوجيا والكفاءة في استخدامها؛ يُرسلون إيميلات العمل في منتصف الليل، لكنهم يضعون الهاتف على وضع الطيران أثناء العطلات كحدٍّ فاصل بين الحياة المهنية والشخصية. تستهدفهم شركات التكنولوجيا عبر استثمار ذاكرتهم الجمعية: فمنصة "لينكدإن" تعيدهم إلى زمن السير الذاتية الورقية بلمسة عصرية، بينما تستعيد "نتفليكس" ذكريات تسعينيات القرن الماضي عبر إعادة بث مسلسلات مثل "Friends". مفارقتهم الأبرز، هم مَن روَّجوا لشعار "التوازن بين العمل والحياة"، لكنهم أيضًا الذين ساهموا في اختراع الهواتف الذكية التي تحوَّلت مع الوقت إلى أغلال رقمية تُقيِّد الأجيال اللاحقة بأعباء التواصل المستمر. الأخ الأوسط في عائلة التكنولوجيا يقف جيل الألفية أو الميلينيلز (1981–1996) كـ "الأخ الأوسط" الذي يربط بين عوالم التكنولوجيا القديمة والجديدة؛ يُعلِّمون الجدَّة استخدام فلتر إنستغرام بينما يطلبون من المراهق شرح الـ"NFT". هم جسرٌ بين زمنين: تقليديون بما يكفي لتذكُّر أقراص الـ CD، وحداثيون لتحويل هواياتهم إلى مشاريع رقمية عبر البودكاست أو اليوتيوب. دراسات "جين توينج" (جامعة سان دييغو) في كتابها "Generations" تكشف كيف أعاد هذا الجيل تعريف "النضج" المجتمعي؛ فـتأخرهم في شراء المنازل أو الزواج بسبب تقلبات الاقتصاد وهيمنة التكنولوجيا، أجبر العالم على ابتكار مفاهيم جديدة للاستقلالية. اليوم، وهم في بداية عقدهم الرابع، يصمِّمون تطبيقات "التأمل" و"إدارة الوقت" لمواجهة إدمانهم هم أنفسهم على التحديثات التكنولوجية. جيل زد: بين إتقان التكنولوجيا وبين فقدان المهارات الحياتية يُوصف جيل "زد" (مواليد 1997–2012) بأنه أول جيل يولد في عصر الهواتف الذكية، حيث يتقن لغة التكنولوجيا بفطرة، لكنه في الوقت نفسه يُعد الأكثر تشكيكًا في تداعياتها. فبينما تُحدِث محتوياتهم الإبداعية على "تيك توك" تحولات في المشهد الاقتصادي، وتنجح حملاتهم النقدية على منصات مثل "ريديت" في إسقاط شركات كبرى، تكشف دراسة حديثة لـ"ديلويت" (2023) أن 76% من أفراد هذا الجيل يطمحون لريادة الأعمال، لكنهم أيضًا الأكثر معاناة من القلق المزمن تجاه المستقبل. يعيش الجيل تناقضات صارخة تلامس تفاصيل حياتهم اليومية؛ فهم يستهلكون منتجات صديقة للبيئة، رغم اعتمادهم على تطبيقات توصيل تزيد من الانبعاثات الكربونية. كما يبرز فجوة بين مهاراتهم التقنية المتقدمة – مثل برمجة المواقع المعقدة – وضعف الكفاءة في المهام البسيطة، حيث يلجأون إلى "يوتيوب" لتعلم أساسيات مثل استبدال لمبة إضاءة. ولا تقتصر التناقضات على السلوكيات اليومية، بل تمتد إلى علاقتهم مع الطبيعة، إذ تشير ظاهرة "عَوز الطبيعة" (Nature Deficit Disorder) – التي تُعزى إلى انخفاض التفاعل المباشر مع البيئة الطبيعية – إلى تبعات صحية ونفسية تتفاقم بين الشباب بسبب الانقطاع التام عن الطبيعة. رغم اتصالهم الدائم بالعالم الافتراضي، تُشير البيانات إلى أن هذا الجيل هو الأكثر عُرضة للشعور بالوحدة، إذ حلَّت التفاعلات الرقمية محل التواصل وجهًا لوجه، مما أضعف المهارات الاجتماعية التي تراكمت عبر آلاف السنين. دراسة في كتاب "Generations" تشير إلى أن 30% من مواليد 2005 فما فوق لم يحاولوا حتى التعارف وجهًا لوجه قبل الجامعة. مُعادلة الحلول: بين الحظر وإعادة التصميم المطالبات بحظر الهواتف على من هم دون 16 عامًا تكتسب زخمًا مع صعود أدلة على أضرارها العصبية، لكن التجربة الفنلندية (2023) تقدِّم نموذجًا بديلًا يعتمد على تعليم الطلاب استخدام التكنولوجيا باعتدال، بدلًا من منعها، وهو ما قد يسهم في تخفيف ظاهرة "عَوز الطبيعة" عبر تشجيع الأنشطة الخارجية. من جهة أخرى، تعمل شركات مثل "أبل" على تطوير ميزات مثل "الوقت المحدد للتطبيقات"، بينما تواجه "ميتا" انتقادات بسبب طرحها نسخة من "إنستجرام" موجهة للأطفال. تقول الدكتورة جين توينج: "الوقت هو العملة الوحيدة التي لا تُعوَّض؛ فكروا جيدًا فيما تشترونه بها".
المدنمنذ 3 أيامترفيهالمدنالتكنولوجيا والأجيال: صراعات الهوية الرقميةقبل أسابيع قليلة، كنت جالسًا مع زميلي وصديقي نعيم على كَنَبَة الانتظار في قصر اليونسكو، نترقب بدء حفلة الفنان خالد الهبر. فاقترب منَّا الصحفي المخضرم نصري الصايغ طالبًا الانضمام إلينا. لم يمانع رائحة السيجارة الكوبية التي بين أصابعي، بل اعترف بابتسامة: "أحب رائحة التبغ لكني ودَّعتُ التدخين". رددت بمزاح: "وودَّعتَ الكتابةَ أيضًا.. أين اختفيت؟". انطلق الرجل يحكي عن اعتكاف اختياري عن العمل الصحفي منذ ثمانية أعوام، ثم دار الحديث عن مهنتي في عالم البرمجة والاتصالات. كلما تعمقنا في الشرح، ازداد فضوله، خصوصاً حين تطرقنا لموضوع الذكاء الاصطناعي وتطبيق "شات جي بي تي". هزَّ رأسه وقال كمن يلخص رحلة عمر: "أنا ابن الورقة والقلم". في اللحظة ذاتها، أمسك نعيم بهاتف نصري، وحمَّل تطبيق "شات جي بي تي". لمدة نصف ساعة، تحوَّل الصحفي الكهل إلى طفل في متجر ألعاب: يسأل بفضول، يُجرب الأوامر، يتعلم. راقبتُ المشهد كمن يُصور فيلمًا؛ ففي تلك اللحظات اكتشفتُ أن جيل "البومرز" لا يكره التكنولوجيا، بل يعاني حيرة العاشق القديم: يتوق لاحتضان الحداثة، لكنه يخشى ارتكاب الأخطاء. "لا بأس إن أخطأتَ في الكتابة.. التطبيق يُصلح نفسه بنفسه"، قلتُ وهو يتردد في الضغط على الزر. ابتسم كتلميذٍ يخطو أولى خطواته في عالم لا يحكمه الحبر، بل اللوغاريتمات. المهاجرون الرقميون جيل "البومرز" (1946–1964) هم الذين تعلَّموا استخدام التكنولوجيا الحديثة في مرحلة متأخرة من حياتهم. يحملون هواتف ذكية، لكنهم يفضلون إرسال رسائل صوتية بدلًا من الكتابة على شاشات اللمس. غالبًا ما يكونون ضحايا سهلة للاختراقات الإلكترونية. كشفت دراسة لمعهد "بيو" عام 2022 أن 70% منهم يخشون سرقة بياناتهم الشخصية، لكن 85% يستخدمون كلمات مرور بسيطة مثل "123456". رغم ذلك، يُعتبر هذا الجيل الأكثر إنفاقًا عبر الإنترنت في الولايات المتحدة (43% حسب إحصائيات فوربس)، لكنهم يصرُّون على الدفع نقدًا عند استلام المشتريات؛ خوفًا من "قراصنة الإنترنت الذين يسرقون بيانات البطاقات". في الواقع، هذا الجيل ليس غريبًا تمامًا عن عالم التكنولوجيا. فهم عاصروا اختراعات ثورية مثل الغسالات الكهربائية التي غيَّرت حياتهم اليومية وسوق العمل، لكنهم تعوَّدوا على بساطة الأجهزة ذات الأزرار الكبيرة والتعليمات الواضحة. حتى اليوم، يبحثون عن التكنولوجيا التي تعمل دون تعقيدات، تمامًا كما اعتادوا في الماضي. وتعمل كبرى الشركات مثل أمازون، ومؤخرًا "Open AI"، على بناء تطبيقات تناسبهم بسبب قدرتهم الشرائية. الجسر السري بين عالمين يتميَّز جيل إكس (1965–1980) بأنه عاش طفولةً خاليةً من الإنترنت، لكنه دخل سوق العمل مع صعود أولى أجهزة الكمبيوتر المكتبية، ثم المنزلية لاحقًا. هذا الجيل الهجين يجمع بين الشكِّ في التكنولوجيا والكفاءة في استخدامها؛ يُرسلون إيميلات العمل في منتصف الليل، لكنهم يضعون الهاتف على وضع الطيران أثناء العطلات كحدٍّ فاصل بين الحياة المهنية والشخصية. تستهدفهم شركات التكنولوجيا عبر استثمار ذاكرتهم الجمعية: فمنصة "لينكدإن" تعيدهم إلى زمن السير الذاتية الورقية بلمسة عصرية، بينما تستعيد "نتفليكس" ذكريات تسعينيات القرن الماضي عبر إعادة بث مسلسلات مثل "Friends". مفارقتهم الأبرز، هم مَن روَّجوا لشعار "التوازن بين العمل والحياة"، لكنهم أيضًا الذين ساهموا في اختراع الهواتف الذكية التي تحوَّلت مع الوقت إلى أغلال رقمية تُقيِّد الأجيال اللاحقة بأعباء التواصل المستمر. الأخ الأوسط في عائلة التكنولوجيا يقف جيل الألفية أو الميلينيلز (1981–1996) كـ "الأخ الأوسط" الذي يربط بين عوالم التكنولوجيا القديمة والجديدة؛ يُعلِّمون الجدَّة استخدام فلتر إنستغرام بينما يطلبون من المراهق شرح الـ"NFT". هم جسرٌ بين زمنين: تقليديون بما يكفي لتذكُّر أقراص الـ CD، وحداثيون لتحويل هواياتهم إلى مشاريع رقمية عبر البودكاست أو اليوتيوب. دراسات "جين توينج" (جامعة سان دييغو) في كتابها "Generations" تكشف كيف أعاد هذا الجيل تعريف "النضج" المجتمعي؛ فـتأخرهم في شراء المنازل أو الزواج بسبب تقلبات الاقتصاد وهيمنة التكنولوجيا، أجبر العالم على ابتكار مفاهيم جديدة للاستقلالية. اليوم، وهم في بداية عقدهم الرابع، يصمِّمون تطبيقات "التأمل" و"إدارة الوقت" لمواجهة إدمانهم هم أنفسهم على التحديثات التكنولوجية. جيل زد: بين إتقان التكنولوجيا وبين فقدان المهارات الحياتية يُوصف جيل "زد" (مواليد 1997–2012) بأنه أول جيل يولد في عصر الهواتف الذكية، حيث يتقن لغة التكنولوجيا بفطرة، لكنه في الوقت نفسه يُعد الأكثر تشكيكًا في تداعياتها. فبينما تُحدِث محتوياتهم الإبداعية على "تيك توك" تحولات في المشهد الاقتصادي، وتنجح حملاتهم النقدية على منصات مثل "ريديت" في إسقاط شركات كبرى، تكشف دراسة حديثة لـ"ديلويت" (2023) أن 76% من أفراد هذا الجيل يطمحون لريادة الأعمال، لكنهم أيضًا الأكثر معاناة من القلق المزمن تجاه المستقبل. يعيش الجيل تناقضات صارخة تلامس تفاصيل حياتهم اليومية؛ فهم يستهلكون منتجات صديقة للبيئة، رغم اعتمادهم على تطبيقات توصيل تزيد من الانبعاثات الكربونية. كما يبرز فجوة بين مهاراتهم التقنية المتقدمة – مثل برمجة المواقع المعقدة – وضعف الكفاءة في المهام البسيطة، حيث يلجأون إلى "يوتيوب" لتعلم أساسيات مثل استبدال لمبة إضاءة. ولا تقتصر التناقضات على السلوكيات اليومية، بل تمتد إلى علاقتهم مع الطبيعة، إذ تشير ظاهرة "عَوز الطبيعة" (Nature Deficit Disorder) – التي تُعزى إلى انخفاض التفاعل المباشر مع البيئة الطبيعية – إلى تبعات صحية ونفسية تتفاقم بين الشباب بسبب الانقطاع التام عن الطبيعة. رغم اتصالهم الدائم بالعالم الافتراضي، تُشير البيانات إلى أن هذا الجيل هو الأكثر عُرضة للشعور بالوحدة، إذ حلَّت التفاعلات الرقمية محل التواصل وجهًا لوجه، مما أضعف المهارات الاجتماعية التي تراكمت عبر آلاف السنين. دراسة في كتاب "Generations" تشير إلى أن 30% من مواليد 2005 فما فوق لم يحاولوا حتى التعارف وجهًا لوجه قبل الجامعة. مُعادلة الحلول: بين الحظر وإعادة التصميم المطالبات بحظر الهواتف على من هم دون 16 عامًا تكتسب زخمًا مع صعود أدلة على أضرارها العصبية، لكن التجربة الفنلندية (2023) تقدِّم نموذجًا بديلًا يعتمد على تعليم الطلاب استخدام التكنولوجيا باعتدال، بدلًا من منعها، وهو ما قد يسهم في تخفيف ظاهرة "عَوز الطبيعة" عبر تشجيع الأنشطة الخارجية. من جهة أخرى، تعمل شركات مثل "أبل" على تطوير ميزات مثل "الوقت المحدد للتطبيقات"، بينما تواجه "ميتا" انتقادات بسبب طرحها نسخة من "إنستجرام" موجهة للأطفال. تقول الدكتورة جين توينج: "الوقت هو العملة الوحيدة التي لا تُعوَّض؛ فكروا جيدًا فيما تشترونه بها".