أحدث الأخبار مع #مركز_الزيتونة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- أعمال
- الجزيرة
أذرع الموساد في أفريقيا.. اختراق ناعم وولاءات مدفوعة
في عمق القارة الأفريقية، بعيدًا عن أضواء الإعلام وضجيج الدبلوماسية، تنسج إسرائيل شبكة نفوذ خفية تتغلغل في مفاصل الأنظمة الأمنية والسياسية هناك، وعبر وعود التعاون التقني والتدريب العسكري يقود جهاز الموساد حملة اختراق واسعة، تستغل هشاشة بعض الأنظمة والفجوات الأمنية لترسيخ حضور إسرائيلي دائم في القارة. من أوغندا إلى إثيوبيا، ومن نيجيريا إلى جنوب أفريقيا، تتكشف معلومات عن تجنيد عناصر محلية، واستخدام أدوات مراقبة إلكترونية متقدمة عبر شركات مدنية تبدو في الظاهر تنموية لكنها في جوهرها أذرع استخباراتية تخدم أهدافًا أمنية وسياسية. هذا التغلغل، الذي تصاعد بشكل ملحوظ بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحاول إسرائيل من خلاله تشكيل رافعة سياسية لها في المحافل الدولية، واستمالة مواقف دول أفريقية لطالما ارتبطت تقليديًا بدعم فلسطين. في هذا التقرير، نكشف خفايا هذه اللعبة الاستخباراتية، ونرسم خريطة النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، حيث تختلط المصالح الأمنية بالصفقات السياسية، وتذوب الحدود بين الدبلوماسية والتجسس. جذور النفوذ بدأ اهتمام إسرائيل بأفريقيا منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث لم تكن القارة مجرد حديقة خلفية للنفوذ الغربي، بل أصبحت ساحة صراع خفي، وكان جهاز الموساد أحد أبرز اللاعبين في هذا المشهد الصامت. وضع أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون تصورا إستراتيجيا مبكرا للنفاذ إلى أفريقيا عبر "الأطراف" لمواجهة ما سماه "طوق العداء العربي"، واعتبر القارة بوابة للتأثير والضغط السياسي. وفي ورقة علمية أصدرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أشار الخبير في الدراسات المستقبلية الدكتور وليد عبد الحي إلى دراسة أكاديمية إسرائيلية كانت قد اقترحت أنه "يجب على إسرائيل تدريب المهاجرين الأفارقة وإعادتهم إلى دولهم الأفريقية ليعملوا على تشكيل شبكات تجسس محلية داخل الدول الأفريقية". ولتفعيل هذه الإستراتيجية على الأرض، لجأت إسرائيل إلى أدوات ناعمة وواجهات مدنية شكلت الغطاء الأمثل لتوسيع نفوذها الأمني والاستخباراتي. وعبر برامج التعاون الفني والمساعدات الزراعية والدورات الأمنية، أرسلت إسرائيل آلاف الخبراء والمستشارين، ليس فقط لتأهيل كوادر أفريقية، بل لبناء نفوذ استخباراتي طويل الأمد، خاصة في دول مثل إثيوبيا وأوغندا والكونغو وجنوب السودان وجنوب أفريقيا، كما ورد في الورقة البحثية. ولم يكن هذا الحضور تنمويًا فحسب، بل كان غطاءً متقنًا لعمليات تجنيد وتنسيق مع أجهزة الأمن، وهو ما تؤكده وثائق استخباراتية مسرّبة عُرفت باسم "كابلات التجسس" (Spy Cables)، التي كشفت عن شبكات نشطة للموساد تعمل داخل القارة الأفريقية بتسهيلات دبلوماسية ولوجستية. الهياكل الموازية.. شبكات غير رسمية وبموازاة القنوات الرسمية، كانت هناك شبكات موازية غير رسمية تُسخّر لخدمة الأهداف الأمنية الإسرائيلية، أبرزها شبكات المتعاونين المحليين والجاليات اليهودية في أفريقيا. يُشار إلى ما يُعرف بـ"سايانيم" (Sayanim) -وهم متطوعون من أبناء الجاليات اليهودية في الخارج- كأحد عناصر الدعم اللوجستي غير الرسمي لجهاز الموساد، بحسب ما أورده الضابط السابق في الجهاز فيكتور أوستروفسكي في مذكراته. ووفقًا لهذه الرواية، يسهم هؤلاء المتعاونون في تسهيل مهام ميدانية مثل توفير أماكن للإقامة أو وسائل تنقل، دون أن يكونوا موظفين رسميين، ويعملون في عدة دول حول العالم لدعم عمليات الموساد بشكل غير مباشر. كما ظهرت منظمات أمنية محلية مرتبطة بالجاليات اليهودية مثل "منظمة أمن المجتمع" (Community Security Organisation)، التي تشير التقارير الإعلامية إلى قيامها بأنشطة تتعلق برصد تحركات بعض الجهات المناهضة لإسرائيل في أفريقيا مثل حركة المقاطعة " بي دي إس" (BDS). وعلى الرغم من عدم وجود توثيق رسمي مباشر لارتباط هذه المنظمة بالموساد، فإن مراقبين يؤكدون أن نشاطها قد يتقاطع مع الأهداف الأمنية الإسرائيلية في المنطقة، حيث تلعب دورًا في حماية الجالية اليهودية ومراقبة التهديدات المحتملة. ووفقا للباحث وليد عبد الحي في ورقته، فإن إسرائيل استعانت بوسائل أكثر احترافية لإحكام حضورها، كان من أبرزها استخدام شركات الطيران والمؤسسات التدريبية كأغطية لتحركاتها الأمنية، فشركة الطيران الإسرائيلية "العال" استُخدمت كغطاء لنقل ضباط وأجهزة حساسة بين تل أبيب والعواصم الأفريقية ضمن تعاون وثيق مع بعض الحكومات. في المقابل، تستمر المعاهد التدريبية الإسرائيلية، وعلى رأسها "معهد الجليل للإدارة الدولية"، في استقطاب مئات القادة والطلاب من الدول الأفريقية ضمن برامج تتعدى الإدارة إلى التدريب العسكري وبناء شبكات دفاع محلية، ويُقال إن معظم الحكومات الأفريقية تحوي في بنيتها مسؤولًا واحدا على الأقل تخرّج من هذا المعهد. وقد عزّزت زيارات رسمية مثل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأفريقيا عام 2016 هذا التغلغل، حيث التقى بعدد من القادة الذين تلقوا تدريبًا في إسرائيل. بل إن رئيس الموساد الحالي ديفيد برنيع زار تشاد عام 2021 لمناقشة إقامة قاعدة أمنية متقدمة تتيح لإسرائيل مراقبة الأوضاع في ليبيا والجزائر، وتقديم الدعم لحلفائها، وخصوصًا المغرب. إعلان وفي الوقت الذي ظل فيه النشاط الأمني الإسرائيلي يتخذ طابع السرية، حرصت تل أبيب على بناء غطاء تنموي علني، شكل بوابة بديلة للتأثير الطويل الأمد تحت مسمى "التعاون الفني والتقني". ويُعزى هذا التوجه -بحسب مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات محمد صالح- إلى ضعف القبول الشعبي لإسرائيل في الأوساط الأفريقية، مما دفعها إلى توظيف هشاشة بعض الأنظمة وضعف بنيتها الأمنية لاختراقها عبر واجهات مدنية أو شركات تنموية تُستخدم كستار لعمليات تجنيد وتغلغل أمني. وغالبًا ما تأتي اتفاقيات التعاون الأمني في إطار تفاهمات سياسية أوسع. ووفقًا لما أورده مركز الأبحاث الفلسطيني، فإن التراجع في أعداد اليهود المتبقين في أفريقيا -ومعظمهم يتركزون اليوم في جنوب أفريقيا- انعكس في تقليص دور الأجهزة الأمنية في تأمين هجرتهم إلى إسرائيل، وتحول الدور إلى مهام مراقبة وتحشيد ناعم لخدمة السياسات الإسرائيلية. وذكر تقرير لتايمز أوف إسرائيل أن القوات الخاصة الإسرائيلية تدرب قوات محلية في أكثر من 12 دولة أفريقية، كجزء من إستراتيجية واسعة النطاق من جانب إسرائيل لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية في القارة. في السنوات الأخيرة، برزت الشركات الإسرائيلية المتخصصة في الأمن السيبراني والتجسس التقني كجهات فاعلة رئيسية في الساحة الأفريقية، حيث ساهمت في تشكيل سياسات المراقبة وتوجيهها لخدمة أجندات أمنية تتجاوز الحدود الوطنية. من أبرز هذه الشركات مجموعة "إن إس أو" (NSO) المطورة لبرنامج التجسس الشهير " بيغاسوس"، الذي استُخدم في عدة دول أفريقية لاستهداف معارضين سياسيين وصحفيين ونشطاء حقوقيين. ووفقًا لتقرير صادر عن معهد بروكينغز، فإن هذه الأدوات لم تُستخدم فقط في مكافحة الإرهاب والجريمة، بل امتد استخدامها لتعزيز القمع السياسي الداخلي وترسيخ أنظمة الحكم السلطوي. إعلان وكشفت تحقيقات دولية أجرتها منصات مثل فوربيدن ستوريز ومنظمة العفو الدولية أن دولًا مثل رواندا وتوغو وجنوب أفريقيا وأوغندا، كانت إما من مستخدمي هذه الأدوات وإما من أهدافها، مما يعكس المشهد المعقد لحرب التجسس الرقمي في القارة. واللافت أن كثيرًا من العاملين في شركات مثل "إن إس أو" و"فيرنت" (Verint) هم خريجو وحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وهي وحدة متخصصة في التنصت والاختراقات الإلكترونية، مما يعزز الروابط العضوية بين هذه الشركات والدولة الإسرائيلية. ونقلت الدراسة عن زويلفيليل مانديلا، أحد أحفاد الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا ، حديثه عن طرق التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية؛ وذلك من خلال تزويد الأنظمة الدكتاتورية في أفريقيا بأدوات التجسس، وتزويد حركات التمرد الانفصالية بالأسلحة تحت غطاء الأدوات الزراعية، ومن خلال تغذية الحروب الأهلية بهدف اختراق المجتمعات الأفريقية. ويرى خبراء في الأمن الرقمي والعلاقات الدولية أن إسرائيل لا تقتصر على استخدام هذه الشركات لأغراض أمنية أو اقتصادية فقط، بل توظفها كجزء من إستراتيجية دبلوماسية تهدف لاختراق أنظمة سياسية لا تربطها بها علاقات رسمية. وفي هذا السياق، يشير مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات محمد صالح إلى أن بيع أدوات مثل "بيغاسوس" يشكل "بوابة خلفية للتطبيع"، حيث يُستخدم التعاون الأمني لبناء جسور مع أنظمة حذرة من إعلان علاقات رسمية مع إسرائيل. يضيف صالح، في تصريحاته للجزيرة نت، أن هذا النوع من التعاون يمنح إسرائيل أوراق ضغط إستراتيجية، خصوصًا في ظل تصاعد التنافس الدولي في أفريقيا. فبمجرد تورط الأنظمة في استخدام هذه الأدوات، التي غالبًا ما تأتي مصحوبة بدعم فني وتدريب مباشر من خبراء إسرائيليين، تصبح هذه الدول أكثر قابلية للانخراط في ترتيبات أمنية وسياسية تضمن لإسرائيل دعمًا في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية. ويحذر من أن إسرائيل قد تحتفظ بمعلومات حساسة جمعتها عبر هذه الأدوات، مما يجعلها قادرة على التأثير في القرار السياسي داخل تلك الدول. كما أن امتلاك أدوات تجسس متقدمة، في ظل غياب آليات شفافية ومساءلة، قد يُضعف سيادة الدولة المتلقية ويحولها إلى طرف تابع في العلاقة الأمنية. ولا يقتصر النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا على بيع أدوات اختراق الهواتف، بل يمتد ليشمل بنية أمنية متكاملة تُدار عبر شركات ذات طابع مدني، لكنها ترتبط جوهريًا بالأجندة الأمنية الإسرائيلية. من بين هذه الشركات "ماغال سكيوريتي سيستمز" (Magal Security Systems)، التي تعلن على موقعها الرسمي أنها متخصصة في أنظمة الحماية والمراقبة، وتنتشر في عدد من الدول الأفريقية. إلى جانبها، تشير تقارير دولية إلى أن شركات مثل شركة " إلبيت سيستمز" (Elbit Systems) و"بلاك كيوب" (Black Cube)، تلعب دورًا مهما في تعزيز النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا من خلال تقديم خدمات أمنية وتقنية متقدمة للدول الأفريقية التي تعاني من ضعف البنى الأمنية. فشركة إلبيت المتخصصة في تكنولوجيا الدفاع والمراقبة، تزود بعض الدول الأفريقية بأنظمة مراقبة إلكترونية وحلول أمنية متطورة تساعد في حماية الحدود وتأمين المنشآت الحيوية. أما "بلاك كيوب"، فهي شركة تجسس خاصة تقدم خدمات جمع المعلومات الاستخباراتية، وتستخدم خبراتها لدعم أهداف إسرائيلية في مناطق إستراتيجية بما في ذلك أفريقيا. يرى خبراء أن هذه الشركات ليست فقط مزودة لخدمات تجارية، بل هي أدوات إستراتيجية تستخدمها إسرائيل لاختراق وتعزيز نفوذها الأمني والسياسي في أفريقيا عبر تقديم الدعم التقني والتدريبي، مما يفتح لها أبوابًا للتأثير المباشر وغير المباشر على أنظمة الحكم في القارة. وتكشف مجلة "أفريقا ريبورت" كيف تستعين إسرائيل بشبكة من المستشارين ورجال الأعمال ذوي العلاقات الرفيعة في القارة لفتح الأبواب أمام هذه الشركات. وعملت بعض هذه الشبكات في دول مثل السودان وغانا، وأسهمت في ترسيخ وجود شركات مثل "إن إس أو" و"فيرنت" كلاعبين مهيمنين في سوق المراقبة بأفريقيا جنوب الصحراء. البعد الأمني أداة دبلوماسية في قلب الساحة الدولية، تستخدم إسرائيل نفوذها الأمني والاستخباراتي في أفريقيا أداة ضغط سياسي. فمن خلال التعاون العسكري والتقني تسعى إلى كسب دعم الدول الأفريقية، أو على الأقل تحييد مواقفها في المحافل الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. يرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية الدكتور أيمن البراسنة أن إسرائيل كثّفت خلال السنوات الأخيرة جهودها لبناء نفوذ واسع في القارة الأفريقية، مستغلةً حاجات العديد من الدول الأفريقية للسلاح والتكنولوجيا الأمنية والدعم الاستخباراتي. ويشير أيمن البراسنة إلى أن إسرائيل تقيم حاليًا علاقات دبلوماسية مع 33 دولة أفريقية من أصل 41. ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن التغلغل الأمني يُعد أداة مباشرة لمحاولة تقليص التضامن الأفريقي مع فلسطين، خاصة في الأمم المتحدة والهيئات الدولية مثل اليونسكو ومحكمة العدل الدولية، وذلك من خلال التأثير في طريقة تصويت الدول الأفريقية. وقد برز أثر هذه السياسات بشكل أوضح خلال حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قطاع غزة، ورغم أن إسرائيل نجحت في استمالة بعض الأنظمة الأفريقية رسميًا، فإن تأثيرها لا يزال محدودًا أمام قوة الرأي العام الأفريقي، الذي يحتفظ بتقاليد راسخة في التضامن الشعبي مع فلسطين. وقد تجلى ذلك في موقف جنوب أفريقيا التي لم تكتفِ برفض الضغوط الإسرائيلية، بل رفعت دعوى رسمية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية خلال حرب غزة. ويرى العديد من الخبراء أن الرهانات الإسرائيلية على تحييد المواقف الأفريقية تصطدم بجدار صلب من الوعي الشعبي والحركات المدنية، التي لا تزال تعتبر إسرائيل "نظام احتلال عنصريا"، وتواصل الضغط على حكوماتها لدعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية. ويؤكد البراسنة على ذلك، ويضيف أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة شكّلت نقطة تحول في علاقات إسرائيل بالقارة الأفريقية، وأظهرت محدودية النفوذ الإسرائيلي في مواجهة القوى المجتمعية والمدنية. ويخلص إلى أن الهدف الإسرائيلي الأساسي في أفريقيا ليس فقط توسيع العلاقات الاقتصادية أو الدبلوماسية، بل تحييد المواقف الأفريقية من فلسطين، وتفكيك الدعم التاريخي لها على مستوى النخب وصناع القرار. بين طيّات النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، تتشابك المصالح الأمنية والسياسية مع التحولات الجيوستراتيجية، مما يجعل القارة مسرحًا لصراع خفي يتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية. ورغم ما تحققه إسرائيل من مكاسب على المستوى الرسمي، فإن التحدي الأكبر يبقى في مواجهة إرث التضامن الشعبي الأفريقي مع القضية الفلسطينية، الذي يشكل مقاومة حقيقية لأي محاولة لفرض النفوذ أو تغيير مواقف القارة على المدى الطويل.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- سياسة
- الجزيرة
كيف تستغل إسرائيل أوامر الإخلاء لارتكاب الجرائم وتهجير السكان بغزة؟
حظيت أوامر الإخلاء الإسرائيلية التي أُلقيت على سكان قطاع غزة خلال الحرب المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 باهتمام واسع، ليس فقط بوصفها أحد مظاهر العمليات العسكرية الإسرائيلية، بل أيضًا كقضية قانونية وإنسانية تثير جدلا عالميًا حول مدى التزام الاحتلال الإسرائيلي بالقانون الدولي الإنساني. ونشر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة بحثية لتسليط الضوء على هذه القضية، وهي من إعداد الباحث الفلسطيني ضياء نعيم الصفدي، بعنوان "أوامر الإخلاء الإسرائيلية: بين الواقع والقانون"، وجعل الباحث الحرب على قطاع غزة نموذجًا ليفضح التناقض بين الصورة التي تحاول إسرائيل تسويقها دوليًا وحقيقة ما يجري على أرض الواقع. بين النص القانوني والواقع وحسب ما تناوله الصفدي في ورقته، فإن إسرائيل تسعى لإظهار التزامها "بحُكم القانون" عبر إصدار تحذيرات مسبقة للسكان المدنيين في غزة قبيل الهجمات، متذرعةً بأن هذه الإجراءات تهدف إلى حماية المدنيين. وأضاف الصفدي أن هذه التحذيرات، أو ما تعرف "بأوامر الإخلاء"، تتخذ أشكالًا متعددة من منشورات ورقية تُلقى من الطائرات، أو اتصالات هاتفية مباشرة أو مسجلة، أو رسائل نصية ومنشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن الورقة البحثية تؤكد أن هذه الأوامر في جوهرها ليست سوى وسيلة لتبرير عمليات التهجير والاستيلاء على الأراضي وإحداث تغيير ديموغرافي قسري في القطاع، وهو ما يتعارض مع روح ونصوص القانون الدولي الإنساني. متى يكون الإخلاء مشروعا؟ وتستعرض الورقة التي نشرها مركز الزيتونة الإطار القانوني للإخلاء، مستندةً إلى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وغيرها من المواثيق الدولية، والتي تتيح لدولة الاحتلال إخلاء مناطق معينة لدواعٍ عسكرية ملحة أو لحماية السكان، لكنها تضع في الوقت ذاته شروطًا صارمة على هذا الإجراء، ومن هذه الشروط: أن يكون الإخلاء مؤقتًا وبأضيق الحدود اللازمة. ضمان سلامة المنقولين وأمانهم، وتوفير مكان بديل آمن لهم. عدم التفريق بين العائلات وإعادة السكان إلى منازلهم بأسرع وقت ممكن. وبعد النظر في تطبيق إسرائيل هذه الشروط، يخلص الباحث إلى أنها لم تلتزم بأي من هذه المعايير، بل تحولت الأوامر إلى ذريعة للتهجير الجماعي والتدمير الممنهج. استيلاء على الأرض وتكشف الورقة عن تصعيد في استخدام الإخلاء الكلي، كما جرى في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عندما أصدرت إسرائيل أوامر بإخلاء شمال قطاع غزة بالكامل. إذ لم تقتصر الآثار على انتقال السكان نحو الجنوب فحسب، بل رافقتها عمليات قصف جوي وبري وتدمير واسع للممتلكات، فضلًا عن احتجاز عدد من المدنيين وتفريق أفراد العائلة الواحدة، وتركهم من دون مأوى أو ضمانات صحية وغذائية في مناطق لم تتوفَّر فيها أدنى شروط الحياة الإنسانية. ويشير الصفدي إلى أن هذه العمليات لم تأتِ استجابةً للحاجة العسكرية الملحة، بل في إطار إستراتيجية ترمي لتقليص عدد السكان الفلسطينيين في مناطق محددة، تمهيدًا للسيطرة عليها. وبذلك، تتحول "أوامر الإخلاء المشروعة" إلى انتهاك صارخ يعد جريمة نقل قسري يرتقي إلى مستوى جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. خلط وتضليل وتتناول الورقة بإسهاب الفوضى الاصطلاحية التي توظفها إسرائيل في خطابها الإعلامي والقانوني، فتلجأ لخلط مفهومي الإخلاء المشروع بالنقل القسري، متجاهلةً الفوارق الجوهرية التي نص عليها القانون الدولي ومبادئ العدالة. ففي حين أن الإخلاء المشروع إجراء استثنائي مقيّد بظروف واضحة، فإن النقل القسري، والتهجير، والنزوح كلها جرائم دولية موصوفة لا يجوز تبريرها تحت أي ظرف. ويشير الصفدي إلى أن المعايير الدولية تشترط أيضًا حق الاختيار للسكان في مغادرة مساكنهم من عدمه، وهو ما يُسلب عمليًا تحت التهديد بالقصف أو القتل، حيث يجبر المدنيون على ترك مناطقهم من دون رغبة حقيقية. انتهاك صارخ وتطرق الباحث إلى أن آلاف أوامر الإخلاء التي ألقتها إسرائيل على سكان غزة منذ بدء العمليات في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى اليوم لا ترقى لمستوى التحذير الإنساني أو الالتزام القانوني، بل هي أداة للتهجير المنظم والتشريد الجماعي. وتصنف الورقة هذه الممارسات ضمن "جرائم النقل القسري والتشريد الداخلي"، مؤكدة أن إسرائيل باتت في مواجهة استحقاقات المساءلة الجنائية الدولية. وتضيف أن القانون الدولي لم يحدد بدقة ما يُسمى "الأسباب العسكرية القهرية"، مما أتاح لإسرائيل استغلال هذا الغموض لتبرير سياسات الإخلاء، رغم أن الجوهر الحقيقي لهذه الإجراءات يتعارض جذريًا مع القيم الإنسانية والقانونية. وتخلص الورقة البحثية إلى أن ما يجري في غزة ليس مجرد إجراءات "تحذيرية" لحماية المدنيين كما تزعم إسرائيل، وإنما عمليات تهجير وتدمير تستهدف البشر والحجر، وتستدعي تدخلا دوليًا عاجلًا لضمان احترام القانون الدولي ومحاسبة الجناة، فقد كشف الواقع عن أن أوامر الإخلاء في غزة لا تقي من الموت أو التشريد، بل كانت في معظمها بداية لمعاناة أكبر وجرائم لا تُمحى من الذاكرة الجمعية للفلسطينيين.