أحدث الأخبار مع #محمدأركون


الشروق
منذ 19 ساعات
- سياسة
- الشروق
الحداثويون وقصة تجديد التراث!
إن 'تجديد التراث' دعوة حق في كثير من الأحيان يُراد بها باطل حين يرفع رايةَ التجديد في تراثنا العربي الإسلامي ثلةٌ من الباحثين المتأدلجين -بدرجات متفاوتة- من الذائبين في المناهج الغربية إلى حد الغرق، غايتهم من هذا التجديد هدم بناء التراث -الذي علا بنيانه قرونا- باسم 'الحداثة' وبدعوى 'العقلانية' فيتحول العقل إلى سلطة حاكمة تقرر تفكيك الأصول المعبِّرة أساسا عن هوية تراثنا ثم تقوم بإلغاء ما تراه في زعمها قابلا للإلغاء أو تقوم بتأويل ما تراه قابلا للتأويل مُسايرة للمنهج الغربي الحداثوي الذي 'يؤنسن' المقدس أو للهوى السياسي للأسف في عالم أصبح رجل العلم فيه تابعا لرجل السياسة المكيافللي البراغماتي. ويحاول بعض هؤلاء الداعين إلى إعادة نقد التراث خاصة ما تعلق بالموروث الديني الإسلامي أداء الدور ذاته الذي أدّاه العقلانيون الغربيون المقَعِدُون للعلمانية في مناهضتهم للكنيسة والفكر المسيحي الذي أراد أن يسوس الحياة الغربية بشمولية وقمع للفكر العلمي الحرّ، والدارس للدكتور محمد أركون مثلا سيجد ملامح هذا التقمُّص في نقده للتراث الإسلامي ظاهرا في كثير من مصطلحاته التي أفرزها المنهج النقدي التنويري لـلتراث الغربي المسيحي في القرن الثامن عشر… إن دعاة التجديد في التراث من أصحاب التوجه الغربي المعادين للهوية الإسلامية هم خصومٌ أشداء للتراث الإسلامي؛ فهم يقودون حملتهم لهدم أصوله عن طريق نقد يلبس لباس العلم مبني على مناهج لا تتوافق مع البيئة العقدية والفكرية التي نشأ فيها هذا التراث الذي يملك خصوصيته في دائرة العقائد والتشريع والأخلاق والأعراف بل وحتى التاريخ والجغرافيا، وما له علاقة بالدائرة الإنسانية المشتركة، فإن السياقات بين المواريث الإنسانية التي تؤسسها الفطرة في كثير من الأحيان تتلاقى وفي أحيان أخرى تتعاكس لتأثير البيئة العقلية والروحية… فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه' متفق عليه. ويعتمد هؤلاء الناقدون للتراث في العملية النقدية المنهجية بالتركيز على إشاعة أن التراث بأصوله وفروعه وتنوّعه ما هو إلا إنتاج إنساني تاريخي قابل للنقد والتغيير بعمومه، ويدخل في هذا المعنى عند هؤلاء المتعصّبة للمنهج الغربي الحداثي حتى نصوص القرآن الكريم والسنة، صحيحة الثبوت، وصريحة الدلالة، وهذا ما عبّر عنه الدكتور نصر حامد أبو زيد حين وصف القرآن في كتابه [نقد النص ] بأنه 'منتَج ثقافي أنتجه واقعٌ بشري تاريخي'. وقال وهو يدعو إلى التحرر من سلطة القرآن في كتاب ه[الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية]: 'وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان'. وفي هؤلاء قال الأديب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله:'إنَّهم يريدون أن يجدِّدوا الدين واللغة والشمس والقمر'، وأشار إليهم شاعر الإسلام محمد إقبال، حين قال:'إن جديدهم هو قديم أوروبا' ثم قال: 'إن الكعبة لا تُجدَّد، ولا تُجلَب لها حجارةٌ من الغرب'! إن الحداثويين من دعاة التجديد يجتزئون من التراث ما يخدم آراءهم ولهذا نجد الكثير منهم يستعينون بالتراث الصوفي الحلولي لجعله الوجه الراقي الحر للفكر الإسلامي فيحتفون بـالحلّاج وابن عربي وقريبا منهما إلى حد كبير التوحيدي، وغيرهم من أشباههم، ويستمدون مرجعيتهم من مثل هذه الشخصيات المقلقة في تاريخنا التراثي، ويضيقون بأمثال الإمام الشافعي أول مُقَعّد لعلم الأصول والإمام ابن تيمية وباقي علماء الإسلام من محدثين ومفسرين وفقهاء. إن الاعتقاد الذي يسوّق له الحداثويون بأن التراث العامّ الذي تراكم بين أيدينا مع مرور القرون لا بد من التعامل معه من منطلق أنه وحدة قابلة كلها للنقد العقلي وحرية الاجتهاد في تأويل ما لا يقبل التأويل، مثل النصوص الدينية صريحة الدلالة، وفق مناهج مستورَدة من بيئات مختلفة باسم 'الحداثة' و'ما وراء الحداثة' هو ضربٌ من الجنون المركّب، فجلّ نتائج الحداثويين العقلية في تعاملهم بالأخص مع التراث الإسلامي أشبه ما تكون بـ'وحش فرانكنشتاين' الذي أوجده الكميائي 'فيكتور فرانكنشتاين' أحد أبطال الرواية الخيالية التي كتبتها الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي [1797-1851]، وانتهى به المطاف بعد سلسلة من الجرائم التي اقترفها على طوف جليدي في القطب الشمالي سرعان ما غاب وهو يطفو عليه في الظلام إلى الأبد. إن الحداثويين من دعاة التجديد يجتزئون من التراث ما يخدم آراءهم ولهذا نجد الكثير منهم يستعينون بالتراث الصوفي الحلولي لجعله الوجه الراقي الحر للفكر الإسلامي فيحتفون بـالحلّاج وابن عربي وقريبا منهما إلى حد كبير التوحيدي، وغيرهم من أشباههم، ويستمدون مرجعيتهم من مثل هذه الشخصيات المقلقة في تاريخنا التراثي، ويضيقون بأمثال الإمام الشافعي أول مُقَعّد لعلم الأصول والإمام ابن تيمية وباقي علماء الإسلام من محدثين ومفسرين وفقهاء ويتهمونهم بأنهم يتحدثون انطلاقا من 'السياج الدوغماتي'… وعلى أساس هذا المنهج فهم ينتقدون تفسير جهابذة العلم من علماء الإسلام المعتبرين في الأمة، ولكنهم يثقون في التفسير الاستشراقي للنصوص التراثية ومنها القرآن والسنة كما يدعونها، ولا يخجلون من الاعتماد على الأساطير والروايات الضعيفة والموضوعة في تقريرهم لمجموعة من المفاهيم والأفكار التي يسمونها 'حقائق علمية'! على أن معارضة التجديد الذي يربط الإنسان المسلم بواقعه بالتمكين للأصول التي لا تقبل تغييرا وتحفظ هويته وتفسح له المجال للإبداع والتطور والتأثير في عالم الأفكار والأشياء، أمرٌ لا بد منه لكي لا يكون المسلم حبيس 'الأبائية' التي هي اتجاه مقابل لاتجاه 'الحداثوية'، وبين الاتجاهين اتجاهٌ ثالث يسعى للتوفيق والتلفيق بينهما بإيجاد بدائل من التراث تتوافق مع ما عند الطرف الغربي، ومحاولة إيجاد الحلول من داخل الموروث نفسه لمشكلات معاصرة، غير أن هذا الاتجاه متَّهم بالفشل في إيجاد مشروع إصلاحي ينتشل الأمة من نكستها الحضارية. ومهما يكن من أمر فإن تراثنا هو مجموعة من المواريث المتنوعة المتراكمة، منها جزء كبير مواريث مرتبطة بالسماء لإعمار الأرض وإصلاحها وخدمة الإنسان أولا ليحقق العبودية التي من أجلها خلقه الله… و'الميراث السماوي' فيه مساحة كبيرة أتاحت للعقل مهتديا بالنقل أن يجتهد فيها ليوجد حلولا تناسب التوقيت الذي يعيشه، وفي المواريث الإنسانية جزء كبير من التجارب والخبرات 'الحكمة' التي قد تنفع ولا تضر خاصة في الجانب المرتبط بـ'التقنية' فالمسلم أولى بالاستفادة منها لخدمة المقاصد الكبرى التي عليها تقوم الحياة.


النهار
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- النهار
برامج تلفزيون الواقع بين المرئيّ التّرفيهي والمخفي المدمّر... ما كان ليقول بورديو لو كان حياً؟
لو سألنا واحداً من متابعي برامج الواقع كـ"قسمة ونصيب" و"الأسد الحقيقيّ" التي تُعرض على منصّة يوتيوب:" هل تعرف محمد أركون أو زكي نجيب محمود أو طه حسين أو إدوارد سعيد أو علي الوردي أو هشام جعيط...؟ فهل كنّا لنحصل على إجابة دقيقة كسؤالنا عن:" هل تعرف وجدان أو فرح أو علي أو فارس أو أميمة أو لارا أو روشين أو يسر أو إسراء...؟". تحمل القائمة الأولى أسماءً صنعها فكرُها وبحوثها ونظرياتها وكُتبها. وتحمل الثّانية أسماءً صنعتها "الأوديمات" أو نسب المشاهدات والإبهار و"بيع" الوهم والإغواء بالرّبح السّريع، حتّى عاطفيّاً، بتحويل المشاعر إلى سلع تُنتج بحسب المواصفات المطلوبة والمفروضة بسيناريو يحوّل المشتركين إلى لاعبي أدوار، ليحولوا بدورهم مشاهديهم إلى لاعبي أدوار. ويجتمع الكلّ في دور استراتيجي: تدمير الثّقافة الأمّ والدّخول في قطيعة تامّة معها لتحلّ محلّها ثقافة الآخر وممارساتها فتهيمن عليها، بل وتبتلعها. وهو ما يُعرف بالهيمنة الثّقافية، وفق ما نظّر لها عالم الاجتماع بيار بورديو (1930/2002)، الذي مايز بين المثقّفين الفاعلين في الحراك المجتمعي فكريّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وبين الشّخصيات التي لا فعل لها ولا أثر غير اللّهاث خلف الشّهرة متّخذة "الغاية تبرّر الوسيلة شعاراً لها"، ويساعدها التّلفزيون في تفعيل هذه "الغريزة" مقابل تهميش طبقة المثّقفين والمفكّرين. وبناء على ذلك، كان توصيفه التّلفزيون آلة جهنّميّة مدمّرة للعقل ومكرّسة للهيمنة الثّقافيّة. فماذا لو كان بورديو بيننا اليوم وشاهد نوعية البرامج التي تبثّ على يوتيوب: أيّ معالجة قد يقدّمها للواقع؟ لنتّفق من البداية على أنّ الإشكال ليس بالتّطوّر التّقني، سواء في المرحلة السّابقة التي ظهر فيها التّلفزيون أم في المرحلة المعاصرة بظهور هذه المنصّات الرّقميّة، ولكنّه في الاستخدامات. فالمشغل الذي يجب التّركيز عليه: كيف يمكن استخدام هذه البيئة الرّقمية بمختلف مكوّناتها الاتّصالية من دون المساس بالخصوصيّة والهويّة؟ لكن هل يمكن بلوغ ذلك ونحن اليوم أمام برامج تصادر الخصوصيّة والهويّة عن وعي أو من دون وعي، مقابل سيطرة الثّقافات الوافدة، وبخاصّة منها الأميركية، إذ إن أغلب البرامج التي تحدّثنا عنها هي نسخ عن لبرامج أميركية. نبذة من البرنامجين فكرة البرنامجين، رغم اختلاف تفاصيل التّنفيذ، تقوم على: جمع شباب من مختلف الدّول العربيّة داخل فضاء مغلق منعزل في غابة أو جزيرة قصد التّعارف تحت مسمّى البحث عن شريك الحياة والزّواج والتنافس على اللّقب للثّنائي الفائز. يتشابه المشتركون في النّقاط الآتية: محدوديّة التّعليم (لدى الأغلبية)، والعمل في مجال عرض الأزياء والتجارة والحلاقة والحياة المستقلّة بعيداً عن العائلة، والإقامة في تركيا والدّول الأوروبيّة. وأكثر من ذلك، تجمعهم استعداداتهم التّامة لـلإذعان التّام لأوامر الإدارة والمخرج على كل المستويات، من الملابس إلى كيفيّة التّصرّف في تصوير الحلقات وغيرها، ومن يحِد عن القاعدة يتمّ إقصاؤه. يعيش الجميع في داخل فضاء أشبه بـ"معسكر" مضبوط التّنظيم والقواعد والعقود التي تجعل المشترك تحت السّيطرة. وتختلف تفاصيل "السّيطرة" من برنامج إلى آخر. فقد فرض برنامج "الأسد الحقيقي" في حلقته الأولى على تسع فتيات النّزول إلى فضاء التّصوير كعارضات أزياء، حتى أن كاميرا المخرج في التقاطها للزّوايا تثبّت ذلك. ومن ثمّة تصطفّ الفتيات أمام ثلاثة فتيان يقوم كلّ واحد منهم بانتقاء ثلاث فتيات. طبعا لا يمكن لأيّ مشاهد سويّ ألاّ يستحضر سوق النّخاسة ومسلسلي "الحرملك" و "باب الحارة"، وهو يرى كيفيّة " تسليع" الفتيات في عمليّة الانتقاء. أمّا نقطة الضّوء الوحيدة فكانت المشتركة الجزائريّة ماسليا، التي تمرّدت وانسحبت، بعد أن اكتشفت أنّ أسلوب تنفيذ البرنامج مهين لها كامرأة، وأعلنت ذلك عبر المنصّات الرّقميّة. ويُعرض البرنامجان على منصّة يوتيوب من الإثنين إلى الجمعة في مدّة زمنيّة تتراوح ما بين السّاعة والنّصف والسّاعتين أحياناً. ويسبق البثّ نشاط ترويجيّ على بقيّة المنصّات الرّقميّة بنشر فيديوهات قصيرة و"تجييش" الجمهور لتخصيص جزء كبير من وقته للنشر حول هذه البرامج، فتنشط التعليقات، وتتحوّل المضامين إلى قضايا محوريّة، بل مركزيّة عامّة والشّباب في الفضاء الافتراضي العربيّ، وكأنّها تطرح قضايا وجوديّة. المخفيّ في برامج الواقع على يوتيوب؟ تلهي هذه البرامج الشّباب عن واقعه وتعزله عن سياقه، فتنهي علاقته بمحيطه، ورويداً رويداً تصل به إلى مرحلة عدم الانتماء والتّخلّي التامّ عن هويّته، أو الأصح الانتماء إلى ثقافة الآخر. فإذا قمنا بتفكيك السّياق الذي تبثّ فيه هذه البرامج سننتبه حتماً إلى أنّها عُرضت وتُعرض في سياق عربيّ مأزوم. فبينما يبكي أطفال فلسطين ويقتلون على مرأى العالم وتُهدم البيوت، وبينما يبكي لبنان، ويهدّد الجوع والفقر العالم، بل وتهدد الطّبيعة الإنسانية بتقلّباتها المناخيّة المفاجئة والسّريعة وما تخلّفه من زلازل وحرائق، وبينما ينشغل جزء من شباب العالم بالابتكارات الرّقمية، ونعيش اليوم تحت سلطة الرّقمي والذكاء الاصطناعي، وبتنا نطرح مسألة الحروب الذّكية، في كلّ هذا السّياق العربي والعالمي المرعب، تتسمّر مجموعات من الشّباب أمام شاشات يوتيوب لساعات لمشاهدة شباب آخرين جعلوا من أهدافهم في الحياة منحصرة بالعلاقات العاطفيّة والزّواج وافتعال المشاكل في تفاصيل حياة يوميّة فارغة من أيّ اهتمام فكري. ومن ثمّة يتمّ إغراق الجمهور في انفعالاته، وتُنمّى هشاشته، ويُخدّر العقل تماماً. وهكذا يصبح الجمهور الشاب أو الشباب في داخل البرامج ضحايا منظومة تقوم على الهيمنة الثّقافية، بحسب بورديو، تحت مسمّى المثاقفة. وهنا يجب التنبيه إلى ضرورة التّفرقة بين المصطلحين: أمّا المثاقفة فهي النّدية في الحوار الثقافي بين الأنا والآخر، وأمّا الهيمنة الثّقافية فهي ذوبان الذّات وتحلّلها في داخل ثقافة الآخر. كان من المفترض أن يكون هؤلاء الشّباب في داخل المؤسّسات الجامعيّة أو في المكتبات أو حاملين لمشروع أو منتجين لفكرة ما أو في أعمالهم، وليسوا وسط فراغ دائم، بل أصبح وقت الفراغ لهم ممارسةً يتقاضون عليها أجراً بحكم أنّهم يحصلون على مقابل مادّي أسبوعيّ. وأصبحت ممكنة برمجة العقل على أنّ المكافأة لا ترتبط بالعمل والاجتماع وانّما بإنتاج الفراغ والرّاحة والسّبات الطّويل، بل يمكن القول إنه بقدر ما يكون الشّاب بارعاً في زيادة أوقات فراغه وتخصيصها للبرنامج بقدر ما يضمن الشّهرة السّريعة والرّبح المضمون، بحسب منطق عمله. وكأنّها جهود خفيّة تعمل متضامنة من أجل تثبيت الفكر الاستهلاكي في العقل الباطني للشّاب العربي والاطمئنان إلى أنّه في حالة تخدير تامّة تجعله مستعدّا للاستعمار الفكري. إنّه شكل من أشكال الاختراق الثّقافي الذي يعبّر عنه في فلسفة بورديو بالهيمنة الثقافية والعنف الرّمزي. برامج "العنف الرّمزي" يعرّف بورديو العنف الرّمزي على أنّه عنف غير مرئيّ يمارس بطريقة ناعمة عبر التّواصل وتلقين المعارف. وبناء على هذا المفهوم يُمكن الإقرار بأنّ الوسائط الرّقميّة كيوتيوب أصبحت الأجهزة المستخدمة في ممارسة العنف الرّمزي عبر النّشر والتّرويج لثقافة البلدان الأكثر سلطة اقتصاديّا. ويعتبر الرّأسمال الاقتصادي وفق ما طرحه كارل ماركس، والذي يجعل من الصّراع طبقيّا بين البورجوازيّة والبروليتاريا هو المحدّد للثّقافة التي ستحظى بسلطة الانتشار والهيمنة على حساب ثقافة أخرى وفق ما طوّرها بورديو. ومن هناك نحن أمام برامج تعمل تدريجيّا على طمس الهويّة والخصوصيّة، بل وتسطيح مفهوم الهويّة بحدّ ذاته إلى درجة أنّه بعد سنوات من الآن قد يجد أحدنا نفسه مجرّد فرد يتموقع في داخل رقعة جغرافيّة تنتمي إلى جغرافيا تتبع المنطقة العربيّة، ولكنّ لا تربطه أيّ صلة بثقافة هذه الرّقعة التي ينتمي إليها، فيتّقن الإنكليزيّة على حساب اللّغة العربيّة، ويلبس من العلامات التّجاريّة الأجنبيّة، ويتلذّذ بالجبن السّائح من الهامبرغر والبيتزا والوجبات السّريعة من المطاعم الأجنبيّة، ويبيح لنفسه ممارسات هجينة على هويّته وغيرها من الممارسات. يعمل جزء من شاشات التّلفزيون أو اليوتيوب على ردم كلّ ما له علاقة بالخصوصيّة الثّقافيّة لكل بلد عربي. لو كان بورديو بيننا؟ لو كان بيار بورديو بينا لاشتغل على مفهومه "الهابيتوس" باعتباره ثلاثيّ الأبعاد متكوّناً من سلوكيّات الفرد وتمثّلاته للعالم وميولاته الجسديّة وثقافته وممارساته التي يتمّ إنتاجها وإعادة إنتاجها من خلال تفاعلاته مع واقعه ومجتمعه وعالمه. فـ"الهابيتوس" هو مجموع الاستعدادات والممارسات التي هي نتاج التّنشئة الاجتماعية ومكتسبة عبر التّجربة الفرديّة ومنتجة بدورها لممارسات جديدة. وهذا ما يؤكّد أنّه متغيّر. ولتغييره يجب أن نعود الى المؤسّسة التّربويّة، ولكن ليس فقط المؤسسّة التّعليميّة، ولكن المؤسّسة التربويّة التي تجمع الفضاء التعليمي والتكويني المدرسي والجامعي والفضاء الأسري ودوره في ذلك. وبناء على الفكر النّقدي لبورديو حول العالم اللّيبرالي الجديد بمؤسّساته الشّرعية مثل المدرسة، والعلم، والصحافة، والدين، فإنّ هذه المؤسسّات بحاجة اليوم إلى العمل الجماعي على سياسة عموميّة شاملة قادرة على التّرويج لثقافة مضادّة من شأنها أن تكون عازلاً قويّاً بين الشّباب وما يتعرّض له من رسائل اتصاليّة وإعلامية عشوائيّة على المنصّات الرّقميّة... إنّها سلطة الرّأسمال الاقتصادي. نعتقد أنه لو كان بيننا اليوم بيار بورديو لعاد وطوّر ما طرحه حول سوسيولوجيا التّربية وأدمج فيها دور العائلة الى جانب المؤسّسة التّربويّة.


الشرق الأوسط
١١-٠٣-٢٠٢٥
- علوم
- الشرق الأوسط
أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق
يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد. علم الفيزياء واحد في طوكيو أو الرياض أو القاهرة أو أبوظبي أو نيويورك، إلخ. لا يوجد عقل خاص بالجامعات العربية وآخر خاص بالجامعات الغربية. أما العقائد التراثية فهي خصوصية. فالمولود في التراث الصيني الكونفشيوسي مثلاً غير المولود في التراث المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي. ولكن المناهج الفلسفية العقلانية السائدة في الصين هي ذاتها السائدة في كل مكان. العقل واحد للبشرية والتراثات الخصوصية شتى. هل أصاب هيدغر عندما قال إن الفلسفة هي حصراً إغريقية وأوروبية غربية فقط؟ بالطبع لا. وإلا فماذا سنفعل بفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل، إلخ؟ ماذا سنفعل بفلاسفة الصين والهند؟ ولكن يبقى صحيحاً القول إن الفلسفة في العصور الحديثة بلغت أوجها في الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى. فلا يوجد عند العرب ولا عند الصينيين ولا عند سواهم فلاسفة في حجم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، إلخ. ولهذا السبب فإن اليابان التي هي أكبر بلد مترجم في العالم تكلِّف الأساتذة الأكاديميين عندها بترجمة كبار فلاسفة الغرب إلى اللغة اليابانية. فهناك أكاديميون مختصون بترجمة هيغل، وآخرون بترجمة كانط، إلخ. كل أكاديمي ياباني مختص بترجمة أحد فلاسفة الغرب الكبار. وعلى هذا النحو اغتنت اليابان بالفكر الحديث منذ زمن إمبراطورية الميجي: أي إمبراطورية العهد المستنير. عُدْنا إلى التنوير. لا مفرَّ منه. التنوير نجح في اليابان على عكس العالم العربي لأنهم عثروا على تلك الصيغة السحرية التي تجمع بشكل موفق بين التراث والحداثة. أو قُلْ لأنهم عثروا على الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة، التي لا نزال نبحث عنها منذ أيام محمد علي حتى الآن. من هنا سر عذابنا وتخبطنا. قلنا إن الفلسفة تعني أن نعيش بالعقل، بواسطة العقل. ولكنَّ الفلسفة تعني أيضاً طرح التساؤلات الراديكالية حول جوهر التراث ومعنى الوجود. الفلسفة تساعد على تحرير الروح من ظلماتها وتراكماتها. ليسمح لي القارئ هنا بأن أروي بعض الذكريات الشخصية لتوضيح هذه النقطة. عندما تعرفت على محمد أركون وحضرت دروسه في جامعة السوربون لأول مرة ذُهلت بالفكر الجديد الذي يقدِّمه عن تراثنا الإسلامي العظيم، وفكرت فوراً في كتابة مقالة حول الموضوع وذلك قبل أن أشرع في ترجمته. وهي أول مقالة أكتبها في حياتي. وكانت بعنوان: «جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». عنوان أصلي وعنوان ثانوي. ثم أرسلتها إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كانت إحدى المجلات الشهرية المحترمة في ذلك الزمان. وفوجئت بأنها نُشرت بشكل جيد على الرغم من أنني كنت آنذاك كاتباً مغموراً تماماً. كنت مجرد نكرة من النكرات. بل ليس فقط نشروها دون سابق معرفة شخصية وإنما أرسلوا لي نحو 300 فرنك فرنسي. وهذا ما زاد من سعادتي وانشراحي بطبيعة الحال. بل جعلني أشعر بأني أصبحت شخصاً مهماً ومعتبراً. لكن الشيء الأساسي ليس هنا. الشيء الأساسي يكمن فيما يلي: لقد ذهبت بعدد المجلة إلى أستاذي البروفسور محمد أركون، وانتظرت مقابلته على الباب حتى جاء دوري. وعندئذ دخلت عليه في مكتبه بالسوربون وفي يدي مجلة «المعرفة» وأنا شديد الفخر والاعتزاز بنفسي. وعندما قرأ العنوان دُهش جداً لأني قلت: «نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». لم يكن يتوقع إطلاقاً أنني قادر على إيجاد عنوان باريسيّ طليعيّ من هذا النوع. بل ربما راح يتساءل: هل يدرك هذا الشخص فعلاً ما يقول؟ هل يعرف معنى كلمة أركيولوجيا الفلسفية لا تلك الخاصة بعلم الآثار. أتذكر تماماً ردّة فعله الآن: نظر إليّ من فوق نظارته وتأملني جيداً وابتسم. أعتقد أنني نلت إعجابه وقتها. أقول ذلك خصوصاً أنني كنت حديث العهد في باريس ولم يمضِ بعد وقت طويل على وصولي إلى العاصمة الفرنسية. حتماً راح يتساءل بينه وبين نفسه: كيف فهم هذا العفريت مقصدي ومنهجيتي؟ هل فعلاً يعي ما يقول؟ كنت أشعر آنذاك بجوع عارم إلى الفكر. كنت أبحث عنه في كل الزوايا الباريسية. كنت أريد أن أفهم كنه الأشياء. وكنت أعرف أن الزلازل والبراكين قادمة لا محالة. ولذلك شطبت على حياتي الشخصية كلياً وتفرغت لما هو أهم وأخطر. فيما بعد اكتشفت بالفعل أن جوهر منهجيته يكمن في الحفر الأركيولوجي عن أعماق تراثنا الإسلامي الكبير بغية الكشف عن جذوره الأولى وإضاءته بشكل غير مسبوق. إنه حفر في العمق أو في عمق العمق. لم يتجرأ أي مفكر مسلم قبله على طرح التساؤلات الراديكالية التي طرحها على التراث. لم يذهب أي مفكر مسلم إلى الأعماق السحيقة التي ذهب إليها هو. ولا حتى ابن رشد ولا حتى الفارابي في الماضي. ولا حتى طه حسين في الحاضر. من هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد أركون. لقد قدم أكبر خدمة للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. لهذا السبب نقول إن الفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الموضوع التراثي، أيَّ موضوع كان. إنها لا تتوقف في منتصف الطريق و«تقطع الحبلة فينا» كما يُقال، وإنما تذهب إلى آخر مدى. الفلسفة بهذا المعنى هي فكر الفكر أو عقل العقل. هكذا كان يفهمها ديكارت وكانط وهيغل وكذلك نيتشه، وبالأخص نيتشه. وهكذا كان يفهمها ميشيل فوكو أيضاً الذي وضع عنواناً ثانوياً لكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء - أركيولوجيا العلوم الإنسانية». ولكن الفلسفة تعني أيضاً: تعرية الأوهام الشائعة، والأحكام المسبقة الموروثة، والآيديولوجيات والشعارات الديماغوجية. الفلسفة هي العدو اللدود للأدلجة والآيديولوجيا. وكذلك هي العدو اللدود للفتاوى التكفيرية الموروثة عن القرون الوسطى. كل الأحكام السلبية المسبقة والكليشيهات المشوهة التي تشكلها الطوائف بعضها عن بعض تجري تعريتها وتفكيكها عن طريق الفلسفة. بهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إلى الفلسفة والفكر العميق في عالمنا العربي. وبهذا المعنى فإن الفلسفة هي معركة سلاحها العقل الفعال والحفر الأركيولوجي في الأعماق. مَن أعداء الفلسفة؟ الغباء والجهل والتعصب الأعمى والظلامية التراثية. مَن حلفاؤها؟ العلوم الإنسانية، وبخاصة علم التاريخ الحديث الذي يكشف عن أعماق الماضي التراثي ويحفر عنها أو عليها. ولهذا السبب كانت مدرسة الحوليات الفرنسية من أهم مرجعيات محمد أركون. بل اعترف يوماً بأنه استيقظ لأول مرة على الفكر العميق بعد أن حضر بالصدفة في جامعة الجزائر ذلك الدرس المنهجي الشهير لمؤسس مدرسة الحوليات: لوسيان فيفر. وقد صعقه الدرس إلى حد أنه خرج منه مذهولاً. بعدئذ ابتدأ أركون يصبح المفكر الكبير الذي نعرفه. تذكرت كلام أركون هذا عندما اطّلعت لاحقاً على كتاب لوسيان فيفر عن مدشن الإصلاح الديني في أوروبا بعنوان: «مارتن لوثر: قدر»! انه كتاب يدوّخك بالمعنى الحرفي للكلمة. هل هو مؤرخ فقط أم فنان أم فيلسوف يتلاعب بعقلك كما يشاء ويشتهي؟ تكاد تلتهم الصفحات التهاماً. كتاب عبقري ولا أروع. قرأته مرتين أو ثلاثاً. وحتماً سأعود إليه مرة أخرى فقط من أجل المتعة والاستمتاع. إنه يوضح لك كيف تولد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولماذا تولد؟ ومتى تولد؟ إنه يشرح لك كيف يظهر الرجال العظام الذين يغيِّرون مجرى التاريخ البشري. عندئذ فهمت لماذا أثَّر هذا المؤرخ الفرنسي الكبير كل هذا التأثير على محمد أركون. نضيف أن الفلسفة تعني أن نفكر بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل. إنها تعلِّمنا كيف نعيش حياة أكثر إنسانية وأكثر مرونة وأكثر رصانة وأكثر عقلانية وأكثر حرية. وهي بذلك مكمِّلة للدين بالمعنى الروحاني العالي المتعالي. إنها ليست ضد الدين وإنما فقط ضد الظلامية الدينية. مثلاً بول ريكور (صديق أركون) كان في ذات الوقت فيلسوفاً كبيراً ومؤمناً بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا للدين. نضيف أن الفلسفة بهذا المعنى تحرِّرنا من رواسبنا الطائفية والمذهبية التي ورثناها عن طفولاتنا وعائلاتنا وبيئاتنا الأولى. وهي أشياء كنا نعتقد أنها حقائق مطلقة لأننا رضعناها مع حليب الطفولة، في حين أنها نسبية وخصوصية. والدليل على ذلك هو أننا لو وُلدنا في طفولات أخرى وبيئات أخرى لاعتقدنا العكس تماماً. يقول أحد العلماء الكنديين المعاصرين: «أنا وُلدت في عائلة مسيحية كاثوليكية ولكني لو ولدت في عائلة صينية كونفشيوسية هل كنت سأعتقد ذات الشيء؟». أخيراً فإن الفلسفة ما هي إلا اختراقات في جحيم الانسدادات. عندما تطْبق الغمة والظُّلمة على أمة من الأمم يظهر الفلاسفة الكبار. انهم لا يظهرون في الأزمان السعيدة المريحة المرتاحة وإنما في الأوقات العصيبة المدلهمّة مسدودة الآفاق. وعندئذٍ يقدمون لنا المفاتيح الفلسفية التي تحل مشكلة العصر وتفك عقدة التاريخ. على هذا النحو ظهر ديكارت عند الفرنسيين أو كانط عند الألمان، إلخ. الفلاسفة بهذا المعنى ظهورات بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير. هيهات! أحياناً يمر قرن أو قرنان قبل أن يظهر مفكر واحد له معنى!