٠٢-٠٦-٢٠٢٥
ماك ميلر في Balloonerism... تلك البراءة المفقودة
لا يزال صدى الرحيل المبكر لمغني الراب ماك ميلر عام 2018 يتردد في عالمنا. هذا ما نتلمسه في
فيلم الأنيميشن
القصير Balloonerism للمخرج سام ماسون الذي صدر أخيراً. يمثّل هذا العمل امتداداً روحياً لألبوم ميلر غير المكتمل (سُجل عام 2014) وأطلق بعد عقدٍ من الزمن.
تُطلق موسيقى ماك ميلر من عقالها في الفيلم وتتحول إلى راوٍ خفي ينسج سرديته الخاصة عبر الإيقاع والكلمة، ولا تكون مجرد خلفية للصورة؛ إذ يُعيد المخرج تعريف العلاقة بين الصوت والصورة لينبضا بإحساس واحد. وبفضل تصميم رسومات احترافيّ، تتحول موسيقى عوالم ميلر إلى مشاهد في سينما ماسون، ذلك عبر لغة بصرية مُعقدة وحالمة، فنرى الطفولة المهدورة والصراع مع الإدمان وكوابيس الموت المبكر التي تحولت إلى نبوءة في أغانيه، وتحقّقت في النهاية.
سام ماسون، المخرج ذو الأعمال القليلة، يصوغ عالماً سينمائياً يستحضر أسئلة الوجود والطفولة والفقدان. يدمج بين الأنيميشن التجريدي والسرد غير الخطي. يتحدى مفاهيم السينما التقليدية، داعياً المشاهد إلى الشعور بدلاً من الفهم. يتبنى أيضاً مقاربة غير مألوفة في توظيف الموسيقى، لتتحول من داعمٍ للصورة وإلى محركٍ رئيسي للسرد.
يفتتح الفيلم بأغنية Excelsior. لا تُستخدم فقط لخلق جو عاطفي، بل تُحول الألحان الوترية إلى قوة سحرية تدفع الشخصيات إلى عوالم موازية. وفي مشهد سقوط الأورغن من السماء، تتزامن نغمات الآلة مع تحولات الأنيميشن، وكأن الموسيقى نفسها تُخرِج الأطفال، بعد أن تحولوا إلى قوارض بريئة، من واقعهم إلى كابوسهم.
يتبنى الفيلم جمالية سوريالية تذكرنا بأعمال ديفيد لينش وهاياو ميازاكي، إنما بلمسة معاصرة. الشخصيات مُصممة بتفاصيل واقعية تشبه الدمى المتحركة، فاقدةً تماماً السيطرة على ما حولها. تتحرك في فضاءات مريبة كملاهٍ مهجورة وغابات متشابكة تضيئها ألوان قزحية، ودائماً ما يختتم المشهد أمام الشخصيات المغلوب على أمرها برقاصِ ساعةٍ عملاقة يحطم الزمن نفسه.
الانتقالات بين المشاهد تتبع تغيرات المزاج الموسيقي لا الحبكة، فالفيلم صامت، باستثناء الموسيقى التي تتعاون مع الصورة. عند هذا التزامن تُترجم الإيقاعات الموسيقية إلى حركات ميكانيكية أو تحولات سوريالية في المشهد. التقنيات البصرية تتنقل بين الـ3D المُقدَّم بدقة نسيجية والرسوم ثنائية الأبعاد في الخلفيات التي تشبه لوحات مائية منحوتة بالضوء. هذا الجهد الجبار هو لدانييل كالابي (مخرج الرسوم في مسلسل Arcane) الذي استطاع برسوماته هذه خلق تناقض بين واقعية التفاصيل وغرابة الفضاءات، ما يعمق شعور المشاهد بالانفصال عن المنطق السينمائي المعتاد.
في مشاهد عديدة، تتناقض الصورة مع كآبة الكلمات. هذا يخلق لدى المشاهد تنافراً معرفياً يعكس وجهة نظر المخرج والرابر عن التعايش مع الموت في ظل ثقافة الاستهلاك. وكما في مشاهد تحول الأطفال إلى قوارض كاستعارة عن الهروب من الواقع وتشويه براءة الأطفال، يأتي مشهد السلحفاة العملاقة التي تزحف خلف الأطفال كاستعارة ورمز للبلوغ القاسي، وفي النهاية تنفتح أرضية الملعب التي يركض عليها الأطفال لتبتلعهم وترميهم بين أقراص دواء متنوعة. يبدو أن عالم البالغين مبني عليها.
سينما ودراما
التحديثات الحية
"أندور".. أفضل مسلسلات حرب النجوم يعود بموسم ثان وأخير
العنوان المخاتل Balloonerism مشتق من Balloon وTerrorism، وهو يلخص تناقض حياة ميلر الأساسي وعلاقته بالمخدرات، براءة الطفولة (البالون) انفجرت بعنف (الإرهاب). المشهد الأكثر إيلاماً هو ذاك الذي تُسمع فيه أغنية Dollar Pony Rides 5، إذ يظهر الأطفال وهم يركبون أحصنة آلية في ملاهٍ مهجورة، بينما الكلمات تتحدث عن الركض خسراناً وراء المتعة الرخيصة. الملعب هنا استعارة لعالم ميلر نفسه: مكان يبدو مرحاً من الخارج، لكنه فارغٌ من الداخل.
على الرغم من قلة أعماله، يثبت ماسون (الذي أخرج فيديو كليب Colors and Shapes لماك ميلر عام 2021) أنه ساحر وصاحب بصيرة. فلسفته الفنية تعتمد على تفكيك السرد وخلق عوالم مفتوحة للتأويل، فالصورة تكون لغزاً يُحفّز المشاهد على طرح الأسئلة، وليس على البحث عن إجابات. أسلوبه يُذكرنا بتقنيات السينما التجريبية في الستينيات (مثل أعمال ستان براكاغ)، إذ نرى المونتاج السريع والانزياحات البصرية تُستخدم لخلق صدمة عاطفية.
في Balloonerism، يعيد ماسون تعريف دور المخرج بصفته مهندسَ مشاعر، ليس كونه مُخبرَ حكايات، دوره أشبه بمنظمٍ للفوضى، يدمج عناصر متنافرة لخلق تناغم غريب، وتصنيع ضريح سينمائي لصديقه الرابر الذي لم يكف عن البحث عن معنى في عالم مجنون. الفيلم ليس سهلاً بالتأكيد، وهو تمثيلٌ حقيقي لنظرة ماسون للفن الذي يعاش والذي يظلل البشرية من ضجيج العالم.