logo
هل الذكاء الاصطناعي "كائن طفيلي"؟!

هل الذكاء الاصطناعي "كائن طفيلي"؟!

العربية٠٤-٠٤-٢٠٢٥

يبدو النقاش العارم والمحتدم حالياً حول تأثير ثورة الذكاء الاصطناعي على الإنسان في حال تصاعد يوماً بعد يومٍ، على كافة المستويات. السؤال عن التأثير الأخلاقي، ومن ثم عن المجالات الاقتصادية، والعلمية، ودور هذه الثورة في تغيير أسلوب المجال العام.
وهذا النقاش امتداد لكل اكتشافٍ علمي جديد منذ الإغريق مروراً بالثورة الصناعية، إلى اكتشاف القنبلة الذرية، وليس انتهاءً بالتقنيات في بحر القرن العشرين، وهو القرن الذي تُوِّج آخره بزمن «الإنترنت» الذي ننعم بأثره حتى اليوم.
قلتُ في محاضرة قبل فترة، إن هذا النقاش المحتدم غير مستغرب، ففي آخر القرن العشرين طرح نيتشه انتقاداته لـ«عصر الآلات» التي تجعل: «الحشود آلة نمطية واحدة، يذوب في دوارها الفرد، وتحوِّله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة».
وهيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم»، وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927، نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» -في مقالة له- يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة»؛ إذ عدَّ التقنية بوصفها تمظهراً هي أساس الحداثة وعصبه الرئيسي.
بينما لوك فيري يرى أن تفكير هيدغر تعمق بالتدريج في هذه المسألة، وبخاصة من خلال تحديد طبيعة علاقة التقنية بالعالم من حيث هي علاقة استفسار ومساءلة. ففي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعدُّه فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا»، فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية المُمَكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه «الوجود والزمن» فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول «بأن الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب، وبأن الهضاب هي مستودع من الصخور، وبأن النهر قوة محركة مائية، وبأن الهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية».
مداخلتي هنا على مقالة نشرت في «نيويورك تايمز» وتُرجمت في هذه الجريدة بعنوان: «بين خيال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي» لتريسي ماكميلان كوتوم، وهي عالمة اجتماع وبروفسورة في جامعة نورث كارولاينا. مما قالت: «بطبيعة الحال، يمكن للذكاء الاصطناعي إنقاذ حياة كثير من البشر في حال تطبيقه بشكل مناسب. صحيح أنه مفيد لإنتاج بروتوكولات طبية وأنماط رصد في فحوص الأشعة؛ مع ذلك يتطلب هذا النوع من الذكاء الاصطناعي أناساً يعرفون كيفية استخدامه».
ثم تشبِّه الذكاء الاصطناعي بأنه مثل: «كائن طفيلي؛ إذ يلتصق بنظام بيئي قوي للتعلم، ويسرع بعض أجزاء عملية اتخاذ القرار. يمكن للكائن الطفيلي والمضيف التعايش، ما دام الكائن الطفيلي لا يجعل المضيف يتضور جوعاً. المشكلة السياسية في التحفيز الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي هي أنه يؤدي إلى تضور المضيف جوعاً؛ حيث يؤدي إلى قلة عدد المعلمين، والشهادات، والعاملين، وبيئات المعلومات الطبية».
الخلاصة أن هذا التطوُّر الهائل في بدايته؛ وما من حلٍّ معه إلا بدرسه والتواكب معه. إن الذكاء الاصطناعي بات خارج التقييم. من الضروري رسم سياسات تعامل تشمل كل المجالات التي يمكن أن يؤثر عليها. لقد علَّمنا التاريخ أن الكشوفات التقنية ليست مزحة، ولا يمكن مواجهتها بالمواعظ والهجاء والخطب الرنَّانة، إنه طوفان هائل لا بد من التعامل معه بالدرس والفهم والحكمة.
هذه هي دورة العلوم تطلعنا على رأس كل جيلٍ، على كشوفاتٍ خارقة، وأفكارٍ غير متوقعة.
*نقلا عن "الشرق الأوسط".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،
لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،

سعورس

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • سعورس

لذلك فإن معادلات الكم التكنولوجي للمسرح هي فيزياء غير ثابتة القوانين والمعادلات وقوانين الحتمية والسببية - كما أشرنا لذلك في المقالات السابقة" بل تبحث في العلاقة ما بين العلم والمنجز وهذا يدخلنا في الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرجاتها في الحقل الرياضي والجبري،

إن المسرح الحديث بنظرياته وتقنياته الرقمية والإلكترونية ارتكز على إحداث التجارب في الرؤية البصرية في الآونة الأخيرة، لكي يواكب ذلك التقدم في علم الصورة - هو ما بدأ في الآونة الأخيرة في إحداث تجارب على الرؤية البصرية، ولكي يواكب علم الفيزياء هو ما تكرسة التجارب المسرحية في هذا الشأن. "لذا فإن قوانين الفيزياء في المحيط الكوانتمي أصبحت هي القوى للمخيلة وجسيمات الفوتون وهو جزء لجزء في الأشعة البصرية لمكونات الرؤية". بمعنى قياس الكثافة ومساحاتها الضوئية في جسيمات العرض". التكنولوجيا في المسرح هي النواة في جسيمات التفاعلات القوية ما بين عناصر العرض "وتقسم ضمن فلسفة الكوانتم إلى اتحاد فيزيائي للعناصر ومعادلاتها والذي تشتغل قواه في تكنولوجيا الرؤيا وقراراتها وتسمى بالقيمة البلانكية وهي عناصر شاملة لقوانين الذرة والنواة وفيزياء الجزيئات وكذلك كعامل في تحديد العلاقة ما بين طاقة خطاب العرض وتردد انعكاساته طوال موجات العرض المستمرة، من خلال "المبدأ التراتبي". إذا فالعرض المسرحي مركب بدقة متناهية ومؤلف من قيم جمالية لمعايير لا يمكن تفسيرها أو الوصول إلى جوهرها السحري، لذا فالمعادل الكمي لتكنولوجيا المسرح هو وجود متعال يتحرك في رسم فضاءات لمعادلات عرض فيزيائي سحري من خلال حركة الموجة للطاقة وهي ذبذبات موجية داخل محيط لا نهائي في المكون الصوري للعرض. ولهذا القول وجهتا نظر في التلقي المسرحي، الأولى هي تخصص اثنان من الحواس في إدراكهما الضوء والصوت، والأخرى لا تتعادل أهميته من وجهة نظر الفيزيائي مع الضوء بلا حدث درامي. وفي النظرية الكمية لمصطلح التكنولوجي في الفن هو الانطلاق من الجانب الآخر لمكون النص، بمعنى أن نجد طريقاً جديداً كي لا تستدير الثقافة والفنون وتتكرر داخل ثوابت كما أشار نيتشه بأن" كل شيء سيتكرر وسنرجع إلى بدايات الانطلاق". ومن خلال الكم التكنولوجي في العرض لتحرك اشتغالاته من معادلات انطلوجية جديدة، انطلوجيا علم المسرح والتي ستكون نظرية جديدة قائمة على العلم. "إن اشتغالات قوانين التكنولوجيا في المسرح تعمل على تفريغ المادة من ماديتها لطرح منظومة فلسفية جديدة تنطلق من فلسفة الكوانتم بحثاً عن الماورائية في المسرح والفن والأدب. وإن فيزياء الكم في الفن والأدب ستبقى حقولاً كثيرة، وستحول الكثير من الدراسات السابقة إلى توثيق تاريخي حيث ستغادر قراءات القرن الجديدة المنطلقة من الفلسفة الكوانتيمية -سطوة المعرفي والثابت إلى منطلقات قوانين العلم الحديثة" فإذا ما سلمنا بأن المسرح الحديث في العالم الآن، يوجه تلك الغربة التي أشرنا إليها لفقدان الأنس المعرفي ولتطور التكنولوجيا الرقمية في وسائل الاتصال والتي لم يحظ المسرح منها بالكثير ولعدم تقدم أي من علماء الاتصال المسرحي بإقامة نظرية عربية تتسق وسيكلوجية المتلقي العربي. فنجد أن هرماس حين لاحظ خطر التنوع الثقافي، باعتباره يقود إلى ثقافة الهيمنة يقول :"إن الفرد، إذا ما أراد أن يصون ثقافته، عليه أن ينتج فيلسوفاً كبيراً مثل " كانت" ليعيد لم شتات هذا التنوع الثقافي نحو ثقافة واحدة تكون هي الثقافة المفتاح والأنموذج ". ولسنا ممن يدعون إلى ثقافة الانكفاء على الذات بقدر ما نبحث عن أنس مفقود مع ثقافتنا أولاً ثم يأتي الأنس بالآخر، فثقافة الأنس هي ثقافة السلام مع النفس ومع الآخر" لم لا نذهب أبعد من ذلك ونجعل الثقافات تتآنس بعضها ببعض، لتنتج ما نسميه سعادة التسالم، أي البحث عن السلم النفسي المشترك". هذا السلم المشترك لا يتأتى سوى بالسلم مع الذات والتراث والواقع ثم نبحث عن السلم المشترك مع الآخر. فثقافة النزوح هي ما جعلت الذات غير راضية وغير سعيدة بثقافة لم تمعن البحث في ثناياها. والمسرح هو الأداة الماصة لكل الفلسفات، فإذا خرج المسرح عن التلامس المعرفي مع الذات والهوية أصبح غريباً كما أتى! فالمسرح في الوطن العربي سواء على مستوى الفرجة أو على مستوى العرض لم يتمخض عن نظرية عربية حديثة، باستثناء نظرية البعد الخامس في التلقي والمسرح، التي تهتم ببذل الطاقة في التلقي، لأن المسرح يقوم على الطاقة في التلقي، طاقة من مرسل وطاقة من متلقٍ، فإذا اتحدت هذه الطاقات تحدث المتعة والاسترخاء نتيجة للتخلص من الطاقة الزائدة، وهو ما أشار إليه أرسطو "التطهير" وإعطاء جرعة أكثر كثافة من التي يحتويها المتلقي "داوني بالتي هي الداء". وبما أن المشهد المسرحي يتكون من مادة وضوء فإن اتحاد المادة مع الضوء ينتج عن الطاقة. "فإن هذا الإتحاد النهائي لتصور الضوء والمادة في هو وحدة ذلك الكيان "الطاقة Energy". هذه الطاقة هي التي تبعث على التوتر ثم الاسترخاء والمتعة، وفقد أثبت علماء التلقي ذلك الأثر القوي من اللون والضوء والتشكيل في الفراغ بالإضافة إلى الكلمة على المعرفة وعلى متعة التلقي لما لذلك من أثر سيكولوجي، وبالتالي أصبح المجال مفتوح لاستغلال التكنولوجيا في عوالم المسرح الصوَري. "إن تكنولوجيا المسرح هي اشتغالات الحقل العلمي ومغادرة مناطق المنطق القديم من خلال الموجة والطاقة والجزئيات ومسارات الضوء لمكون اتصالي غامض من خلال الفيزياء، والميتافيزياء وتوليف طاقة متداخلة في فضاءات العرض والذي تشكله موجات أو سيل من ذبذبات موجبة". ومما لا شك فيه أن المسرح هو المعين الأول لكل الفلسفات، وقد تبدى لنا ذلك فيما طرحناه من تلك الفلسفات وتجلياتها على المسرح في ضوء مقالاتنا السابقة، فإذا ظهرت لنا فلسفة كالكوانتم فإنه سيؤول بنا إلى تطور في تكنولوجيا المسرح نتاج ذلك التطور الهائل في اللغة المسرحية وجديدها وخاصة فيما بعد الحداثة، وتتجلى لنا هذه المحاولات في تجارب العرض المسرحي عند كل من جورجيو ستريهلر وروبرت ويلسون وروبرت ليباج، وقد كانت التكنولوجيا هي الأداة الرئيسة لتحقيق الحلم الفني لرؤى مخيلة الفنان المسرحي. يقول صلاح القصب، وهو رائد مسرح الصورة إن : "العرض المسرحي وتكنولوجيته الكمية كل لا يتجزأ إذ أن كل جزء فيها مترابط. تكنولوجيا المسرح ترتيب لمعادلات هرمية لأفكار ورؤى وأطروحات مستقبلية تبحث هناك لا هنا وهي أشبه بماسحات الرنين النووي المغناطيسي القادرة على تتبع دورة ذرات معينة في اشتغالات تقنيات الرياضيات والإحصاء من أجل تحليل المعطيات وعلوم الكومبيوتر تدخلت في مناح عديدة لطرح انفتاحات لمعرفة جديدة بالكلية تنمو وتتطور لنتائج مهمة. فقد كانت الدراسات السابقة تقول بأن الصورة البصرية هي تقريباً صورة فوتوغرافية تتشكل على الشبكة وترسل كما هي إلى المخ حيث يقوم بتحليلها بهذه الطريقة ستكون مرحلة الإدراك الحسي ومرحلة الفهم منفصلتين. إن الشبكة أنسجة عصبية على تعقيد كبير وهي التي تقوم بتنفيذ التحليل المفصل للصور الواردة ومن خلالها سنتعرف على ما إذا كانت الصورة تحوي خطوطاً رأسية قطاعات أخرى تتعرف على الخطوط الأفقية وتبقى قطاعات عصبية أخرى تميز الألوان وشدة الضوء وشدة وتكوينات الحركة وهكذا تنقسم الصورة لحظياً إلى مكونات عديدة لإعادة تجميعها لكي يعيد المخ تشييد الشيء المرئي". وبذلك يمكن الاستفادة من هذه النظرية في خلق مسرح رقمي تكنولوجي بصورة معاصرة في ضوء فلسفة الكوانتم.

رئيس "إنفيديا" شخص "متزن" يدين بالفضل لـ"المعاناة"
رئيس "إنفيديا" شخص "متزن" يدين بالفضل لـ"المعاناة"

Independent عربية

time٢١-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

رئيس "إنفيديا" شخص "متزن" يدين بالفضل لـ"المعاناة"

حتى وقت قريب للغاية كان معروفاً أن الطريقة الوحيدة لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي لا بد من أن تمر بشركة "إنفيديا" الأميركية التي تمثل رقائقها عنصراً لا غنى عنه لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. أو كانت تلك هي الحال. فقد شهدنا "حدثاً درامياً كبيراً" على حد تقدير مراسلة "نيويورك تايمز" الاقتصادية كاتي نوتوبولوس في مقالة لها بعنوان "كيف مهدت ألعاب الفيديو الطريق لثورة الذكاء الاصطناعي" قالت ضمنها إن "إطلاق شركة 'ديب سيك' الصينية لروبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي بكلفة أقل كثيراً من الكلفة المعتادة وبرقائق أقل تطوراً" أدى في يناير (كانون الثاني) الماضي، وبعد استيعاب الأسواق لذلك التغير، إلى انخفاض أسهم شركة "إنفيديا". وبطبيعة الحال، لا ترد إشارة إلى ذلك التطور الذي تحقق في الصين، والتدهور الذي شهدته شركة "إنفيديا" في كتاب صدر حديثاً متضمناً سيرة حياة رئيس "إنفيديا" التنفيذي جينسين هوانغ. لكن عدم التعرض لذلك التدهور في الكتاب الذي صدر حديثاً بعنوان "آلة التفكير جينسن هوانغ، إنفيديا، والرقائق التي يشتهيها العالم" لا يرجع إلى عزوف مؤلفه ستيفن ويت عن ذكر السلبيات في حكيه قصة حياة هوانغ ودور شركته في تقوية أنظمة الذكاء الاصطناعي من قبيل "تشات جي بي تي". وخلال استعراضها للكتاب (نيويورك تايمز-5 أبريل- نيسان الجاري) تكتب كاتي نوتوبولوس أن خلو "آلة التفكير" من هذه الإشارة يرجع ببساطة إلى أن الكتاب اكتمل في منتصف عام 2024، وأن أي كتاب في التكنولوجيا لا يصدر إلا وهو مهدد بأن يبدو متأخراً، وربما متأخراً للغاية لأن طبيعة مجال التكنولوجيا نفسه تفرض ذلك، بسبب سرعة تطوره المبهرة للأنفاس. وتكتب نوتوبولوس أن أسهم "إنفيديا" قبيل صدور الكتاب كانت تشهد ارتفاعاً مدهشاً وأن "قصة تحول الشركة لتصبح الاستثمار الأكثر رواجاً في وول ستريت قصة مذهلة لأن مسار الشركة يختلف اختلافاً كبيراً عن نظيراتها من شركات التكنولوجيا الكبرى، إذ كانت الشركات من قبيل "أبل" و"ميتا" و"أمازون" في الغالب شركات يستعمل الناس العاديون منتجاتها بصفة يومية، أما اسم "إنفيديا" فلا يحتمل أنك سمعت به ما لم تكُن من غلاة المتحمسين لألعاب الفيديو. لم يوفر هوانغ لكاتب سيرته كثيراً من المعلومات عن نشأته وكيف انتهت به إلى أن يكون من المتربعين على عرش التكنولوجيا العالمي، فهو يقول لويت "إنني لا أحب أن أحلل نفسي على هذا النحو"، ومع ذلك لا يخلو الكتاب من لمحات كافية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) يكتب إيان ليزلي (نيوستيتسمان-10 أبريل الجاري) أن المرء لا ينبغي أن يكون غريب الأطوار لكي ينجح في تأسيس وإدارة شركة تكنولوجيا، مهما بدا من شخصيات مارك زوكربيرغ وجيف بيزوس وغيرهما نفع غرابة الأطوار في ذلك، إذ يبرز جينسين هوانغ وسط أولئك الأقران برزانته واتزانه، فعلى رغم أنه "شريك مؤسس ورئيس تنفيذي لشركة 'إنفيديا' المتخصصة في تصنيع الرقائق الضرورية لأنظمة الذكاء الاصطناعي، وعلى رغم أن الشركة أصبحت خلال الأعوام الأخيرة من أعلى شركات العالم قيمة، فإن هوانغ متزوج امرأة عرفها في الجامعة ولديه منها طفلان، ونادراً ما يدلي بآراء في السياسة، ولم يخرج علينا بعد بنظريات عن نهاية العالم... هو فقط يرتدي سترات جلدية طوال الوقت، ولا يبدو أنه يعاني فرط الغرور. وهو، كما يتبين من الكتاب، شخص استثنائي الدوافع، قد يكون مديراً بغيضاً للموظفين الذين لا يرضونه، لكنه لا يبدو مختلاً عاطفياً شأن كثير من الرؤساء التنفيذيين المليارديرات". ويرجح ليزلي أن يكون سواؤه هذا راجعاً إلى أصله. ولد هوانغ في تايوان عام 1963، ولما بلغ التاسعة من العمر بعثه أبواه هو وشقيقه إلى الولايات المتحدة، بلا رفيق، ليقيما عند عم لهما في تاكوما بولاية واشنطن، ومن هناك بعث هوانغ إلى كنتاكي للالتحاق بمدرسة داخلية دينية للطلبة المشاغبين (لظن عمه خطأ أنها مدرسة مرموقة)، وكانت تلك المدرسة مليئة بأولاد من أسر فقيرة، يدخنون ويحملون المدى ولا يبدون اهتماماً كبيراً بالدراسة. وكان هوانغ ضئيل البنية، مجتهداً، ذا لكنة ثقيلة في الحديث بالإنجليزية. فتحتم أن يتعرض للتنمر، فصاروا ينادونه بـ"الصيني" وبات مكلفاً تنظيف المراحيض. وفي حواراته، لا ينتقد هوانغ العنصرية التي عومل بها في صباه، بل لا يكاد يحفل بها، فيقول مثلاً "في تلك الآونة، لم يكُن هناك مستشار تتحدث إليه، إنما كان على المرء أن يتحلى بالصلابة ويواصل طريقه"، بل إنه حينما سئل عن التمييز ضد الآسيويين في المستويات العليا من العمل الاقتصادي قال إنه كان في وقت من الأوقات "الرئيس التنفيذي الصيني الوحيد" ويعني بالطبع صيني الأصل، "لكن ذلك لم يخطر لي ولم أتوقف عنده. واليوم أيضاً لا يخطر لي ولا أتوقف عنده". ويكتب ليزلي أن هوانغ "لكي يذهب إلى المدرسة، كان عليه أن يسلك جسر مشاة عالياً لعبور نهر، وكان الجسر هشاً مقاماً من الحبال والخشب، ففيما يعبره، كان أبناء المنطقة في بعض الأحيان يجذبون الحبال ويهزونها. ولم يكُن هوانغ يرتاع، أو لم يكُن يبدي روعه في الأقل، بل يواصل السير، متجاوزاً العوارض الناقصة. وحكى صديق شهد تلك الوقائع أنه 'بطريقة ما لم يتأثر بذلك... بل لقد بدا في واقع الأمر أنه كان يستمتع به'. وانتهت الحال بهوانغ وقد اتخذ أولئك الصبية أصحاباً وقادهم في مغامرات في الغابة. وفي كبره، تبرع بمبنى جديد للمدرسة، وتكلم بمحبة عن عبور الجسر". ولعله لا مهرب من مقارنة واقعة الجسر القديمة تلك بما جاء في محاضرة ألقاها هوانغ أمام طلبة جامعة "ستنافورد"، وهي من جامعات النخبة في أميركا، عام 2024، إذ قال لهم إن "العظمة تنبع من الشخصية. وإن الشخصية لا تتكون لدى الأشخاص الذين يتسمون بالذكاء، وإنما تتكون لدى الأشخاص الذين يعانون... ومن سوء الحظ أن القوة مهمة من أجل النجاح... ولا أعرف كيف أعلمكم هذا إلا بطريقة واحدة هي أن أرجو لكم المعاناة". وبعد عامين من انتقال هوانغ إلى الولايات المتحدة، تمكن والداه من اللحاق به. ونبغ هوانغ أكاديمياً، متفوقاً في الرياضيات بصفة خاصة، وتخرج مبكراً، في الـ16 من عمره، وأصبح أيضاً لاعب تنس طاولة ذا تصنيف على المستوى الوطني. وكانت لديه قدرة استثنائية على العمل الجاد المركز، فكان يصقل مهاراته في أي عمل يقوم به إلى أن يتفوق فيه على الجميع تقريباً. ولزيادة دخله، كان يمسح الأرضيات في نادي تنس الطاولة المحلي، وحصل على وظيفة في مطعم "دينيز"، حيث بدأ بغسيل الأطباق حتى تدرج إلى نادل. وحتى يومنا هذا، لا يوجد في سيرته الذاتية بموقع "لينكدإن" غير أنه "مؤسس إنفيديا ورئيسها التنفيذي وغاسل أطباق ومساعد نادل ونادل في مطعم دينيز". وفي جامعة أوريغون، التقى هوانغ زوجته المستقبلية لوري ميلز، وكانت أكبر منه (فجميع الطلبة تقريباً كانوا أكبر منه). وكانت تدرس تخصصه نفسه أي الهندسة الكهربائية. ولم يكُن هوانغ زعيماً لكنه كان مهذباً ودؤوباً. واستطاع أن يقنع ميلز بمشاركته في كتابة الفروض والواجبات. ويحكي لكاتب سيرته، قائلاً "حاولت أن أثير إعجابها، لا بمظهري طبعاً، لكن بقدرتي الكبيرة على إكمال الفروض والواجبات". وبعد الجامعة، عمل هو وميلز في تصميم رقائق الكمبيوتر، وكانت باعترافه أنجح منه، ومع ذلك أنهت مسيرتها المهنية وتفرغت لتربية طفليهما. وشارك هوانغ في تأسيس "إنفيديا" عام 1993 وهو في الـ30 من عمره، اثنان من مصممي الرقائق المخضرمين، هما كريس مالاكوفسكي وكيرتس بريم، ووضع الثلاثة مسودة الأوراق اللازمة في مطعم "دينيز" في سان خوسيه، قرب بيت هوانغ. كان هوانغ أصغر المؤسسين الثلاثة، لكن سرعان ما اتُفق على توليته منصب الرئيس التنفيذي، إذ كان قائداً بالفطرة، ذا روح تنافسية عالية، تعكس قناعة راسخة لا غروراً أجوف، فخولت له تجارب نشأته نضجاً مبكراً، حتى إن أحد موظفيه الأوائل قال إن "جينسين كان دائماً الراشد في أية غرفة، فحتى حينما يكون الأصغر سناً، يكون الأرشد". لكن الأمر لم يخلُ من بعض الغرور بحسب ما يشير إيان ليزلي "فقد كان المنتج الأساس للشركة في بدايتها رقاقة أطلق عليها الشركاء اسم إنفي NV1 اعتقاداً منهم بأن الاسم كفيل بإثارة غيرة منافسيهم"، فاسم الرقاقة مشتق من اسم الشركة المأخوذ بدوره من كلمة لاتينية معناها "الحسد". ويكتب ليزلي أن الشركة ركزت في مستهل عملها على تصنيع رقائق لألعاب الفيديو. وهذه الرقائق المعروفة بوحدات معالجة الرسوم (GPUs) هي التي سهلت إنتاج الصور فائقة الواقعية "وسرعان ما حققت 'إنفيديا' نجاحاً كبيراً فطرحت أسهمها في سوق المال عام 1999 وأصبح هوانغ وشريكاه من كبار الأثرياء". لم يكُن تأسيس "إنفيديا" ونجاحها السريع إلا أول الغيث في طموحات هوانغ الكبيرة الذي أصر أن يتصدى لمراهنات كبيرة على تقنيات غير ثابتة بعد، ولو كان معنى ذلك أنه يغازل كوارث محتملة على الشركة كلها "فكان على قناعة بأنه ما لم تستمر 'إنفيديا' في تجريب أشياء مختلفة، فإن منافسين جدداً أشد منها لهفة سيجعلونها شركة بائدة، بل إنه كثيراً ما دأب على أن يقول لموظفي الشركة إنهم على بعد 30 يوماً من الإفلاس". ويعلق ليزلي على ذلك بقوله إن هوانغ "يجد متعة حقيقية في انعدام الأمن"، غير أنني أرجح أنه أراد أن يجعل الابتكار بالنسبة إلى فريقه مسألة حياة أو موت. ويكتب ليزلي أن هوانغ تصدى للمخاطرة الكبرى حتى الآن عام 2006، إذ استثمر في تكنولوجيا الحوسبة الموازية، وكانت آنذاك تكنولوجيا غير مضمونة بالمرة، لكنها مكنت "إنفيديا" من أداء معالجة معقدة للبيانات تجاوزت الرسوم، وكره مستثمرو شركته تلك المخاطرة إذ انخفضت قيمة الأسهم بنسبة 70 في المئة بحلول عام 2008، لكن هوانغ أصر على رهانه إذ شعر بأن ذلك هو مستقبل الحوسبة وإن لم يكُن متأكداً من ذلك. وتبدل مصير شركته تبدلاً دراماتيكياً عام 2012 مع الفتح الذي توصل إليه باحثو الذكاء الاصطناعي باستعمال ما يعرف بـ"التعلم العميق" في تدريب شبكات عصبية على مجموعات بيانات ضخمة. وتبين أن نتاج "إنفيديا" من وحدات معالجة الرسومات، القادرة على التعامل مع حسابات معقدة للغاية، مثالية لهذه المهمة. وبذلك جعل هوانغ شركته، عن غير قصد إلى حد ما، عنصراً لا غنى عنه بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي. فرهانه على الحوسبة المتوازية جعل من شركة متخصصة في ألعاب الفيديو عموداً فقرياً لبنية الحوسبة الحديثة، وجعل وحدات معالجة الرسومات التي تنتجها "إنفيديا" شريكة في معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي... وبحلول عام 2023، لحقت "إنفيديا" بشركتي "أبل" و"غوغل" بوصفها "إحدى عمالقة التكنولوجيا في العالم". لا يعرف أحد، على حد قول إيان ليزلي، ما الذي تخفيه الأعوام المقبلة لـ"إنفيديا" ولهوانغ في ظل التطورات الصينية الأخيرة التي قللت اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي على رقائق الشركة، مما أدى إلى انخفاض سعر أسهمها في الآونة الأخيرة، لكن "مهما يكُن ما يجري لـ'إنفيديا'، يمكن أن نكون على يقين من أنه لا يوجد من يفوق هوانغ تحسباً للفشل، ومع دخول العالم مرحلة انتقالية شديدة الاضطراب في ما يتعلق بالتكنولوجيا، لن يعدم هوانغ منافسين شرسين طامحين إلى سحق 'إنفيديا' سحقاً، لكن هوانغ يعلم جيداً على رغم نجاح شركته الكبير أنها في الحقيقة تسير على جسر متزعزع، لكن هذا الموضع بالضبط هو الذي يحلو لهوانغ أن يكون فيه". العنوان: The Thinking Machine: Jensen Huang، Nvidia، and the World"s Most Coveted Microchip تأليف: Stephen Witt الناشر: Vintage

كفوا عن مقارنة الذكاء الاصطناعي بالبشر عبثاً
كفوا عن مقارنة الذكاء الاصطناعي بالبشر عبثاً

الاقتصادية

time١٩-٠٤-٢٠٢٥

  • الاقتصادية

كفوا عن مقارنة الذكاء الاصطناعي بالبشر عبثاً

القول إننا على مشارف عصر الذكاء الاصطناعي العام ضرب من دعاية لجذب المستثمرين علينا أن نستطلع مقدرات برنامج ذكاء اصطناعي بدلاً من إطلاق العنان للخيال إن سمعتم مصطلح الذكاء الاصطناعي العام، فلربما يتبادر لكم ما يماهي ذكاء البشر، كما حال برنامج الذكاء الاصطناعي عذب الصوت الذي تناوله فيلم (Her) ، أو ذكاء خارق على غرار "سكاي نت" من فيلم .(The Terminator) على أي حال، سيكون شيئاً خيالياً بعيد المنال . يتزايد من يتنبّأون بظهور الذكاء الاصطناعي العام، أو الذكاء الاصطناعي "بمستوى الإنسان"، في المستقبل القريب جداً سواء بين العاملين في قطاع التقنية أو من خارجه . قد يُصدّقون ما يقولون، لكن على الأقل جزئياً فإن هذا مردّه إلى دعاية معدّة لجذب مستثمرين يضخون مليارات الدولارات في شركات الذكاء الاصطناعي . حتماً، سنشهد تغيرات كبيرة وعلينا أن نستعد لها. لكن تسميتها بالذكاء الاصطناعي العام، هي في أحسن أحوالها تشتيت للانتباه، وفي أسوئها تضليل متعمّد. يحتاج قادة الأعمال وصانعو السياسات إلى طريقة أفضل للتفكير فيما هو قادم. ولحسن الحظ هناك طريقة. كم من الزمن سيمر قبل أن نبلغ ذلك؟ لم يمض وقت طويل منذ صرّح كل من سام ألتمان من "أوبن إيه آي"، وداريو أمودي من "أنثروبيك"، وإيلون ماسك من "إكس إيه آي" (وهي أقل شركاته سبباً في شهرته) بأن الذكاء الاصطناعي العام أو ما يشبهه سيظهر خلال عامين . بينما يعتقد آخرون، مثل ديميس هاسابيس من "جوجل ديب مايند" ويان ليكون من "ميتا"، أن ذلك لن يكون قبل 5 إلى 10 سنوات. اتسع انتشار هذا المصطلح حديثاً وقد حاجج صحفيون، منهم عزرا كلاين وكيفن روز من صحيفة "نيويورك تايمز"، بأن على المجتمع الاستعداد لشيء يشبه الذكاء الاصطناعي العام في المستقبل القريب جداً . أقول "شيء يشبه" لأن هؤلاء غالباً ما يستخدمون مصطلح الذكاء الاصطناعي العام ثم يعمدون إلى تعبير أكثر غموضاً مثل "الذكاء الاصطناعي القوي " . وما قد يقصدونه بذلك يختلف اختلافاً كبيراً، بدءاً من ذكاء اصطناعي قادر على أداء أي مهمة معرفية فردية تقريباً بكفاءة الإنسان، لكنه يكون محصوراً في اختصاص معين إلى حد كبير (كما يظن كلاين وروس)، وصولاً إلى إنجاز أعمال بمستوى جائزة نوبل (حسب أمودي وألتمان)، أو إلى التفكير كإنسان حقيقي من جميع النواحي (كما يعتقد هاسابيس)، أو إلى العمل في العالم المادي (حسب ليكون)، أو ببساطة أن يكون "أذكى من أذكى إنسان" (كما يعتقد ماسك) . هل أيٌّ من هذا ذكاء اصطناعي عام بحق؟ الحقيقة هي أن هذا لا يهم. حتى لو وُجد شيء يُسمى الذكاء الاصطناعي العام -وهو، كما أزعم، غير موجود- فليس هناك أي تغيير جوهري سنشهده بعد بلوغ نقطة تطور معينة. بالنسبة إلى من يروجون له، فإن الذكاء الاصطناعي العام هو الآن اختصار لفكرة أن شيئاً مُزلزلاً يوشك أن يحدث: برنامج يفوق دوره برمجة تطبيق أو كتابة واجب مدرسي أو قصص ما قبل النوم للأطفال أو حجز عطلة، بل قد يسلب وظائف كثير من الناس ويحقق اختراقات علمية كبرى ويوفر قوة مرعبة للمخترقين والإرهابيين والشركات والحكومات . هذا تنبؤ جدير بالاهتمام، وتسميته بالذكاء الاصطناعي العام تثير انتباه الناس. ولكن بدلاً من الحديث عن الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الاصطناعي بمستوى الإنسان، دعونا نتحدث عن أنواع مختلفة من الذكاء الاصطناعي، وما يمكنها أو ما لا يمكنها فعله. ما لا تستطيع النماذج اللغوية الكبرى فعله لطالما كان الوصول إلى شكل من أشكال الذكاء بمستوى الإنسان هو الهدف، وذلك منذ انطلاق سباق الذكاء الاصطناعي قبل 70 عاماً. لعقود، كان أفضل ما أمكن بلوغه هو "الذكاء الاصطناعي الضيق" مثل "ديب بلو" من شركة "آي بي إم" الذي فاز بلعبة الشطرنج، أو "ألفا فولد" من "جوجل"، الذي يتنبأ ببنية البروتينات، والذي مكّن مبتكريه (ومنهم هاسابيس) من الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء العام الماضي. وكلاهما كان يفوق المستوى البشري بكثير، لكن فقط لمهمة واحدة محددة . إذا بدا الذكاء الاصطناعي العام الآن أقرب، فذلك لأن نماذج اللغة الكبيرة التي يقوم عليها "شات جي بي تي" وأمثاله تبدو أكثر شبهاً بالإنسان وشموليةً . تتفاعل النماذج اللغوية الكبيرة معنا بلغة بسيطة. يمكنها تقديم إجابات تبدو معقولة على الأقل لمعظم الأسئلة. وتكتب قصصاً خياليةً جيدةً، على الأقل عندما تكون قصيرة جداً. (في القصص الطويلة، تفقد القدرة على تتبع الشخصيات وتفاصيل الحبكة) . إنها تحقق نتائج أعلى باستمرار في اختبارات معيارية لمهارات مثل البرمجة والامتحانات الطبية أو امتحانات نقابة المحامين ومسائل الرياضيات. إنها تتحسن في التفكير خطوة بخطوة والمهام الأعقد. عندما يتحدث أشد المتحمسين للذكاء الاصطناعي عن قرب ظهور الذكاء الاصطناعي العام، فإنهم في الواقع يتحدثون عن شكل أكثر تقدماً من هذه النماذج . لا يعني هذا أن النماذج اللغوية لن تكون لها تأثيرات كبيرة، فبعض شركات البرمجيات باتت تخطط لتوظيف عدد أقل من المهندسين. معظم المهام التي تتبع عملية متشابهة في كل مرة -مثل إجراء التشخيصات الطبية وإعداد الملفات القانونية وكتابة ملخصات الأبحاث وإنشاء حملات تسويقية وما إلى ذلك- ستكون مهام يمكن للموظفين أن يستعينوا عليها ولو جزئياً بالذكاء الاصطناعي. وبعضهم باشر ذلك . سيزيد هذا من إنتاجيتهم وقد يؤدي ذلك إلى شطب بعض الوظائف. لكن ليس بالضرورة أن يحدث ذلك، فقد توقع جيفري هينتون، عالم الكمبيوتر الحائز جائزة نوبل والمعروف باسم الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، أن هذه التقنية ستلغي عمل إخصائيي الأشعة. لكن اليوم هنالك قصور في أعدادهم في الولايات المتحدة . لا تزال النماذج اللغوية "ذكاءً اصطناعياً ضيقاً" ويمكنها التفوق في وظيفة واحدة بينما تكون سيئة في وظيفة أخرى تبدو مرتبطة بها، وهي ظاهرة تُعرف باسم "الحدود الوعرة". على سبيل المثال، قد يجتاز الذكاء الاصطناعي امتحان نقابة المحامين بنجاح باهر، لكنه يخفق في تحويل محادثة مع عميل إلى ملف قانوني . قد يجيب عن بعض الأسئلة بشكل مثالي، لكنه يبالغ في "التخيل" (أي يختلق الحقائق) في أسئلة أخرى. تبرع النماذج اللغوية في المسائل التي يمكن حلها باستخدام قواعد واضحة، لكن في بعض الاختبارات الأحدث التي كانت القواعد أكثر غموضاً، واجهت النماذج، التي حصلت على 80% أو أكثر في معايير أخرى، صعوبةً في الوصول إلى نسب نجاح أدنى من 10%. حتى لو بدأت النماذج اللغوية بالتفوق في هذه الاختبارات، فستبقى محدودة. هنالك فارق كبير بين معالجة مسألة محددة ومحدودة مهما كانت صعوبتها وبين تجربة ما يفعله الناس فعلياً في يوم عمل عادي . حتى عالم الرياضيات لا يقضي كامل يومه في حل مسائل الرياضيات فحسب. يفعل الناس أشياءً لا تُحصى ولا يُمكن قياسها لأنها ليست مسائل محدودة بإجابات صحيحة أو خاطئة . نحن نوازن تضارب الأولويات ونتخلى عن الخطط الفاشلة ونتحسب للقصور المعرفي ونضع حلولاً بديلة ونتصرف بناءً على حدسنا ونتعرف على ما يدور في الغرفة، والأهم من ذلك كله، نتفاعل باستمرار مع ذكاءات البشر غير المتوقعة وغير العقلانية . في الواقع، إحدى الحجج التي تنفي قدرة النماذج اللغوية على إنجاز أعمال تضاهي جائزة نوبل هي أن ألمع العلماء ليسوا من يعرفون أكثر، بل من يتحدّون الحكمة التقليدية، ويطرحون فرضيات غير محتملة، ويطرحون أسئلة لم يفكر أحد في طرحها . هذا مختلف تماماً عن النماذج اللغوية، المصممة لإيجاد الإجابات الأكثر توافقاً بناءً على جميع المعلومات المتاحة . لذا، قد نتمكن يوماً ما من بناء نماذج لغوية تُمكننا من أداء أي مهمة معرفية فردية تقريباً بكفاءة الإنسان. قد تكون قادرة على ربط سلسلة كاملة من المهام لحل مشكلة أكبر. وفقاً لبعض التعريفات، ستكون ذكاءً اصطناعياً بمستوى الإنسان. لكنها ستظل غبية جداً إذا وُضعت في مكتب. الذكاء البشري ليس "عاماً " تكمن المشكلة الأساسية في فكرة الذكاء الاصطناعي العام في أنها مبنية على مفهوم شديد المركزية البشرية لماهية الذكاء . تتعامل معظم أبحاث الذكاء الاصطناعي مع الذكاء كما لو كان مقياساً خطياً بقدر ما. وتفترض أن الآلات ستبلغ في مرحلة ما مستوى الذكاء البشري أو "الذكاء العام"، وربما بعد ذلك إلى "الذكاء الفائق"، وعندها إما أن تصبح على غرار "شبكة سكاي نت" فتدمرنا أو تتحول إلى قوى خيّرة تعتني بجميع احتياجاتنا . لكن هناك حجة قوية مفادها أن الذكاء البشري ليس "عاماً" في الواقع. لقد تطورت عقولنا لمواجهة تحدٍّ محدد جداً وهو أن نكون ما نحن عليه من حيث أحجام أجسامنا وأشكالها، وأنواع الطعام التي نستطيع هضمها، والحيوانات المفترسة التي تعرضنا لها، وحجم مجموعات أقاربنا، وطريقة تواصلنا، وحتى قوة الجاذبية وأطوال موجات الضوء التي ندركها، كلها عوامل تحدد ما تجيده عقولنا . لدى الحيوانات الأخرى أشكال عديدة من الذكاء نفتقر إليها: فالعنكبوت يستطيع التمييز بين المفترس والفريسة من خلال اهتزازات شبكته، والفيل يستطيع تذكر مسارات الهجرة التي تمتد لآلاف الكيلومترات، وفي الأخطبوط، كل مجس يتصرف كما لو أن له عقلاً يخصه . في مقال نشرته مجلة "وايرد" في 2017، حاجج كيفن كيلي بأنه علينا ألّا نعتبر الذكاء البشري قمة شجرة التطور، بل كنقطة واحدة ضمن مجموعة من الذكاءات الأرضية، التي تمثّل في حد ذاتها لطخة صغيرة في عالم مليء بجميع الذكاءات الفضائية والآلية المحتملة . كتب أن هذا يبدد "أسطورة الذكاء الاصطناعي الخارق" القادر على القيام بكل شيء بشكل أفضل منا بكثير. بل يجب أن نتوقع "مئات الأنواع الجديدة من التفكير غير البشري، التي تختلف اختلافاً كبيراً عن البشر، ولن يكون لأي منها غرض عام، ولن يكون أي منها قوة خارقة فوريةً تحل المشكلات الكبرى في لمح البصر". هذه ميزة وليست عيباً. فيما يخص معظم الاحتياجات، أعتقد أن الذكاءات المتخصصة ستكون أرخص وأكثر موثوقية من الذكاءات المتعددة التي تشبهنا إلى حد كبير. علاوة على أنها أقل عرضة لأن تنتفض وتطالب بحقوق . أسراب من العملاء لا يعني هذا تجاهل القفزات الهائلة التي يمكن أن نتوقعها من الذكاء الاصطناعي في السنوات القليلة المقبلة . إحدى القفزات التي بدأت بالفعل هي الذكاء الاصطناعي "الوكيل". لا يزال العملاء يعتمدون على البرامج اللغوية الضخمة، لكن بدلاً من مجرد تحليل المعلومات، يمكنهم تنفيذ إجراءات مثل الشراء أو ملء نموذج ويب. على سبيل المثال، تخطط "زووم" لإطلاق عملاء قريباً يمكنهم تصفح محاضر الاجتماعات لتحري ما يمكن تحويله إلى أفعال، وصياغة رسائل متابعة عبر البريد الإلكتروني، وجدولة الاجتماع التالي . حتى الآن، أداء عملاء الذكاء الاصطناعي متفاوت، ولكن كما هي الحال مع برامج النماذج اللغوية الضخمة، نتوقع أن يتحسن بشدة لدرجة تمكن من أتمتة عمليات شديدة التعقيد . قد يدّعي بعض أن هذا هو الذكاء الاصطناعي العام. لكن أكرر أن هذا يُربك أكثر من أن يفيد. لن يكون الوكلاء "عامين"، بل أشبه بمساعدين شخصيين ذوي عقول أحادية التوجه. قد يكون لديك عشرات منهم. وحتى لو رفعوا إنتاجيتك بشكل كبير، فإن إدارتهم ستكون أشبه بإدارة عشرات التطبيقات البرمجية المختلفة، تماماً كما تفعل حالياً. ربما ستُعيّن وكيلاً لإدارة جميع وكلائك، لكنه أيضاً سيكون مقيداً بالأهداف التي تحددها له . ما سيحدث عندما يتفاعل ملايين أو مليارات الوكلاء معاً عبر الإنترنت هو أمرٌ لا يعلمه أحد. ربما، كما تسببت خوارزميات التداول في "انهيارات مفاجئة" غير قابلة للتفسير في الأسواق، فإنهم قد يدفعون بعضهم بعضاً إلى تفاعلات متسلسلة لا يمكن إيقافها تشل نصف شبكة الإنترنت. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن جهات خبيثة قد تحشد أسراباً من العملاء لنشر الفوضى . مع ذلك، فإن برامج النماذج اللغوية الضخمة وعملاءها ما هي إلا نوع واحد من الذكاء الاصطناعي. في غضون بضع سنوات، قد تكون لدينا أنواع مختلفة جذرياً. إن مختبر ليكون في "ميتا"، على سبيل المثال، هو واحد من عدة مختبرات تحاول بناء ما يُسمى الذكاء الاصطناعي المُجسّد . النظرية وراء ذلك هي أن وضع الذكاء الاصطناعي في جسم روبوت في العالم المادي، أو في محاكاة، يمكنه التعلم عن الأشياء والموقع والحركة، وهي اللبنات الأساسية للفهم البشري التي تنبع منها المفاهيم العليا. على نقيض ذلك، فإن برامج النماذج اللغوية، المدرّبة فقط على كميات هائلة من النصوص، تُقلّد عمليات التفكير البشري ظاهرياً، لكنها لا تُظهر أي دليل على تملك هذه القدرة، أو حتى إنها تفكر بشكل ذي معنى . هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي المتجسد إلى ظهور آلات تفكر بذكاء، أم مجرد روبوتات بارعة؟ حالياً يستحيل الجزم. حتى لو كان الجواب الأول، فسيظل وصفه بالذكاء الاصطناعي العام مُضلِّلاً . بالعودة إلى نقطة التطور: بقدر ما هو سخيف أن نتوقع إنساناً يفكر كالعنكبوت أو الفيل، سيكون سخيفاً أن نتوقع أن يفكر روبوت مستطيل بست عجلات وأربع أذرع، لا ينام ولا يأكل ولا يتكاثر -علاوة على عجزه عن تكوين صداقات أو أن يعيش صراع ضمير أو يتفكر في فنائه- كالإنسان . قد يكون قادراً على حمل الجدة من غرفة المعيشة إلى غرفة النوم، لكنه سيُدرك المهمة ويؤديها بشكل مختلف تماماً عن البشر . كثير من الأشياء التي سيتمكن الذكاء الاصطناعي من فعلها، لا يمكننا حتى تخيُّلها اليوم. أفضل طريقة لتتبع هذا التقدم وفهمه هي التوقف عن مقارنته بالبشر، أو بأي شيء من الأفلام، والاستمرار في التساؤل: ماذا يمكنه أن يفعل حقاً؟ خاص بـ "بلومبرغ"

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store