logo
أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

الشرق الأوسط١١-٠٣-٢٠٢٥

يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد. علم الفيزياء واحد في طوكيو أو الرياض أو القاهرة أو أبوظبي أو نيويورك، إلخ. لا يوجد عقل خاص بالجامعات العربية وآخر خاص بالجامعات الغربية. أما العقائد التراثية فهي خصوصية. فالمولود في التراث الصيني الكونفشيوسي مثلاً غير المولود في التراث المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي. ولكن المناهج الفلسفية العقلانية السائدة في الصين هي ذاتها السائدة في كل مكان. العقل واحد للبشرية والتراثات الخصوصية شتى.
هل أصاب هيدغر عندما قال إن الفلسفة هي حصراً إغريقية وأوروبية غربية فقط؟ بالطبع لا. وإلا فماذا سنفعل بفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل، إلخ؟ ماذا سنفعل بفلاسفة الصين والهند؟ ولكن يبقى صحيحاً القول إن الفلسفة في العصور الحديثة بلغت أوجها في الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى. فلا يوجد عند العرب ولا عند الصينيين ولا عند سواهم فلاسفة في حجم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، إلخ. ولهذا السبب فإن اليابان التي هي أكبر بلد مترجم في العالم تكلِّف الأساتذة الأكاديميين عندها بترجمة كبار فلاسفة الغرب إلى اللغة اليابانية. فهناك أكاديميون مختصون بترجمة هيغل، وآخرون بترجمة كانط، إلخ. كل أكاديمي ياباني مختص بترجمة أحد فلاسفة الغرب الكبار. وعلى هذا النحو اغتنت اليابان بالفكر الحديث منذ زمن إمبراطورية الميجي: أي إمبراطورية العهد المستنير. عُدْنا إلى التنوير. لا مفرَّ منه. التنوير نجح في اليابان على عكس العالم العربي لأنهم عثروا على تلك الصيغة السحرية التي تجمع بشكل موفق بين التراث والحداثة. أو قُلْ لأنهم عثروا على الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة، التي لا نزال نبحث عنها منذ أيام محمد علي حتى الآن. من هنا سر عذابنا وتخبطنا.
قلنا إن الفلسفة تعني أن نعيش بالعقل، بواسطة العقل. ولكنَّ الفلسفة تعني أيضاً طرح التساؤلات الراديكالية حول جوهر التراث ومعنى الوجود. الفلسفة تساعد على تحرير الروح من ظلماتها وتراكماتها. ليسمح لي القارئ هنا بأن أروي بعض الذكريات الشخصية لتوضيح هذه النقطة. عندما تعرفت على محمد أركون وحضرت دروسه في جامعة السوربون لأول مرة ذُهلت بالفكر الجديد الذي يقدِّمه عن تراثنا الإسلامي العظيم، وفكرت فوراً في كتابة مقالة حول الموضوع وذلك قبل أن أشرع في ترجمته. وهي أول مقالة أكتبها في حياتي. وكانت بعنوان: «جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». عنوان أصلي وعنوان ثانوي. ثم أرسلتها إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كانت إحدى المجلات الشهرية المحترمة في ذلك الزمان. وفوجئت بأنها نُشرت بشكل جيد على الرغم من أنني كنت آنذاك كاتباً مغموراً تماماً. كنت مجرد نكرة من النكرات. بل ليس فقط نشروها دون سابق معرفة شخصية وإنما أرسلوا لي نحو 300 فرنك فرنسي. وهذا ما زاد من سعادتي وانشراحي بطبيعة الحال. بل جعلني أشعر بأني أصبحت شخصاً مهماً ومعتبراً. لكن الشيء الأساسي ليس هنا. الشيء الأساسي يكمن فيما يلي: لقد ذهبت بعدد المجلة إلى أستاذي البروفسور محمد أركون، وانتظرت مقابلته على الباب حتى جاء دوري. وعندئذ دخلت عليه في مكتبه بالسوربون وفي يدي مجلة «المعرفة» وأنا شديد الفخر والاعتزاز بنفسي. وعندما قرأ العنوان دُهش جداً لأني قلت: «نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». لم يكن يتوقع إطلاقاً أنني قادر على إيجاد عنوان باريسيّ طليعيّ من هذا النوع. بل ربما راح يتساءل: هل يدرك هذا الشخص فعلاً ما يقول؟ هل يعرف معنى كلمة أركيولوجيا الفلسفية لا تلك الخاصة بعلم الآثار. أتذكر تماماً ردّة فعله الآن: نظر إليّ من فوق نظارته وتأملني جيداً وابتسم. أعتقد أنني نلت إعجابه وقتها. أقول ذلك خصوصاً أنني كنت حديث العهد في باريس ولم يمضِ بعد وقت طويل على وصولي إلى العاصمة الفرنسية. حتماً راح يتساءل بينه وبين نفسه: كيف فهم هذا العفريت مقصدي ومنهجيتي؟ هل فعلاً يعي ما يقول؟ كنت أشعر آنذاك بجوع عارم إلى الفكر. كنت أبحث عنه في كل الزوايا الباريسية. كنت أريد أن أفهم كنه الأشياء. وكنت أعرف أن الزلازل والبراكين قادمة لا محالة. ولذلك شطبت على حياتي الشخصية كلياً وتفرغت لما هو أهم وأخطر.
فيما بعد اكتشفت بالفعل أن جوهر منهجيته يكمن في الحفر الأركيولوجي عن أعماق تراثنا الإسلامي الكبير بغية الكشف عن جذوره الأولى وإضاءته بشكل غير مسبوق. إنه حفر في العمق أو في عمق العمق. لم يتجرأ أي مفكر مسلم قبله على طرح التساؤلات الراديكالية التي طرحها على التراث. لم يذهب أي مفكر مسلم إلى الأعماق السحيقة التي ذهب إليها هو. ولا حتى ابن رشد ولا حتى الفارابي في الماضي. ولا حتى طه حسين في الحاضر. من هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد أركون. لقد قدم أكبر خدمة للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. لهذا السبب نقول إن الفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الموضوع التراثي، أيَّ موضوع كان. إنها لا تتوقف في منتصف الطريق و«تقطع الحبلة فينا» كما يُقال، وإنما تذهب إلى آخر مدى. الفلسفة بهذا المعنى هي فكر الفكر أو عقل العقل. هكذا كان يفهمها ديكارت وكانط وهيغل وكذلك نيتشه، وبالأخص نيتشه. وهكذا كان يفهمها ميشيل فوكو أيضاً الذي وضع عنواناً ثانوياً لكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء - أركيولوجيا العلوم الإنسانية».
ولكن الفلسفة تعني أيضاً: تعرية الأوهام الشائعة، والأحكام المسبقة الموروثة، والآيديولوجيات والشعارات الديماغوجية. الفلسفة هي العدو اللدود للأدلجة والآيديولوجيا. وكذلك هي العدو اللدود للفتاوى التكفيرية الموروثة عن القرون الوسطى. كل الأحكام السلبية المسبقة والكليشيهات المشوهة التي تشكلها الطوائف بعضها عن بعض تجري تعريتها وتفكيكها عن طريق الفلسفة. بهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إلى الفلسفة والفكر العميق في عالمنا العربي. وبهذا المعنى فإن الفلسفة هي معركة سلاحها العقل الفعال والحفر الأركيولوجي في الأعماق. مَن أعداء الفلسفة؟ الغباء والجهل والتعصب الأعمى والظلامية التراثية. مَن حلفاؤها؟ العلوم الإنسانية، وبخاصة علم التاريخ الحديث الذي يكشف عن أعماق الماضي التراثي ويحفر عنها أو عليها. ولهذا السبب كانت مدرسة الحوليات الفرنسية من أهم مرجعيات محمد أركون. بل اعترف يوماً بأنه استيقظ لأول مرة على الفكر العميق بعد أن حضر بالصدفة في جامعة الجزائر ذلك الدرس المنهجي الشهير لمؤسس مدرسة الحوليات: لوسيان فيفر. وقد صعقه الدرس إلى حد أنه خرج منه مذهولاً. بعدئذ ابتدأ أركون يصبح المفكر الكبير الذي نعرفه. تذكرت كلام أركون هذا عندما اطّلعت لاحقاً على كتاب لوسيان فيفر عن مدشن الإصلاح الديني في أوروبا بعنوان: «مارتن لوثر: قدر»! انه كتاب يدوّخك بالمعنى الحرفي للكلمة. هل هو مؤرخ فقط أم فنان أم فيلسوف يتلاعب بعقلك كما يشاء ويشتهي؟ تكاد تلتهم الصفحات التهاماً. كتاب عبقري ولا أروع. قرأته مرتين أو ثلاثاً. وحتماً سأعود إليه مرة أخرى فقط من أجل المتعة والاستمتاع. إنه يوضح لك كيف تولد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولماذا تولد؟ ومتى تولد؟ إنه يشرح لك كيف يظهر الرجال العظام الذين يغيِّرون مجرى التاريخ البشري. عندئذ فهمت لماذا أثَّر هذا المؤرخ الفرنسي الكبير كل هذا التأثير على محمد أركون.
نضيف أن الفلسفة تعني أن نفكر بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل. إنها تعلِّمنا كيف نعيش حياة أكثر إنسانية وأكثر مرونة وأكثر رصانة وأكثر عقلانية وأكثر حرية. وهي بذلك مكمِّلة للدين بالمعنى الروحاني العالي المتعالي. إنها ليست ضد الدين وإنما فقط ضد الظلامية الدينية. مثلاً بول ريكور (صديق أركون) كان في ذات الوقت فيلسوفاً كبيراً ومؤمناً بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا للدين. نضيف أن الفلسفة بهذا المعنى تحرِّرنا من رواسبنا الطائفية والمذهبية التي ورثناها عن طفولاتنا وعائلاتنا وبيئاتنا الأولى. وهي أشياء كنا نعتقد أنها حقائق مطلقة لأننا رضعناها مع حليب الطفولة، في حين أنها نسبية وخصوصية. والدليل على ذلك هو أننا لو وُلدنا في طفولات أخرى وبيئات أخرى لاعتقدنا العكس تماماً. يقول أحد العلماء الكنديين المعاصرين: «أنا وُلدت في عائلة مسيحية كاثوليكية ولكني لو ولدت في عائلة صينية كونفشيوسية هل كنت سأعتقد ذات الشيء؟».
أخيراً فإن الفلسفة ما هي إلا اختراقات في جحيم الانسدادات. عندما تطْبق الغمة والظُّلمة على أمة من الأمم يظهر الفلاسفة الكبار. انهم لا يظهرون في الأزمان السعيدة المريحة المرتاحة وإنما في الأوقات العصيبة المدلهمّة مسدودة الآفاق. وعندئذٍ يقدمون لنا المفاتيح الفلسفية التي تحل مشكلة العصر وتفك عقدة التاريخ. على هذا النحو ظهر ديكارت عند الفرنسيين أو كانط عند الألمان، إلخ. الفلاسفة بهذا المعنى ظهورات بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير. هيهات! أحياناً يمر قرن أو قرنان قبل أن يظهر مفكر واحد له معنى!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الأولمبياد العلمية في السعودية
الأولمبياد العلمية في السعودية

المدينة

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • المدينة

الأولمبياد العلمية في السعودية

تحتضن المملكة العربيَّة السعوديَّة، خلال هذه الأيام، أولمبياد الفيزياء الآسيوي، في استضافة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث تفتح أبوابها لنخبة من المبدعين من مختلف الدول الآسيويَّة، حيث تجتمع العقول المبتكرة والعارفة بأسرار تخصصات علم الفيزياء بالذَّات في مجال الطاقة، بمشاركة فاعلة من وزارة التعليم وموهبة.الجميل جدًّا أنَّ هذا الحدث هو الثاني من نوعه، الذي احتلت فيه المملكة -بفضل الله- الريادة في إقامة الأولمبياد العلميَّة، حيث سبق ذلك إقامة أولمبياد الكيمياء الدولي، وشارك فيه تسعون دولةً، وعلى نفس النهج ستكون المملكة -بإذن الله- في المستقبل وجهة للأولمبياد العلميَّة الأُخْرى مثل الرياضيات، والأحياء، وبقيَّة التخصصات.. وشارك في فاعليَّات أولمبياد الفيزياء الآسيوي هذا العام حوالى 30 دولة، وكان عدد الطلاب المشاركين 240 طالبًا، وإجمالي المسابقات وصلت -الآن- بهذا الأولمبياد رقم 25.كما هو معروف فإن أولمبياد الفيزياء الآسيوي هو منافسة سنوية دولية، تقام لطلاب المدارس الثانوية الموهوبين؛ مما يثمر احتكاكاً وتعارفاً في مجالات الفيزياء، فالاهتمام بالموهوبين هو توجه الدول المتقدمة؛ لأنهم هم من سيصنع المستقبل -بإذن الله-، والسعودية -بفضل الله- قطعت شوطاً متقدماً بالاهتمام بالموهوبين حتى أصبحت منارة علمية، ليس فقط في تنظيم المسابقات الدولية، إنما كذلك في تصميم المسابقة العلمية بمستوى عالٍ.وأتذكَّر أنَّ أوَّل نادٍ للموهوبين على مستوى الجامعات، تم إنشاؤه في جامعة الملك عبدالعزيز، عندما كنتُ عميدًا لشؤون الطلاب، فتهيئة الطلاب والطالبات من الثانوية على المنافسات والمسابقات الدوليَّة في الأولمبياد العلميَّة يمنحهم عند دخولهم الجامعات شيئًا من النضج العلميِّ والبحثيِّ، والابتكار والإبداع؛ ممَّا يستدعي أنْ يستمر الاهتمام بهم في الجامعات.إنَّ المملكة وهي تحتضن مثل هذه الأولمبياد في التخصُّصات العلميَّة المختلفة، وتهتم أنْ تكون على أراضيها، فإنَّ ذلك يجعلها محل أنظار العالم علميًّا، وامتدادًا لهذا الاهتمام، وتطويرًا لأدائه يجب على وزارة التعليم -ممثَّلةً في مجلس شؤون الجامعات- توجيه الجامعات للاهتمام أوَّلًا بطلاب مرحلة البكالوريس والدِّراسات العُليا المبدعين، وثانيًا الاهتمام بأساتذة الجامعات الجدد الذين بعضهم أو جُلُّهم كانوا من موهوبي الأولمبياد العلميَّة، ثم إذا عادوا إلى الجامعات عادوا للتدريس فقط، دون دعم لمقترحاتهم البحثيَّة، أو أفكارهم الابتكاريَّة، إنَّ مرحلة الحصول على الدكتوراة ليس إلَّا نضجًا للموهبة والابتكار، وبدون الدعم المالي للبحوث والأفكار الابتكاريَّة، فإنَّ ذلك خسارة وطنيَّة، كمن يبذر، حتَّى إذا استوى النبات على سوقه، ذهب أدراج الرياح، فالموهبة ممتدة إلى ما بعد الدكتوراة، فيجب أن تُسقى بالدعم لتؤتي أُكلها، وتقطف ثمارها.

لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،
لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،

سعورس

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • سعورس

لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،

إن المسرح الحديث بنظرياته وتقنياته الرقمية والإلكترونية ارتكز على إحداث التجارب في الرؤية البصرية في الآونة الأخيرة، لكي يواكب ذلك التقدم في علم الصورة - هو ما بدأ في الآونة الأخيرة في إحداث تجارب على الرؤية البصرية، ولكي يواكب علم الفيزياء هو ما تكرسة التجارب المسرحية في هذا الشأن. "لذا فإن قوانين الفيزياء في المحيط الكوانتمي أصبحت هي القوى للمخيلة وجسيمات الفوتون وهو جزء لجزء في الأشعة البصرية لمكونات الرؤية". بمعنى قياس الكثافة ومساحاتها الضوئية في جسيمات العرض". التكنولوجيا في المسرح هي النواة في جسيمات التفاعلات القوية ما بين عناصر العرض "وتقسم ضمن فلسفة الكوانتم إلى اتحاد فيزيائي للعناصر ومعادلاتها والذي تشتغل قواه في تكنولوجيا الرؤيا وقراراتها وتسمى بالقيمة البلانكية وهي عناصر شاملة لقوانين الذرة والنواة وفيزياء الجزيئات وكذلك كعامل في تحديد العلاقة ما بين طاقة خطاب العرض وتردد انعكاساته طوال موجات العرض المستمرة، من خلال "المبدأ التراتبي". إذا فالعرض المسرحي مركب بدقة متناهية ومؤلف من قيم جمالية لمعايير لا يمكن تفسيرها أو الوصول إلى جوهرها السحري، لذا فالمعادل الكمي لتكنولوجيا المسرح هو وجود متعال يتحرك في رسم فضاءات لمعادلات عرض فيزيائي سحري من خلال حركة الموجة للطاقة وهي ذبذبات موجية داخل محيط لا نهائي في المكون الصوري للعرض. ولهذا القول وجهتا نظر في التلقي المسرحي، الأولى هي تخصص اثنان من الحواس في إدراكهما الضوء والصوت، والأخرى لا تتعادل أهميته من وجهة نظر الفيزيائي مع الضوء بلا حدث درامي. وفي النظرية الكمية لمصطلح التكنولوجي في الفن هو الانطلاق من الجانب الآخر لمكون النص، بمعنى أن نجد طريقاً جديداً كي لا تستدير الثقافة والفنون وتتكرر داخل ثوابت كما أشار نيتشه بأن" كل شيء سيتكرر وسنرجع إلى بدايات الانطلاق". ومن خلال الكم التكنولوجي في العرض لتحرك اشتغالاته من معادلات انطلوجية جديدة، انطلوجيا علم المسرح والتي ستكون نظرية جديدة قائمة على العلم. "إن اشتغالات قوانين التكنولوجيا في المسرح تعمل على تفريغ المادة من ماديتها لطرح منظومة فلسفية جديدة تنطلق من فلسفة الكوانتم بحثاً عن الماورائية في المسرح والفن والأدب. وإن فيزياء الكم في الفن والأدب ستبقى حقولاً كثيرة، وستحول الكثير من الدراسات السابقة إلى توثيق تاريخي حيث ستغادر قراءات القرن الجديدة المنطلقة من الفلسفة الكوانتيمية -سطوة المعرفي والثابت إلى منطلقات قوانين العلم الحديثة" فإذا ما سلمنا بأن المسرح الحديث في العالم الآن، يوجه تلك الغربة التي أشرنا إليها لفقدان الأنس المعرفي ولتطور التكنولوجيا الرقمية في وسائل الاتصال والتي لم يحظ المسرح منها بالكثير ولعدم تقدم أي من علماء الاتصال المسرحي بإقامة نظرية عربية تتسق وسيكلوجية المتلقي العربي. فنجد أن هرماس حين لاحظ خطر التنوع الثقافي، باعتباره يقود إلى ثقافة الهيمنة يقول :"إن الفرد، إذا ما أراد أن يصون ثقافته، عليه أن ينتج فيلسوفاً كبيراً مثل " كانت" ليعيد لم شتات هذا التنوع الثقافي نحو ثقافة واحدة تكون هي الثقافة المفتاح والأنموذج ". ولسنا ممن يدعون إلى ثقافة الانكفاء على الذات بقدر ما نبحث عن أنس مفقود مع ثقافتنا أولاً ثم يأتي الأنس بالآخر، فثقافة الأنس هي ثقافة السلام مع النفس ومع الآخر" لم لا نذهب أبعد من ذلك ونجعل الثقافات تتآنس بعضها ببعض، لتنتج ما نسميه سعادة التسالم، أي البحث عن السلم النفسي المشترك". هذا السلم المشترك لا يتأتى سوى بالسلم مع الذات والتراث والواقع ثم نبحث عن السلم المشترك مع الآخر. فثقافة النزوح هي ما جعلت الذات غير راضية وغير سعيدة بثقافة لم تمعن البحث في ثناياها. والمسرح هو الأداة الماصة لكل الفلسفات، فإذا خرج المسرح عن التلامس المعرفي مع الذات والهوية أصبح غريباً كما أتى! فالمسرح في الوطن العربي سواء على مستوى الفرجة أو على مستوى العرض لم يتمخض عن نظرية عربية حديثة، باستثناء نظرية البعد الخامس في التلقي والمسرح، التي تهتم ببذل الطاقة في التلقي، لأن المسرح يقوم على الطاقة في التلقي، طاقة من مرسل وطاقة من متلقٍ، فإذا اتحدت هذه الطاقات تحدث المتعة والاسترخاء نتيجة للتخلص من الطاقة الزائدة، وهو ما أشار إليه أرسطو "التطهير" وإعطاء جرعة أكثر كثافة من التي يحتويها المتلقي "داوني بالتي هي الداء". وبما أن المشهد المسرحي يتكون من مادة وضوء فإن اتحاد المادة مع الضوء ينتج عن الطاقة. "فإن هذا الإتحاد النهائي لتصور الضوء والمادة في هو وحدة ذلك الكيان "الطاقة Energy". هذه الطاقة هي التي تبعث على التوتر ثم الاسترخاء والمتعة، وفقد أثبت علماء التلقي ذلك الأثر القوي من اللون والضوء والتشكيل في الفراغ بالإضافة إلى الكلمة على المعرفة وعلى متعة التلقي لما لذلك من أثر سيكولوجي، وبالتالي أصبح المجال مفتوح لاستغلال التكنولوجيا في عوالم المسرح الصوَري. "إن تكنولوجيا المسرح هي اشتغالات الحقل العلمي ومغادرة مناطق المنطق القديم من خلال الموجة والطاقة والجزئيات ومسارات الضوء لمكون اتصالي غامض من خلال الفيزياء، والميتافيزياء وتوليف طاقة متداخلة في فضاءات العرض والذي تشكله موجات أو سيل من ذبذبات موجبة". ومما لا شك فيه أن المسرح هو المعين الأول لكل الفلسفات، وقد تبدى لنا ذلك فيما طرحناه من تلك الفلسفات وتجلياتها على المسرح في ضوء مقالاتنا السابقة، فإذا ظهرت لنا فلسفة كالكوانتم فإنه سيؤول بنا إلى تطور في تكنولوجيا المسرح نتاج ذلك التطور الهائل في اللغة المسرحية وجديدها وخاصة فيما بعد الحداثة، وتتجلى لنا هذه المحاولات في تجارب العرض المسرحي عند كل من جورجيو ستريهلر وروبرت ويلسون وروبرت ليباج، وقد كانت التكنولوجيا هي الأداة الرئيسة لتحقيق الحلم الفني لرؤى مخيلة الفنان المسرحي. يقول صلاح القصب، وهو رائد مسرح الصورة إن : "العرض المسرحي وتكنولوجيته الكمية كل لا يتجزأ إذ أن كل جزء فيها مترابط. تكنولوجيا المسرح ترتيب لمعادلات هرمية لأفكار ورؤى وأطروحات مستقبلية تبحث هناك لا هنا وهي أشبه بماسحات الرنين النووي المغناطيسي القادرة على تتبع دورة ذرات معينة في اشتغالات تقنيات الرياضيات والإحصاء من أجل تحليل المعطيات وعلوم الكومبيوتر تدخلت في مناح عديدة لطرح انفتاحات لمعرفة جديدة بالكلية تنمو وتتطور لنتائج مهمة. فقد كانت الدراسات السابقة تقول بأن الصورة البصرية هي تقريباً صورة فوتوغرافية تتشكل على الشبكة وترسل كما هي إلى المخ حيث يقوم بتحليلها بهذه الطريقة ستكون مرحلة الإدراك الحسي ومرحلة الفهم منفصلتين. إن الشبكة أنسجة عصبية على تعقيد كبير وهي التي تقوم بتنفيذ التحليل المفصل للصور الواردة ومن خلالها سنتعرف على ما إذا كانت الصورة تحوي خطوطاً رأسية قطاعات أخرى تتعرف على الخطوط الأفقية وتبقى قطاعات عصبية أخرى تميز الألوان وشدة الضوء وشدة وتكوينات الحركة وهكذا تنقسم الصورة لحظياً إلى مكونات عديدة لإعادة تجميعها لكي يعيد المخ تشييد الشيء المرئي". وبذلك يمكن الاستفادة من هذه النظرية في خلق مسرح رقمي تكنولوجي بصورة معاصرة في ضوء فلسفة الكوانتم.

هل الذكاء الاصطناعي "كائن طفيلي"؟!
هل الذكاء الاصطناعي "كائن طفيلي"؟!

العربية

time٠٤-٠٤-٢٠٢٥

  • العربية

هل الذكاء الاصطناعي "كائن طفيلي"؟!

يبدو النقاش العارم والمحتدم حالياً حول تأثير ثورة الذكاء الاصطناعي على الإنسان في حال تصاعد يوماً بعد يومٍ، على كافة المستويات. السؤال عن التأثير الأخلاقي، ومن ثم عن المجالات الاقتصادية، والعلمية، ودور هذه الثورة في تغيير أسلوب المجال العام. وهذا النقاش امتداد لكل اكتشافٍ علمي جديد منذ الإغريق مروراً بالثورة الصناعية، إلى اكتشاف القنبلة الذرية، وليس انتهاءً بالتقنيات في بحر القرن العشرين، وهو القرن الذي تُوِّج آخره بزمن «الإنترنت» الذي ننعم بأثره حتى اليوم. قلتُ في محاضرة قبل فترة، إن هذا النقاش المحتدم غير مستغرب، ففي آخر القرن العشرين طرح نيتشه انتقاداته لـ«عصر الآلات» التي تجعل: «الحشود آلة نمطية واحدة، يذوب في دوارها الفرد، وتحوِّله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة». وهيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم»، وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927، نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» -في مقالة له- يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة»؛ إذ عدَّ التقنية بوصفها تمظهراً هي أساس الحداثة وعصبه الرئيسي. بينما لوك فيري يرى أن تفكير هيدغر تعمق بالتدريج في هذه المسألة، وبخاصة من خلال تحديد طبيعة علاقة التقنية بالعالم من حيث هي علاقة استفسار ومساءلة. ففي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعدُّه فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا»، فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية المُمَكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه «الوجود والزمن» فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول «بأن الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب، وبأن الهضاب هي مستودع من الصخور، وبأن النهر قوة محركة مائية، وبأن الهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية». مداخلتي هنا على مقالة نشرت في «نيويورك تايمز» وتُرجمت في هذه الجريدة بعنوان: «بين خيال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي» لتريسي ماكميلان كوتوم، وهي عالمة اجتماع وبروفسورة في جامعة نورث كارولاينا. مما قالت: «بطبيعة الحال، يمكن للذكاء الاصطناعي إنقاذ حياة كثير من البشر في حال تطبيقه بشكل مناسب. صحيح أنه مفيد لإنتاج بروتوكولات طبية وأنماط رصد في فحوص الأشعة؛ مع ذلك يتطلب هذا النوع من الذكاء الاصطناعي أناساً يعرفون كيفية استخدامه». ثم تشبِّه الذكاء الاصطناعي بأنه مثل: «كائن طفيلي؛ إذ يلتصق بنظام بيئي قوي للتعلم، ويسرع بعض أجزاء عملية اتخاذ القرار. يمكن للكائن الطفيلي والمضيف التعايش، ما دام الكائن الطفيلي لا يجعل المضيف يتضور جوعاً. المشكلة السياسية في التحفيز الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي هي أنه يؤدي إلى تضور المضيف جوعاً؛ حيث يؤدي إلى قلة عدد المعلمين، والشهادات، والعاملين، وبيئات المعلومات الطبية». الخلاصة أن هذا التطوُّر الهائل في بدايته؛ وما من حلٍّ معه إلا بدرسه والتواكب معه. إن الذكاء الاصطناعي بات خارج التقييم. من الضروري رسم سياسات تعامل تشمل كل المجالات التي يمكن أن يؤثر عليها. لقد علَّمنا التاريخ أن الكشوفات التقنية ليست مزحة، ولا يمكن مواجهتها بالمواعظ والهجاء والخطب الرنَّانة، إنه طوفان هائل لا بد من التعامل معه بالدرس والفهم والحكمة. هذه هي دورة العلوم تطلعنا على رأس كل جيلٍ، على كشوفاتٍ خارقة، وأفكارٍ غير متوقعة. *نقلا عن "الشرق الأوسط".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store